الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا كان بمعنى الحصة من الشيء يكون لواحد وباقيه لآخر أوآخرين؛ كما في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 40]؛ فالشريك مخالط لشريكه، وحصته منضمة لنصيب الآخر.
وإذا كان بمعنى الحبالة؛ فإن ما يقع فيها من الحيوان يختلط بها وينضم إلى ملك الصائد.
وإذا كان بمعنى معظم الطريق، فإن أرجل السائرين وأقدام الماشين تختلط آثارها هنالك، وينضم بعضها إلى بعض.
وإذا كان بمعنى سير النعل؛ فإن النعل تنضم به إلى الرجل فيخلط بينهما.
ثم اجتماع الشركاء في شيء لا يقتضي تساوي أنصبائهم منه، ولا يمنع زيادة قسط على آخر، فموسى يسأل ربه إشراك أخيه له في الرسالة، وقد أجيب سؤله؛ لقوله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 36]، وضروري أن حظ هارون من الرسالة دون حظ موسى، ولهذا تقول: فلان شريك لغيره في دار أو أرض أو بضاعة، ولو لم يكن له منها إلا معشار العشر، بل الأجير على جزء من الربح كالخماس وعامل القراض شريك لرب المال من غير أن يكون له حظ من الأصل، هذا في الحسيات، ومثله في المعنويات؛ تقول: الأبوان شريكان في طاعة ابنهما لهما، وإن كان حق الأم في الطاعة أقوى، وتقول: أبنائي شركاء في محبتي، وأنت تحب بعضهم أشد من بعض. هذا تقرير معنى الشرك لغة.
•
معنى الشرك في الشرع:
أما في الشرع؛ فقد فسره صاحبا " الصحاح " و " المصباح " بالكفر، وجعله الراغب على ضربين، فقال:
" أحدهما: الشرك العظيم، وهو إثبات شريك لله تعالى؛ يقال: أشرك فلان بالله، وذلك أعظم كفر؛ قال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116]، قال:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116]، {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72]،، {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 112]، وقال:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148].
والثاني: الشرك الصغير، وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وهو الرياء والنفاق المشار إليه بقوله:{شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {الأعراف: 190} ، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، وقال بعضهم: معنى قوله: {إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ؛ أي: واقعون في شرك الدنيا، أي: حبالتها ".
قال: " ومن هذا ما قال صلى الله عليه وسلم: «الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا» (37) ".
قال: " ولفظ الشرك من الألفاظ المشتركة، وقوله: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}: محمول على الشركين، وقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوَبة: 5]،؛ فأكثر الفقهاء يحملونه على الكفار جميعاً ".
هذا كلام الراغب، وقد اشتمل على آيات في استعمال القرآن لمادة الشرك بالمعنى الشرعي، وهي تفصح عن موافقتها لأصل المعنى اللغوي؛ سنة الحقائق الشرعية في انبنائها على الحقائق اللغوية.
وبيان الشرك بالكفر تساهل في المعنى قرَّبه اتحادهما في الحكم.
(37) قوي: مضى تخريجه برقم (6).
وقد فرق بينهما أبو هلال العسكري في كتابه " الفروق اللغوية "، فقال:" الكفر اسم يقع على ضروب من الذنوب، فمنها الشرك بالله، ومنها الجحد للنبوة، ومنها استحلال ما حرم الله، وهو راجع إلى جحد النبوة، وغير ذلك مما يطول الكلام فيه، وأصله التغطية "[ص:189].
ثم قال: " الفرق بين الكفر والشرك أن الكفر خصال كثيرة على ما ذكرنا، وكل خصلة منها تضاد خصلة من الإِيمان، لأن العبد إذا فعل خصلة من الكفر؛ فقد ضيع خصلة من الإِيمان، والشرك خصلة واحدة، وهو إيجاد ألوهية مع الله أو دون الله، واشتقاقه ينبئ عن هذا المعنى، ثم كثر حتى قيل لكل كفر شرك على وجه التعظيم له والمبالغة في صفته، وأصله كفر النعمة، ونقيضه الشكر، ونقيض الكفر بالله الإِيمان، وإنما قيل لمضيع الإِيمان كافر؛ لتضييعه حقوق الله تعالى، وما يجب عليه من شكر نعمه؛ فهو بمنزلة الكافر لها، ونقيض الشرك في الحقيقة الإِخلاص، ثم لما استعمل في كل كفر، صار نقيضه الإِيمان "[ص:191].
ومحصل كلام أبي هلال: أن الشرك والكفر مختلفان في الأصل، متحدان في استعمالى الشرع (*)؛ فهما كالإسلام والإيمان، واستعمال الكفر في التغطية شائع في لسان العرب؛ قال لبيد في معلقته:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
ويبين كون الشكر نقيضاً له قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
(*) وكل كفرٍ شرك، وكل شرك كفر، وهو الذي عليه جماهير أهل العلم. أفاده القاسمي في " محاسن التأويل "، وانتصر له الشيخ الألباني واحتجَّ بقصة أصحاب الجنتين في سورة الكهف في بحث نفيس في عشرة شرائط له.
ولم يحضرني الآن مقابلة القرآن للشرك بالإخلاص (*)، ولكن فيه مقابلة النفاق الذي هو من شعب الشرك بأشياء منها الإِخلاص، وذلك قوله:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 145 - 146].
وفائدة البحث عن مقابل كل من الشرك والكفر زيادة الكشف عن معناهما، وفضل التمكن من تصورهما تصوراً واضحاً.
وكما لا تقتضي الشركة لغة تساوي الشركاء في الحصص؛ لا يقتضي الشرك شرعاً مساواة الشريك لله في جميع صفاته أو في صفة منها، بل يسمى المرء مشركاً عند الشارع بإثباته شريكاً لله، ولو جعله دونه في القدرة والعلم مثلاً.
فأما حكايته تعالى عن المشركين قولهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]، فالتسوية فيه تسوية في الطاعة والانقياد، لا في القدرة على الخلق والإِيجاد، فهي كآية البقرة:{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165].
إن الله جل وعلا لا يقبل أن يشرك به الأبرار ولا الفجار ولا الأشجار ولا الأحجار، ولا يرضى شركة عظيم في القدر والمنزلة؛ كمن أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا شركة عظيم في الخلق والحجم، كالشمس والقمر وسائر الكواكب.
وقد رد القرآن كل شرك كيفما كان اعتباره من القوة والضعف:
(*) النفاق في الآية هو الأكبر، وفي [ص:92] قال: (وهو كفر اتفاقاً)؛ فهو يضاد أصل الإخلاص في القلب.