الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم إنه مرض مرضاً شديداً، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برئت. فأتاها، فاستحم بها، فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؛ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو. فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة ".
ثم ذكر إسافاً ونائلة، والأصنام الخمسة التي كانت لقوم نوح، ثم قال:" فلما صنع هذا عمرو بن لحي، دانت العرب للأصنام وعبدوها واتخذوها ".
ومصير أصنام قوم نوح إلى العرب تقدم عن ابن عباس في الفصل السابع، ولم نر في وجه ظهور تلك الأصنام في العرب رواية تطمئن لها النفس؛ إلا ما نقله الحافظ في " الفتح " عن السهيلي؛ أنه قال في كتابه " التعريف ":
" إن يغوث هو ابن شيث ابن آدم فيما قيل، وكذلك سواع وما بعده، وكانوا يتبركون بدعائهم، فلمّا مات منهم أحد، مثلوا صورته، وتمسحوا بها، إلى زمن مهلاييل، فعبدوها بتدريج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية، ولا أدري من أين سرت لهم تلك الأسماء؛ أمن (*) قبل الهند؛ فقد قيل: إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح، أم الشيطان ألهم العرب ذلك؟ "(8/ 542).
•
الجمع بين الأخبار في ابتداع وثنية العرب:
وكلام ابن الكلبي أولاً يعطي أن منشأ وثنية العرب تبرك المغلوبين من بني إسماعيل على الحرم بحجارته، وذلك قبل رئاسة عمرو بن لحي التي انتزعها من جرهم أخوال بني إسماعيل، وكلامه أخيراً صريح في أن عمرو بن لحي هو الذي أحدث هذه الوثنية، فاقتدى به العرب، والأول بالبساطة أنسب، وإلى بداوة العرب أقرب، وبسنة النشوء والارتقاء أشبه، والثاني هو صريح خبر المعصوم، الذي هو حق لا ريب فيه، ولكنا نرى الجمع بين الأمرين ميسوراً،
(*) وقعت في ط 1 تبعاً لمطبوعة " الفتح "(8/ 668) دون همزة الاستفهام.
فلا ضرورة بنا إلى الترجيح.
ذلك أن عصر المنازعات بين بني إسماعيل الذي حدث فيه التبرك بحجارة الحرم قبل أيام عمرو بن لحي إنما وقع فيه ذلك التبرك من النازحين عن الحرم، المتقلبين في البوادي، فكان ذلك التبرك ذريعة إلى الوثنية في بعض بني إسماعيل ومن رأى رأيهم من القبائل البادية النائية عن الحرم.
أما وثنية عمرو بن لحي التي نقلها من الشام؛ فأظهرها بالحرم نفسه، وفرقها في الحجاج، فلم تكن قبله أصنام بالحرم حينما كان بنو إسماعيل ينقلون حجارته للطواف بها، ولو كانت به يومئذ أصنام؛ لقدموا نقلها على نقل مطلق الحجارة، وتقدم هذا الطواف بالحجارة خارج الحرم هو الذي سهل على عمرو ابن لحي إعلان الوثنية داخله وخارجه؛ إذ لو لم يأنس الناس قبله بمبادئ الوثنية؛ ما قبلوها منه لمّا دعاهم إليها؛ فبنو إسماعيل أول من ابتدع في العرب مبادئ الوثنية، ولكن على وجه ضعيف غير مشتهر ولا منتشر، وعمرو بن لحي أول من ابتدع فيهم صريح الوثنية على وجه قوي.
وبصفة عامة هذا وجه الجمع عندي بين حديث المعصوم وخبر النقلة، وإطلاق القول بأن عمرو بن لحي أول من غير دين إسماعيل صحيح؛ نظراً لكونه الرئيس المطاع بالحرم، والحرم معقل الدين، وبأهله يقتدي سواهم؛ فظهور الوثنية منه هو الذي سهل تعميمها في سائر الأحياء والقبائل، وضمن لها الحياة والرسوخ؛ كما أن إسلام الحرم بعد فتح مكة هو الذي عمم هذا الدين بين العرب، وسهل عليهم مفارقة ما ألفوه في جاهليتهم؛ فلولا ابتداع عمرو بن لحي؛ لبقي الحرم سالماً من الوثنية، فلم يكن لظهور مباديها ببعض البوادي شأن، ولم ترسخ عروقها في الجهات التي ظهرت بها، ولم تقو على الانتشار منها إلى جهات أخر، ولم تتعاص على أي محارب لها؛ فكان المسؤول عن هذه الوثنية هم أهل الحرم، والمسؤول عنهم هو رئيسهم عمرو بن لحي؛ فكان هو