الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كثيرًا كما أنعم علينا كثيرًا، وصلى الله على رسوله محمد الذي أرسله شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا، وعلى جميع المؤمنين الذين أمر الله نبيه أن يبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيرًا.
أما بعد.
فانطلاقاً من قول الله تبارك وتعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)[الأنفال:1]، ومن قوله صلى الله عليه وسلم:" إِياكم وسُوءَ ذاتِ البين، فإِنها الحالقة "(1) تأتي هذه التذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، في وقت اختلطت فيه الأوراق، وتشعبت السبل، وهُجرت فيه الآداب الشرعية، السنن المحمدية، والأخلاق الإسلامية.
لقد رفع الله تعالى شأن حسن الخلق حين امتدح خليله محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم)[القلم: 4]، ونوَّه صلى الله عليه وسلم بقدره حين قال:" إِنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق "(2).
(1) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الترمذي رقم (2639)، وصححه، وسوء ذات البين هى العداوة والبغضاء، والمراد بالحالقة: خصلة السوء التي تُذهب الدين كما تذهب الموسى الشعر، والحديث في " صحيح الترمذي " برقم (2036)(2/ 307).
(2)
رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (273)، وابن سعد في " الطبقات "(1/ 192)، والحاكم (2/ 613)، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (2/ 318)، وصححه الحافظ ابن عبد البر.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من شيء يوضع في الميزان أثقلُ من حسن الخلق، وإِن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة "(1).
وأمر الله تعالى بحسن الخلق مع الناس كافة، ولم يستثن، فقال عز من قائل:(وَقولُوا للنَّاسِ حسْنًا)[البقرة: 83]، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:(وقولوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) قال: " يعني الناس كلهم "(2)، وعن عطاء قال:" للناس كلهم، المشركِ وغيرِه "(3).
وقال القرطبي رحمه الله: (قال أبو العالية: " قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به "، وهذا كله حض على مكارم الأخلاق؛ فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينًا، ووجهه منبسطًا طلْقًا مع البَرِّ والفاجر، والسُّنَي والمبتدع، من غير مداهنة ولا موالاة محرمة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه؛ لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: (فَقولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا)[طه: 44] فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه.
وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء: " إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيَّ حدَّة، فأقول لهم بعض القول الغليظ "، فقال:" لا تفعل! يقول الله تعالى: (وَقُولُوا للنَّاسِ حُسْنًا) فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى، فكيف بالحنيفي؟ ") (4).
(1) أخرجه الترمذي رقم (2088)، وعزاه المنذري إلى (البزار بإسناد جيد)، " الترغيب "(3/ 256)، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " رقم (1629).
(2)
" شعب الإيمان "(5/ 288).
(3)
رواه ابن جرير في " تفسيره "(2/ 296)، وابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (308).
(4)
" الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (2/ 16).
وعن أبي سنان، قال: قلت لسعيد بن جبير رحمه الله: " المجوسي يُوليني من نفسه، ويسلم عليَّ، أفأرد عليه؟ "، فقال سعيد:" سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن نحو من ذلك؟ فقال: " لو قال لي فرعونُ خيرًا لرددتُ عليه " (1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:" لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، قلت: وفيك، وفرعون قد مات "(2).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال معاذ: " يا رسول الله، أوصني "، فقال صلى الله عليه وسلم:" استقم وليحسن خُلُقُكَ للناس "(3) وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن "(4).
ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إِن أحبَّكم إِليَّ أحاسنكم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا، الذين يألَفون ويُؤلفون، وإِن أبغضكم إِليَّ المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبرءَاء العنت "(5).
وقال الحسن: " من ساء خُلُقه ; عذبَ نَفسه "(6).
(1) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (309).
(2)
" صحيح الأدب المفرد " رقم (848).
(3)
أخرجه الحاكم (1/ 54)، وصححه، ووافقه الذهبي، وابن حبان رقم (524)، وحسنه الألباني في " الصحيحة " رقم (1228).
(4)
رواه الترمذي رقم (2070)، وحسنه في " صحيح الترمذي " رقم (1618).
(5)
أخرجه الطبراني في " الصغير "(2/ 25)، وضعفه المنذري، والهيثمي (8/ 21)، والعراقي في " المغني "(2/ 160)، وقال الألباني:" لكن الحديث له شواهد كثيرة يرقى بها إلى درجة الحسن " اهـ. من " السلسلة الصحيحة " رقم (751).
(6)
" الإحياء "(3/ 57).
وعن أبي حازم سلمة بن دينار: " السيئ الخلق: أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه، هي منه في بلاء، ثم زوجته، ثم ولده، حتى إنه ليدخل بيته وإنهم لفي سرور، فيسمعون صوته فينفرون عنه، فرقًا منه، حتى إن دابته تحيد مما يرميها بالحجارة، وإن كلبه ليراه فينزو على الجدار، حتى إن قطه ليفر منه "(1).
وقال تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة: 8].
قال شيخ الإسلام: " وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به، فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نُهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل أو شبهة أو بهوى نفس؟! فهو أحق أن لا يُظلَمَ، بل يعدل عليه "(2) اهـ.
تتناول هذه " التذكِرة " مطلبين رئيسين:
أحدهما: حسن الخلق مع المسلم، ورعاية حرمته، وصيانة عرضه من كل ما يشينه وبخاصة الغيبة التي شاعت، وذاعت، وتساهل الناس فيها.
والثانى: الأدب مع العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وحفظ حرمتهم، ومعرفة قدرهم، والتنزه عن الوقيعة فيهم، والنيل من مراتبهم الرفيعة، وهذا هو المقصود بعينه من هذه " التذكرة "، فإن المطلب الأول تمهيد لهذا الثاني باعتبار أن العالم له حقوق المسلم عامة، ثم له حقوق أخرى خاصة، فإن الله سبحانه وتعالى رفع المؤمنين على من سواهم، ثم رفع أهل العلم على سائر المؤمنين، فقال: (يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكمْ وَالَّذِينَ أوتُوا الْعِلْمَ
(1)" سير أعلام النبلاء "(6/ 99).
(2)
" منهاج السنة "(126/ 5).
دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11]، وقال تعالى:(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَذِينَ لا يَعْلَمُونَ)[الزمر: 9].
ومن المعلوم أنه لا يستوي ما حرمه الله من جهة واحدة، وما حرمه من جهات متعددة، فالجرم يعظم بتعدد جهات الانتهاك، ويعظم -تبعًا لذلك- الإثمُ، ويتضاعف العقاب:
فظلم النفس بالمعاصي حرام في كل زمان ومكان لكنه أشد إذا وقع في الأشهر الحرم، ولذلك قال تعالى:(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)[التوبة: 36].
ولهذا نظائر: قال صلى الله عليه وسلم: " لأن يزني الرجل بعشر نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره، ولأن يسرق الرجل من عَشْرة أبيات أيْسَرُ له من أن يسرق من بيت جاره "(1).
ومن هذا الباب قوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[البقرة: 197]، ومنه: تغليظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام، وفي البلد الحرام، وفي ذوي الرحم، كما هو مذهب الشافعي (2).
إن المسيء إلى العلماء، والطاعن عليهم بغيًا وَعدْوًا قد ركب متن الشطط، ووقع في أقبح الغلط؛ لأن حرمة العلماء مضاعفة، وحقوقهم متعددة، فلهم كل ما ثبت من حقوق المسلم على أخيه المسلم، ولهم حقوق المسنين والأكابر،
(1) رواه الإمام أحمد (6/ 8)، والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (103)، وقال المنذري (3/ 195)، والهيثمي (1/ 168):(رواه أحمد والطبراني في " الكبير "، والأوسط "، ورجاله ثقات) اهـ، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (65).
(2)
انظر: " تصنيف الناس بين الظن واليقين " للعلامة بكر بن عبد الله أبو زيد ص (57).
ولهم حقوق حملة القرآن الكريم، ولهم حقوق العلماء العاملين، والأولياء الصالحين، فمن ثم نص الشافعية على أن (الغيبة إذا كانت في أهل العلم وحملة القرآن الكريم فهي كبيرة، وإلا فصغيرة)(1) اهـ.
إن الميدان الدعوي اليوم يموج بحالة من الخلل الناشيء عن " التضخم الكمي " الذي فرض نفسه على حساب " التربية النوعية "(2)، الأمر الذي أفرز كثيرًا من الظواهر المرضية من أخطرها تطاول الصغار على الكبار، والجهال على العلماء، وطلبة العلم بعضهم على بعض، حتى إن الواحد منهم ينسى قاموس التآخي، وما أسرع ما يخرج إلى العدوان على إخوانه، ويجردهم من كل فضل، فلا يحلم ولا يعفو ولا يصبر، ولكن يجهل فوق جهل الجاهلينا، بل إن من طلاب " آخر الزمان " من غاص في أوحال السب والشتم والتجريح، وانتدب نفسه للوقيعة في أئمة كرام اتفقت الأمة على إمامتهم، وهو لا يدري انما ذلكم الشيطان يستدرجه إلى وحل العدوان، وهو يحسب أنه يُحسن صنعًا، ويتوهم أنه يؤدي ما قد وجب عليه شرعًا.
فرحم الله من جعل عقلَه على لسانه رقيبًا، وعملَه على قوله حسيبًا.
* * *
(1)" مغني المحتاج "(427/ 4).
(2)
وقد أطال وأطاب في تشخيص وعلاج هذه الظاهرة المفزعة الداعية المبدع " محمد أحمد الراشد " في كتابه " المنطلق " ص (240 - 277)، وفي غيره من سلسلة " إحياء فقه الدعوة "، فراجعه إن شئت.