الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع
الأدب مع الأكابر
قال الله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85]، وقال تعالى:{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا (1) فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78]، فمِن ثَمَّ قال بعض العلماء:" الفقه من هذه الجملة أن للكبير حقًّا يُتَوَسَّلُ به، كما توسلوا بكبر يعقوب، وقد ورد في الاستسقاء إخراج الشيوخ "(2) اهـ (3).
(1) لأنه لما تَعيَّن أخذ بنيامين شقيق يوسف عليه السلام، وِإبقاؤه عند يوسف بمقتضى فتواهم، راحوا يعطفونه عليهم، بأن له أبًا شيخًا كبيرًا يحبه حبًّا شديدًا يتسلى به عن أخيه المفقود، فخذ أحدنا بدله رقيقًا عندك.
(2)
يشير إلى ما رواه البيهقي (3/ 345) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: " مهلاً عن الله مهلاً، فإِنه لولا شباب خُشَّع، وبهائم رُتَّع، وشيوخ رُكَّع، وأطفا رُضَّع؛ لصبَّ عليكم العذاب صبًّا "، قال البيهقي:" فيه إبراهيم بن خثيم غير قوي، وله شاهد بإسناد آخر غير قوي " اهـ.
ومما استدل به على استحباب إخراج الشيوخ للاستسقاء بهم وبالضعفاء والصبيان والعجائز وغير ذوات الهيئات من النساء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبغوني الضعفاء، فإِنما تُرزقون، وتنصرون بضعفائكم " أخرجه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أبو داود رقم (2594)، والترمذي رقم (1702)، وقال:" حسن صحيح "، والنسائي (6/ 45)، والحاكم (2/ 106، 145)، وصححه، ووافقه الذهبي، وابن حبان رقم (1620)، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم:" إِنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم، وإِخلاصهم " رواه النسائي (6/ 45)، وأبو نعيم في " الحلية "(5/ 26).
(3)
" محاسن التأويل " للقاسمي (9/ 3576 - 3577).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ...... فأعط كل ذي حقّ حقَّه "(1).
وبيَّن صلى الله عليه وسلم حَدَّ الكِبْر فقال: " الكِبرُ: بَطَرُ الحق، وَغمطُ الناس "(2).
إن من محاسن هذه الشريعة الإلهية أنها فرضت للأكابر حقوقًا يجب أن تُعطى لهم كاملة غير منقوصة، وأن تُبذل لهم -تعبدًا، وتأدبًا- عن قناعة، بل عن طيب خاطر، وسماحة نفس كخفض الصوت بحضرتهم، وإعداد المحاريب لإمامتهم، والانتفاع بخبرتهم، والالتقاط من جواهر علومهم، وإفساح المجالس لهم ، وتهيئة الموضع اللائق بشيبتهم في صدورها، كما توضع الدرر الكبار في العقد المنضود.
وقد خاطب بعض الشيوخ النشء معلمًا ومؤدبًا، فقال ضمن وصية جامعة نافعة:
" اعرف الكبير قدره وحقه، فإذا ماشيته فقدمه عليك في الدخول والخروج ، وإذا التقيت به فأعطه حقه من السلام والاحترام، وإذا اشتركت معه في حديث فمكنه من الكلام قبلك، واستمع إليه بإصغاء وإجلال، وإذا كان في الحديث ما يدعو للمناقشة فناقشه بأدبٍ وسكينة ولُطف ، وغُضَّ من صوتك في حديثك إليه، وإذا خاطبته أو ناديته فلا تنس تكريمه في الخطاب والنداء "(3).
(1) عجز حديث رواه البخاري (4/ 170 - 171)، والترمذي (3/ 290)، وغيرهما من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم رقم (91)، والترمذي رقم (1999)، والبطر: التكبر، فالمعنى هنا: أنه يطغى ويتكبر عند سماع الحق فلا يقبله، والبطر معناه أيضًا الباطل، والحيرة، أما الغمط، فيقال: غمطت حق فلان: إذا احتقرته، ولم تره شيئًا.
(3)
" من أدب الإسلام " ص (190) ملحق بتحقيق رسالة المسترشدين للمحاسبي.
لقد شَمَّر السلف ومن تبعهم من الخلف عن سُوق الدأب في سوق الأدب، فخلفوا لنا تراثًا حافلاً يشهد بعظمة هذا الدين، وسمو تعاليمه، وشموله كل ما يصلح الأمم والأفراد في كل مناحي الحياة، وما كان ذلك إلا بفضل التربية النبوية المحمدية لخير أمة أخرجت للناس، فدونك بعض حلقاتها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا، فليس منا "(1).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق -وفي لفظ: ويوقر- كبيرنا فليس منا "(2)، وفي رواية:" ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويَعْرفْ شرف كبيرنا "(3).
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ليس منا من لم يُجِلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرفْ لعالمنا حقَّه "(4).
وقال بكر بن عبد الله المزني رحمه الله: (إذا رأيت من هو أكبر منك، فقل: " هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح، فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك، فقل: " سبقته إلى الذنوب والمعاصي، فهو خير مني ")(5).
(1)" صحيح الأدب المفرد " رقم (271).
(2)
رواه البخاري في " الأدب المفرد "، وهو في " صحيح الأدب " رقم (272)، ورواه أبو داود رقم (4943)، والترمذي بنحوه رقم (2002).
(3)
انظر: " صحيح الجامع "(5/ 103).
(4)
رواه الإمام أحمد (5/ 323)، والحاكم (1/ 122)، وحسَّنه الألباني في " صحيح الجامع " رقم (5319).
(5)
" صفة الصفوة "(248/ 3).
وجعل صلى الله عليه وسلم إكرام من شاب شعره، ونفد عمره في الإسلام والإيمان، بتعظيمه ، وتقديمه، والرفق به، والشفقة عليه، من كمال تعظيم الله عز وجل وتبجيله ، لشدة حرمته عند الله تبارك وتعالى:
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: " إِن من إِجلال الله إِكرام ذي الشيية المسلم، وحامل القرآن؛ غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، وإِكرام ذى السلطان المقسط "(1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البركة مع أكابركم "(2)
قال المناوي رحمه الله في شرحه: (البركة مع أكابركم المجربين للأمور، المحافظين على تكثير الأجور، فجالسوهم لتقتدوا برأيهم، وتهتدوا بهديهم (3)، أو المراد: من له منصب العلم ، وإن صغر سنه، فيجب إجلالهم حفظًا لحرمة ما منحهم الحق سبحانه، وقال شارح الشهاب: هذا حث على طلب البركة في الأمور، والتبحبح في الحاجات بمراجعة الأكابر، لما خصُّوا به من سبق الوجود، وتجربة الأمور، وسالف عبادة المعبود، قال تعالى:{قَالَ كَبِيرُهُمْ} [يوسف: 80]،
(1) رواه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (357)، وهو في " صحيح الأدب المفرد " برقم (274)، ورواه أبو داود رقم (4843)، وسكت عليه، وحسنَّه النووي والعراقي وابن حجر.
(2)
رواه ابن حبان (الإحسان- رقم 559)، وأبو نعيم في " الحلية "(8/ 171 - 172)، والحاكم (1/ 62) ، والخطيب في " التاريخ "(11/ 165)، وصححه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، ثم الألباني في " الصحيحة " رقم (1778).
(3)
ولمزيد بيان للمراد من التبرك المشروع بمجالسة الصالحين، وكذا التبرك الممنوع بهم يراجع كتاب " التبرك أنواعه وأحكامه " للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع ص (269 - 278)، (0 38 - 418) - طبعة مكتبة الرشد بالرياض 1411 هـ، فإنه كتاب مبارك، ونفيس في بابه، فاظفر به.
وكان في يد المصطفى صلى الله عليه وسلم سواك فأراد أن يعطيه بعض من حضر، فقال جبريل:" كبِّر كبِّر "، فأعطاه الاكبر، وقد يكون الكبير في العلم أو الدين، فيقدم على من هو أسن منه) (1) اهـ.
وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبَبَة متقاربون -أي شباب متقاربون في السن-، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا، فظنَّ أنا قد اشتقنا أهلنا، فسألنا عمن تركنا من أهلنا؟ فأخبرناه، فقال: " ارجعوا إِلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم، فإِذا حضرت الصلاة؛ فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم " (2).
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمهم قراءة، فإِن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإِن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنًا
…
" (3) الحديث.
(1)" فيض القدير "(3/ 220).
(2)
أخرجه البخاري (1/ 155)، ومسلم (1/ 465، 466)، واللفظ له.
تنبيه:
يقدم الأكبر سنًّا في الإمامة على من ليس بأقرأ ولا أفقه، ولا أقدم هجرة، ولا أقدم إسلامًا على الترتيب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإِن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم هجرة، فإِن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سِلْمًا- وفي رواية: سِنًّا
…
" الحديث.
وإنما جعل صلى الله عليه وسلم الإمامة -في حديث مالك بن الحويرث- للأكبر سنًّا، لأنه رضي الله عنه وأصحابه كانوا متساوين في الهجرة، والإقامة، وغرضهم بها، ومع ما في الشباب غالبًا من الفهم، وهذا دال على استوائهم في القراءة والتفقه في الدين، وانظر:" فتح الباري "(2/ 170).
(3)
رواه مسلم (1/ 465).
قال ابن علان رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: " فليؤمهم أكبرهم سنًّا ": " لأنه أقرب إلى التوجه إلى المولى، وأكثر عروضًا عن الدنيا، وتوجهًا إلى الدار الآخرة " اهـ (1).
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: " استووا، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ")(2).
وقد ترجم الإمام النووي رحمه الله لهذا الحديث وغيره: (باب توقير العلماء (3) والكبار وأهل الفضل، وتقديمهم على غيرهم (4)، ورفع مجالسهم (5)، وإظهار مرتبتهم) (6) أي أداءً لحق ذي الحق، وقد قال صلى الله عليه وسلم ": "
…
فأعط كل ذي حق حقه " (7).
وقال ابن علان رحمه الله: " وفيه -كما قال المصنف- تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام، لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف، فيكون
(1)" دليل الفالحين "(2/ 208).
(2)
رواه مسلم رقم (432)، والنسائي (2/ 90)، وأبو داود رقم (674).
(3)
التوقير: التبجيل، أي تعظيم العلماء، أي: بالعلوم الشرعية وآلاتها المطلوبة، وإن لم يكونوا من ذوي السن، لقوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ، والمراد: علماء السنة والجماعة، لما ورد من الوعيد في تعظيم ذي البدعة.
(4)
قال ابن علان: " وظاهر تعبيره أنهم عند اجتماعهم يرتبون بترتيبهم في الذكر، فيقدم ذو العلم على ذي السن، وهو على من بعده " اهـ. من " الدليل "(2/ 205).
(5)
قال ابن علان رحمه الله: (وإن كانوا هم ينبغي لهم أن لا يطلبوا رفعها تواضعًا، واتباعًا لحديث " كان صلى الله عليه وسلم يجلس حيث ينتهي به المجلس ") اهـ. من " دليل الفالحين "(2/ 205).
(6)
" رياض الصالحين " مع " دليل الفالحين "(2/ 205).
(7)
تقدم ص 286.
هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام عن السهو ما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة، ويحفظوها، ويتعلموها، ويعلموها الناس، ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السنة تقديم أهل الفضل في كل مجمع إلى إمام، وكبير المجلس، كمجالس العلم والقضاء والذكر والتدريس والإفتاء واستماع الحديث ونحوها، ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين والعقل والشرف والسن والكفاية في ذلك الباب، والأحاديث متعاضدة على هذا " (1) اهـ.
عن حكيم بن قيس بن عاصم أن أباه أوصى عند موته بنيه، فقال:" اتقوا الله، وسوِّدوا أكبركم، فإن القوم إذا سوَّدوا أكبرهم خَلَفوا أباهم (2)، وإذا سودوا أصغرهم أزرى بهم (3) ذلك في أكفائهم "(4).
قال أبو الحسن المدايني: (خطب زيادٌ ذات يوم على منبر الكوفة، فقال:
" أيها الناس إني بتُّ ليلتي هذه مُهْتمًا بخلالٍ ثلاث، رأيت أن أتقدم إليكم فيهن بالنصيحة:
رأيتُ إعظام ذوي الشرف، وإجلال ذوي العلم، وتوقير ذوي الأسنان، والله لا أوتى برجلٍ رَدَّ على ذي علمٍ ليضع بذلك منه إلا عاقبته، ولا أوتى برجل رد على ذي شرف ليضع بذلك من شرفه إلا عاقبته، ولا أوتى برجل ردَّ على ذي شيبة ليضعه بذلك إلا عاقبته، إنما الناس بأعلامهم، وعلمائهم، وذوي أسنانهم ") (5) اهـ.
(1)" دليل الفالحين "(2/ 209).
(2)
أي: قاموا مقامه في حسن الفعال.
(3)
أي: عيب، واحتقر.
(4)
" صحيح الأدب المفرد " ص (145).
(5)
" جامع بيان العلم "(1/ 234).
إن الأمور إذا الأحداث دبَّرها
…
دون الشيوخ ترى في سيرها الخللا
وقال القاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي:
متى يصل العِطاش إلى ارتواءٍ
…
إذا استقت البحارُ من الركايا
ومن يَثني الأصاغر عن مرادٍ
…
وقد جلس الأكابر في الزوايا
وإنّ تَرَفُّعَ الوضعاء يومًا
…
على الرفعاء من إحدى الرزايا
إذا استوت الأسافل والأعالي
…
فقد طابت منادمة المنايا (1)
عن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري رضي الله عنه قال: (انطلق عبد الله بن سهل ومُحَيِّصَةُ بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صُلْحٌ، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحَّطُ في دمه قتيلاً، فدفنه، ثم قَدِم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة وحُوَيِّصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال صلى الله عليه وسلم:" كَبِّرْ، كَبِّر "، وهو أحدث القوم، فسكت فتكلَّما
…
) (2) الحديث، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن:" كبِّر الكُبْرَ "، والكُبْر: جمع أكبر، أي قدِّم للكلام من هو أكبر سنًّا منك، وفي رواية " الكُبْرَ الكُبْرَ " بالنصب على الإغراء.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: " أخبروني بشجرة مَثلها مَثَلُ المسلم، تؤتي أكلَها كلَّ حين بإِذن ربها، لا تَحُتُّ ورقها "، فوقع في نفسي النخلة، فكرهت أن أتكلم، وثَمَّ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما لم يتكلما، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" هي النخلة "، فلما خرجتُ مع أبي قلت: " يا أبت!
(1)" وفيات الأعيان "(3/ 221).
(2)
متفق عليه.
وقع في نفسي النخلة "، قال:، ما منعك أن تقولها؟ لو كنت قلتها كان أحبَّ إلي من كذا وكذا "، قال:" ما منعني إلا لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما، فكرهتُ "(1).
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: " لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامًا، فكنتُ أحفظ عنه، فما يمنعني من القول؛ إلا أن ههنا رجالاً هم أسنُّ مني "(2).
وسئل ابن المبارك بحضور سفيان بن عيينة عن مسألة، فقال:
" إنا نهينا أن نتكلم عند أكابرنا "(3).
وقال يحيى بن معين: " إذا حَدَّثْتُ في بلدة فيها مثلُ أبي مُسْهِر؛ فيجب لحيتي أن تُحلَق "(4).
وعن الحسن بن علي الخلال: " كنا عند معتمر بن سليمان يحدثنا إذ أقبل ابن المبارك، فقطع معتمر حديثه، فقيل له: حدِّثْنا، فقال: إنا لا نتكلم عند كبرائنا "(5).
وعن عاصم قال: " كان أبو وائل عثمانيًّا، وكان زِرُّ بن حُبيش علويًّا، وما رأيتُ واحدًا منهما قط تكلم في صاحبه حتى ماتا، وكان زِرٌّ أكبرَ من أبي وائل، فكانا إذا جلسا جميعًا، لم يُحدث أبو وائل مع زِرٍ -يعني يتأدب معه لسنِّه "(6).
(1) متفق عليهما.
(2)
متفق عليهما.
(3)
" سير أعلام النبلاء "(8/ 420).
(4)
" السابق "(10/ 231).
(5)
" الجامع "(1/ 321).
(6)
" سير أعلام النبلاء "(168/ 4).
قال أبو عبد الله المُعَيطي: رأيتُ أبا بكر بن عياش بمكة، جاءه سفيان بن عيينة، فبرك بين يديه، فجاء رجل يسأل سفيان عن حديث، فقال:" لا تسألني عن حديثٍ ما دام هذا الشيخ قاعدًا "، فجعل أبو بكر يقول:" يا سفيان، كيف أنت؟ وكيف عائلة أبيك؟ "(1).
وقال سفيان الثوري: " إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ، وإن كان قد بلغ من العلم مبلغًا، فآيس من خيره، فإنه قليل الحياء "(2).
وعن عقبة بن علقمة قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: " كنا إذا رأينا الحدث يتكلم مع الكبار أيسنا من خلافه، ومن كل خير عنده "(3).
وذكر يحيى أن الإمام مالكًا كان إذا رأى ازدحامهم في مجلسه؛ قال: " توقروا، فإنه عون لكم، وليعرف صغيركم حقَّ كبيركم "(4).
وعن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: (كنا نجلس إلى ربيعة وغيره، فإذا أتى ذو السن والفضل قالوا له: " ها هنا "، حتى يجلس قريبًا منهم، قال: وكان رييعة ربما أتاه الرجل ليس له ذلك السن، فيقول له: " ها هنا "، فلا يرضى ربيعة حتى يجلسه إلى جانبه، كأنه يفعل ذلك لفضله عنده)(5).
قال عبد الله: (رأيت أبي إذا جاء الشيخ والحدث من قريش أو غيرهم من الأشراف لم يخرج من باب المسجد حتى يخرجهم، فيكونوا هم يتقدمونه، ثم
(1)" السابق "(8/ 499)، وكان أبو بكر يكبر سفيان بعشر سنين.
(2)
" المدخل للبيهقي " ص (388).
(3)
" حلية الأولياء "(8/ 29).
(4)
" ترتيب المدارك "(1/ 154).
(5)
" الجامع "(1/ 345).
يخرج من بعدهم.
وقال المروذي: " رأيته جاء إليه مولى ابن المبارك فألقى إليه مخدة وأكرمه، وكان إذا دخل عليه من يكرم عليه، يأخذ المخدة من تحته، فيلقيها له ".
وقال المروذي: " كان أبو عبد الله من أشد الناس إعظامًا لإخوانه ومن هم أسن منه، لقد جاءه أبو همام راكبًا على حمار، فأخذ له أبو عبد الله بالركاب، ورأيته فعل هذا بمن هو أسن منه من الشيوخ (1) ").
وعن سلمة بن كهيل قال: " كان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء لسِنِّه "(2).
وانتهى أبو منصور وإبراهيم إلى زقاق، فقال له إبراهيم:" تقدم "، فأبى أن يتقدم، فتقدم إبراهيم، ثم قال:" لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم؛ ما تقدمتك ".
وعن مالك بن مِغْوَل قال: (كنت أمشي مع طلحة بن مُصَرِّفٍ، فصرنا إلى مضيق، فتقدمني، ثم قال لي: " لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم؛ ما تقدَّمتك " (3).
وعن الفضل بن موسى قال: (انتهيت أنا وعبد الله بن المبارك إلى قنطرة، فقلت له: " تقدَّمْ "، وقال لي: " تقدم "، فحاسبته، فإذا أنا أكبر منه بسنتين)(4).
وعن حماد بن أبي حنيفة قال: (رأيت الحسن بن عمارة وأبي انتهيا إلى قنطرة، فقال له أبي: " تقدم "، فقال: " أتقدم؟! تقدمْ أنت، فإنك أفقهنا، وأعلمنا، وأفضلنا " (5).
(1)" الآداب الشرعية، والمنح المرعية "(1/ 416).
(2)
" الجامع "(1/ 320).
(3)
" الجامع "(1/ 170 - 171).
(4)
" السابق "(1/ 171).
(5)
" السابق "(1/ 171).
وعن يعقوب بن سفيان قال: (بلغني أن الحسن، وعليًّا، ابنيْ صالحٍ كانا توأمين، خرج الحسن قبل علي فلم يُرَ قَطُّ الحسنُ مع علي في مجلس إلا جلس عليٌّ دُونَه، ولم يكن يتكلم مع الحسن إذا اجتمعا في مجلس)(1).
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: " وإن قدم الأكبر على نفسه من كان أعلمَ منه جاز ذلك، وكان حَسَنًا " ثم روى بإسناده إلى الحسين بن منصور قال:
(كنت مع يحيى بن يحيى وإسحق -يعني ابن راهُوَيهْ- يومًا نعود مريضًا، فلما حاذينا الباب، تأخَّر إسحاق، وقال ليحيى: " تقدم "، فقال يحيى لإسحق: " تقدم أنت "، قال: " يا أبا زكريا أنت أكبر مني "، قال: " نعم، أنا أكبر منك، وأنت أعلم مني "، فتقدم إسحاق)(2).
وعن جرير رضي الله عنه قال: (لما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم أتيته، فقال: " يا جرير لأي شيء جئت "؟ قال: " جئت لأسلِمَ على يديك يا رسول الله " قال: فألقى إليَّ كساءه، ثم أقبل على أصحابه، وقال: " إِذا أتاكم كريمُ قومٍ فأكرموه ")(3).
ويُروى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُنْزِل الناسَ منازَلهم "(4).
ورُوي عن أبي عمران الجَوْني قال: " كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(1)" السابق "(1/ 171).
(2)
" السابق "(1/ 171).
(3)
أخرجه الطبراني في " الكبير "(2/ 304)، والخطيب في " تاريخ بغداد "(1/ 188)، وغيرهم ، وقواه السخاوي في " المقاصد " بطرقه، وإن كانت مفرداتها ضعيفة، وانظر:" السلسلة الصحيحة " رقم (1205).
(4)
أخرجه مسلم في مقدمة " صحيحه " تعليقًا بصيغة التمريض، فقال:" ويُذكر عن عائشة .. "، وأبو داود رقم (4842) بنحوه، وحسنَّه السخاوي في " المقاصد الحسنة "، وانظر:" السلسلة الضعيفة " رقم (1894)، و " ضعيف أبي داود " رقم (1032)، و " دليل الفالحين "(2/ 218).
إلى أبي موسى الأشعري: أنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس، فأكرِم وجوه الناس " (1).
واستأذن رجلان على معاوية رضي الله عنه، فأذِن لأحدهما، وكان أشرف منزلة من الآخر، ثم أذن للآخر، فدخل عليه فجلس فوق صاحبه، فقال معاوية رضي الله عنه:" إن الله قد ألزمنا تأديبكم كما ألزمنا رعايتكم، وإنا لم نأذن له قبلك إلا ونحن نريد أن يكون مجلسُه دوَنك (2)، فقم لا أقام الله لك وزنًا "(3).
وقيل: كان زياد معظمًا للأحنف، فلما وُلِّي بعده ابنهُ عبيد الله تغيَّر أمر الأحنف، وَقَّدم عليه من هو دونه، ثم وفَد على معاوية في الأشراف، فقال لعبيد الله:" أدخِلهم عَلَيَّ على قدر مراتبهم "، فأخَّر الأحنف، فلما رآه معاوية أكرمه لمكان سيادته، وقال:" إليَّ يا أبا بحر "، وأجلسه معه، وأعرض عنهم، فأخذوا في شكر عبيد الله بن زياد، وسكت الأحنف، فقال له:" لم لا تتكلم؟ "، قال:" إن تكلمتُ خالفتُهم "، قال:" اشهدوا أني قد عزلت عبيد الله "، فلما خرجوا كان فيهم من يرومُ الإمارة، ثم أتوا معاوية بعد ثلاث، وذكر كل واحدٍ شخصًا، وتنازعوا، فقال معاوية. " ما تقول يا أبا بحر؟ "، قال:" إن ولَّيتَ أحدًا من أهل بيتك لم تجد مِثْلَ عُبيد الله "، فقال:" قد أعدتُه "، قال: فخلا معاوية بعبيد الله، وقال:" كيف ضيَّعتَ مثل هذا الرجل الذي عزلك، وأعادك، وهو ساكت!؟ "، فلما رجع عبيد الله جعل الأحنف صاحب سره (4).
وقال ابن شهاب: (خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام ومعنا
(1)" الجامع " للخطيب (1/ 348).
(2)
كذا بالأصل! ولعله: " أن يكون مجلسُك دونَه ".
(3)
" صفوة الأخبار " ص (264).
(4)
" سير أعلام النبلاء "(4/ 95).
أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فأتوا على مخاضةٍ وعمر على ناقة، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها الخاضة، فقال أبو عبيدة:" يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا؟! تخلع خفيك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها الخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك "، فقال عمر:" أوَّه لو يقل ذا غيرُك أبا عبيدة جعلتُه نكالاً لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم! "(1).
إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما تطلب العز بغير ما أعزنا الله به؟ أذلنا الله) (2).
وعن أبي وائل: أن ابن مسعود رضي الله عنه رأى رجلاً قد أسبل، فقال:" ارفع إزارك "، فقال:" وأنت يا ابن مسعود ارفع إزارك "، فقال له عبد الله:" إني لست مثلك إن بساقي حموشة -دقة- وأنا أؤم الناس "، فبلغ ذلك عمر، فجعل يضرب الرجل، ويقول:" أترد على ابن مسعود؟! "(3).
وعن يحيى بن معين قال: سمعت قبيصة بن عقبة يقول: " شهدتُ عند شريك، فامتحنني في شهادتي، فذكرتُ ذلك لسفيان، فأنكر على شريك، وقال: " لم يكن له أن يمتحنه " (4).
(1) وهذا هو الشاهد على مراعاة عمر رضي الله عنه أقدار الرجال، وإنزالهم منازلهم.
(2)
رواه الحاكم، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ثم الألباني، وفي رواية:" يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ " فقال عمر: " إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نبتغي العز بغيره ".
(3)
رواه ابن عساكر كما في " الكنز "(7/ 55).
(4)
" سير أعلام النبلاء "(10/ 132)، وإنما أنكر سفيان ذلك، لأن قبيصة كان كما قال الذهبي " قد قفز القنطرة ".
وقال السمعاني: (قال عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله: قلت لأبي: " ما لك لم تسمع من إبراهيم بن سعد، وقد نزل بغداد في جوارك؟ " فقال: اعلم يا بني أنه جلس مجلسًا واحدًا، وأملى علينا، فلما كان بعد ذلك خرج، وقد اجتمع الناس، فرأى الشباب تقدموا بين يدي المشائخ، فقال: " ما أسوأ أدبكم! تتقدمون بين يدي المشائخ؟! لا أحدثكم سنة "، فمات، ولم يحدث)(1).
وحضر سفيان الثوري مجلس شاب من أهل العلم، وهو يترأس ويتكبَّر بالعلم على من هو أكبر منه، فغضب سفيان، وقال:
" لم يكن السلف هكذا، كان أحدهم لا يدَّعي الإمامة، ولا يجلس في الصدر حتى يطلب هذا العلم ثلاثين سنة، وأنت تتكبر على مَن هو أسنُّ منك؟!
قم عني، ولا أراك تدنو من مجلسي " (2).
يا عائبًا للشيوخ مِن أشَرٍ
…
داخَلَه في الصِّبا ومِن بَذَخ
اذكر إذا شئتَ أن تُعَيّرَهم
…
جَدَّكَ واذكر أباك يا ابنَ أخِ
واعلم بأن الشبابَ منسلخٌ
…
عنك وما وزره بمنسلخِ
من لا يعز الشيوخ لا بَلَغتْ
…
يومًا به سِنُّه إلى الشَّيخِ
* * *
(1)" أدب الإملاء والاستملاء " للسمعاني ص (120).
(2)
" المدخل " للبيهقي ص (388).