الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استحباب الإبراء من الغيبة
ذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى أنه: (يُستحب لصاحب الغيبة أن يبرئ المغتاب منها، ولا يجب عليه ذلك؛ لأنه تبرع وإسقاط حق، فكان إلى خيرته (1)، ولكن يستحب له استحبابًا مؤكدًا الإبراءُ ليخلِّص أخاه المسلم من وبال هذه المعصية، ويفوز هو بعظيم ثواب الله تعالى في العفو ومحبة الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، وطريقه في تطييب نفسه بالعفو أن يذكِّر نفسه أن هذا الأمر قد وقع، ولا سبيل إلى رفعه، فلا ينبغي أن أفوّت ثوابه، وخلاصَ أخي المسلم، وقد قال الله تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]، وقال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199]، الآية، والآيات بنحو ما ذكرنا كثيرة.
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والله في عون العبد ما كان
(1) وقد سُئل الإمام ابن الصلاح رحمه الله: عن رجل اغتاب رجلاً مسلمًا، وجاء إليه، وقال له:" قد اغتبتك، وقلت عنك: كذا، وكذا، اجعلني في حل "، فما فعل بجعله في حل، هل هو مخطيء بكونه لم يجعله في حل؟ وهذا الذي اغتابه بقي عليه تبعة منه أم لا؟ فأجاب رحمه الله:(ليس عليه أن يجعله في حل، ولكن حرم نفسه فائدة العفو، ومثوبة إسعاف السائل، والتبعةُ باقية على المغتاب، وينبغي أن يكثر من أن يقول: " اللهم اغفر لي، ولمن اغتبته، ولمن ظلمته "، وقد رُوي في حديث لا أعلم يقوى إسناده: " كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته "، وإن يثبت؛ فله أصل، والله أعلم) اهـ. من " فتاوى ابن الصلاح " ص (31).
العبد فى عون أخيه " (1)، وقد قال الشافعي رحمه الله: " من استُرضي فلم يَرْضَ فهو شيطان "، وقد أنشد المتقدمون:
قيل لي: قد أساء إليك فلان
…
ومُقام الفتى على الذلِّ عارُ
قلت: قد جاءنا وأحدث عذرًا
…
دية الذنب عندنا الاعتذار
فهذا الذي ذكرنا من الحث على الإبراء عن الغيبة هو الصواب) (2) اهـ.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مالٌ قطُّ من صدقة، فتصدَّقوا، ولا عفا رجلٌ عن مظلمة ظُلِمها إِلا زاده الله تعالى بها عِزًا، فاعفوا يَزِدْكم الله عِزًا، ولا فتح رجل على نفسه بابَ مسألةٍ يسألُ الناسَ، إِلا فتح الله عليه بابَ فقر "(3).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ارحموا تُرْحَموا، واغفروا يغفر الله لكم، وويل لأقماع (4) القول، وويل للمُصِرِّين، الذين يُصِرون على ما فعلوا وهم يعلمون "(5).
وعن جرير رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لا يَرحم لا يُرحم،
(1) قطعة من حديث رواه مسلم رقم (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
" الأذكار " ص (297 - 298).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في " ذم الغضب "، وصححه الألباني في " صحيح الجامع "(3/ 62).
(4)
الأقماع (جمع " قِمَع " الإناء الذي يجعل في رأس الظرف ليُملأ بالمائع، شبه استماع الذين يستمعون القول، ولا يعونه، ولا يعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئًا مما يفرغ فيها، فكأنه يمر عليها مجتازًا كما يمر الشراب في القمع) أفاده المناوي في " الفيض "(1/ 474).
(5)
رواه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (380)، وأحمد (2/ 165، 219)، وقال المنذري في " الترغيب ":(رواه أحمد بإسناد جيد) اهـ. (3/ 155)، وكلذلك قال العراقي كما نقله عنه المناوي في " الفيض "(1/ 475).
ومن لا يغفر لا يُغفر له، ومن لا يتب لا يتب الله عليه " (1).
قال منصور الفقيه:
وقال نبينا فيما رواه
…
عن الرحمن في علم الغيوب
مُحالٌ أن ينالَ العفوَ من لا
…
يَمُنُّ به على أهل الذنوب (2)
وعن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو مرفوعًا: " الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "(3).
وقال إبراهيم التيمي: " إن الرجل ليظلمني، فارحمه "(4).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: " يا عقبة بن عامر! صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمَّن ظلمك "(5).
وإبراء المغتاب إذا جاء نادمًا معتذرًا يشمله عموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أقال مسلمًا، أقال الله تعالى عثرته "(6).
ونقل المناوي عن ابن عبد السلام قوله: " إقالة النادم من الإحسان المأمور
(1) أخرج الجملة الأولى الشيخان، والطبراني في الكبير (12/ 403)، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (483).
(2)
" بهجة المجالس "(1/ 372).
(3)
رواه أبو داود (1941)، والترمذي (1924) وقال:" حسن صحيح "، وأحمد (2/ 160)، والحاكم (4/ 159)، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الخرقي، والعراقي، وابن ناصر الدين الدمشقي، كما قاله الألباني في " الصحيحة " رقم (925).
(4)
" سير أعلام النبلاء "(5/ 61).
(5)
أخرجه أحمد (4/ 158)، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (891).
(6)
رواه أبو داود (3460)، وابن ماجه (2199)، والبيهقي (6/ 27)، وصححه ابن حبان (1103)، والحاكم (2/ 45)، وابن دقيق العيد، وابن حزم.
به في القرآن " (1).
والجزاء من جنس العمل، قال الشاعر:
أقِلنِي أقالك من لم يَزَلْ
…
يَقيكَ ويصرفُ عنك الردى
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يَجزيءُ بالسيئة، ولكن يعفو، ويصفح "(2).
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال. " لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه، واعتذر إليَّ في أذني الأخرى؛ لقبلت عذره "(3).
العبد يذنب والمولى يقومه
…
والعبد يجهل والمولى يعلِّمه
إني ندمت على ما كان من زللي
…
وزلة المرء يمحوها تندمه
وروى الخلال عن الحسن قال: " أفضل أخلاق المؤمن العفو "(4).
وقال الإمام أحمد بعد المحنة: (كل من ذكرني ففي حِل إلا مبتدعًا، وقد جعلت أبا إسحاق -يعني المعتصم- في حل، ورأيت الله يقول:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قصة مِسْطح، قال أبو عبد الله: " وما ينفعك أن يعذِّب الله أخاك المسلم
(1)" فيض القدير "(6/ 79).
(2)
رواه الترمذي رقم (2017)، وقال:" حسن صحيح "، وفي الشمائل رقم (298)، والطيالسي (2423)، وأحمد (6/ 174، 236، 246)، وصححه الألباني في " مختصر الشمائل " ص (182).
(3)
" الآداب الشرعية " لابن مفلح (1/ 302).
(4)
" السابق "(1/ 71).
في سببك؟ " (1).
وقال الأحنف: " إن اعتذر إليك معتذر؛ تلقَّه بالبشر ".
وقال عبد القاهر بن طاهر التميمي:
يا من عدا ثم اعتدى ثم اقترفْ
…
ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته
…
إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف (2)
وقال الخليفة المنتصر بالله لما عفا عن أبي العَمرَّد الشاري: " لذة العفو أعذب من لذة التشَفِّي، وأقبح فعال المقتدر الانتقام "(3).
وقال محمد بن أبي حاتم: سمعته -أي الإمام البخاري- يقول لأبي معشر الضرير: " اجعلني في حِلّ يا أبا معشر "، فقال:" من أي شيء؟ "، قال:" رويتُ يومًا حديثًا فنظرتُ إليك، وقد أُعجِبتَ به، وأنت تحرك رأسك ويدك، فتبسَّمتُ من ذلك "، قال:" أنت في حِلٍّ، رحَمك الله يا أبا عبد الله "(4).
وقال عبد الله بن محمد بن زياد: كنت عن أحمد بن حنبل، فقال له رجل:" يا أبا عبد الله! قد اغتبتك، فاجعلني في حِلٍّ "، قال:" أنت في حل إن لم تعد "، فقلت له:" أتجعله في حِلٍّ يا أبا عبد الله، وقد اغتابك؟ " قال: " ألم ترني اشترطتُ عليه؟! "(5).
(1)" نزهة الفضلاء " ص (828 - 829).
(2)
" الحاوي " للسيوطي (1/ 277).
(3)
" نزهة الفضلاء "(867).
(4)
" السابق " ص (904).
(5)
" حلية الأولياء "(9/ 174).