الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
مجاهدة النفس في ترك الغيبه وحفظ اللسان
قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] وقال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123] فمن سنة الجهاد البُداءة بالعدو الأقرب فالأقرب، والنفس الأمارة بالسوء بين جنبي الإنسان هى أقرب أعدائه إليه ، فليبدأ بمجاهدتها وقمعها ،خصوصا وأنها تأمر اللسان بالغيبة، وتؤزره على المعاصي.
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل "(1).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل الجهاد: أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل "(2).
وقال أبو حازم رحمه الله: " قاتِل هواك أشدَّ مما تقاتل عدوك "(3).
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 20، 22)، الترمذي (1621)، وقال:" حسن صحيح "، وابن حبان رقم (4624)، (4706)، والطبراني (18/ 309) رقم (797)، وقال الألباني في " الصحيحة ":" إسناده جيد "(3/ 484).
(2)
رواه أبو نعيم في " الحلية "(2/ 249)، وانظر:" السلسلة الصحيحة " رقم (1496).
(3)
" الحلية "(3/ 231).
ولولا أن الطباع قابلة بالمجاهدة لأن تُقَوَّمَ؛ لما جاءت الشرائع آمرة بالفضائل ومحذرة من الرذائل، فليجاهد العبد نفسه على تقويم لسانه، وتطهيره من الآفات لا سيما الغيبة، فإن استقامة اللسان ركن ركين من أركان استقامة سائر أعضائه (1).
كان " وهيب بن الورد " رحمه الله تعالى يقول: " والله لترك الغيبة عندي أحب إليَّ من التصدق بجبل من ذهب "(2).
وقال رحمه الله: " لأن أدع الغيبة أحبُّ إليَّ من أن يكون لي الدنيا منذ خُلقت إلى أن تفنى، فأجعلها في سبيل الله تعالى، ولأن أغض بصري عما حَرَّم الله تعالى، أحب إليَّ من أن تكون لي الدنيا وما فيها، فأجعلها في سبيل الله، ثم تلا قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، وتلا قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] "(3).
وكان السلف رحمهم الله تعالى يجاهدون أنفسهم أشد المجاهدة لتقويم " اللسان " وتهذيبه، ويصابرون على ذلك السنين الطوال:
فعن علي بن حَمَلة قال: قال عبد الله بن أبي زكريا الدمشقي: " عالجْتُ الصمت عما لا يعْنيني (4) عشرين سنة، قَلَّ أن أقدر منه على ما أريد "، قال: وكان لا يدع يُغتاب في مجلسه أحد، يقول:" إن ذكرتم الله أعَنَّاكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم "(5).
(1) انظر بيان ذلك ص (85 - 86).
(2)
" التوبيخ والتنبيه " رقم (169).
(3)
" تنبيه الغافلين "(1/ 179).
(4)
حد " الكلام فيما لا يعنيك ": أن تتكلم بكلام لو سَكَتَّ عنه لم تأثم، ولم تستضِرَّ به في حال ولا مآل.
(5)
" الحلية "(5/ 149)، و " الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (552)، وانظر:" الزهد " لابن أبي عاصم، ص (39).
" وكان عبد الله بن أبي زكريا إذا خاض جُلساؤه في غير ذكر الله، رأيته كالسَّاهي، فإذا خاضوا في ذكر الله، كان أحسن الناس استماعًا "(1)، " وكان رحمه الله لا يكاد أن يتكلم حتى يُسأل، وكان من أبشِّ الناس، وأكثرهم تبسمًا "(2).
وعن سلمة بن خلف بن إسماعيل قال: قلت لسفيان الثوري: " إذا أخذت في الحديث نشطت وأنكرتك، وإذا كنت في غير الحديث كأنك ميت؟ " قال سفيان: " أما علمت أن الكلام فتنة؟ "(3).
وعن المعَلَّى قال: قال مورِّق: " أمْرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة، لم أقدر عليه، ولستُ بتارك طلبَه أبدًا "، قالوا:" وما هو يا أبا المعتمر؟ "، قال:" الكف عما لا يعنيني "(4).
وقال محمد بن المنكدر: " كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت "(5).
وعن جعفر بن بُرقان قال: (بلغني عن يونس -أي: ابن عبيد- فضل وصلاح، فأحببت أن أكتب إليه أسأله، فكتب إليه: أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، فأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها، وتكره لهم ما تكره لها، فإذا هي من ذاك بعيدة، ثم عرضت عليها مرة أخرى تركَ ذكرهم إلا من خير، فوجدت الصومَ في اليوم الحار أيسر عليها من ذلك، هذا أمري يا أخي، والسلام)(6).
(1) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (715).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (714).
(3)
" حلية الأولياء "(7/ 63).
(4)
" الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (575).
(5)
" صفة الصفوة "(2/ 141).
(6)
" سير أعلام النبلاء "(6/ 290 - 291).
وقال ابن وهب: (نذرت أني كلما اغتبت إنسانًا أن أصوم يومًا، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت كلما اغتبت إنسانًا أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة)(1).
وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار: " يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم "(2).
وقال خارجة بن مصعب: " صحبت ابن عون ثِنْتي عشرة سنة، فما رأيتُه تكلم بكلمةٍ كتبها عليه الكرام الكاتبون "(3).
وعن الصَّلْت بن بَسْطام التيمي قال: (قال لي أبي: الزم عبد الملك بن أبْجَر فتعلَّم من توقِّيه في الكلام، فما أعلم بالكوفة أشدَّ تحفظًا للسانه منه)(4).
وعن الفضيل بن عياض قال: " كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة "(5).
وعن الحسن بن حَيٍّ قال: " إني لأعرف رجلاً يَعُدُّ كلامَه "، وكانوا يُرَوْنَ أنه هو (6).
وقال بشر بن منصور: (كنا عند أيوب السختياني، فلغطنا، وتكلمنا، فقال لنا: " كفوا .. لو أردت أن أخبركم بكل شيء تكلمت به اليومَ لفعلت ")(7).
(1)" سير أعلام النبلاء "(9/ 228)، وانظر:" ترتيب المدارك "(3/ 240).
(2)
" الإحياء "(3/ 120).
(3)
" الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (742).
(4)
" السابق " رقم (428).
(5)
" السابق " رقم (436).
(6)
" الصمت لابن أبي الدنيا " رقم (639).
(7)
" حلية الأولياء "(3/ 8).
وما تكلم الربيع بن خثيم بكلام الدنيا عشرين سنة، وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاسًا وقلمًا، فكل ما تكلم به كتبه، ثم يحاسب نفسه عند المساء (1).
وقال رجل لحاتم الأصم: " ما تشتهي؟ "، قال:" أشتهي عافية يوم إلى الليل "، فقال له:" أليست الأيام كلها عافية؟ "، قال:" إن عافية يومي أن لا أعصي الله فيه "(2).
وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله:
(وقد أخبرني بعض أشياخي من الصوفية، أنه كان من جملتهم رجلٌ إذا صفا له يوم واحد، جعل جَوْزًا في قِدر، وختم عليه، فإذا سُئل عن عمره أخرج القِدْرَ، وفضَّ الختم، وعدَّ الجوز، فيرى أن أيامه بعددها)(3).
* * *
(1)" الإحياء "(3/ 121) طبعة دار الكتب العلمية- 1406.
(2)
" حلية الأولياء "(8/ 83).
(3)
" أحكام القرآن "(3/ 1116).