الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تواضع الطالب لشيخه
لا يُنال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع، وتواضع الطالب لشيخه رفعة، وذُلُّه له عِزٌّ، وخضوعه له فخر، قال ابن عباس رضي الله عنهما:" ذَللتُ طالبًا، فعززتُ مطلوبًا "(1).
وعن أبي بكر محمد بن الأدموني النحوي قال:
(إذا تعلم الإنسان من العالم، واستفاد منه الفوائد؛ فهو له عبد، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ}، وهو يوشع بن نون، ولم يكن مملوكًا له، وإن كان متلمذًا له، متبعًا له، فجعله الله فتاه لذلك)(2).
وقال عبد الله بن المعتز: " المتواضع في طُلاب العلم أكثرهم علمًا، كما أن المكان المنخفض أكثرُ البقاع ماء "(3).
تواضع إذا ما طلبت العلوم
…
تكن أكثر الناس علمًا ونفعا
وكل مكان أشد أنخفاضًا
…
يُرى أكثر الأرض ماءً ومرعى (4)
وعن حرملة قال: سمعت الشافعي يقول: " لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء
(1)" جامع بيان العلم "(1/ 507).
(2)
" الفقيه والمتففه "(2/ 99).
(3)
" الجامع " للخطيب (1/ 198).
(4)
" أدب الإملاء والاستملاء " ص (144).
أفلح " (1).
العلم حرب للفتى المتعالي
…
كالسيل حرب للمكان العالي
وعوتب الشافعي على تواضعه للعلماء فقال:
أهين لهم نفسي فهم يكرمونها
…
ولن تكرم النفس التي لا تهينها
وكان عمرو بن قيس الملائي إذا بلغه الحديث عن الرجل، فأراد أن يسمعه، أتاه حتى يجلس بين يديه، ويخفض جناحه، ويقول:" عَلِّمني رحمك الله مما علَّمك الله "(2).
وقال شعبة: " كنت إذا سمعت من الرجل الحديث، كنت له عبدًا ما يحيا "(3).
وعن إدريس بن عبد الكريم قال: (قال لي سلمة بن عاصم النحوي: " أريد أن أسمع كتاب العدد من خلف "، فقلت لخلف، فقال: " فليجئ "، فلما دخل رفعه لأن يجلس في الصدر، فأبى، فقال: " لا أجلس إلا بين يديك "، وقال: " هذا حق التعليم "، فقال له خلف: جاءني أحمد بن حنبل ليسمع حديث أبي عوانة، فاجتهدت أن أرفعه، فأبى، وقال: " لا أجلس إلا بين يديك، أُمِرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه! ")(4).
وكان " ربيع القطان " من الفقهاء المعدودين، والعُبَّاد المجتهدين، وكان أبوه رحمه الله من أهل العبادة، قال أخوه أحمد: (كنا إذا جلسنا مع والدي، وخطر في باله شيء من العلم، قام من مكانه يبحث بين يدي ربيع ابنه، فيقوم ربيع إليه، ويقول: لم فعلت هذا؟ فيقول: " أردت أن أسألك عن شيء من العلم "، فيقول:
(1)" الفقيه والمتفقه "(2/ 93).
(2)
" الجامع " للخطيب (1/ 210).
(3)
" تذكرة السامع والمتكلم " ص (90).
(4)
" تاريخ بغداد "(9/ 134).
" وهلا وأنت في مكانك؟ "، فيقول:" أردت أن أعطي العلم حقه ") (1).
وعن مالك بن أنس رحمه الله قال: (وجَّه إليَّ هارونُ الرشيد يسألني أن أحدثه، فقلت: " يا أمير المؤمنين! إن العلم يُؤتَى ولا يأتى "، قال: فصار إلى منزلي فاستند معي إلى الجدار، فقلت: " يا أمير المؤمنين! إن من إجلال الله إجلالَ ذي الشيبة المسلم "، قال: " فجلس بين يديَّ ")(2).
وحكى بعضهم أن الخليفة هارون الرشيد بعث ابنه إلى الأصمعي، ليعلِّمه العلم والأدب، فرآه يومًا يتوضأ، ويغسل رجله، وابن الخليفة يصب الماء على رجله، فعاتب الأصمعيَّ في ذلك، فقال:" إنما بعثتُه إليك لتعلِّمَه وتَؤدبه، فلماذا لم تأمره بأن يصب الماء بإحدى يديه، ويغسل بالأخرى رجلك؟! ".
وقال أحمد بن حمدون: " دخل هارون بن زياد مؤدِّب الواثق إليه، فأكرمه إلى الغاية، فقيل له: " من هذا يا أمير المؤمنين الذي فعلت به هذا الفعل؟ "، فقال: " هذا أوّل من فَتَقَ لساني بذكر الله، وأدناني من رحمة الله ").
وعن أبي معاوية الضرير قال: " صب عليَّ بعد الأكل شخص لا أعرفه، فقال الرشيد: تدري من يَصُبُّ عليك؟ قلت: لا، قال. أنا، إجلالاً للعلم "(3).
وقال قتيبة بن سعيد: (قدمت بغداد، وما كانت لي همة إلا أن ألقى أحمد بن حنبل، فإذا هو جاءني مع يحيى بن معين، فتذاكرنا، فقام أحمد بن حنبل، وجلس بين يدي، وقال " أملِ عليَّ هذا "، ثم تذاكرنا، فقام أيضًا، وجلس بين يديَّ،
(1)" ترتيب المدارك "(2/ 332).
(2)
" الحث على طلب العلم " للعسكري ص (84).
(3)
" سير أعلام النبلاء "(9/ 288).
فقلت: " يا أبا عبد الله! اجلس مكانك "، فقال:" لا تشتغل بي، إنما أريد أن آخذ العلم على وجهه ").
وعن عمرو الناقد قال: " كنا عند وكيع، وجاء أحمد بن حنبل فقعد، وجعل يصف من تواضعه بين يديه، قال عمرو: فقلت: يا أبا عبد الله، إن الشيخ يكرمك فمالك لا تتكلم؟ قال: وإن كان يكرمني، فينبغي لي أن أُجِلَّه "(1).
ولما بلغ الثوريَّ مقدم الأوزاعي، خرج حتى لقيه بذى طوى، فحل سفيان رأس البعير عن القطار، ووضعه على رقبته، وكان إذا مر بجماعة قال:" الطريقَ للشيخ "(2).
وقال محمد بن حمدون بن رستم: سمعت مسلم بن الحجاج، وجاء إلى البخاري، فقال:" دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله "(3).
وعن عاصم بن أبي النَّجود قال: " ما قدمت على أبي وائل من سفر إلا قبَّل كفي "(4).
وقال إبراهيم بن الأشعث: " رأيت سفيان بن عيينة يقبّل يد الفضيل مرتين "(5).
وكان الشيخ شمس الدين الديروطي -صاحب البرج بدمياط- إذا مَر على فقيه،
(1)" مناقب الإمام أحمد " لابن الجوزي ص (82).
(2)
" تهذيب الأسماء واللغات "(1/ 300).
(3)
" سير أعلام النبلاء "(12/ 432).
(4)
" السابق "(5/ 257).
(5)
" السابق "(8/ 438).
ينزل عن دابته، ويسوقها أمامه، ويقبل يده، ثم لا يركب حتى يبعد عنه جدًا، ويتوارى عنه بجدار أو نحوه، مع أنه بلغ في العلم الغاية وشرح " المنهاج " وغيره.
وكان المأمون قد وكل الفراء يُلَقِّن ابنيه النحو، فلما كان يومًا أراد الفراء أن ينهض الى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعل الفراء يقدِّمانه له، فتنازعا أيهما يقدمه، فاصطلحا على أن يقدم كلُّ واحدٍ منهما فردًا، فقدمَّاها، وكان المأمون له على كل شيء صاحبُ خَبَر، فرفع ذلك الخبر إليه، فوجَّه إلى الفراء، فاستدعاه، فلما دخل عليه قال. " من أعزُّ الناس؟ "، قال:" ما أعرف أعز من أمير المؤمنين "، قال:" بل من اذا نهض؛ تقاتل على تقديم نعليه وليَّا عهد المسلمين، حتى رضي كل واحد أن يقَدِّم له فردًا ".
إلى أن قال المأمون: " وما وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رَفَع من قدرهما ،
…
فليس يكبر الرجل -وإن كان كبيرًا- عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه، ووالده، ومعلِّمه العلمَ ".
وقال أبو زرعة الرازي: (سمعنا أحمد بن حنبل -وذُكر عنده إبراهيم بن طَهْمان- وكان أحمد متكئًا من علة - فاستوى جالسًا، وقال: " لا ينبغي أن يُذكر الصالحون فنتكئ "، وذكر أبو الوفاء بن عقيل في " الفنون " أنه كان مستندًا، فأزال ظهره، وقال: " لا ينبغي أن يجري ذكر الصالحين ونحن مستندون ").
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
…
إن التشبه بالكرام فلاحُ
* * *