الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
كيف التوبة من الغيبة
؟
قال الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى: " التوبة هي الندم على ما مضى من المعاصي والذنوب، والعزم على تركها دائمًا لله عز وجل، لا لأجل نفع الدنيا أو أذى (1)، وأن لا تكون عن إكراه أو إلجاء، بل اختيارًا حال التكليف "(2).
اعلم وفقك الله -أنه يجب على من تدنس بالغيبة أن يبادر (3) بالتوبة إلى الله تعالي، وشروطها أربعة:
الأول: أن يقلع المغتابُ فورًا، ويكف عن غيبة أخيه، فالتوبة مع مباشرة
(1) وإن كفَّ حياءً من الناس؛ لم تصح توبته، ولا تكتب له حسنة، أفاده ابن مفلح في " الآداب الشرعية "(85/ 1).
(2)
" الآداب الشرعية والمنح المرعية "(1/ 84).
(3)
اعلم -وفقني الله وإياك لمرضاته- أن (المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور، ولا يجوز تأخيرها، فمتى أخرها؛ عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى، وهي توبته من تأخير التوبة) أفاده ابن القيم رحمه الله وزاد: (وقلَّ أن تخطر هذه ببال التائب، بل عنده: أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر، وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة، ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة، مما يعلم من ذنوبه، ومما لا يعلم، فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه، ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكنًا من العلم، فإنه عاص بترك العلم والعمل، فالمعصية، في حقه أشد)، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم:" وأستغفرك لما لا أعلم "، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو في صلاته:" اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإِسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني " الحديث، انظر:" مدارج السالكين "(1/ 272 - 273).
الذنب- مستحيلة.
الثاني: أن يندم على فعلها، قال صلى الله عليه وسلم:" الندم توبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له "(1)، فلا تتحقق التوبة إلا بالندم؛ لأن من لم يندم على القبيح؛ فذلك دليل على رضاه به، وإصراره عليه.
قال الشاعر:
متى ينتهي عن سيئ مَن أتى به
…
إذا لم يكن منه عليه تندُّمُ
الثالث: أن يعزم على أن لا يعود إلى هذه المعصية أبدًا، قال الحسن البصري في تعريف التوبة النصوح:" ندم بالقلب، واستغفار باللسان (2)، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود ".
وحكى البغوي عن عمر وأبيّ ومعاذ رضي الله عنهم: " التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن في الضَّرْع "(3).
الرابع: أن يتحلل ممن اغتابه، ويطلب عفوه عنها، وإبراءه منها، وذلك لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:" لَتُؤدُّن الحقوق إِلى أهلها يوم القيامة ، حتى يُقادَ للشاة الجَلْحاء من الشاة القرناء "(4).
(1) رواه من حديث أبي سعيد الأنصاري: أبو نعيم في " الحلية "(10/ 398)، وحسنه في " صحيح الجامع "(6/ 38).
(2)
أما الاستغقار باللسان، مع إصرار القلب والجوارح، فلا يجلب الغفران، بل هو " توبة الكذابين "، وانظر:" الآداب الشرعية " لابن مفلح (1/ 84).
(3)
" الآداب الشرعية والمنح المرعية "(1/ 86).
(4)
رواه مسلم رقم (2582)، والترمذي رقم (2422)، والجلحاء: التي لا قرن لها.
وعنه رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من كانت عنده مظلمة لأخيه، فليتحلله منها، فإِنه ليس ثمَّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإِن لم يكن له حسنات، أُخِذ من سيئات أخيه فطُرحت عليه "(1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: إِن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإِن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه؛ أخِذَ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثم يُطرح في النار "(2).
وقد اختلف العلماء في هذا الشرط الأخير، وهاك طرفاً من أقوالهم في ذلك:
قال النووي رحمه الله: " يجب على المغتاب التوبة بهذه الأمور الأربعة، لأن الغيبة حق آدمي، ولابد من استحلاله ممن اغتابه "(3).
و (ذكر الشافعية وجهين في كونه هل يكفيه أن يقول: " قد اغتبتك، فاجعلني في حِلٍّ "، أو لا بد أن يبين له ما اغتاب به؟
الوجه الأول: يشترط بيانه، فإن أبرأه من غير بيانه لم يصح، كما لو أبرأه عن مال مجهول.
(1) رواه البخاري رقم (6534)(11/ 395 - فتح)، والترمذي رقم (2421).
(2)
رواه مسلم رقم (2581)، والترمذي رقم (2420).
(3)
" الأذكار " ص (297).
والثاني: لا يُشترط، لأن هذا مما يُتسامح فيه، فلا يشترط علمه بخلاف المال.
والأول أظهر، لأن الإنسان قد يسمح بالعفو عن غيبة دون غيبة، فإن كان صاحب الغيبة ميتًا أو غائبًا، فقد تعذر تحصيل البراءة منها، لكن قال العلماء: ينبغي أن يكثر من الاستغفار له والدعاء، ويكثر من الحسنات، وهو قول الحسن في الاقتصار على الاستغفار دون الاستحلال.
والدليل على ذلك ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كفارة من اغتبتَ أن تستغفر له "(1).
وقال مجاهد: " كفارة أكلك لحم أخيك أن تثني عليه، وتدعو له بخير "(2).
وصحح الغزالي قول عطاء في جواب من سأله عن التوبة من الغيبة، وهو: أن تمشي إلى صاحبك، فتقول:" كذبتُ فيما قلتُ وظلمتك وأسأت، فإن شئت أخذت بحقك، وإن شئت عفوت "(3).
وأما قول القائل: (العِرض لا عوض له، فلا يجب الاستحلال منه بخلاف المال "، فكلام ضعيف، إذ قد وجب في العِرض حد القذف، وتثبت المطالبة به، بل في الحديث الصحيح ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إِن كان له
(1) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (291)، وضعفه العراقي في " المغني "(3/ 150)، وانظر:" الحاوي " للسيوطي (1/ 171).
(2)
" السابق " رقم (292)، وإسناده ضعيف.
(3)
" السابق " رقم (293) بسنده عن عطاء بن أبي رباح: (أنه سئل عن التوبة من الفِرْية؟ قال:
…
) فذكره، وإسناده ضعيف.
عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإِن لم تكن له حسنات، أخذت من سيئات صاحبه فحمل عليه " (1)، وقالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لأخرى: إنها طويلة الذيل: " قد اغتبتيها، فاستحليها " (2)، فإذن لابد من الاستحلال إن قدر عليه، فإن كان غائبًا أو ميتًا؛ فينبغي أن يكثر الاستغفار والدعاء، ويكثر من الحسنات) (3) اهـ.
وقال الإمام القرطبي رحمه الله:
( .. هل يستحل المغتاب؟
اختلف فيه، فقالت فرقة:" ليس عليه استحلاله، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه، واحتجت بأنه لم يأخذ من ماله، ولا أصاب من بدنه ما ينقصه، فليس ذلك بمظلِمة يستحلها منه، وإنما الظلمة ما يكون منه البدل والعِوض في المال والبدن ".
وقالت فرقة: " هي مَظلمة، كفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه "، واحتجت بحديث يُروى عن الحسن قال:" كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته ".
وقالت فرقة: " هي مظلمة، وعليه الاستحلال منها "، واحتجت بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من كانت لأخيه عنده مظلمة في عِرض أو مال؛ فليتحلله منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم، يؤخذ من حسناته، فإِن لم يكن له حسنات؛ أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته " خرجه البخاري
(1) رواه البخاري في كتاب المظالم (5/ 101 - فتح).
(2)
رواه البيهقي في " الشعب "(5/ 13 3) رقم (6768) ولفظه: عن عائشة بنت طلحة بن عبيد الله قالت: (دخلتُ على عائشة، وعندها أعرابية، فخرجت الأعرابية تجرُّ ذيلها، فقالت ابنةُ طلحة: ما أطول ذيلها!، فقالت لها عائشة: " اغتبتيها، أدركيها تستغفر لك ").
(3)
انظر: " الأذكار النووية " ص (297)، و " الموسوعة الفقهية "(31/ 338 - 339).
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له مظلمة لأخيه من عِرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إِن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإِن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه "
…
وقد رُوي من حديث عائشة أن امرأة دخلت عليها، فلما قامت قالت امرأة:" ما أطول ذيلها! "، فقالت لها عائشة:" لقد اغتبتيها، فاستحليها "، فدلت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها.
وأما قول من قال: " إنما الغيبة في المال والبدن "؛ فقد أجمعت العلماء على أن على القاذف للمقذوف مظلمة يأخذه بالحدِّ حتى يقيمه عليه، وذلك ليس في البدن ولا في المال، ففي ذلك دليل على أن الظلم في العِرض والبدن والمال، وقد قال الله تعالى في القاذف:{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من بهت مؤمنًا بما ليس فيه حبسه الله في طينة الخَبال "(1)، وذلك كله في غير المال والبدن.
وأما من قال: " إنها مظلمة؛ وكفارة المظلمة أن يستغفر لصاحبها "، فقد ناقضَ إذ سمَّاها مظلمة، ثم قال:" كفارتها أن يستغفر لصاحبها "، لأن قوله:" مظلمة " تثبت ظُلامة المظلوم؛ فإذا ثبتت الظلامة؛ لم يُزلها عن الظالم إلا إحلالُ المظلوم له.
(1) قطعة من حديث رواه الطبراني في " الكبير "(12/ 388)، ولفظه:" ومن بهت مؤمناً أو مؤمنة حبسه الله في ردغة الخبال يوم القيامة، حتى يخرج مما قال، وليس بخارج "، وقال الهيثمي في " المجمع " (10/ 91):(رواه الطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، ورجالهما رجال الصحيح، غير محمد بن منصور الطوسي، وهو ثقة). اهـ.
وأما قول الحسن فليس بحجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من كانت له عند أخيه مظلمة في عِرض أو مال فليتحللها منه ".
وقد ذهب بعضهم إلى ترك التحليل لمن سأله، ورأى أنه لا يُحِلُّ له ما حرَّم الله عليه؛ منهم سعيد بن المسيب، قال:" لا أحلل من ظلمني "، وقيل لابن سيرين:" يا أبا بكر! هذا رجل سألك أن تحله من مظلمة هي لك عنده "؛ فقال: " إني لم أحرمها عليه فأحلها، إن الله حَرَّم الغيبة عليه، وما كنت لأحِلَّ ما حرَّم الله عليه أبدًا "(1)، وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يدل على التحليل، وهو الحجة والمبيِّن، والتحليل يدل على الرحمة، وهو من وجه العفو، وقد قال تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40](2) اهـ.
وحكى الإمام ابن مفلح رحمه الله القول بوجوب استحلال المغتاب، ثم قال: ( .. وقيل: إن علم به المظلوم؛ وإلا دعا له واستغفر ولم يُعلمه، وذكر الشيخ تقي الدين أنه قول الأكثرين، وذكر غير واحد: إن تاب من قذف إنسان
(1) قال الإمام النووي رحمه الله معلقًا على ما جاء عن سعيد بن المسيب وابن سيرين: هذا (ضعيف أو غلط، فإن المبرِّئ لا يُحلل محرمًا، وإنما يُسقط حقًّا ثبت له، وقد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على استحباب العفو، وإسقاط الحقوق المختصة بالمسقِط، أو يحمل كلام ابن سيرين على: " أني لا أبيح غيبتي أبدًا "، وهذا صحيح، فإن الإنسان لو قال: أبحت عرضي لمن اغتابني " لم يَصِرْ مباحًا، بل يحرم على كل أحد غيبة غيره، وأما الحديث: " أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ كان إِذا خرج من بيته قال: " إِني تصدقت بعرضي على الناس " " فمعناه: لا أطلب مظلمتي ممن ظلمني لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا ينفع في إسقاط مظلمة كانت موجودة قبل الإبراء، فأما ما يحدث بعده فلابد من إبراء جديد بعدها، وبالله التوفيق) اهـ. من " الأذكار " ص (298)، وحديث أبي ضمضم المذكور رواه أبو داود برقم (4886)، (4887) عن قتادة، وقال الألباني:" صحيح مقطوع " كما في " صحيح أبي داود "(3/ 924).
(2)
" الجامع لأحكام القرآن "(16/ 337 - 339).
او غيبته -قبل علمه به- هل يُشترط لتوبته إعلامه والتحليل منه؟ على روايتين، واختار القاضي أنه لا يلزمه، لما روى أبو محمد الخلال بإسناده عن أنس مرفوعًا:" من اغتاب رجلاً ثم استغفر له من بعد غفر له غيبته "(1)، وبإسناده عن أنس مرفوعًا:" كفارة من اغتاب أن يستغفره له "(2)، ولأن في إعلامه إدخالَ غمًّ علمه، قال القاضي: فلم يجز ذلك
…
) إلى أن قال: ( .. وقال ابن عبد البر في كتاب " بهجة المجالس ": قال حذيفة رضي الله عنه: " كفارة من اغتبته أن تستغفر له "، وقال عبد الله بن المبارك لسفيان بن عيينة: " التوبة من الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته "، فقال سفيان: " بل تستغفره مما قلت فيه "، فقال ابن المبارك: " لا تؤذوه مرتين "، ومثل قول ابن المبارك اختاره الشيخ تقي الدين ابن الصلاح في فتاويه (3)
…
).
وقال: (واختار أصحابنا أنه لا يُعلمه بل يدعو له دعاءً يكون إحسانًا إليه في مقابلة مظلمته كما روي في الأثر، ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أيما مسلم شتمته، أو لعنته، أو سببته، أو جلدته، فاجعل ذلك له صلاة وزكاة وقربة
(1) أوردهما ابن الجوزي في " الموضوعات "، ووافقه الألباني في " الضعيفة " برقمي (1520)، (1519).
(2)
أوردهما ابن الجوزي في " الموضوعات "، ووافقه الألباني في " الضعيفة " برقمي (1520)، (1519).
(3)
فقد قال رحمه الله في جواب سؤال عن حديث: " كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته ": (الحديث وإن لم نعرف له إسنادًا يثبت، فمعناه يثبت بالكتاب والسنة المعتمدة، أما الكتاب فقوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} إن كان هذا نزل في الصلوات فهو عام، والعام لا يختص بالسبب، وقد بين ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه:" أتبع السيئة الحسنة تمحها "، أما السنة: فمنها هذا، ومنها حديث حذيفة أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرب لسانه على أهله، فقال له:" أين أنت من الاستغفار؟ "، وذرب اللسان على الغير أخو الغيبة، فإن كلاهما أو كلاً منهما جنايات اللسان على الغير
…
) اهـ. من " فتاوى ابن الصلاح " ص (32).
تقربه بها إِليك يوم القيامة (1) ").
(وهذا -أي الدعاء له- أحسن من إعلامه، فإن في إعلامه زيادة إيذاء له، فإنَّ تضرر الإنسان بما علمه من شتمه أبلغ من تضرره بما لا يعلم، ثم قد يكون ذلك سبب العدوان على الظالم أولاً، إذ النفوس لا تقف غالبًا عند العدل والإنصاف، فتبصر هذا، ففي إعلامه هذان الفسادان.
وفيه مفسدة ثالثة -ولو كانت بحق- وهو زوال ما بينهما من كمال الإلف والمحبة، أو تجدد القطيعة والبغضة، والله تعالى أمر بالجماعة، ونهى عن الفرقة، وهذه المفسدة قد تعظم في بعض المواضع أكثر من بعض، وليس في إعلامه فائدة إلا تمكينه من استيفاء حقه كما لو علم)، ثم بيَّن أن حقه هنا هو العقوبة أو الأخذ من الحسنات ما قال صلى الله عليه وسلم:" من كانت عنده مظلمة لأخيه " الحديث.
ثم قال: (وإذا كان فيعطيه في الدنيا حسنة بدل الحسنة، فإن الحسنات يذهبن السيئات، فالدعاء له والاستغفار إحسان إليه، وكذلك الثناء عليه بدل الذم له، وهذا عام فيمن طعن علي شخص أو لعنه أو تكلم بما يؤذيه أمرًا أو خبرًا، بطريق الإفتاء أو التحضيض أو غير ذلك، فإن أعمال اللسان أعظم من أعمال اليد حيًا أو ميتًا، حتى لو كان ذلك بتأويل أو شبهة ثم بان له الخطأ، فإن كفارة ذلك أن يقابل الإساءة إليه بالإحسان، بالشهادة له بما فيه من الخير، والشفاعة له بالدعاء، فيكون الثناء بدل الطعن واللعن، ويدخل في هذا أنواع
(1) رواه مسلم رقم (2603) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: (يا أم سليم! أما تعلمين أن شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي، فقلت: " إِنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهورًا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة ").
الطعن واللعن الجاري بتأويل سائغ أو غير سائغ ، كالتكفير والتفسيق ونحو ذلك) اهـ (1).
وقال شيخ الإسلام، الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (وإن كانت المظلمة بقدح فيه، بغيبة أو قذف: فهل يشترط في توبته منها إعلامه بذلك بعينه والتحلل منه؟ أو إعلامه بأنه قد نال من عرضه، ولا يشترط تعيينه، أو لا يشترط لا هذا ولا هذا، بل يكفي في توبته أن يتوب بينه وبين الله من غير إعلام مَنْ قذفه واغتابه؟
على ثلاثة أقوال، وعن أحمد روايتان منصوصتان في حد القذف، هل يشترط في توبة القاذف: إعلام المقذوف، والتحلل منه أم لا؟ ويخرَّج عليهما توبة المغتاب والشاتم.
والمعروف في مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك: اشتراط الإعلام والتحلل، هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم.
والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي: فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه.
ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول؛ شَرَطَ إعلامه بعينه، لا سيما إذا كان مَنْ عليه الحق عارفًا بقدره، فلابد من إعلام مستحقه به، لأنه قد لا تسمح نفسه بالإبراء منه إذا عرف قدره.
واحتجوا بالحديث المذكور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:" من كان لأخيه عنده مظلمة -من مال أو عرض- فليتحلله اليوم ".
قالوا: ولأن في هذه الجناية حقين: حقًا لله، وحقًا للآدمي، فالتوبة منها
(1)" الآداب الشرعية والمنح المرعية "(1/ 62 - 65) باختصار.
بتحلل الآدمي لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه.
قالوا: ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه، إن شاء اقتص، وإن شاء عفا، وكذلك توبة قاطع الطريق.
والقول الآخر: إنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدِّل غيبته بمدحه والثناء عليه، وذكر محاسنه، وقذفَه بذكر عِفَّته وإحصانه، ويستغفر له بقدر ما اغتابه.
وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية، قدس الله روحه.
واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة، لا تتضمن مصلحة؛ فإنه لا يريده إلا أذىً وحنقًا غمًا، وقد كان مستريحًا قبل سماعه، فإذا سمعه؛ ربما لم يصبر على حمله، وأورثته ضررًا في نفسه أو بدنه، كما قال الشاعر:
فإن الذي يؤذيك منه سماعه
…
وإن الذي قالوا وراءك لم يُقَل
وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه، فضلاً عن أن يوجبه ويأمر به.
قالوا: وربما كان إعلامه به سببًا للعداوة والحرب بينه وبين القائل، فلا يصفو له أبدًا، ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولِّدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب، والتراحم والتعاطف والتحابب.
قالوا: والفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين:
أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه، فلا يجوز إخفاؤها عنه، فإنه
محض حَقّه، فيجب عليه أداؤه إليه، بخلاف الغيبة والقذف، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره وتهييجه فقط، فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس.
والثاني: أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه، ولم تُهِج منه غضبًا ولا عداوة، بل ربما سَرَّه ذلك، وفرح به، بخلاف إعلامه بما مَزَّق به عرضه طول عمره ليلاً ونهارًا، من أنواع القذف والغيبة والهجو، فاعتبار أحدهما بالآخر اعتبار فاسد، وهذا هو الصحيح في القولين كما رأيت، والله أعلم) اهـ (1).
وقال رحمه الله في موضع آخر:
(وهذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد، وهما:
هل يكفي في التوبة من الغيبة الاستغفار للمغتاب، أم لا بد من إعلامه وتحلله؟) قال:(والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه، بل يكفيه الاستغفار له، وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره) قال. (والذين قالوا: " لا بد من إعلامه " جعلوا الغيبة كالحقوق المالية، والفرق بينهما ظاهر، فإن في الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه، فإن شاء أخذها، وإن شاء تصدق بها، وأما في الغيبة فلا يمكن ذلك، ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصد الشارع، فإنه يوغر صدره، ويؤذيه إذا سمع ما رُمي به، ولعله يهيج عداوته، ولا يصفو له أبدًا، وما كان هذا سبيله فالشارع الحكيم لا يبيحه، ولا يجيزه فضلاً عن أن يوجبه ويأمر به، ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها، لا على تحصيلها وتكميلها)(2) اهـ.
* * *
(1)" مدارج السالكين "(1/ 290 - 291).
(2)
نقله عنه السفاريني في " غذاء الألباب "(1/ 93).