الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرصهم على ملازمة الشيوخ وَالمؤَدِّبِينَ
كان طلاب العلم في الصدر الأول يعتمدون " التلقي المباشر " من أفواه المشايخ عبر الملازمة الطويلة لهم، منهجًا ثابتًا لهم لا يحيدون عنه في طلب العلم، مع النهم، والمسابقة، والبكور، ومزاحمة العلماء بالركب، سئل الإمام مالك رحمه الله:" أيؤخذ العلم عمن ليس له طلب ولا مجالسة؟ "، فقال:" لا "، فقيل:" أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ، ولا يفهم ما يحدث؟ "، فقال:" لا يكتب العلم إلا ممن يحفظ، ويكون قد طلب، وجالس الناس، وعرف وعمل، ويكون معه ورع "(1)، وقد اشتهر في بيان ما يشترط في طلب العلم بيتان لإمام الحرمين رحمه الله، قال:
أخي لن تنال العلم إلا بستة
…
سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاءٍ، وحرصٍ، وافتقارٍ، وغربةٍ
…
وتلقينِ أستاذ، وطولِ زمان (2)
وقد قيل: " حيثما كنت؛ فكن قرب فقيه "(3).
وذكر محمد بن الحسن الشيباني عن أبي حنيفة قال: " الحكايات عن العلماء، ومجالستهم أحب الي من كثير من الفقه، لأنها آداب القوم وأخلاقهم "، قال محمد: ومثل ذلك: ما رُوي عن إبراهيم النخعي -قال: " كنا
(1)" إسعاف المبطإ برجال الموطإ " ص (4).
(2)
" طبقات الشافعية الكبرى "(5/ 208).
(3)
ولهذه الوصية قصة، فقد قال عبد الله بن أبي موسى التُّسترِيُّ: (قيل لي: حيثما كنت؛ فكن قرب فقيه "، قال: فأتيت بيروت إلى الأوزاعي، فبينما أنا عنده إذ سألني عن أمري، فأخبرته، وكان مجوسيًا، ثم أسلم، فقال لي: " ألك أب؟ "، قلت: " نعم، تركته بالعراق
نأتي مسروقًا، فنتعلم من هديه ودَلّه "، ثم أسند إلى أبي الدرداء رضي الله عنه قوله: " من فقه الرجل: ممشاه، ومدخله، ومخرجه مع أهل العلم " (1).
وعن مالك قال: " أتى نُعَيمٌ المجْمِرُ أبا هريرة رضي الله عنه عشرين سنة "(2).
و" صحب ثابت البناني أنس بن مالك رضي الله عنه أربعين سنة "(3).
وقال مالك: " كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلم منه "(4).
" وكان حامد بن يحيى البلخي ممن أفنى عمره بمجالسة ابن عيينة "(5).
وقال نافع بن عبد الله: " جالست مالكًا أربعين سنة -أو قال: خمساً وثلاثين سنة- كل يوم أبكر، وأهجّر، وأروح "(6).
= مجوسي "، قال: " فهل لك أن ترجع لعل الله يهديه على يديك؟ "، قلت: " ترى لي ذاك؟ "، قال: " نعم "، فأتيت أبي، فوجدته مريضًا، فقال لي: " يا بني أي شيء أنت عليه؟ " فأخبرته أني أسلمت، فقال لي: " فأعرض علي دينَك، فأخبرته بالإسلام وأهله، قال:" فإني أشهدك أني قد أسلمت "، قال: فمات في مرضه ذلك، فدفنته، ورجعت إلى الأوزاعي فأخبرته).
(1)
" جامع بيان العلم وفضله "(1/ 127)، ومن مظاهر التأكيد على أن مصاحبة العلماء لا تستقيم حياة المسلم بدونها، قول العلماء:" إذا لم يوجد مفت في مكان ما حرم السكنُ فيه، ووجب الرحيل منه إلى حيث يوجد من يفتيه في أحكام الدين وما ينزل به من نوازل "، كما نقله الدكتور عبد الكريم زيدان في " أصول الدعوة " ص (147)، ونقل -في نفس الموضع- عن الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى قوله: " فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو حصن أن ينتدب منهم من يطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها، ويتعلم القرآن كله ، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام
…
إلخ، ثم يقوم بتعليمهم، فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله؛ ففرضٌ عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المجتهدين في صنوف العلم، وإن بعدت ديارهم، وإن كانوا بالصين " اهـ.
_________
(2)
" سير أعلام النبلاء "(8/ 107).
(3)
" السابق "(5/ 222).
(4)
" السابق "(8/ 108).
(5)
" الثقات " لابن حبان (8/ 218).
(6)
" حلية الأولياء "(6/ 320).
وهكذا كان الطالب يلازم شيخه ويقتدي به، ويتخلق بآدابه إلى جانب تضلعه من علمه وتزوده من معارفه، فمن ثَمَّ أثمر هذا النهج القويم طلاب علم يطيرون بجناحي العلم والعمل، ولا يقَال:" عالم " في الحقيقة إلا إذا كان عاملاً، فغير الجاري على مقتضى علمه هو والجاهل سواء، قال الشاعر:
وإذا الفتى قد نال علمًا ثم لم
…
يعمل به فكأنه لم يعلم
عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع قال: " كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به "(1).
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يكتب الأحاديث، فيكثر، فقال:" ينبغي أن يكثر العملَ به على قدر زيادته في الطلب "، ثم قال:" سُبُل العلم مثل سُبل المال، إنْ المال إذا ازداد ازدادت زكاته "(2).
وقالت أم سفيان الثوري له، وهي تعظه:" يا بني إذا كتبت عشرة أحرف، فانظر: هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك، فاعلم أنها تضرك، ولا تنفعك "(3).
وعن الحسن قال: " قد كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في: تخشعه، وهديه، ولسانه، وبصره، وبره "(4).
وعن إبراهيم بن إسماعيل قال: " كان أصحابنا يستعينون على طلب الحديث بالصوم "(5).
(1)" اقتضاء العلم العمل " ص (90).
(2)
" السابق " ص (90).
(3)
" صفة الصفوة "(3/ 189).
(4)
" شعب الإيمان "(2/ 291).
(5)
" الجامع لآداب الراوي والسامع "(1/ 143).
وقال سفيان بن عيينة: " كان الشاب إذا وقع في الحديث احتسبه أهله "(1).
قال أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله: " يعني أنه كان يجتهد في العبادة اجتهاداً يقتطعه عن أهله، فيحتسبونه عند ذلك ".
* وكم كان للعلماء الربانيين مع تلاميذهم من لفتات تربوية صادقة، ونصائح سلوكية مخلصة، تعمل في قلوبهم، وتظهر في أحوالهم:
فعن إسماعيل بن يحيى، قال:(رآني سفيان وأنا أمازح رجلاً من بني شيبة عند البيت، فتبسمتُ، فالتفت إليَّ، فقال: " تبتسم في هذا الموضع! إن كان الرجل ليسمع الحديث الواحد، فنرى عليه ثلاثة أيام سمته وهديه ")(2).
وعن قاسم بن إسماعيل بن علي، قال:(كنا بباب بِشْر بن الحارث؛ فخرج إلينا؟ فقلنا: " يا أبا نصر حدِّثنا؟ فقال: " أتؤدون زكاة الحَديث؟ " قال: قلت له: " يا أبا نصر، وللحديث زكاة؟ " قال: " نعم، إذا سمعتم الحديث، فما كان في ذلك من عمل أو صلاة أو تسبيح استعملتموه " (3).
وعن عمرو بن قيس الملائي قال: " إذا بلغك شيء من الخير، فاعمل به -ولو مرة- تكن من أهله "(4).
وعن أبي عمرو بن حمدان قال: سمعت أبي يقول: (كنت في مجلس أبي عبد الله المروزي، فحضرت صلاة الظهر؛ فأذَّن أبو عبد الله؛ فخرجت من
(1)" السابق "(1/ 143).
(2)
" السابق "(1/ 157).
(3)
" السابق "(1/ 144).
(4)
" السابق "(1/ 144).