الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجونه فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه " ونحو هذا الكلام، فسرُّوا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله، ورضي عنه) (1) اهـ.
واستفتى السلطان محمد بن الملك المنصور قلاوون شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموه في حق شيخ الإسلام (2)، وأخرج السلطان من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله.
قال شيخ الإسلام: (ففهمت مقصوده أن عنده حنقًا شديدًا عليهم، لما خلعوه، وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي، وسكَّنت ما عنده عليهم).
قال: كان القاضي زين الدين ابن مخلوف -قاضي المالكية- يقول بعد ذلك: " ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نُبق ممكنا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا "(3).
وتجلى هذا الولاء في حزنهم لموت الواحد منهم:
قال الحسن: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " موت العالم ثُلْمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار "(4).
(1)" مدارج السالكين "(2/ 345).
(2)
وكان هؤلاء العلماء والقضاة هم الذين حكموا على شيخ الإسلام بالحبس ثمانية عشر شهرًا، وكانوا هم أنفسهم الذين مالئوا بيبرس الجاشنكير خصم السلطان محمد بن قلاوون عليه.
(3)
" العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية " ص (187)، وانظر:" الرد الوافر " ص (197)، و " البداية والنهاية "(14/ 54).
(4)
" شرح السنة "(1/ 317).
وقال أيوب: " إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي "(1).
وأخرج اللالكائي أن حماد بن زيد قال: (كان أيوب يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث فيُرى ذلك فيه، ويبلغه موت الرجل يُذكر بعبادة فما يُرى ذلك فيه)(2).
وقال أيوب: " إن الذين يتمنون موت أهل السنة يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون "(3).
وقال يحيى بن جعفر: " لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل -أي البخاري- من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم "(4).
وعن عبيد الله بن عبد الكريم قال: (كان محمد بن داود خصمًا لأبي العباس بن سريج القاضي، وكانا يتناظران، ويترادان في الكتب، فلما بلغ ابن سريج موتُ محمد بن داود نحَّى مخاده، ومشاوره، وجلس للتعزية، وقال: " ما آسى إلا على تراب أكل لسان محمد بن داود ")(5).
ونظرة إلى مراثي الأئمة في إخوانهم من العلماء تعكس صدق هذه المشاعر الحارة.
* * وتجلى هذا الولاء في دعاء بعضهم لبعض اعترافًا بجميلهم، ومكافأة
(1)" حلية الأولياء "(3/ 9).
(2)
" شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " لللالكائي (1/ 61) رقم (34).
(3)
" السابق "(1/ 61) رقم (35).
(4)
" تاريخ بغداد "(2/ 24).
(5)
" السابق "(5/ 259).
لصنيعهم، وقد قال الشافعي رحمه الله:" الحر من راعى وِداد لحظة، أو انتمى لمن أفاده لفظة ".
عن أم الدرداء قالت: (كان لأبي الدرداء ستون وثلاث مائة خليل في الله، يدعو لهم في الصلاة، فقلت له في ذلك، فقال: إنه ليس رجل يدعو لأخيه في الغيب، إلا وكَّل الله به ملكين يقولان: " ولك بمثل "، أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة؟)(1).
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: (ما مددت رجلي نحو دار أستاذي حماد إجلالاً له، وكان بين داري وداره سبعُ سِكك، وما صليت صلاة منذ مات حماد إلا استغفرتُ له مع والدي، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه أو علمني علمًا)(2).
وقال أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة: (إني لأدعو لأبي حنيفة قبل أبويَّ، ولقد سمعت أبا حنيفة يقول: " إني لأدعو لحماد مع أبويَّ ").
قال ابن راهويه رحمه الله:
" قلَّ ليلة إلا وأنا أدعو فيها لمن كتب عنا، ولمن كتبنا عنه "(3).
وقال الحارث بن سريج: (سمعت يحيى القطان يقول: " أنا أدعو الله للشافعي، أخصه به ").
وقال الإمام أحمد: " ما بِتُّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي، وأستغفر له ".
(1)" سير أعلام النبلاء "(2/ 351).
(2)
" مناقب الإمام أبي حنيفة " للخوارزمي (2/ 7).
(3)
" فتح المغيث "(2/ 301).
قال ابن أبي حاتم: رأيت في كتاب عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني - المعووف برستة- إلى أبي زرعة بخطه: " اعلم -رحمك الله- أني ما أكاد أنساك في الدعاء لك ليلي ونهاري: أن يمتَّع المسلمون بطول بقائك، فإنه لا يزال الناس بخير ما بقي من يعرف العلم، وحقَّه من باطله .. وقد جعلك الله منهم .. "(1).
وسأل رجل الإمام أحمد فقال: " بالري -مدينة بالمشرق- شاب يقال له: أبو زرعة "، فغضب أحمد، وقال:" تقول: شاب؟ " -كالمنكر عليه، ثم رفع يديه، وجعل يدعو الله عز وجل لأبي زرعة، ويقول: " اللهم انصره على من بغى عليه، اللهم عافه، اللهم ادفع عنه البلاء، اللهم .. اللهم
…
" في دعاء كثير (2).
وقال عبد الله بن أحمد: " ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم ".
و (كان لأبي حمدون -أحد القراء المشهورين- صحيفة فيها مكتوب ثلاثمائة من أصدقائه، وكان يدعو لهم كل ليلة، فتركهم ليلة فنام، فقيل له في نومه: " يا أبا حمدون! لمَ لَمْ تُسرج مصابيحك الليلة؟ " قال: فقعد فأسرج، وأخذ الصحيفة فدعا لوَاحدٍ واحد حتى فرغ)(3).
* * *
(1)" الجرح والتعديل "(1/ 341).
(2)
" طبقات الحنابلة "(1/ 130).
(3)
" تاريخ بغداد "(9/ 361).