الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتى لا يشتبه العلماء بغيرهم
لقد أفرز الواقع الأليم -الذي أطلَّت فيه الفتن برأسها، وشهرت العالمانية سيفها، وغُيِّب فيه كثير من العلماء الربانيين، وحيل بينهم وبين الشباب- ظاهرة جديرة بالحذر، وهي بروز طائفة من الشباب المتحمسين للذبِّ عن دينهم، ونشر سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتأدية فرض الكفاية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحياء الدعوة إلى الله، وتجديد شباب الإسلام.
وقد أثمرت جهودهم بالفعل ثمارًا مباركة لا ينكرها إلا جاحد، منها:
- التصدي لشبهات الزنادقة والمنافقين وسائر أعداء الدين.
- انتعاش مهمة " البلاغ العام " بدعوة عموم المسلمين من خلال الخطابة، والمحاضرات وغيرها.
- تذكير الفاسقين بالله، وحثهم على التوبة إليه عز وجل، وضمهم إلى صفوف المستقيمين.
- إحياء العلم الشرعي ، وازدهار حلق العلم، وتنشيط الحركة العلمية الإسلامية.
- الرد على أهل البدع المنحرفين عن منهج السلف الصالح.
- تناول القضايا الواقعية التي تمس واقع الحياة من حولهم بطريقة مباشرة من خلال المنظور الإسلامي.
إن من الظلم البين أن يوصف هؤلاء الدعاة بالتمرد والعقوق لأهل العلم، لأنهم سدوا ثغرات كثير من الفروض الكفائية، ورفعوا كثيرًا من الحرج عن سائر الأمة:
أقلوا عليهم -لا أبا لأبيكم-
…
من اللوم أو سُدّوا المكان الذي سَدُّوا
وكثير منهم نشأ في مواقع نضب فيها العلم، وغاب العلماء، لا أنهم وجدوا العلماء فزهدوا في الجثو بين أيديهم، والنَّهَل من علمهم، فلسان حالهم يخاطب العلماء:
لا تظنوا بنا العقوق ولكن
…
أرشدونا إن ضللنا الرشادا
فكان من الطبيعي والمتوقع أن يتلبسوا -خلال الممارسة الدعوية- بأخطاء نتيجة عدم تدرجهم في سُلَّم التعلم والتفقه، بل التأدب بكثير مما مرّ ذكره، فظهرت نتوءات شاذة في فكر وسلوك بعضهم تحتاج إلى أن يعالجها العلماء بالتهذيب والإصلاح، من أخطرها:
- انتزاع حقوق ليست لهم في الحقيقة كحق الفُتْيا، بل الاستبداد بها في بعض الأحيان، بل محاكمة العلماء والجرأة عليهم كما مرّ ذكره، والاستغناء عن الاستهداء باجتهادهم في قضايا محورية.
وزاد الطين بلة أنهم خُدعوا بالتفاف الجماهير حولهم، فتصرفوا " كمراكز قوى " تضغط على العلماء، وتستمد مصداقيتها من الواقع المفروض لا من المؤهلات الشرعية المعتبرة.
وهذا الواقع هو الذي يُحْوِجنا الآن إلى ضبط الأمور، وإعادة ترتيبها، وإعطاء كل ذي حقٍ حقه ، وذلك:
- بدعوة الجميع إلى ضرورة التفريق بين " العالم " الحقيقي، وبين كل من:
طالب العلم، والناقل، والداعية، والواعظ، والعابد، والخطيب، والقارئ، والمثقف، والمفكر، والمجاهد
…
إلخ.
فلكلٍ وجهة هو موليها، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات)، دون أن يتسوَّر غير العالم على العلم، ودون أن ينازع الأمر أهله، ودون أن يحقر من فُتح عليه في باب من أبواب البر مَن فُتح عليه في غيره، على أن يبقى " العلم " هو الحَكَم، فيكون أسعد المذكورين حظًّا أشدهم التحامًا بالعلم والعلماء، وبذلك نوفِّي حاجة الأمة إلى تجارب الشيوخ وعلومهم، وطاقة الشباب وجهودهم.
(قال الحافظ ابن عبد البَر في " التمهيد ": هذا كتبته من حفظي، وغاب عني أصلى: إن عبد البر العُمري العابد كتب إلى مالك يحضُّه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: " إن الله قسم الأعمالَ كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجلٍ فُتح له في الصلاة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخَرُ فُتح له في الصدقة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيتُ بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خيرٍ وبِرٍ ")(*).
* * *
(*) نقله الذهبي في " السير "(8/ 114).