الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترجيح السلف الأدب على العلم
الأدب لفظ جامع للفضائل والأخلاق الكريمة، التي تؤدي إلى المحامد.
قال أبو زيد الأنصاري: " الأدب يقع على كل رياضة محمودة، يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل ".
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (الأدب: استعمال ما يُحمد قولاً وفعلاً، وعبر بعضهم بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستَحسَنَات، وقيل: بل هو تعظيمُ من فوقك، والرفق بمن دونك، وقيل: إنه مأخوذ من " المأدبة "، وهي الدعوة إلى الطعام، سُمِّي بذلك؛ لأنه يُدعَى إليه)(1).
هذه المعاني كلها تدخل في مسمى الأدب، وهي التي كان يطلق عليها في لسان السلف الصالح اسم:" الهَدْي "، وهَدْيُ الرجل: سيرته العامة والخاصة، وحالهُ، وأخلاقه.
ولأن " خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم "، فقد كان السلف يرمقون من كان أولى الناس وأقومهم بهديه صلى الله عليه وسلم، فحينئذ يرتضونه أسوة وقدوة، وينتفعون بلحظه ولفظه، ويصدرون عن خُلقه وسلوكه، ويدونون هذا الهدي لتتناقله الأجيال وتنتفع به (2).
(1)" فتح الباري "(10/ 400).
(2)
(وما يزال بعض الناس إلى عهد قريب -في بلاد الهند وما والاها- يراقبون ما يصدر عمن وصل في نظرهم إلى هذا المقام، فيكتبون عنه ما يقول وما يفعل، ويجمعون ذلك في كتاب يسمونه " الملفوظات " أو " الفيوضات ") وانظر: " صفحات في أدب الرأي " للشيخ محمد عوامة ص (61).
وقد أولى السلف " الأدب " اهتماماً عظيماً، فجدوا في طلبه، ودأبوا في تحصيله:
فهذا الإمام عبد الله بن المبارك يقول: (إذا وُصف لي رجل له علم الأولين والآخرين، لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس أتمنى لقاءه، وأتاسف على فوته).
وقيل للشافعي: " كيف شهوتك للأدب؟ " فقال: " أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه، فتودّ أعضائي أن لها أسماعًا فتنعم به " .. قيل له: " وكيف طلبك له؟ " قال: " طلب المرأة المضِلَّة ولدَها وليس لها غيره "(1).
وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك: " نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث "(2).
وقال الحسن رحمه الله: " إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين "(3).
وقال سفيان الثوري: " كان الرجل إذا أراد أن يكتب الحديث تأدب، وتعبد قبل ذلك بعشرين سنة "(4).
وعن خالد بن نزار قال: سمعت مالك بن أنس يقول لفتى من قريش: " يا ابن أخي، تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم "(5).
(1)" تذكرة السامع والمتكلم " ص (3).
(2)
" تذكرة السامع والمتكلم " ص (3).
(3)
" لباب الآداب " ص (227).
(4)
" حلية الأولياء "(6/ 361).
(5)
" السابق "(6/ 330).
وقال الإمام مالك: (كانت أمي تُعَمِّمُني، وتقول لي: " اذهب إلى رييعة، فتعلم من أدبه قبل علمه " (1).
وعنه: أن رجلاً قال لرجل من أهل السنة سأله عن طلب العلم، فقال له:" إن طلب العلم يحسن، لكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح حتى تمسي، ومن حين تمسي حتى تصبح، فالزمه، ولا تؤثرن عليه شيئاً "(2).
وقال بعضهم لابنه: " يا بني! لأن تتعلم بابًا من الأدب، أحبُّ إليَّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم "(3).
وعن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي: (يا بني إيت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إليَّ لك من كثير من الحديث " (4).
• وكانوا يفتشون عمن يأخذون عنه العلم، وينقبون عن سمته وهديه قبل الجثو بين يديه، والتلقي منه.
قال إبراهيم النخعي: " كانوا إذا أتوا الرجل لياخذوا عنه نظروا إلى سمته، وإلى صلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه ".
وعنه رحمه الله أنه قال: " كنا إذا أردنا أن نأخذ عن شيخ، سألنا عن مطعمه ومشربه ومُدخله ومُخرجه، فإن كان على استواء أخذنا عنه، وإلا لم نأته "(5).
(1)" ترتيب المدارك "(1/ 119).
(2)
" الحلية "(319/ 6).
(3)
" تذكرة السامع والمتكلم " ص (2، 3).
(4)
" الجامع " للخطيب البغدادي (1/ 80).
(5)
" الكامل في ضعفاء الرجال "(1/ 154).
وقال مالك: " رأيت أيوب السختياني بمكة حَجتيْن، فما كتبت عنه، ورأيته في الثالثة قاعدًا في فناء زمزم، فكان إذا ذكرَ النبي صلى الله عليه وسلم عنده يبكي حتى أرحمه، فلما رأيت ذلك كتبت عنه "(1)
* وكان أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرحلون إليه فينظرون إلى سمته، وهديه، ودَلِّه، قال:" فيتشبهون به "(2).
* وجاء في ترجمة علي بن المديني عن عباس العنبري: " كان الناس يكتبون قيامه، وقعوده، ولباسه، وكل شيء يقول ويفعل "(3).
* وروى الإمام مالك عن التابعي الجليل محمد بن سيرين قوله واصفًا حال كبار التابعين (4): " كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم "، قال مالك:" وبعث ابن سيرين رجلاً ينظر كيف هَدْيُ القاسم بن محمد (5) وحاله "(6)، وقال ابن وهب رحمه الله:(حدثني مالك أن ابن سيرين كان قد ثقل، وتخلَّف عن الحج، فكان يأمر من يحج أن ينظر إلى هدي القاسم، ولبوسه، وناحيته (7)، فيبلغونه ذلك، فيقتدي بالقاسم) (8).
وكان أبو بكر بن إسحاق إذا ذكر عقل أبي علي الثقفي يقول: " ذاك عقل مأخوذ عن الصحابة والتابعين "، وذلك: أن أبا علي أقام بسَمَرْقنْد مدة أربع سنين يأخذ تلك الشمائل من محمد بن نصر المروزي، وأخذها ابن نصر عن
(1)" إسعاف المبطإ برجال الموطإ " ص (3) ط، الحلبي 1370 هـ.
(2)
" غريب الحديث " للقاسم بن سلام (3/ 383 - 384).
(3)
" تاريخ بغداد "(11/ 462).
(4)
لأن ابن سيرين توفي سنة 110 هـ.
(5)
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة، كان من أكابر التابعين والفضلاء والعلماء.
(6)
" الجامع " للخطيب (1/ 79).
(7)
ناحية الرجل: جهته، وطرفه، يريد: كل ما يصدر من طرف القاسم.
(8)
" سير أعلام النبلاء "(5/ 57).
يحيى بن يحيى، فلم يكن بخراسان أعقل منه، وأخذها يحيى عن مالك، أقام عليه لأخذها سنة بعد أن فرغ من سماعه، فقيل له في ذلك؟ فقال:" إنما أقمتُ مستفيدًا لشمائله، فإنها شمائل الصحابة والتابعين "(1).
وقال ابن وهب: " ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه "(2).
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: (روى أبو الحسين بن المنادي بسنده إلى الحسين بن إسماعيل قال: سمعت أبي يقول: " كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد رْهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حُسْنَ الأدب، وحسن السَّمْت ")(3) هـ.
وكان العلامة ابن الشجري " لا يكاد يتكلم في مجلسه بكلمة؛ إلا وتتضمن أدب نفس، أو أدب درس "(4).
وقال جعفر بن سليمان: " كنت إذا وجدتُ من قلبي قسوةً، غدوت فنظرتُ إلى وجه محمد بن واسع، كان كأنه ثَكلى "(5).
وعن ابن المبارك قال: (" إذا نظرتُ إلى الفضيل؛ جَدَّدَ لي الحزن، ومَقَتُّ نفسي "، ثم بكى)(6).
وقال بشر بن الحارث: " إني لأذكر المعافى (7) اليوم، فانتفع بذكره، وأذكر رؤيته فانتفع "(8).
(1)" ترتيب المدارك "(1/ 117).
(2)
" سير أعلام النبلاء "(8/ 113).
(3)
" شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (1/ 9).
(4)
" السابق "(20/ 196).
(5)
" السابق "(6/ 120).
(6)
" السابق "(8/ 438).
(7)
هو الإمام، شيخ الإسلام، ياقوتة العلماء المعافى بن عمران، أبو مسعود الأزدي الموصلي الحافظ (ت 185).
(8)
" السابق "(9/ 82).