الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مداراة العالم والصبر على جفوته
* ينبغي لطالب العلم (أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه، أو سوء خلق ولا يصده ذلك عن ملازمته، وحسن عقيدته، ويتأول أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جفوة الشيخ بالاعتذار والتوبة مما وقع والاستغفار، وينسب الموجِبَ إليه، ويجعل العتب عليه، فإن ذلك أبقى لمودة شيخه، وأحفظ لقلبه، وأنفع للطالب في دنياه وآخرته)(1).
ومن لم يصبر على الأستاذ خسر، وضل سعيه في طلبه العلم، وبقي في جهل، يقول الأصمعي:" من لم يحتمل ذل التعلم ساعة، بقي في ذل الجهل أبدًا "(2)، وعن بعض السلف قال:" من لم يصبر على ذل التعليم بقي عمره في عَماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة "(3)، وأنشد بعضهم:
(1) انظر: " تذكرة السامع والمتكلم " ص (91).
(2)
" أدب الإملاء والاستملاء " ص (45).
(3)
" تذكرة السامع والمتكلم " ص (91).
لا تنكرن لسوء خلق عالمًا
…
واعذره في عذر احتمال أذاكا
فالعلم أحرى بالدلال لأهله
…
وأجل من أن يستميل هواكا (1)
وقال بلال بن أبي بردة:
" لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا "(2).
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: أخبرنا أبي، قال:(سمعت أبا يوسف القاضي يقول: " خمسة يجب على الناس مُداراتهم: الملك المتسلط، والقاضي المتأوِّل، والمريض، والمرأة، والعالِمُ لِيقتبَسَ من علمه "، فاستحسنت ذلك منه)(3).
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني: " لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله عز وجل، ومن هرب مني ومن أمثالي .. لا يفلح "(4).
إن المعلم والطبيب كلاهما
…
لا يَنصحان إذا هما لم يُكْرَما
فاصبر لدائك إن جفوتَ طبيبه واقنع بجهلك إن جفوتَ معلِّما
وعن مُعَافَى بن عمران قال: " مثل الذي يغضب على العالِم مثل الذي يغضب على أساطين -أي سواري- الجامع "(5).
وقال الشافعي: قيل لسفيان بن عيينة: " إن قومًا يأتونك من أقطار الأرض،
(1)" أدب الإملاء والاستملاء " ص (146).
(2)
" جامع بيان العلم "(1/ 529).
(3)
" الجامع " للخطيب (1/ 222).
(4)
" الفتح الرباني " ص (22).
(5)
" الجامع " للخطيب (223/ 1).
تغضب عليهم؟ يوشك أن يذهبوا ويتركوك "، قال: " هم حمقى إذن مثلك أن يتركوا ما ينفعهم لسوء خُلُقي " (1).
وقال الشافعي: (كان يختلف إلى الأعمش رجلان، أحدهما كان الحديث من شأنه، والآخر لم يكن الحديث من شأنه، فغضب الأعمش يومًا على الذي من شأنه الحديث، فقال الآخر: " لو غضب عليَّ كما غضب عليك لم أعُدْ إليه "، فقال الأعمش: " إذن هو أحمق مثلك، يترك ما ينفعه لسوء خُلُقي ")(2).
وقال الخليل بن أحمد:
اعمل بعلمي وإن قَصَّرتُ في عملي
…
ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري (3)
واستمعْ لمحمد بن هارون الدمشقي وهو ينشد:
لَمَحبرَةٌ تُجالسني نهاري
…
أحبُّ إليَّ من أُنْس الصديق
ورِزْمَةُ كاغدٍ (4) في البيت عندي
…
أحبُّ إليَّ من عِدْل الدقيق
ولَطمةُ عالمٍ في الخَدِّ مِنِّي
…
ألَذُّ لَدَيَّ من شرب الرحيق (5)
* ينبغي لطالب العلم أن يتحين الوقت المناسب لزيارة شيخه، أو سؤاله، أو القراءة عليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار، إن كنتُ لأقيل بباب أحدهم، ولو شئتُ أن يُؤْذَنَ لي عليه لأُذِنَ لي عليه، ولكن أبتغي بذاك طيب نفسه "(6).
(1)" الجامع " للخطيب (1/ 223).
(2)
" الجامع " للخطيب (1/ 223).
(3)
" جامع بيان العلم "(1/ 529).
(4)
الكاغد: القِرطاس.
(5)
" الجامع " للخطيب (1/ 106).
(6)
" الجامع " للخطيب (1/ 159).
وعن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: " ما دققت على مُحدِّثٍ بابه قط -وفي رواية: - ما أتيت عالمًا قط فاستأذنت عليه، ولكن صبرت حتى يخرج إليَّ، وتأولت قول الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات: 5](1).
وقال ابن جماعة رحمه الله: " ولا يقرأ عند شغل قلب الشيخ أو ملله، أو غمه، أو غضبه، أو جوعه، أو عطشه، أو نعاسه، أو استيفازه، أو تعبه "(2).
وقال الشهرزوري: " ولا يسأله وهو قائم، أو مستوفز، وعلى حالة ضجر، أو هم به، أو غير ذلك مما يشغل القلب "(3).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله:
(وإن رآه في هَمّ قد عرض له، أو أمر يحول بينه وبين لُبِّه، ويصده عن استيفاء ذِكره؛ أمسك عنه، حتى إذا زال ذلك العارض، وعاد إلى المألوف من سكون القلب، وطيب النفس، فحينئذ يسأله، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على ذلك في قوله: " لا يقضِ رجل بين رجلين أو بين خصمين، وهو غضبان " (4)(5).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " إن كنتُ لآتي الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأيته نائمًا لم أُوقظه، وإذا رأيته مغمومًا لم أسأله، وإذا رأيته مشغولاً لم أسأله "(6).
(1)" طبقات المفسرين "(2/ 36)، و " الجامع "(1/ 158).
(2)
" تذكرة السامع والمتكلم " ص (161).
(3)
" أدب المفتي والمستفتي " ص (169).
(4)
رواه بمعناه الشيخان وأصحاب السنن من حديث أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعًا: " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان "، وانظر:" إرواء الغليل "(8/ 252).
(5)
" الفقيه والمتفقه "(2/ 179 - 180).
(6)
" الجامع " للخطيب (1/ 212).
وعن قتادة قال: (سألت أبا الطفيل عن مسألة، فقال: " إن لكل مقام مقالاً ")(1).
ولقي رجل عالمًا في السوق يشتري، فأراد أن يسأله، فقال له:" إن عقلي مع دراهمي ".
وعن عطاء بن السائب قال: " كان عبد الرحمن بن أبي ليلى يكره أن يُسأل وهو يمشي "(2)
وقال ابن جماعة: " ولا تسال عن شيء في غير موضعه إلا لحاجة، أو علمٍ بإيثار الشيخ ذلك "(3).
* وليحذر طالب العلم عند استفتاء العالم أن يتعنت عند طلب الدليل على فتواه (4)، بأن يخرج ذلك في صورة تستفزه، وتثير حفيظته، قال الخطيب
(1)" الفقيه والمتفقه "(2/ 179).
(2)
" الجامع " للخطيب (1/ 212).
(3)
" تذكرة السامع والمتكلم " ص (157).
(4)
مع أنه ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ابتداءً ما أمكنه ذلك، وألا يلقيه إلى المستفتي ساذَجًا مجردًا عن دليله، كما ذكر ذلك ابن القيم في " إعلام الموقعين "(4/ 161)، وقال فى موضع آخر:" ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري " اهـ. من " إعلام الموقعين "(4/ 170).
وقال أيضًا رحمه الله: " عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أولى بالعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله واجماع المسلمين عيبًا؟ وهل ذكر قول الله ورسوله إلا طراز الفتوى؟ =
البغدادى رحمه الله تعالى:
" وليس ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أجابه به، ولا يقول: لم؟
= وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه، وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم " اهـ. (4/ 259).
إذا استحضرنا أن السائل لا يسأل عن رأي المفتي، وإنما يسأل عن حكم الله تعالى، الذي هو دين يدان به، فمن حق السائل أن يستوثق من ذلك، وأقل درجات الاستيثاق: طلب الدليل، فإن المفتي إذا قال للمستفتي: الدليل هو الحديث الشريف الذي نصه كذا وكذا، أو معناه كذا وكذا، سكن المستفتي واطمأن.
أما إذا قال له المفتي: " إن الدليل هو رأيي واجتهادي " فإذا اطمأن المستفتي بذلك بناءً على أهلية المفتي للفتيا، وأن اجتهاده سائغ، ومظنة الصواب، فلا بأس، وأما إذا لم يطمئن قلبه إلى جواب المفتي المبني على محض رأي منه واجتهاد؛ فله أن يستفتي غيره.
واعلم -وفقك الله- أن ذكر الدليل ليس شرطًا في صحة الفتوى ولا في قبولها -وان كان أمرًا
مستحسنًا- وقد نقل غير واحد من الأصوليين الإجماع على أنه لم يزل أهل العلم يبادرون إلى إجابة أسئلة العامة من غير ذكر الدليل كلما في " الإحكام "، للآمدي (4/ 226)، و " المعتمد "(2/ 934)، بل قال الشاطبي رحمه الله في " الموافقات ":" إن فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئًا، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة، وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، والمقلد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فهم إذن القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام الشارع " اهـ. من " الموافقات "(4/ 292 - 293).
وتوسط بعض العلماء فقال:
يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعًا به، كالأمور الجلية المجمع عليها، والتي ليست من مواضع التقليد ولا الاجتهاد، ولا يلزمه ذلك إن لم يكن مقطوعًا به لافتقاره إلى الاجتهاد من غامض الفقه الذي يتعسر القطع فيه بحكم معين ونسبته إلى الشرع، كما يقصر فهم العامي عنه لدقة مستدركه.
ولا: كيف؟ قال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وفرق تبارك وتعالى بين العامة وبين أهل العلم فقال:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك؛ سأل عنها في زمان آخر، ومجلس ثان، أو بعد قبول الفتوى من المفتي مجردة " (1) اهـ.
* ومن أدب الطالب إذا حادث شيخه أو استفتاه أن يَكْنِيَ عما يُستقبح، إلا فيما لا بد منه، لمصلحة شرعية.
* وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من طلب العلم ليُجاري به العلماءَ، أو ليُماريَ به السفهاء، أو يصرفَ به وجوه الناس إِليه، أدخله الله النار "(2).
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ليجاري به العلماء) أي يجري معهم في المناظرة والجدال؛ ليُظهر علمه رياءً وسمعة (3).
أوصى عيسى بن دينار عبد الله بن حبيب في رحلته لطلب العلم، فقال:" إذا أصبت عالمًا، فلا تُظهِر له مع علمه علمًا، فيحرمك ما عنده "(4).
* قال فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله:
" احذر ما يتسلى به المفلسون من العلم، يراجع مسألة أو مسألتين، فإن كان
(1)" الفقيه والمتفقه "(2/ 180).
(2)
رواه الترمذي رقم (2654)، وهو في " صحيح الترمذي " برقم (2138).
(3)
وحق من فعل هذا أن يُعرض عنه، ولا يجاب إلا بالسكوت، قال تعالى:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29]، وهذا يريد الدنيا، والمغالبة، قال الإمام النووي رحمه الله:(السائل تعنتًا وتعجيزًا لا يستحق جوابًا) اهـ. من " المجموع "(1/ 39).
(4)
" ترتيب المدارك "(2/ 39).
في مجلسٍ فيه مَن يُشار إليه أثار البحث فيها، ليُظهر علمه، وكم في هذا من سوأةٍ أقلها: أن يعلم أن الناس يعلمون حقيقته " (1) اهـ.
* وإن أشكل عليه شيء من كلام العالم فلا يبادر إلى الإنكار، والاعتراض، والنقد، والمراء، بل يتهم رأيه، ويتوثق قبل الإنكار، فهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وقد اعترض على ما رآه يوم الحديبية -بادي الرأي- شرًّا، مع أن الله سبحانه وتعالى جعله -في المآل والعاقبة- فتحًا مبينًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد قصة الحديبية: (وفي الحديث .. أن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال، بل عليه التسليم؛ لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالبًا بكثرة التجربة، ولا سيما مع من هو مؤيد بالوحي)(2) اهـ.
ولذلك ندم عمر على مراجعته رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، وقال:" فعملت لذلك أعمالاً "، وقال أيضًا:" ما زلت أصوم، وأتصدق، وأصلي، وأعتق، من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرًا "(3).
وقال سهل بن حنيف رضي الله عنه: " يا أيها الناس اتهموا رأيكم، فإنا كنا يومَ أبي جندل ولو نستطيع أن نرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددناه "(4).
وقال الإمام مالك: " سلِّموا للأئمة، ولا تجادلوهم "(5).
وقال سفيان بن عيينة: " التسليم للفقهاء سلامة في الدين "(6).
(1)" حلية طالب العلم " ص (57).
(2)
" فتح الباري "(5/ 352).
(3)
" المسند " للإمام أحمد (4/ 325).
(4)
رواه البخاري رقم (7308).
(5)
" الميزان " للشعراني (1/ 51).
(6)
" الجواهر المضيئة " للقرشي (1/ 166).