الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلة المخالطة وقاية من الغيبة
قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تصاحب إِلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إِلا تقي "(1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل "(2).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكبير، فحامل المسك، إِما أن يُحذِيَك (3)، وإِما أن تبتاعَ منه، وإِما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكبير إِما أن يُحْرِق ثيابك، وإِما أن تجد ريحًا خبيثة "(4).
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: " فيه فضيلة مجالسة الصالحين، وأهل الخير والمروءة، ومكارم الأخلاق، والورع، والعلم، والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع، ومن يغتاب الناس، أو
(1) رواه أبو داود رقم (4832)، والترمذي رقم (2395)، والامام أحمد (6/ 257)، وابن حبان (554)، والحاكم (4/ 128)، وصححه، ووافقه الذهبي.
(2)
أخرجه أبو داود رقم (4833)، والترمذي (2497)، وقال:" حسن غريب "، والحاكم (4/ 171)، وسكت عنه، وأحمد (2/ 303، 334)، وحسنه في " صحيح الترمذي " رقم (1937).
(3)
يحذيك: يعطيك.
(4)
رواه البخاري رقم (2101)، ومسلم رقم (2628)، واللفظ له.
يكثر فجره وبطالته، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة " (1).
وعن شقيق البلخي قال: (علامة التوبة البكاءُ على ما سلف، والخوف من الوقوع في الذنب، وهِجران إخوان السوء، وملازمة الأخيار)(2).
فحق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار ومجالستهم، وأن يتجنب مجالسة الأشرار، لأنه لا يأمن غائلتهم، والطبع يسرق من الطبع وهو لا يدري، فصحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر، كالريح إذا مرت على النتن حملت نتنًا، وإذا مرت على الطيب حملت طيبًا، وقد قيل:" لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقالُه "، وقيل:" لا تصحب الفاجر؛ فإنه يزين لك فعله، ويود لك أنك مثله ".
ولما كان " الدفع أسهل من الرفع "، و " الوقاية خيرًا من العلاج "؛ أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى فضيلة لزوم الإنسان بيته اتقاء الغيبة، فقال فيما رواه عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه:
"
…
ومن جلس في بيته لم يغتب إِنسانًا كان ضامنًا على الله " (3).
وهذا يدل على فضيلة من اعتزل مجالس الناس، ولزم بيته بنية كف شر لسانه عن إخوانه المؤمنين، كما قال صلى الله عليه وسلم في أفضل الأعمال بعد الجهاد: " مؤمن
(1)" شرح النووي "(5/ 484).
(2)
" السير "(315/ 9).
(3)
عجز حديث رواه ابن حبان في " صحيحه " رقم (372)، والطبراني في " الكبير "(20/ 54)، والحاكم (2/ 90)، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في " السنن "(9/ 166، 167)، وانظر:" المسند "(5/ 241)، والبزار (1649)، و " مجمع الزوائد "(5/ 277)، (10/ 304). ومعنى " ضامن على الله " أي: مضمون، على حَدِّ:" عيشة راضية " أي: مرضية، أو: ذو ضمان، قال النووي في " الأذكار ":(معنى " ضامن " صاحب الضمان، والضمان: الرعاية للشيء، كما يقال: " تامر، ولابن "، أي: صاحب تمر ولبن)، وانظر:" فتح القدير " للمناوي (3/ 319)، و " النهاية " لابن الأثير (3/ 102).
في شِعب من الشعاب يعبد الله، ويدع الناس من شره " (1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم جُلُوس في مجلسٍ، فقال:" ألا أخبركم بخير الناس منزلاً؟ "، فقلنا:" بلى يا رسول الله "، قال:" رجل آخِذٌ برأس فرسه في سبيل الله حتى عُقِرَت أو يُقْتَلَ، فأخْبركم بالذي يليه؟ "، قلنا:" بلى يا رسول الله "، قال:" امرؤ معتزل في شعب يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعتزل شرور الناس "(2) الحديث.
وقال القشيري: " ليس تحصل الغِيبة من الخلق إلا بالغَيبة عن الحق "، ولهذا كانت الغيبة وأكل لحوم الناس قوتًا لا يستغنى عن التهامه الشاردون عن منهج الله، والغافلون عن ذكره عز وجل، ومن ثم كثرت شكاوى الصالحين من أمثال هذه المجالس، وكثر تندمهم عليها، وفرارهم منها:
فقد قيل لعبد الله بن المبارك: " إذا أنت صليت، لم لا تجلس معنا؟ "، قال:" أجلس مع الصحابة والتابعين، انظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ إنكم تغتابون الناس "(3).
وقد قيل: " علامة المزيد قطيعة كل خليط، لا يريد ما تريد ".
وقال محمد بن نضر الحارثي لأبي الأحوص: " أليس يزعمون أنه قال: (أنا جليس من ذكرني؟)، قال: بلى، قال: ما على أحد أن لا يجالس الناس "(4)، وعن أبي أسامة قال: قلت لمحمد بن النضر: أما تستوحش من طول
(1) أخرجه -من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مسلم (1888)، وابن ماجه (3978)، وابن حبان (606) وغيرهم.
(2)
أخرجه أحمد (1/ 237)، والنسائي (5/ 83)، والدارمي (2/ 201 - 202)، وابن حبان (604)، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط:" وإسناده حسن ".
(3)
" سير أعلام النبلاء "(8/ 398).
(4)
" الزهد " لابن أبي عاصم رقم (83) ص (47).
الجلوس في البيت؟ فقال: ما لي أستوحش، وهو يقول:" أنا جليس من ذكرني "(1).
وعن طلحة بن عبيد الله قال: " أقل العيب على المرء أن يقال: إنه يكثر الجلوس في بيته "(2).
وقال الأعمش: كان يقال: " إذا طال المجلس؛ كان للشيطان فيه مطيع "(3).
وقاله الزهري: " إذا طال المجلس؛ كان للشيطان فيه نصيب "(4).
وعن خلف بن إسماعيل البرزاني قال: سمعت سفيان الثوري يقول: " أقِلَّ من معرفة الناس تَقلَّ غيبتُك "(5).
وعن أبي ذر قال: " ما لي وللناس، وقد تركت لهم بيضاءهم وصفراءهم؟! "(6).
لقاء الناس ليس يفيد شيئًا
…
سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا
…
لأخذ العلم أو إصلاح حالِ (7)
وقال الشافعي رحمه الله:
" الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط "(8).
(1)" الشعب " للبيهقي رقم (697).
(2)
" العزلة " للخطابي ص (12).
(3)
رواه الإمام أحمد في " العلل "(1/ 392).
(4)
" الإحياء "(3/ 366).
(5)
" حلية الأولياء "(7/ 8).
(6)
" الزهد " لابن أبي عاصم ص (42).
(7)
" وفيات الأعيان "(4/ 283)، " تذكرة الحفاظ "(4/ 1222).
(8)
" صفة الصفوة "(2/ 253).
وقال شقيق البلخي: " اصحب الناس كما تصحب النار، خذ منفعتها، واحذر أن تُحرقك "(1).
وقال عبد الله بن داود: " من أمكن الناس من كل ما يريدون، أضروا بدينه ودنياه "(2).
وقال إبراهيم بن أدهم: " من أراد التوبة؛ فليخرج من المظالم، وليدعْ مخالطة الناس، وإلا لم ينل ما يريد "(3).
وعن بشر بن الحارث: قال سفيان الثوري: " وددت أني إذا جلست لكم أقوم كما أقعد، لا عليَّ، ولا ليَ "(4).
وعن زياد بن حدير، قال:" لوددتُ أني في حَيِّزٍ من حديد، ومعي ما يُصلحني، لا أكَلِّم الناسَ، ولا يكلموني حتى ألقى الله تبارك وتعالى "(5).
ومن أنست منه أنه يهلكك بالغيبة، فاقطعه، وفرَّ منه فرارك من الأسد أو الأجرب.
عن محمد بن واسع قال: (رأيت صفوان بن مُحْرِز في المسجد، وقريبًا منه ناس يتجادلون، فرأيته قام فنفض ثيابه، وقال: " إنما أنتم جَرَبٌ " مرتين). (6).
(1)" السابق "(4/ 160).
(2)
" السير "(349/ 9).
(3)
" السابق "(7/ 389).
(4)
" الحلية "(7/ 63).
(5)
" السابق "(4/ 197)، و " الزهد " لابن أبي عاصم رقم (67) ص (42).
(6)
" السابق "(2/ 215)، وابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (126).
وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله (أنه دُعي إلى وليمة، فحضر، فذكروا رجلاً لم يأتهم، فقالوا: " إنه ثقيل "، فقال إبراهيم: " أنا فعلت هذا بنفسي حيث حضرت موضعًا يُغتاب فيه الناس "، فخرج، ولم يأكل ثلاثة أيام)(1).
وقال بشر بن منصور: " ما جلستُ إلى أحد، فتفرقنا، إلا علمتُ أني لو لم أقعد معه كان خيرًا لي "(2).
وعن سفيان قال: " إني لألقى الأخ من الإخوان اللقاءة، فأكون بها غافلاً شهرًا "(3).
وعن منصور بن زاذان قال: (إن الرجل من إخواني يلقاني، فأفرح إن لم يَسُؤْنِي في صديقي، ويبلِّغْني الغيبة ممن اغتابني، وإني لفي جَهْدٍ من جليسي حتى يفارقني، مخافة أن يأثم ويؤثّمَنِي)(4).
وعن وهيب بن الورد قال: " وجدت العزلة في اللسان "(5).
وعن عبد الله بن المبارك قال: (قال بعضهم في تفسير العزلة: " هو أن يكون مع القوم، فإن خاضوا في ذكر الله فخُض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت ")(6).
فعزلة المؤمن من المجالس التي يسود فيها فضول الكلام والغيبة عِزٌّ له، بخلاف مجالس الذكر، فإنها رياض الجنة، وهي من النار جُنَّة.
عن عمر رضي الله عنه قال: " عليكم بذكر الله، فإنه شفاء، وإياكم وذكر
(1)" الأذكار النووية " ص (291)، و " تنبيه الغافلين " للسمرقندي (1/ 179).
(2)
" سير أعلام النبلاء "(8/ 361).
(3)
" حلية الأولياء "(7/ 53).
(4)
" الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (299).
(5)
" السابق "(38).
(6)
" السابق "(37).
الناس فإنه داء " (1).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: " من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم "(2).
وما أحسن ما قال الشاعر:
وَحدة الإنسان خير
…
من جليس السوء عنده
وجليس الخير خير
…
من قعود المرء وحده
وقال الإمام الخطابي رحمه الله تعالى:
(ولسنا نريد -رحمك الله- بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجُمُعَات، وترك حقوقهم في العبادات وإفشاء السلام، ورد التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، ووضائع السنن، والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سبلها، ما لم يحل دونها حائل شغل، ولا يمنع عنها مانع عذر، إنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة، ونبذ الزيادة منها، وحط العلاوة التي لا حاجة بك إليها)(3) اهـ.
* * *
(1)" الزهد " لهناد (2/ 537).
(2)
" الزهد " لابن أبي عاصم رقم (77) ص (46)، " الحلية "(1/ 211).
(3)
" العزلة " ص (6).