الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: (أيَّ رجل كان الشافعي، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ فقال: يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر! هل لهذين من خَلَف، أو عنهما من عِوض؟)(1).
وما أحسن ما نُسب إلى الشافعي رحمه الله من قوله (2):
قالوا: يزورك أحمد وتزوره
…
قلت: الفضائل ما تعدت منزله
إن زارني فبفضله، أو زرته
…
فلفضله، فالفضل في الحالين له
وقال حاشد بن إسماعيل: (كنت بالبصرة، فسمعت قدوم محمد بن إسماعيل -أي البخاري- فلما قدم قال بُندار: " اليوم دخل سيد الفقهاء ")(3).
*
وتجلى هذا الولاء في دفاع بعضهم عن بعض:
فعن عمرو بن غالب أن رجلاً نال من عائشة عند عمَّار، فقال:" اعزب مقبوحًا منبوحًا، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! "(4).
وقال كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلفه عن غزوة تبوك: (ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم تبوك ، ذكرنى، وقال: " ما فعل كعب "؟ فقال رجل من قومي: " خلَّفه يا نبي الله برداء، والنظر في عطفيه "، فقال معاذ رضي الله عنه: " بئس ما قلتَ، والله ما نعلم إلا خيرًا ")(5).
وقال عباد بن عباد: (أراد شعبة أن يقع في خالد الحذاء -أحد الأئمة الحفاظ الأعلام- فأتيتُه أنا وحماد بن زيد، فقلنا له:" مالك؟! أجُنِنْتَ؟! "، وتهددناه ،
(1)" سير أعلام النبلاء "(10/ 45)، " تاريخ بغداد "(2/ 62، 66).
(2)
" جلاء العينين في محاكمة الأحمدين " ص (195).
(3)
" تاريخ بغداد "(2/ 16).
(4)
أخرجه الترمذي رقم (3888) ، وحسنه، وابن سعد في " الطبقات "(8/ 65)، وأبو نعيم، في " الحلية "(44/ 2).
(5)
قطعة من حديث طويل رواه البخاري (5/ 130)، ومسلم (4/ 2122)، وأحمد (3/ 457).
فسكت) (1)
ولما زلَّ الإمام الحافظ وكيع بن الجراح زلة عالم فروى خبرًا منكرًا، فاتته فيه سكتة، كادت نفسه تذهب غلطًا، فاجتمعت قريش، وأرادوا صلب وكيع، ونصبوا خشبة صلبه، فجاء سفيان بن عيينة، فقال لهم:" الله الله! هذا فقيه أهل العراق، وابن فقيهه، وهذا حديث معروف "، قال سفيان:" ولم أكن سمعته إلا أني أردتُ تخليص وكيع ".
وكان قد رفع أمره إلى العثماني -متولّي مكة- فحبسه، وعزم على قتله، ونُصِبت خشبة خارج الحرم، وبلغ وكيعًا، وهو محبوس، قال الحارث بن صديق: فدخلتُ عليه لما بلغني، وقد سبق إليه الخبر، قال: وكان بينه وبين ابن عيينة يومئذ مُتباعَد، مقال لي:" ما أرانا إلا قد اضطررنا إلى هذا الرجل، واحتجنا إليه "، فقلت:" دع هذا عنك! فإن لم يدركك، قُتِلت "، فأرسل إلى سفيان، وفزع إليه، فدخل سفيان على العثماني، فكلَّمه فيه، والعثماني يأبى عليه، فقال له سفيان:" إني لك ناصح، هذا رجل من أهل العلم، وله عشيرة، وولدُه بباب أمير المؤمنين، فتشخص لمناظرتهم "، قال: فعمل فيه كلام سفيان، فأمر إطلاقه ..... (2).
ولما اقتيد الإمام الشافعي مكبَّلاً بالحديد إلى بغداد سنة (184 هـ) إثر اتهامه زورًا بالتحريض ضد العباسيين، وناقشه الخليفة الرشيد، بحضور محمد بن الحسن الشيباني الذي كان قاضي بغداد في ذلك الوقت، والذي استأنس
(1)" تهذيب التهذيب "(3/ 122)، و " سير أعلام النبلاء "(6/ 191).
(2)
" سير أعلام النبلاء "(9/ 160، 163).
الشافعي به لما رآه في مجلس الرشيد عند الاتهام، ولأن العلم رحم بين أهله؛ قال الشافعى مخاطبًا الرشيد:" إن لي حظًا من العلم، وإن القاضي محمد بن الحسن يعرف ذلك "، فسأل الرشيد محمدًا، فقال:" له من العلم حظ كبير، وليس الذي وقع عليه من شأنه "، وكانت تلك الشهادة من الإمام محمد بن الحسن رحمه الله سببًا في نجاة الشافعي، وتبرئته من الاتهام الكاذب (1).
(ولما وقعت المناظرة لشيخ الإسلام ابن تيمية مع الشافعية، وبحث مع الصفي الهندي، ثم ابن الزملكاني، بالقصر الأبلح، شرع الإمام أبو الحجاج المزي رحمه الله يقرأ كتاب " خلق أفعال العباد " للبخاري، وفيه فصل في الرد على الجهمية، فغضب بعض الفقهاء، وقالوا: " نحن المقصودون بهذا "، فبلغ ذلك القاضي الشافعي يومئذ، فأمر بسجنه، فتوجَّه ابن تيمية وأخرجه من السجن، فغضب النائب، فاعيد، ثم أفرِج عنه)(2).
وتكلم الامام المحقق ابن قيم الجوزية حول درجة " الفتوة " ثم قال رحمه الله: (ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي؛ فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها هذه بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه، ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة، وما رأيت أحدًا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله رُوحه، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول:" وددت أني لأصحابي مثلُه لأعدائه وخصومه "، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم.
وجئت يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذىً له، فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزَّاهم، وقال:
(1)" تاريخ المذاهب الإسلامية "(1/ 234).
(2)
" الدرر الكامنة "(5/ 234)، ت (5122).