الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النصرة والولاء بين العلماء
لقد ربط الإسلام المسلم بأخيه حتى صارا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، (فربْطُ الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك بساقك، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إِن مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إِذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " (1)، ولذلك يكثر في القرآن العظيم إطلاق النفس، وإرادة الأخ تنبيهًا على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه، كقوله تعالى:: {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84]، أي: لا تخرجون إخوانكمِ، وكقوله تعالى:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12]، أي: بأخوانهم على أصح التفسيرين، وقوله عز وجل:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] أي: إخوانكم على أصح التفسيرين، وقوله:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 188]، أي: لا يأكل أحدكم مال أخيه، إلى غير ذلك من الآيات، ولذلك ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "(2).
(1) رواه البخاري (10/ 438) رقم (6012)، ومسلم رقم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(2)
رواه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه البخاري (1/ 56) رقم (13)، ومسلم رقم (45)، والنسائي (8/ 115)، والترمذي رقم (2517)، وابن ماجه رقم (66).
ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين، وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية، قوله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]؛ إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر، وقوله:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} [التوبة: 71]، وقوله:{فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] الى غير ذلك من الآيات.
إن الرابطة الحقيقية التي تجمع المفترق، وتؤلف المختلف هي رابطة " لا إله إلا الله "، ألا ترى أن هذه الرابطة التي تجعل المجتمع الإسلامي كله كانه جسد واحد، وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضًا؛ عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم فيِ الأرضِ مع ما بينهم من الاختلاف، قال تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: ُ {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر 7: 9].
فقد أشار تعالى إلى أن الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله، وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم إنما هي الإيمان بالله جل وعلا، لأنه قال عن الملائكة:{وَيُؤْمِنُون بِه} فوصفهم بالإيمان، وقال عن بني آدم في استغفار الملائكة لهم:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} فوصفهم أيضًا بالايمان ، فدل ذلك على أن الرابطة بينهم هي الإيمان، وهو أعظم رابطة.
ومما يوضح ذلك قوله تعالى في أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم: (سيصلى نارًا
ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3]، ويُقابَلُ ذلك بما لسلمان الفارسي من الفضل والمكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولقد أجاد من قال:
لقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ
…
وقد وضع الكفرُ الشريفَ أبا لهب
وقد أجمع العلماء على أن الرجل إن مات، وليس له من الأقرباء إلا ابن كافر؛ أن إرثه يكون للمسلمين بأخوة الإسلام، ولا يكون لولده لصلبه الذي هو كافر، والميراث دليل القرابة، فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية) (1).
واعتبر ذلك أيضًا بقول الله تعالى مخاطبًا نوحًا عليه السلام في شأن ابنه الكافر: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]، لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:" ألا وإن وليَّ محمد من أطاع الله، وإن بعدت لُحْمَتُهُ، ألا وان عدو محمد من عصى الله، وإن قربت لحمته "(2).
كان الحافظ ابن حجر رحمه الله يقرأ أجزاء على شيخه إبراهيم بن داود الآمدي برهان الدين، فقال في قراءته عليه تأدبًا:" أخبركم -رضي الله عنكم وعن والديكم- .. "، فنظر إليه الآمدي منكرًا، وقال:" ما كان على الإسلام (3)! "(4).
لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجب موالاة كل مسلم بحسب موالاته لله ورسوله والمؤمنين، وأنه يُحب ويوالي بقدر نصرته للمؤمنين، ونكايته في أعداء
(1) بتصرف من " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن "(3/ 401 - 408).
(2)
انظر: " محاسن التأويل " للقاسمي (9/ 3448 - 3449).
(3)
لأن أباه مات على النصرانية وهو صغير، فحمله وصيه الشيخ عبد الله الدمشقي إلى مجلس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فأسلم عليه.
(4)
" الدرر الكامنة "(1/ 21).
الدين:
فعن أبي بَرْزَة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان في مَغْزًى له (1)، فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه:" هل تفقدون من أحد؟ " قالوا: " نعم، فلانًا، وفلانًا، وفلانًا "، ثم قال:" هل تفقدون من أحد؟ "، قالوا:" نعم، فلانًا وفلانًا وفلانًا "، ثم قال:" هل تفقدون من أحد؟ " قالوا: " لا "، قال:" لكني أفقد جُلَيبيبًا، (2) فاطلبوه "، فطُلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال:" قتل سبعة، ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه "(3)، قال: فوضعه على ساعديه، ليس له سرير إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فحفر له، ووضع (4) في قبره، ولم يذكر غسلاً (5)) (6).
وعن ثابتٍ البُنانيِّ عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار، فقال (7): " حتى أستأمر أمها "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" فنعم إذًا "، فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فقالت:" لا ها الله (8) إذًا ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيبًا (9)، وقد منعناها من فلان وفلان؟ "، قال:
(1) أي في سفر غزو له، أي: وفيمن معه جليبيب.
(2)
جُلَيبيب: تصغير جلباب.
(3)
ومعناه المبالغة في اتحاد طريقهما، واتفاق ما في طاعة الله تعالى، عكس قوله صلى الله عليه وسلم:" من رغب عن سنتي فليس مني ".
(4)
وفي رواية: " ثم وضعه في قبره ".
(5)
لأن الشهيد لا يغسل، ولا يصلى عليه.
(6)
رواه الإمام أحمد (4/ 421)، ومسلم رقم (2472).
(7)
أي: أبوها.
(8)
أي: هذا يميني، و " لا " لنفى كلام الرجل، و " ها " بالمد والقصر بمعنى واو القسم، ولفظ الجلالة مجرور بها.
(9)
" إذاً ما وجد
…
" إلخ هو جواب القسم، قالت ذلك؛ لأن جليبيبًا كان في وجهه دمامة.
والجارية في سِترها تستمع، قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم -بذلك، فقالت الجارية:" أتريدون أن تردوا على رسول صلى الله عليه وسلم أمره (1)؟ إن كان قد رضيه لكم؛ فانكحوه، فكأنها جلت (2) عن أبويها، وقالا: " صدقت "، فذهب أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن كنت قد رضيته؛ فقد رضينا "، قال: " فإني قد رضيته "، فزوجها، ثم فزع (3) أهل المدينة، فركب جليبيب، فوجدوه قد قُتل، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم، قال أنس: " فلقد رأيتها، وإنها لمن أنفق (4) بيت في المدينة ").
وفي رواية قال ثابت: " فما كان في الأنصار أيِّم أنفقُ منها "(5) وحدث إسحاقُ بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتًا قال هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم صُبَّ عليها الخير صبًّا، ولا تجعل عيشها كدًّا كدًّا "(6)، قال:
(1) وفي رواية: " ادفعوني إليه؟ فأنه لم يُضَيِّعْني ".
(2)
جَلَتْ: كشفت وأوضحت أمرًا خفي عليهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم {أَولَى {بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم} [الأحزاب: 6]، ولقوله تعالى: ({وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقوله عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
(3)
أي: أخافهم العدو.
(4)
أنفق: من النَّفاق -بفتح النون المشددة- وهو ضد الكساد، والمعنى أنها كانت أعظم امرأة أيِّم في بيوت المدينة يتسابق إليها الخُطَّاب بعد قتل جليبيب، وذلك ببركة كونها رضيت بنكاح جليبيب الذي كان ينفر منه الناس، ويبركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها.
(5)
رواه الإمام أحمد (4/ 422).
(6)
الكد: الشدة والضيق.
" فما كان في الأنصار أيم (1) أنفقُ منها ".
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الأشعريين إذا أرملوا (2) في الغزو، أو قل طعام عيالهم في المدينة؛ جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني (3)، وأنا منهم "(4).
هكذا لقَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته هذا المعيار الدقيق للولاء والانتماء، وفي الجانب المقابل لقنهم معيار البراء في مثل قوله صلى الله عليه وسلم:" ليس منا من دعا إِلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية "(5)، وقوله صلى الله عليه وسلم:" ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى "(6) الحديث.
* وكان أولى الناس بالتزام هذا المعيار العلماء الذين هم ورثته صلى الله عليه وسلم، فكانوا يزنون الأشخاص، ويحددون أقدارهم تبعًا لمقدار نفعهم للإسلام وأهله،
(1) الأيم: المرأة التي ليس لها زوج بكرًا كانت أو ثيبًا.
(2)
أرمل القوم: إذا فني زادهم ونَفِد، وأصله من الرمل، كأنهم لصقوا بالرمل من القلة، كما قيل في (ذَا مَتربَة) (البلد: 15) - اهـ. من " فتح الباري "(5/ 130).
(3)
أي هم متصلون بي، وتسمى " من " هذه الاتصالية، كقوله:" لست من دَدٍ "{انظر: " السلسلة الضعيفة " رقم (2453)} ، والدد: اللهو واللعب.
(4)
رواه البخاري (5/ 128) رقم (2486)، ومسلم رقم (2500).
(5)
أخرجه أبو داود رقم (5121)، من حديث جبير بن مطعم رضمي الله عنه، وإسناده ضعيف، ويشهد له ما رواه مسلم برقمي (1850)، (1848).
(6)
رواه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الترمذي رقم (2696)، وقال الحافظ في " الفتح ":" في سنده ضعف ".