الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
أهمية الأدب وشدة الحاجة إليه
" أدب النفس " ممدوح بكل لسان، ومتزيَّن به في كل مكان، وباق ذكرُه مدى الأزمان، وكل من أعار الوجودَ نظرة البصير؛ علم أن حاجة المرء إلى تأديب نفسه من أهم الحاجات، وإذا كان الرجال بالأعمال، فإن الأعمال هي آثار الآداب والأخلاق والصفات، وبذلك يتفاضل الناس، وليس بالعلوم والإجازات والشهادات فحسب، فان العلم آلة تديرها الأخلاق، وتسيرها الآداب.
وأدب الظاهر عنوان أدب الباطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والآداب رشح الأرواح السامية، والنفوس المهذبة، والمعارف الراقية، فالإنسان مركب من جسدٍ مُدْرَك بالبصر، ومن روح ونفس مدركة بالبصيرة، ولكل واحد منهما هيئة وصورة، إما قبيحة وإما جميلة، فالنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدرًا من الجسد المدرك بالبصر، ولذلك عظم أمره بإضافته إليه إذ قال تعالى:{إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص71: 72] فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين، والروح إلى رب العالمين (1)، وحسبك هذا دليلاً على شرف الأدب وفضله.
(1)" جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب " للقاسمي ص (3).
ما وهب الله لامرئ هبةً
…
أفضْلَ من عقله ومن أدبه
هما حياة الفتى فإن فُقِدا
…
فإن فقدَ الحياة أحسنُ به
والأدب يرفع الأحساب الوضيعة، ويفيد الرغائب الجميلة، ويعز بلا عشيرة، وقد قيل:" من قعد به حَسَبه، نهض به أدبه "(1).
قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى:
(أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلةُ أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استُجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانهما بمثل قلة الأدب، فانظر إلى الأدب مع الوالدين كيف نجَّى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة (2)، والإخلال به مع الأم -تاويلاً وإقبالاً على الصلاة- كيف امتُحن صاحبه بهدم صومعته، وضَرْب الناس له، ورميه بالفاحشة (3).
وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومُدْبِرٍ كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان.
وانظر أدب الصّدِّيق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أن يتقدم بين يديه، فقال:" ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم "(4) كيف أورثه مقامه والإمامة بعده، فكان ذلك التأخر إلى خلفه -وقد أومأ إليه:
(1)" لباب الآداب " ص (228).
(2)
انظر الحديث في البخاري (3/ 119)، ومسلم (17/ 55 - 57) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
انظر الحديث في البخاري (4/ 201)، ومسلم (16/ 106 - 108)، وأحمد (2/ 307، 308)
(4)
انظر الحديث في " صحيح مسلم "(1/ 316، 317).
أن أثبت مكانك- بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قُدَّام تنقطع فيها أعناق المطيِّ، والله أعلم) (1).
والأدب منه ما هو وهبيٌّ يجْبَلُ عليه الإنسان، ومنه ما هو كسبي يمكن اكتسابه بالمجاهدة والترويض (2)، قال صلى الله عليه وسلم لأشَجّ عبد القيس:" إِن فيك خَلَّتين يحبهما الله: الحِلْمُ والأناة "، فقال:" يا رسول الله أنا أَتخلَّقُ بهما، أم الله جبلني عليهما؟ "، قال:" بل الله جبلك عليهما "، قال:" الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله "(3).
وقال صلى الله عليه وسلم: " إِنما العلم بالتعلم، والحِلْم بالتحلم، ومن يتحر الخير يُعْطَه، ومن يتوق الشر يُوَقه "(4).
ولو كانت الأخلاق والآداب صفات لازمةً في الإنسان، بحيث يستحيل تغييرها وتبديلها (5) كسائر الصفات الجسدية الوراثية لما أمر الشرع بالتحلي بالآداب الجميلة، والتخلي عن القبيحة (6)، وقد قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
(1)" مدارج السالكين "(2/ 391 - 392).
(2)
لكن الناس يتفاوتون في مقدار أهليتهم واستعدادهم لاكتساب الآداب أو تعديلها، فمن جُبل على أدب معين يسهل عليه ترسيخه في نفسه؛ لأن فطرته تعينه عليه.
(3)
رواه أبو داود رقم (5225)، وابن ماجه رقم (4188)، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " رقم (4354).
(4)
رواه الخطيب (9/ 127)، وحسنه الألباني في " الصحيحة " رقم (342).
(5)
وكيف ينكر تغيير الأخلاق وترويض النفوس في حق بني آدم مع أن تغيير خُلُق البهيمة ممكن؟! إذ ينقل الوحش بالترويض من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وانظر:" جوامع الآداب " ص (4).
(6)
لأنه " لا تكليف إلا بمقدور " و " لا تكليف بمستحيل "، قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس 9: 10]، وقال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} الآيه، [التحريم: 6]، قال علي رضي الله عنه:" علموا أنفسكم وأهليكم الخير، وأدبوهم "(1).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما رجل كانت عنده وليدة، فعلَّمها، فأحسن تعليمها، وأدَّبها، فأحسن تأديبها، وتزوجها، فله أجران "(2)، فإذا كان هذا في الأمَة فكيف بالأهل والأبناء؟
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: " أدِّب ابنك، فإنك مسئول عنه: ماذا أدَّبته، وماذا علَّمته؟، وهو مسئول عن برِّك وطواعيته لك "(3).
وقال إلكيا الهراس رحمه الله: " فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يُستغنى عنه من الأدب "(4).
وقال سعيد بن منصور: حدثنا حزم قال: سمعت الحسن، وسأله كثير بن زياد عن قوله تعالى:{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} فقال: " يا أبا سعيد، ما هذه القرة الأعين، أفي الدنيا، أم في الآخرة؟، قال: " لا، بل والله في الدنيا "، قال: " وما هي؟ "، قال: " والله أن يُرِيَ الله العبدَ من زوجته، من أخيه، من حميمه طاعة الله، لا والله ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولداً، أو والداً أو حميماً أو أخاً مطيعاً لله عز وجل " (5).
(1)" الدر المنثور "(6/ 244).
(2)
رواه البخاري (1/ 0 19)، ومسلم رقم (154)، والامام أحمد (4/ 395، 414).
(3)
" تحفة المودود " ص (225).
(4)
" الجامع لأحكام القرآن "(18/ 196).
(5)
" تحفة المودود " ص (226).
إن قوى النفس الإنسانية مفتقرة دائماً إلى تعهدها بالتربية والتثقف والتفقد والتقويم، كالأرض لا تُخرج ما في أرحامها إلا بالفلاحة والرعاية والتفقد، الأمر الذي يحتاج آلاتٍ وأسباباً خاصة.
ولاشك أن " الأسرة " هي أخطر مؤسسة تربوية، وأن " الوالد " يتحمل المسئولية الكاملة عن التوجيه التربوي لأهله وولده، فإن فسد القَوَّامُ؛ عمَّ الفسادُ جميعَ الأقوام، وإن أخلَّ بواجباته التربوية صار هو الحاضر الغائب، وتساوى أبناؤه مع " اليتامى "، قال الشاعر:
ليس اليتيم الذي قد مات والداه
…
إن اليتيم يتيمُ العلمِ والأدبِ
آخر:
ليس اليتيمُ من انتهى أبواه من
…
هَمِّ الحياة، وخلَّفاه ذليلا
إن اليتيمَ لمن تَلْقَى له
…
أمًا تَخلَّتْ أوَ أبًا مشغولا
* * * * * * * * * * * * * *