الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
ذم التعالم والتحذير من القول على الله بغير علم
قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إِن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإِذا لم يُبِق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جُهَّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا "(1).
إن التعالم الكاذب هو عتبة الدخول على جريمة القول على الله بغير علم، المحرمة لذاتها تحريمًا أبديًّا في جميع الشرائع، وهذا مما علم من الدين بالضرورة، وهو مما حَذَّرَناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التحذير.
فعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يظهر الإِسلام حتى تختلف التجار في البحر، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرأون القرآن، يقولون: " من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ " ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " هل في أولئك من خير؟ " قالوا: " الله ورسوله أعلم " ، قال: " أولئك منكم من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار " (2).
(1) تقدم تخريجه ص (341).
(2)
قال المنذري: (رواه الطبراني في " الأوسط "، والبزار بإسناد لا بأس به) كما في " الترغيب " =
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه قام ليلة بمكة من الليل، فقال: " اللهم هل بَلَّغت؟ " ثلاث مرات، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان أوَّاهًا (1) - فقال: " اللهم نعم، وحَرَّضتَ، وجَهَدْتَ، ونصحتَ "، فقال صلى الله عليه وسلم:
" ليَظهرنَّ الإِيمان حتى يُرَدَّ الكفر إِلى مواطنه، ولَتُخَاضَنَّ البحار بالإِسلام، ولَيأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن، يتعلمونه ويقرءونه، ثم يقولون: قد قرأنا وعلمنا، فمن ذا الذي هو خير منا؟ فهل في أولئك من خير؟ " قالوا: " يا رسول الله ، من أولئك؟ " قال: " أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار ") (2).
وعن عبد الله وأبي موسى رضي الله عنهما قالا: قال صلى الله عليه وسلم:
" إِن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل، ويُرْفَع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج "(3) الحديث.
وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل "(4).
قال بعض الفضلاء: " وجدت جميع العلوم في ازدياد إلا علم الدين،
= (1/ 129 - 130)، وحسنه الألباني في " صحيح الترغيب "(1/ 58).
(1)
الأواه: المتأوه المتضرع، وقيل: الكثير البكاء، وقيل: الكثير الدعاء.
(2)
قال المنذري: (رواه الطبراني في " الكبير " وإسناده حسن إن شاء الله تعالى) اهـ (1/ 130)، وحسن الألباني في " صحيح الترغيب "(1/ 58).
(3)
رواه البخاري (13/ 13 - سلفية).
(4)
رواه البخاري (1/ 178 - سلفية).
فعلمت أنه المقصود في الحديث ".
وصدق رحمه الله:
فها هو العلم في زماننا قد استدبر.
وها هو البغاث بأرضنا قد استنسر (1).
قد أعْوَزَ الماءُ الطهُور وما بقي
…
غيرُ التيممِ لو يَطيب صعيدُ
ذكر أبو عمر عن مالك قال:
(أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي، فقال: " ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ "، وارتاع لبكائه، فقال: " لا، ولكن اسُتفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم "، قال ربيعة: " ولَبعض من يفتي ها هنا أحق بالحبس من السُرَّاق ")(2).
وأفضح ما يكون للمرء: دعواه بما لا يقوم به، وقد عاب العلماء ذلك قديمًا وحديثًا:
قال الإمام ابن حزم رحمه الله: " لا آفة على العلوم وأهلها أضرّ من الدُخَلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون، ويظنون أنهم يعلمون، ويُفسدون، ويقدرون أنهم يُصلحون ".
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: (" يلزم ولي الأمر منعهم -أي من الفتيا- كما فعل بنو أمية " إلى أن قال: " وإذا تعيَّن على ولي الأمر منعُ من لم يُحسن التطبيب ومداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في
(1) البُغاث: طائر أغبر، واستنسر: صار عزيزًا كالنسر بعد أن كان من ضعاف الطير.
(2)
تقدم ص (347).
الدين؟! ") (1).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: " ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقرَّه، ومن لا يصلح منعه، ونهاه أن يعود، وتواعده بالعقوبة إن عاد "(2).
وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله: " من أقرهم من ولاة الأمور؛ فهو آثم "(3).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أنه ينبغي أن يكون على المفتين محتسب، وقال:" يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟! "(4).
وقال الإمام الماوردي رحمه الله: " وإذا وجد -المحتسب- من يتصدى لعلم الشرع وليس من أهله من فقيه أو واعظ، ولم يأمن اغترار الناس به في سوء تأويل أو تحريف أنكر عليه التصدي لما هو ليس من أهله، وأظهر أمره لئلا يُغترَّ به "(5) اهـ.
فينبغي لمن تصدى للتعليم والإفتاء أن يكون أهلاً لذلك، وإلا فهو خائن للأمانة، ينطبق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إِذا ضيِّعت الأمانة، فانتظر الساعة "، قيل:" كيف إضاعتها؟ " قال: " إِذا أُسند الأمر إِلى غير أهله فانتظر الساعة "(6).
(1)" إعلام الموقعين "(4/ 276).
(2)
" المجموع شرح المهذب "(1/ 73).
(3)
" إعلام الموقعين "(4/ 276).
(4)
" السابق "(4/ 277).
(5)
" الأحكام السلطانية " ص (248).
(6)
رواه -من حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري رقم (6496)(11/ 333 - فتح)، وغيره.
قال ابن الحاج رحمه الله في كتابه " المدخل " بعد أن حكى من حال بعض المنتسبين إلى العلم ما لا يليق بهم: (ولهذا المعنى كان سيدي أبو محمد -ابنُ أبي جمرة رحمه الله إذا ذُكِر له واحد من علماء وقته ممن يُنسَب إلى طَرَف مما ذُكِر، ويُثْنَى عليه إذ ذاك بفضيلة العلم، يقول:" ناقل، ناقل " خوفا منه رحمه الله على منصب العلم أن يُنسب إلى غير أهله، وخوفًا من أن يكون ذلك كذبا أيضًا، لأن الناقل ليس بعالم في الحقيقة، وإنما هو صانع من الصناع، كالخياط والحداد والقصار
…
) (1) اهـ. وعن معاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي قال: (كان زائدة لا يحدِّث أحدًا حتى يمتحنه، فإن كان غريبًا قال له:
" من أين أنت؟ "، فإن كان من أهل البلد، قال:" أين مصلاك؟ "، ويسأل كما يسألُ القاضي عن البينة.
فإذا قال له، سأل عنه، فإن كان صاحب بدعة، قال:" لا تعودنَّ إلى هذا المجلس "، فإن بلغه عنه خير أدناه وحدثه، فقيل له:" يا أبا الصلت، لم تفعل هذا؟ " قال: " أكره أن يكون العلم عنده، فيصيروا أئمة يُحتاج إليهم، فيبدِّلوا كيف شاءوا ") (2).
وقال مغيرة: " إني لأحتسب في منعي الحديث، كما يحتسبون في بذله ".
* * *
(1)" المدخل "(1/ 17).
(2)
" المحدث الفاصل " للرامهرمزي ص (803).