الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل مجتهد استفرغ وسعه للوصول إِلى الحق استحق الثواب وإِن أخطأ سواء في ذلك المسائل العلمية والعملية
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما بسط في غير هذا الموضع، كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه، مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يُرى، لقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، ولقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يدلان بطريق العموم، وكلما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يُرى، وفسروا قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة22: 23] بأنها تنتظر ثواب ربها، كما نقل ذلك عن مجاهد وأبي صالح.
أو اعتقد أن الله لا يعجب، كما اعتقد ذلك شريح، لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب، والله منزه عن الجهل.
أو اعتقد أن عليًّا أفضل الصحابة لاعتقاده صحة حديث الطير (1)
…
أو اعتقد أن بعض الكلمات أو الآيات أنها ليست من القرآن؛ لأن ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت، كما نقل عن غير واحد من السلف أنهم أنكروا ألفاظًا من القرآن ......
(1) انظره في " منهاج السنة النبوية "(4/ 76، 77، 99، 100).
وكما أنكر طائفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها، حتى جمعهم عثمان على المصحف الإمام ..
وكالذي قال لأهله: " إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين "(1).
وكما قد ذكره طائفة من السلف في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد: 5]، وفي قول الحواريين:{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112]، وكالصحابة الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم:" هل نرى ربنا يوم القيامة؟ "، فلم يكونوا يعلمون أنهم يرونه، وكثير من الناس لا يعلم ذلك، إما لأنه لم تبلغه الأحاديث، وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط) (2) اهـ. بتصرف واختصار.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضًا: (وقوع الغلط في مثل هذا -يعني: علو الله على خلقه- يوجب ما نقوله دائمًا: إن المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق، فإنَّ الله يغفر له خطأه، وإن حصل منه نوع تقصير، فهو ذنب لا يجب أن يبلغ الكفر، وإن كان يطلق القول بأن هذا الكلام كفر، كما أطلق السلف الكفر على من قال ببعض مقالات الجهمية، مثل القول بخلق القرآن، أو إنكار الرؤية، أو نحو ذلك مما هو دون إنكار علو الله على الخلق، وأنه فوق العرش، وإن تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم من أظهر الأمور، فإن التكفير المطلق، مثل الوعيد المطلق، لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة التي يُكَفَّر تاركها.
(1) رواه البخاري (6/ 514)، (11/ 312)، (13/ 464)، ومسلم رقم (2757).
(2)
" مجموع الفتاوى "(20/ 33 - 36)، وانظره (19/ 206 - 207)، (19/ 123).
كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم، في (الرجل الذي قال:" إِذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذرُّوني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين "، فقال الله له:" ما حملك على ما فعلت؟ "، قال:" خشيتك "، فغفر له).
فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل واحد من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف عن عقابه، فغفر الله له لخشيته.
فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح، لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل، فيغفر الله خطأه، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه، وأما تكفير شخص عُلم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك فعظيم) (1) اهـ.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (كل من كان مؤمنًا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو خير من كل من كفر به، وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة، سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية، أو غيرهم، فإن اليهود والنصارى كفار كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالف له لم يكن كافرًا به، ولو قُدِّر أنه يُكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم)(2) اهـ.
(1) وانظر: " مجموع الفتاوى "(3/ 231)، (11/ 409 - 410).
(2)
" السابق "(35/ 201).
وفي كتاب " الإنصاف سبيل للائتلاف " لجامعه عبيد بن أبي نفيع الشعبي:
(ومن كُفِّر ببدعة وإن جلَّت، ليس هو مثل الكافر الأصلي، ولا اليهودي والمجوسي، أبى الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وصام، وصلى، وحج، وزكَّى، وإن ارتكب العظائم، وضلَّ وابتدع، كمن عاند الرسول، وعبد الوثن، ونبذ الشرائع وكفر، ولكن نبرأ إلى الله من البدع وأهلها)(1) اهـ.
وقال الحاكم: سمعت محمد بن صالح بن هانئ، سمعت ابن خزيمة يقول:" من لم يقر أن الله على عرشه قد استوى فوق سبع سمواته؛ فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئًا ".
علق الذهبي رحمه الله تعالى على عبارة إمام الأئمة ابن خزيمة قائلاً:
(قلت: من أقر بذلك تصديقًا لكتاب الله، ولأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن به مفوِّضًا معناه إلى الله ورسوله؛ ولم يخُض في التأويل ولا عمَّق؛ فهو المسلم المتبع، ومن أنكر ذلك، فلم يدرِ بثبوت ذلك في الكتاب والسنة فهو مُقصِّر، والله يعفو عنه، إذ لم يوجب الله على كل مسلم حفظَ ما ورد في ذلك، ومن أنكر ذلك بعد العلم، وقفا غير سبيل السلف الصالح، وتمعقل على النص، فأمره إلى الله، نعوذ بالله من الضلال والهوى.
وكلام ابن خزيمة هذا -وإن كان حقًّا- فهو فجٌ، لا تحتمله نفوسُ كثير من متأخري العلماء) (2) اهـ.
وقال أيضًا رحمه الله: (وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من بلغته
(1)" الإنصاف سبيل للائتلاف " ص (173).
(2)
" سير أعلام النبلاء "(14/ 373 - 374).
رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن به فهو كافر، لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد، لظهور أدلة الرسالة، وأعلام النبوة؛ ولأن العذر بالخطأ حكم شرعي، فكما أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، والواجبات تنقسم إلى أركان وواجبات ليست أركانًا: فكذلك الخطأ ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، والنصوص إنما أوجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة، وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض هذه المسائل: إما أن يُلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، وإما أن يلحق بالمخطئين في مسائل الإيجاب والتحريم، مع أنها أيضًا من أصول الإيمان.
فإن الايمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة: هو من أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع خطئه.
وإذا كان لا بد من إلحاقه بأحد الصنفين: فمعلوم أن المخطئين من المؤمنين بالله ورسوله؛ أشد شبهًا منه بالمشركين وأهل الكتاب، فوجب أن يلحق بهم، وعلى هذا مضى عمل الأمة قديمًا وحديثًا، في أن عامة المخطئين من هؤلاء تجري عليهم أحكام الإسلام التي تجري على غيرهم، هذا مع العلم بأن كثيرًا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر
…
) (1) اهـ.
وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: (ونحن نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد؛ لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه، فقصدهم حسن، ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيئة، وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها
(1)" السابق "(12/ 496 - 497).
نفسه يدل ظاهرها على مشابهة صفة الخلق، فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصدًا منهم لتنزيه الله، وأوَّلوها بمعنى آخر يقتضي التنزيه في ظنهم، فهم كما قال الشافعي رحمه الله:
رام نفعًا فضرَّ من غير قصد
…
ومن البر ما يكون عقوقا
ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5](1).
وقال الشيخ عبد الله بن يوسف الجديع وفقه الله تعالى:
(وفي الأشعرية علماء لهم قدم في خدمة الشريعة، أمثال: الحافظين أبي بكر البيهقي، وأبي القاسم بن عساكر، والإمام العز بن عبد السلام، وغيرهم من فضلاء الأشعرية، نذكرهم بما لهم من المحاسن، غير أننا ننبه على ما وقعوا فيه من البدعة، فإن الحق لا محاباة فيه، ولا تمنعنا بدعتهم من الانتفاع بعلومهم في السنن والفقه والتفسير والتاريخ وغير ذلك، مع الحذر.
ولنا أسوة بالسلف والأئمة؛ فإنهم رَوَوْا السنن عن الكثير من المبتدعة لعلمهم بصدقهم (2).
(1)" أضواء البيان "(7/ 448 - 449).
(2)
قال الزركشي في " البحر المحيط ": (قال الحافظ ابن عدي: قلت للربيع: " ما حمل الشافعي على روايته عن إبراهيم بن أبي يحيى مع وصفه إياه أنه كان قدريًّا؟ " فقال: كان الشافعي يقول: " لأن يخر إبراهيم من السماء أحب إليه من أن يكذب ") اهـ. (4/ 270).
ونجتنب التكفير والتضليل والتفسيق للمعيَّن من هذا الصنف من العلماء، فإن هذا ليس من منهج السلف، وإنما نكتفي ببيان بدعته وردِّها إذا تعرضنا لها.
وهذا كله في حق العالم إذا لم تغلب عليه البدع والأهواء، وعلمنا منه حرصه على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحرِّي الحق من الكتاب والسنة إلا أنه لم يصبه لشبهة ما أو غير ذلك- شأن الكثير من متقدمي الأشعرية خلافًا لأكثر متأخريهم؛ فإن لكثير من متقدميهم اجتهادًا في طلب الحق، أما إذا غلبت عليه الأهواء ومخالفة صريح الشريعة، ولم يكن متحريًا للحق من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فليس له توقير ولا حرمة ولا كرامة) (1) اهـ.
* * *
(1)" العقيدة السلفية في كلام رب البرية "، ص (431)، ففي مقام التحذير والنصيحة ينبغي الاقتصار على ذكر الجرح دون المحاسن، وكذا إذا كان الجرح غالبًا، والله تعالى أعلم.