الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتنزهون عن الغيبة
كان التنزه عن الغيبة -كغيره من الفضائل- سمة سائدة عند السلف الصالح والقرون الفاضلة.
قال إياس بن معاوية بن قُرَّة رحمه الله تعالى:
" كان أفضلهم عندهم -أي عند الصحابة رضي الله عنهم أسلمهم صدورًا، وأقلهم غيبة "(1)
وعن سهل بن عبد الله التُّسترِيِّ رحمه الله قال: " من أخلاق الصديقين أن لا يحلفوا بالله، وأن لا يغتابوا، ولا يغتاب عندهم، وأن لا يشبعوا، وإذا وعدوا لم يُخلفوا، ولا يمزحون أصلاً "(2).
وقال بعضهم. " أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة، ولكن في الكف عن أعراض الناس "(3).
وقال الإمام ابن الجوزي واصفًا شيخه عبد الوهاب الأنماطي: (كان على قانون السلف لم يُسمع في مجلسه غيبة
…
) (4).
ثم عَزَّ هذا الخُلُق فيمن أتى بعدهم، قال الإمام وكيع بن الجراح (ت 197 هـ) رحمه الله تعالى:" من عزة السلامة من الغيبة أنه لم يسلم منها إلا القليل "،
(1)" حلية الأولياء "(3/ 125).
(2)
" سير أعلام النبلاء "(13/ 332).
(3)
" الإحياء "(3/ 152).
(4)
" صيد الخاطر " ص (173).
فإذا كان المتنزهون عن الغيبة في عهده رحمه الله قلة، فما بالك بزماننا:
وقد كانوا إذا عُدُّوا قليلاً
…
فقد صاروا أعزَّ من القليل
وعن أبي الرقاد قال: خرجت مع مولاي وأنا غلام، فدفعت إلى حذيفة فسمعته يقول:" إن كان الرجلُ ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير بها منافقًا، واني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات "(1).
وعن الحسن بن صالح، قال:" فتشت عن الورع، فلم أره في شيء أقل منه في اللسان "(2).
وتأمل قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك: ( .. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري، فقال: " يا زينب ماذا علمتِ أو رأيت؟ "؟ فقالت: " يا رسول الله! أحْمي سمعي وبصري، ما علمتُ إلا خيرًا ")، قالت عائشة رضي الله عنها:" وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع "(3).
وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى تَرى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله، لا يُلقي لها بالاً ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورِّع عن الفواحش والظلم،
(1)" الزهد " لابن أبي عاصم رقم (69) ص (43)، " الحلية "(1/ 279).
(2)
انظر: " شعب الإيمان " للبيهقي (5/ 316)، " الحلية "(7/ 32).
(3)
رواه البخاري رقم (4749)، وانظر:" فتح الباري "(8/ 478).
ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يُبالي ما يقول!!) (1) اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى معلقًا على قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: " ألا أخبرك بملاك ذلك كله "؟ قلت: بلى، فأخذ بلسانه، فقال:" تكف عليك هذا " الحديث:
(هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله؛ وأن من ملك لسانه فقد ملك أمره، وأحكمه وضبطه)(2) اهـ.
وعن مبارك بن فضالة، عن يونس بن عبيد قال:" لا تجد من البر شيئًا واحدًا يتبعه البر كله غيرَ اللسان، فإنك تجد الرجل يكثر الصيام، ويفطر على الحرام، ويقوم اليل، ويشهد بالزور بالنهار -وذكر أشياء نحو هذا- ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق، فيخالف ذلك عمله أبدًا "(3).
فاستقامة اللسان من أعظم أركان الاستقامة؛ لأنها إذا يُسِّرت للإنسان فتحت له أبواب البر، وأغلقت دونَه أبواب الفجور، ولذلك لما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه، وقال له:" قل آمنت بالله، ثم استقم "، سأله سفيان:" ما أخوف ما تخاف علي؟ "، فأخذ بلسان نفسه (4)، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن زلل اللسان من أعظم القوادح في الاستقامة، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" اللسان قِوام البدن، فإذا استقام اللسان استقامت الجوارح، وإذا اضطرب اللسان، لم يقم له جارحة "(5)، وعن يونس بن عبيد قال: " ما رأيت أحدًا لسانه منه على بالٍ، إلا
(1)" الداء والدواء " ص (187 - 188)، فرى الجلد: مزَّقه.
(2)
" جامع العلوم والحكم "(2/ 146).
(3)
" سير أعلام النبلاء "(6/ 291 - 292).
(4)
تقدم ص (57).
(5)
" الصمت " رقم (58) ص (69).
رأيت ذلك صلاحًا في سائر عمله " (1).
وعنه رحمه الله قال: " خصلتان إذا صلحتا من العبد؛ صلح ما سواهما: صلاته، ولسانه "(2).
وعن يحيى بن أبي كثير رحمه الله قال: " خصلتان إذا رأيتهما في الرجل، فاعلم أن ما وراء هما خيرٌ منهما: إذا كان حابسًا للسانه، يُحافظ على صلاته "(3).
وعنه رحمه الله أنه قال: " ما صَحَّ منطق رجل قط، إلا صحَّ ما وراء ذلك "(4).
وعن الأوزاعي، عن يحيى رحمه الله قال:(أثنى رجل على رجل، فقال له بعض السلف: " وما علمك به؟ " قال: " رأيته يتحفظُ في مَنْطِقه ")(5).
إن التنزه عن الغيبة مؤشر قوي على تمام القدرة على ضبط النفس، لا سيما إذا كان في الغيبة مصلحة شخصية أو حزبية، وتأمَّل قول " الصفدي " في " يحيى بن إسماعيل المخزومي ":" صحبته أكثر من عشرين سنة، وما رأيت منه سوءًا قط .. وكان قويَّ النفس يتقي لسانه "(6).
أما ضعاف النفوس فلأنهم يشعرون بضآلة أنفسهم، فقد تميزوا غيظًا لما رأوا قممًا شاهقة، وهم سفوح واطئة، فأرادوا هدم القمم حتى تتساوى الرؤوس على السفوح الخفيضة، وحسبوا أنهم لن يصعدوا إلا على أشلاء العمالقة، فمن
(1)" الصمت " رقم (653).
(2)
" سير أعلام النبلاء "(6/ 293).
(3)
" الصمت " رقم (564).
(4)
" الزهد " لابن أبي عاصم رقم (56) ص (39).
(5)
" الصمت " رقم (418).
(6)
" الدرر الكامنة "(3/ 188).
ثم ينصبون مشانق التجريح لإلغاء الثقة في علماء الأمة، ويتعاطون غيبتهم، ويتداولونها، ويُدار عليهم بها كما يدار بكأس الماء على العطشى فمقل ومستكثر.
وقد حفظت لنا كتب التراجم سِيَرَ أفذاذ من الرجال بادروا الأوقات، واستدركوا الهفوات، فالعين مشغولة بالدمع عن المحرمات، واللسان محبوس في سجن الصمت عن الهلكات، والكف قد كفت بالخوف عن الشهوات، والقدم قيِّدت بقيد المحاسبات، والليل لديهم يجأرون فيه بالأصوات، فإذا جاء النهار قطعوه بمقاطعة اللذات، حفظوا الله فحفظهم، وطهر ألسنتهم من آفة الغيبة المهلكة، فكانوا يجتنبونها كما يجتنبون النجاسات، ولا يسمحون للغيبة أن تدار في مجالسهم، كما لا يسمحون لكئوس الخمر أن تدور فيها، وهاك بعضًا منها على سبيل المثال لا الحصر:
امتدح حسان بن ثابت رضي الله عنه أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، فقال:
حَصانٌ (1) رَزان (2) ما تُزَنُّ (3) بريبةٍ
…
وتُصبحُ غَرثى (4) من لحومِ الغوافلِ (5)
وقال الأحنف بن قيس: " ما ذكرت أحدًا بسوء بعد أن يقوم من عندي "(6).
وعن مسلم البَطين، عن سعيد بن جبير، أنه كان لا يدعُ أحدًا
(1) حَصَان: محصنة عفيفة.
(2)
رَزان: كاملة العقل.
(3)
ما تُزَنُّ: ما تُتهم.
(4)
غرثى: جائعة، أي لا تغتاب الناس، لأنها لو اغتابتهم شبعت من لحومهم.
(5)
الغوافل: هن الغافلات عما رُمين به من الفواحش -وهذا البيت ثابت في " الصحيحين " رواه البخاري برقم (4146)، ومسلم (2488).
(6)
" صفة الصفوة "(3/ 199).
يغتاب عنده (1).
وقال الفلَاّس: " ما سمعت وكيعًا ذاكرًا أحدًا بسوء قط "(2).
وعن محمد بن سيرين رحمه الله قال: قال فلان -وسمَّى رجلاً-: " ما رأيت رجلاً من الناس إلا لابد أن يتكلم ببعض ما لا يريد غير عاصم بن عمر ".
وعن أبي عُبيد قال: " ما رأيتُ رجلاً قَطُّ أشَدَّ تحفظًا في مَنْطِقِهِ من عمر بن عبد العزيز "(3).
وعن جرير بن حازم قال: سمعت ابن سيرين ذكر رجلاً، فقال:" ذاك الأسود "، ثم قال:" أستغفر الله، أخاف أن أكون قد اغتبته "(4).
وعن طوف بن وهب قال: (دخلت على محمد بن سيرين، وقد اشتكيت، فقال: كأني أراك شاكيًا؟ قلت: أجل، قال: اذهب إلى فلان الطبيب، فاستوصفه، ثم قال: " اذهب إلى فلان، فإنه أطبُّ منه "، ثم قال: " أستغفر الله، أراني قد اغتبته ")(5).
وعن إبراهيم التيمي قال: " أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين سنة، فلم يتكلم بكلام لا يصعد "(6).
وقال بعضهم. " صحبت الربيع بن خثيم عشرين عامًا، ما سمعت منه
(1)" السير "(4/ 336).
(2)
" السابق "(9/ 158).
(3)
" الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (419).
(4)
رواه هناد في " الزهد "(1191)، ووكيع في " الزهد "(434)، وابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (213) ص (137)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 268).
(5)
رواه ابن سعد في " الطبقات "(7/ 196)، وأبو نعيم في " الحلية "(9/ 174).
(6)
رواه البيهقي في " الشعب " رقم (5036)، وابن أبي الدنيا في " الصمت "(413).
كلمة تعاب " (1).
وقال أبو عاصم النبيل: " ما اغتبت مسلمًا منذ علمت أن الله حرم الغيبة "(2).
وعن حزم قال: " كان ميمون بن سياه لا يغتاب، ولا يدع أحدًا يغتاب عنده، فإن انتهى، وإلا قام وتركه "(3).
وعن الصَّلْت بن بَسْطامٍ: حدثني رجل من تيم الله، وكان قد جالس الشعبي وإبراهيم، قال:" ما رأيت أحدًا أملك للسانه من طلحة بن مُصَرِّف "(4).
وهو القائل رحمه الله: " ما تكلمت بكلمة منذ عشرين سنة، لم أتدبرها قبل أن أتكلم بها إلا ندمت عليها، إلا ما كان من ذكر الله "(5).
وقال أبو بكر بن عياش: " ما سمعت أبا إسحاق -السبيعي- يعيب أحدًا قط، وإذا ذكر رجلاً من الصحابة، فكأنه أفضلُهم عنده "(6).
وقال خارجة بن مصعب: " صحبت عبد الله بن عوف أربعًا وعشرين سنة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة "(7).
وعن يحيى القطان قال: " ما ساد ابن عون الناس أن كان أتركهم للدنيا، ولكن إنما ساد ابن عون الناس بحفظ لسانه "(8).
(1)" سير أعلام النبلاء "(4/ 259).
(2)
" الصمت " لابن أبي الدنيا ص (300).
(3)
" السابق " رقم (177) ص (210).
(4)
" السابق " رقم (324).
(5)
" السابق " رقم (425).
(6)
" السير "(399/ 5).
(7)
" الحلية "(37/ 3).
(8)
" الحلية "(3/ 37).
وعن سلام بن أبي مطيع قال: " كان ابن عون أملكهم للسانه "(1).
وعن معاذ بن معاذ قال: حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد، قال:" إني لأعرف رجلاً منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون، فما يقدر عليه، وليس ذاك أن يسكت رجل لا يتكلم، ولكن يتكلم، فيسلم، كما يسلم ابن عون "(2).
وقال يونس بن عبيد: " ما أعرف رجلاً يضبط نفسه منذ أربعين سنة ضبط ابن عون يومًا واحدًا "(3).
وعن بشر بن الحارث قال: (كان رجل يجالس إبراهيم بن أدهم، فاغتاب عنده رجلاً، فقال: " لا تفعل "، ونهاه، فعاد، فقال له: " اذهب "، وصاح به، ثم قال: " عجبتُ لناكيف نُمْطر؟ ")(4).
وكان رحمه الله يجتهد في سد الذريعة إلى الغيبة خوفًا من أن يُعْصى اللهُ بها، وغيرة على حرماته أن تُنتهك، فعن عيسى بن حازم قال:(كنا مع إبراهيم ابن أدهم في بيت ومعه أصحاب له، فأتوا ببطيخ، فجعلوا يأكلون، ويمزحون، ويترامون بينهم، فدق رجل الباب، فقال لهم إبراهيم: " لا يتحركن أحد "، قالوا: " يا أبا إسحاق تعلمنا الرياء؟ نفعل في السر شيئًا لا نفعله في العلانية؟ " فقال: " اسكتوا إني أكره أن يُعْصَى اللهُ في وفيكم ")(5).
فلا نعجب إذن لما رواه يحيى بن يمان قال: " كان سفيان إذا قعد مع إبراهيم ابن أدهم، تحرَّز من الكلام "(6).
وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: " أرجو أن ألقى الله، ولا يحاسبني أني اغتبتُ أحدًا ".
(1)" السابق "(3/ 38).
(2)
" السابق "(3/ 38).
(3)
" السابق "(3/ 38).
(4)
" حلية الأولياء "(8/ 30).
(5)
" السابق "(8/ 9).
(6)
" السير "(7/ 393).
وعلق الحافظ الذهبي رحمه الله قائلاً: (قلت: صَدَق رحمه الله، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم وَرَعه في الكلام في الناس، وإنصافَه فيمن يُضَعِّفُهُ، فإنه أكثر ما يقول: " منكر الحديث "، " سكتُوا عنه "، " فيه نظر "، ونحو هذا، وفى أن يقول: " فلان كذاب "، أو: " كان يَضَعُ الحديث "، حتى إنه قال: " إذا قلتُ: فلانٌ في حديثه نظر، فهو متَّهم واهٍ "، وهذا معنى قوله: " لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدًا "، وهذا هو والله غاية الورع)(1) اهـ.
قال محمد بن أبي حاتم الورَّاق: (سمعته -يعني البخاري- يقول: " لا يكون لي خصم في الآخرة "، فقلت: إن بعض الناس ينقمون عليك في كتاب " التاريخ "، ويقولون: فيه اغتياب الناس، فقال: إنما رُوِّينا ذلك رواية، لم نَقُله من عند أثفسنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بئس مولى العشيرة " يعني حديث عائشة (2). وسمعته يقول: " ما اغتبت أحدًا قطُّ منذ علمتُ أن الغيبة تضر أهلها ") (3) اهـ.
وقال البخاري: سمعت أبا عاصم يقول: " منذ عَقَلت أن الغيبة حرام، ما اغتبت أحدًا قط "(4).
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: " ما تكلمت بكلمة؛ ولا فعلت فعلاً؛ إلا وأعددت له جوابًا بين يدي الله عز وجل "(5).
وقال الحسن بن بشار: " منذ ثلاثين سنة ما تكلمت بكلمة أحتاج أن أعتذر منها ".
(1)" سير أعلام النبلاء "(12/ 439 - 441).
(2)
انظر: " فتح الباري "(10/ 452 - 455)، (10/ 471 - 472).
(3)
" سير أعلام النبلاء "(12/ 441).
(4)
" السير "(9/ 482).
(5)
" شذرات الذهب "(6/ 5)، و " طبقات الشافعية " للسبكي (9/ 212)، " فتح المغيث " للسخاوي (90/ 1).
وعن مخلد بن الحسين قال: " ما تكلمت بكلمة أريد أن أعتذر منها منذ خمسين سنة "(1).
وفي ترجمة محمد بن أحمد التِّلمْساني رحمه الله: أنه " كان قائمًا على حفظ كتاب الله، طيب النغمة به، لمَ يُؤثر عنه في أحدٍ وقيعة، مع اتصاله بالسلطان "(2).
وهذا محمد بن إدريس بن محمد القَمّولي نجم الدين (ت 709 هـ) الفقيه الشافعي (كان يستحضر الروضة، وأكثر شرح مسلم، والوجيز للواحدي، مع المشاركة في العربية، والأصول، والحساب، وكان لا يستغيب أحدًا، ولا يُمَكِّنُ أحدًا يستغيب بحضرته، مع ملازمة الاشتغال، والأمر بالمعروف، والتقلل من الدنيا)(3).
وهذا محمد بن سليمان بن الفخر تاج الدين (كان متعبدًا متجنبًا للغيبة وسماعها)(4).
وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة " أرون الدوادار ": " كان خيّرًا، ساكنًا، قليل الغضب، حتى يقال: إنه لم يَسمع منه أحد في طول نيابته بمصر وحلب كلمة سوء "(5).
أما محمد بن عبد الحق بن عيسى الخُضَري (ت 747 هـ) فقد وُصف رحمه الله تعالى بأنه: (كان جِدًّا كله، لا هزل فيه، وأنه كان لا يمكِّن أحدًا أن يذكر عنده أحدًا بسوء)(6).
(1)" حلية الأولياء "(8/ 266).
(2)
" الدرر الكامنة "(3/ 457).
(3)
" السابق "(3/ 467).
(4)
" السابق "(4/ 67).
(5)
" السابق "(1/ 374).
(6)
" السابق "(4/ 113).
وهذا سعيد بن محمد الملياني الغربي المالكي كان من أعيان المالكية (ت ا 77 هـ)(خيِّرًا متحرزًا من سَماع الغيبة، لا يُمَكَن أحدًا يستغيب، فإن لم يسمع نهيَه مَن في المجلس خرج مِن المجلس، ومات على ذلك رحمه الله (1).
* * *
ونقفز إلى عصرنا الحاضر، لنطالع سيرة رجل من أفذاذ الرجال، وجِهْبِذ (2) من جهابذة العلماء، إنه العلامة القرآني محمد الأمين بن محمد الختار الشنقيطي رحمه الله تعالى، الذي اختُصَّ بهذا الخلق العزيز؛ وهو شدة التجافي عن الوقوع في أعراض الناس، فقد كان لا يسمح لأحد أن يغتاب في مجلسه مهما كان قدره، كأنه كان محاربًا مرابطًا على ثغرة، لا يُمَكِّن أحدًا من الاقتراب من محارم الله بانتهاش أعراض الناس، يحمي بذلك نفسه من الإثم، ويحفظ مجلسه نقيًا طاهرًا، ويؤدِّبُ من يلوذون به على ضبط النفس، وإشغالها بما ينفع، ووقايتها مما يضر.
قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس في ترجمته رحمه الله:
(وحدثني ابنه عبد الله عنه أنه قال في معرض التحذير من أعراض الناس:
" قتل الأولاد وأخذ الأموال أهون من أخذ الحسنات لشايب كبير "؛ يعني نفسه رحمه الله، وهو تحذير من الغيبة.
وحدثني أيضا: (أن رجلاً كبيرًا اغتاب عنده رجلاً، فنهاه، فقال المغتاب:
(1)" السابق "(2/ 232).
(2)
الجهبذ: هو النقاد الخبير.
" أنا المتكلم لا أنت "، فرد عليه الشيخ بقوله:" أنا شايب بين جنبي سورة البقرة (1)، تسكت بأدب، أو تخرج ").
وحدثني عنه أيضًا أنه كان يقول: " لا يتكلم في أنساب الناس إلا أحد رجلين: رجل به حسد يريد أن يُنْقِصَ الناسَ عن نفسه، أو رجل قليل النسب يريد أن يُلْحِقَ الناسَ به ") (2).
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أثناء سرده لسياق رحلته إلى الحج: (ثم جئنا آخر النهار بعد الثالثة للقرية المسماة " آتيه "، فالتمسنا عربيًا نبيت عنده، فدعانا رجل عربي -والله ما سألت عن اسمه ولا اسم أبيه خوفًا من الغيبة- فأنزلنا في مكان يعوي منه الكلب، وأغلقه علينا من الخارج، فبتنا بليلة لا أعاد الله علينا مثلها، أشد من ليلة نابغية، ومن ليلة مهلهلية ..... )(3).
وقال تلميذه فضيلة الشيخ عطية سالم حفظه الله ما نصه: " ولم يكن يغتاب أحدًا، أو يسمح بغيبة أحد في مجلسه، وكثيرًا ما يقول لإخوانه (تكايسوا)؛ أي: من الكياسة والتحفُّظ من خطر الغيبة، ويقول: " إذا كان الإنسان يعلم أن كل ما يتكلم به يأتي في صحيفته؛ فلا يأتي فيها إلا الشيء الطيب ".
(1) وقد حفظ الشيخ القرآن الكريم كله على خاله عبد الله، وعمره عشر سنوات.
(2)
(ترجمة الشيخ " محمد الأمين الشنقيطي ") ص (204 - 205).
(3)
(ترجمة الشيخ " محمد الأمين الشنقيطي ") ص (48)، والليلة النابغية هي ليلة النابغة التي قال فيها:
* وليلٍ أقاسيه بَطيِء الكواكبِ *
وليلة المهلهل هي التي قال فيها:
أليلَتَنا بذي حسمٍ أنيري
…
إذا أنتِ انقضيتِ فلا تَحُوري
إلى قوله:.
وأنقَذَني بياضُ الصبح منها
…
وقد أُنْقِذْتُ من شيءٍ كبير
وقال أيضا: " أما مكارم أخلاقه ومراعاة شعور جلسائه؛ فهذا فوق حد الاستطاعة، فمذ صحبته لم أسمع منه مقالاً لأي إنسان -ولو مخطئًا عليه- يكون فيه جرح لشعوره، وما كان يعاتب إنساناً في شيء يمكن تداركه، وكان كثير التغاضي عن كثير من الأمور في حق نفسه، وحينما كنت أسائله في ذلك يقول:
ليس الغبيُّ بسيدٍ في قومه
…
لكنَّ سَيِّدَ قومِهِ المتغابي) (1)
وقال رحمه الله مدافعًا عن نفسه حين رماه رجل ظلمًا بأنه كتب شعرًا يهجوه فيه: (فغضبت من تَزويره عَلَيَّ، لأني -ولله الحمد والمنة- لست ممن يهجو، وما كافأت أحدًا بسوء، وما أخذت أخًا بزلة، تحدثًا بنعمة الله تعالى)، ومما كتب في تلك المناسبة:
وتمنعني من ذاك نفس عزيزة
…
غلا سعرها في السوق يومَ كسَادِه تهاب الخنا والنقصَ في كل موطن
…
وقلبٌ يُقَوِّيها بشِدةِ آدِهِ (2)
وإني لأكسو الخِلَّ حُلَّةَ سُنْدُسٍ
…
إذا ما كساني من ثياب حِدَادِه
وكائِن يَغِيظُ المرَءَ ظنُّ حبيبِهِ
…
به السوءَ بعضُ الظنِّ إثمٌ فعادِهِ (3)
* * *
(1)" السابق " ص (205 - 206)
(2)
آدَ يَئيد أيْدًا: اشْتَدَّ وقَوِيَ.
(3)
(ترجمة الشيخ " محمد الأمين الشنقيطي ") ص (206 - 207).