المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامس في قسمه - شرح الشفا - جـ ١

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأوّل

- ‌[المقدمة]

- ‌ترجمة القاضي عياض

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌القسم الأول [في تعظيم العلي الأعلى جل وعلا]

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عليه السلام]

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ [فِيمَا جَاءَ من ذلك مجيء المدح والثناء]

- ‌الفصل الثّاني [في وصفه تعالى بالشهادة وما تعلق به من الثناء والكرامة]

- ‌الْفَصْلُ الثَّالِثُ [فيما ورد من خطابه تعالى إياه مورد الملاطفة والمبرة]

- ‌الْفَصْلُ الرَّابِعُ [فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌الفصل الخامس في قسمه

- ‌الْفَصْلُ السَّادِسُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في جهته عليه الصلاة والسلام مورد الشفقة والإكرام]

- ‌الفصل السّابع [فيما أخبره الله بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ]

- ‌الْفَصْلُ الثَّامِنُ [فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بصلاته عليه وولايته له]

- ‌الْفَصْلُ التَّاسِعُ [فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كراماته عليه السلام]

- ‌الْفَصْلُ الْعَاشِرُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده]

- ‌الْبَابُ الثَّانِي [فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ المحاسن خلقا وخلقا]

- ‌فصل [قال القاضي رحمه الله تعالى إذا كانت خصال الكمال والجلال]

- ‌فصل [إن قلت أكرمك الله تعالى لا خفاء على القطع بالجملة]

- ‌فصل [وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ وَذَكَاءُ لُبِّهِ وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ وفصاحة لسانه واعتدال حركاته وحسن شمائله]

- ‌فصل [وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول]

- ‌فصل [وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشأه]

- ‌فصل [وأما تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثلاثة ضروب الضرب الأول]

- ‌فصل [وأما الضرب الثاني ما يتفق التمدح بكثرته والفخر بوفوره]

- ‌فصل [وأما الضرب الثالث فهو ما تختلف فيه الحالات]

- ‌فصل [وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة]

- ‌فصل [وأما أَصْلُ فُرُوعِهَا وَعُنْصُرُ يَنَابِيعِهَا وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ]

- ‌فصل [وأما الحلم]

- ‌فصل [وأما الجود]

- ‌فصل [وأما الشجاعة والنجدة]

- ‌فصل [وأما الحياء والإغضاء]

- ‌فصل [وأما حسن عشرته وآدابه]

- ‌فصل [وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق]

- ‌فصل [وأما خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في الوفاء]

- ‌فصل [وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وأما عدله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمانته وعفته وصدق لهجته]

- ‌فصل [وأما وقاره صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وأما زهده صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا]

- ‌فصل [وأما خوفه صلى الله تعالى عليه وسلم من ربه عز وجل]

- ‌فصل [اعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن صفات جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام]

- ‌فصل [قد آتيناك أكرمك الله سبحانه من ذكر الأخلاق الحميدة]

- ‌فصل [في تفسير غريب هذا الحديث ومشكله]

- ‌الْبَابُ الثَّالِثُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ ومشهورها بتعظيم قدره عند ربه عز وجل]

- ‌الفصل الأول [فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل]

- ‌فصل [في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم بما تضمنته كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ]

- ‌فصل [ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده]

- ‌فصل [إبطال حجج من قال أنها نوم]

- ‌فصل [وأما رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم لربه عز وجل]

- ‌فصل [في فوائد متفرقة]

- ‌فصل [وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَظَاهِرُ الآية من الدنو والقرب]

- ‌فصل [في ذكر تفضيله في القيامة بخصوص الكرامة]

- ‌فصل [في تفضيله بالمحبة والخلة]

- ‌فصل [في تفضيله بالشفاعة والمقام المحمود]

- ‌فصل [في تفضيله فِي الْجَنَّةِ بِالْوَسِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالْكَوْثَرِ وَالْفَضِيلَةِ]

- ‌فصل [فَإِنْ قُلْتَ إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ وصحيح الأثر]

- ‌فصل [في أسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته]

- ‌فصل [في تشريف الله تعالى له بما سماه به من أسمائه الحسنى]

- ‌فصل [قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وها أنا أذكر نكتة]

- ‌الْبَابُ الرَّابِعُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ والكرامات]

- ‌فصل [اعلم أن الله عز وجل قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ]

- ‌فصل [اعلم أن معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة]

- ‌فصل [في إعجاز القرآن العظيم الوجه الأول]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ والأسلوب الغريب]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ من الأخبار]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ القرون السالفة]

- ‌فصل [هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نزاع فيها ولا مرية]

- ‌فصل [ومنها الروعة]

- ‌فصل [وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لا تعدم ما دامت الدنيا]

- ‌فصل [وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِي الْأُمَّةِ في إعجازه وجوها كثيرة]

- ‌فصل [في انشقاق القمر وحبس الشمس]

- ‌فصل [في نبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثيره ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَفْجِيرُ الْمَاءِ ببركته وانبعاثه]

- ‌فصل [ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته]

- ‌فصل [في قصة حنين الجذع له صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [ومثل هذا وقع في سائر الجمادات بمسه ودعوته]

- ‌فصل [في الآيات في ضروب الحيوانات]

- ‌فصل [في إحياء الموتى وكلامهم]

- ‌فصل [في إبراء المرضى وذوي العاهات]

- ‌فصل [في إجابة دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [في كراماته صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ]

- ‌فصل [في عصمة الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم من الناس وكفايته من آذاه]

- ‌فصل [ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم]

- ‌فصل [ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام وكراماته وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة]

- ‌فصل [وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرَادَفَتْ]

- ‌فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مولده عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى قد أتينا في هذا الباب]

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌الفصل الخامس في قسمه

ما ذكر تنافر في النظم وعدم تناسب في اللفظ انتهى وأما أقوال المفسرين في معنى الفجر وليال عشر فمشهورة لا تخفى والمشهور أن الفجر هو الصبح والليالي العشر ذي الحجة ومن ثم فسر بفجر عرفة أو الفجر والعشر الأول من المحرم أو الأواخر من شهر رمضان ونكرت لزيادة فضلها والله تعالى أعلم.

‌الفصل الخامس في قسمه

أي في حلفه في كلامه (تعالى جده) أي عظمته لقوله تعالى وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ولما في الحديث كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جد بدال مهملة في أنفسنا أي عظم وجل وعن أنس والحسن رضي الله تعالى عنهما غناه بشهادة حديث ولا ينفع ذا الجد منك الجد أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه وإنما ينفعه إيمانه وإحسانه (له) صلى الله تعالى عليه وسلم (لتحقق مكانته) أي منزلته الرفيعة (عنده) بكسر العين أفصح ويجوز فتحها وضمها ففي القاموس عند مثلثة الأول ظرف في الزمان والمكان غير متمكن (قال جل اسمه) أي عظم وصفه ونعته فكيف مسماه وذاته (وَالضُّحى) أي أقسم بضوء الشمس إذ هو المراد بقوله وَضُحاها أو بوقته حين ارتفعها وخص بالقسم لأنه تعالى كلم فيه موسى عليه الصلاة والسلام فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ بشهادة وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ولعل هذا هو المأخذ في فضيلة صلاة الضحى أو بالنهار كله بدلالة أن يأتيهم بأسنا ضحى في مقابلة بياتا أو مقابلة قوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضحى: 1- 2] ) أي ركد ظلامه أو سكن أهله وقدم الليل في السورة قبلها لأنه الأصل بدليل قوله تعالى نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ولما ورد من أن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره الحديث وعكس هنا لشرف النهار بحسن ضوئه ونوره وكمال ظهوره والأنسب بهذا المقام في تحقيق المرام أن يقال إن في الضحى إيماء إلى وجهه صلى الله تعالى عليه وسلم كما أن في الليل إشعارا إلى شعره عليه الصلاة والسلام أو إلى حاليه إشارة فيهما إلى صبح الوصال وليل الفراق أو إيماء بهما إلى حاليه من مقامي القبض والبسط أؤ الفناء والبقاء كما يشير إليه قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ لَيُغَانُ على قلبي الحديث.

(السّورة) وفي شرح الدلجي السورة منصوب بفعل كأعني قلت أو اقرأ ويجوز رفعها على أن تقديره السورة معروفة وجرها على نزع الخافض كما في النسخة المشهورة والسورة طائفة من القرآن مترجمة أقلها ثلاث آيات منقولة من سور المدينة لأنها محيطة بطائفة منه أو محتوية على ما فيها من العلوم كاحتواء سور المدينة على ما فيها هذا إن كانت واوها أصلية وإن كانت مبدلة من همزة فلكونها قطعة من القرآن فمن السؤر الذي هو بقية الشيء وهذا المعنى هو الأولى كما لا يخفى إذ المعنى الأول يدل على المغايرة بين السورة وما هي مشتملة عليه وليس كذلك في السُّورَةُ. (اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ) أي سورة والضحى (فقيل كان ترك النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَ اللَّيْلِ لِعُذْرٍ نَزَلَ بِهِ فتكلّمت

ص: 90

امرأة في ذلك بكلام) أي بما لا يليق ذكره لأهل الإسلام ويؤيده ما رواه البخاري اشتكى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فقالت له امرأة إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لما رأيت من عدم قيامك فأنزل أي الله تعالى وَالضُّحى وروى مسلم نحوه وحديث الثعلبي أنه صلى الله عليه وسلم أصيب في اصبعه فدميت فقال:

هل أنت إلا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب ما أرى شيطانك إلا قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فنزلت وروى ابن السكن أنها إحدى عماته صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ابن عساكر وكانت عماته صلى الله تعالى عليه وسلم ستا وجميعهن متن مشركات إلا صفية بنت عبد المطلب أم الزبير ويؤيد الأول رواية الحاكم أنها امرأة أبي لهب ولعلهما قالتا له ذلك ثم قيل هي أخت أبي جهل زوج أبي لهب وكان اسمها أم جميل وكان أبو بكر بن العربي لا يكنيها إلا بأم قبيح وقد أجاد فيما أفاد وقيل هي أخت أبي سفيان بن حرب وهي زوج أبي لهب أيضا وكانت عوراء وكان أحول والقول الأخير ذكره الحاكم في مستدركه في تفسير سورة والضحى وقال إسناده صحيح (وقيل) وعليه جمهور المفسرين على ما قيل (بل تكلّم به المشركون) أي بمثل ذلك الكلام (عند فترة الوحي) أي عند انقطاعه وعدم اتصاله من الفتور بمعنى القصور وكانت المدة سنتين ونصفا وقيل بل كان ذلك بضعة عشر يوما (فنزلت السّورة) أي والضحى وفي نسخة هذه السورة ويدل عليه حديث مسلم والترمذي أبطأ جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون قد ودع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله سبحانه وتعالى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ويمكن الجمع بين القولين بأنه لما فتر الوحي اتفق إذ ذاك أنه اشتكى فلم يقم فقالت المرأة ما قالت وقال المشركون من الرجال ما قالوا وقال البيضاوي روي أن الوحي تأخر اياما لتركه الاستثناء كما مر في سورة الكهف أو لزجره سائلا ملحا أو لأن جروا ميتا كان تحت سريره أو غير ذلك فقال المشركون إن محمدا ودعه ربه وقلاه أي تركه وأبغضه فنزلت ردا عليهم، (قال الفقيه القاضيّ أبو الفضل رحمه الله كذا في بعض النسخ وهو متروك في بعضها (تضمّنت هذه السورة) أي سورة والضحى (من كرامات الله تعالى) أي من أنواع إكرامه سبحانه (له صلى الله تعالى عليه وسلم) قال الدلجي من مزيدة أو للتعظيم أي تضمنت شيئا عظيما أكرمه الله به انتهى ولا يخفى أن كونها مزيدة لا يناسب المقام لأن الزائدة إنما تكون للتنصيص على عموم في النفي نحو ما جاءني من رجل أو لتوكيد العموم نحو ما جاءني من أحد وكونها للتعظيم غير معروف فالصواب أنها للتبعيض فإنه لا شك أن ما تضمنت هذه السورة من بعض كرامات الله له (وتنويهه به) من نوه بالشيء أي رفعه ونوهت باسمه أي رفعت ذكره والمقصود رفعة شأنه وسطوع برهانه (وتعظيمه واستثناه إيّاه) أي بما خصه الله تعالى واستثناه مما سواه (ستّة وجوه)

ص: 91

بالنصب على أنه مفعول تضمنت وفي نسخة بستة وجوه وكان الوجه أن يقول ستة أوجه إلا أنه أوقع جمع الكثرة في موضع جمع القلة توسعا إذ قد يكثر استعمال أحدهما في الآخر (الأوّل) أي الوجه الأول من الستة (القسم له) أي لأجله صلى الله تعالى عليه وسلم (عمّا أخبره به) أي في هذه السورة (من حاله) أي مما يدل على عظيم جماله وكريم كماله فمن بيان لما أقسم له على نفيه (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2)[الضُّحَى: 2] أي وربّ الضّحى) أي على حذف مضاف يكون هو المقسم به وذلك لأنه لا يقسم بمخلوق لأن فيه تعظيم غير الله تعالى ولذا قال صلى الله عليه وسلم من حلف بغير الله فقد أشرك والأظهر أن النهي في ذلك بالنسبة إلى المخلوق وأما الخالق سبحانه وتعالى فيقسم بما شاء من خلقه تشريفا له وتعظيما لشأنه، (وهذا) أي القسم له على ذلك (من أعظم درجات المبرّة) بفتحات وتشديد الراء من البر بمعنى الخير (الثّانيّ) أي من الستة (بيان مكانته عنده) تقدم بيانه (وحظوته لديه) بكسر أوله ويضم على ما في الصحاح والقاموس وبسكون الظاء المعجمة بمعنى المنزلة والفضيلة والمحبة وقيل الحاء مثلثة لأن كل اسم على فعلة ولامه واو بعدها هاء التأنيث فإنه مثلث الفاء وأصله من حظيت المرأة عند زوجها إذا كانت ذات حظ ونصيب منه وفي المثل أن لا حظية فلا الية يقول إن احظأتك الحظوة فلا تأل أن تتودد إلى الناس لعلك تدرك بعض ما تريد ذكره الجوهري (بقوله) متعلق بقوله بيان مكانته (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) بتشديد الدال وتخفف (وَما قَلى [الضحى: 3] ) حذف مفعول قلى لظهوره أو اكتفاء بسبق ذكره مع كونه مراعاة للفاصلة (أي ما تركك) تفسير لودعك (وما أبغضك) تفسير لما قلى على طريق اللف والنشر المرتب والمعنى ما قطعك قطع المودع إذ التوديع مبالغة في الودع أي الترك إذ من ودعك فقد بالغ في تركك وفي الحديث غير مودع ربي أي غير قاطع طاعته ولا مفارق لعبادته وقرأ عروة وابنه هشام ودعك مخففا مع استغناء أكثر العرب عنه بترك فلم ينطق به ماضيا لكن قد جاء في الحديث شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه وفي الشعر أيضا كقوله:

وكان ما قدموا لأنفسهم

أعظم نفعا من الذي ودعوا

ومن التشديد قوله:

ليت شعري من خليلي ما الذي

رابه في الحب حتى ودعه

ثم قلي يائي وقيل واوي وعلى الأول يقال في مضارعه يقلي ويقلى بالياء والألف إلا أن الألف شاذ كما في أبى يأبى (وقيل ما أهملك) أي ما تركك هملا (بعد أن اصطفاك) أي كملا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَا خلاك ولا قطعك منذ اصطفاك ورفعك (الثّالث) أي من الستة (قوله) أي عز قائلا (وَلَلْآخِرَةُ) أي والدار الآخرة (خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى: 4] ) أي من الدنيا أو الحال الآخرة خير لك من الأولى إيماء إلى أنه دائما في الترقي

ص: 92

إلى الدرجات العلى (قال ابن إسحاق) تقدم أنه إمام أهل المغازي (أي مالك) بفتح ميم وهمز ممدود ورفع لام أي ما تؤول إليه ومصيرك (في مرجعك) أي معادك باقيا خالصا من الشوائب مما أعد لك من المراتب (عند الله) في العقبى (أعظم ممّا أعطاك من كرامة الدّنيا) ويروى كما في بعض النسخ ما لك على أن ما موصول والعائد محذوف يعني الذي أعطاكه في الاخرى خير لك من الذي اعطاكه في الأولى. (وقال سهل: أي ما ادّخرت) بتشديد الدال المهملة وقيل بالمعجمة من الذخيرة وهي الشيء النفيس يخبأ للنوائب وذاله معجمة ويقال ادخرته على افتعل يهمل ويعجم والمعنى واحد وقيل بالمعجمة ما يكون للآخرة وبالمهملة ما يكون للدنيا ونسب إلى أئمة اللغة وهي غير مشهورة ودلالة قوله تعالى تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ عليه غير صحيحه والمعنى الذي خبأته (لك من الشّفاعة) أي العظمى أو الخاصة بهذه الأمة (والمقام المحمود) أي المرتبة العلية الشاملة للشفاعة الكاملة لجميع الافراد البشرية (خير لك ممّا أعطيتك في الدّنيا) أي من الرفعة وعلو المرتبة ونفاذ الحكومة ويؤيده ما ورد في الحديث القدسي والكلام الأنسي أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويجوز أن يراد بالمقام المحمود كما هو ظاهر الآية كل مقام يتضمن كرامة وإن كان الأكثرون على أنه مقام الشفاعة الكبرى الذي يحمده فيه الأولون والآخرون بشهادة حديث هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي أي خصوصا وسائر الأمم عموما. (الرّابع) أي من الستة (قوله تعالى وَلَسَوْفَ) خبر مبتدأ محذوف دخله بعد حذفه لام الابتداء لتأكيد مضمون الجملة أي ولأنت سوف (يُعْطِيكَ رَبُّكَ) أي ما يرضيك وتقر به عينك (فَتَرْضى [الضحى: 5] ) أي غاية الرضى والجمع بين حرفي التأكيد والتأخير للإيماء بأن العطاء كائن لا محالة وفي مصحف ابن مسعود ولسيطيك ثم أكثر المفسرين على أن هذا العطاء في الأخرى وعن بعض العلماء أنه إشارة إلى فتح مكة في الدنيا (وهذه الآية) أي ولسوف وفي بعض النسخ وَهَذِهِ آيَةٌ (جَامِعَةٌ لِوُجُوهِ الْكَرَامَةِ، وَأَنْوَاعِ السَّعَادَةِ) أي ما أعطاه في الدنيا وما وعده في العقبى، (وشتات الإنعام) بكسر الهمزة من أنعم إذا زاد على الإحسان أي متفرقا أنواع الإكرام مما لا يعلم كنهه أحد من الأنام (في الدّارين، والزّيادة) بالجر أي وجامعة للزيادة على ما أعطاه في الدنيا ووعده في العقبى من أنواع الكرامة والدرجات العلى. (قال ابن إسحاق) تقدم ذكره وقال التلمساني هو صاحب السير والمقدم فيها والمشهور بالمغازي والتاريخ توفي ببغداد سنة إحدى وخمسين ومائة وكان بينه وبين مالك كلام ومحاورة وذلك أن الأئمة اتفقوا على أن مالكا عربي صريح النسب من ذي أصبح حميري يماني وذهب ابن إسحاق إلى أنه من الموالي وقوله شاذ رواه الأئمة والله سبحانه وتعالى أعلم والحاصل أنه قال في سيرته (يرضيه) أي الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام (بالفلج) وهو على ما في الصحاح بفتح الفاء واللام وبالجيم والاسم بضم الفاء وسكون اللام أي الفوز بأحبائه والظفر بأعدائه ومنه قوله صلى الله تعالى

ص: 93

عليه وسلم في وصف القرآن مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عدل ومن خاصم به فلج قال ابن هشام معناه ظهر وغلب وظفر والحاصل أن في الأصل نسختين مضبوطتين وفي المثل من يأت الحكم وحده يفلج أي يظهر على خصمه (في الدّنيا) كيوم بدر وقريظة والنضير وفتح مكة (والثّواب في الآخرة) أي مما أخفى له من قرة أعين وهذا القول من ابن إسحاق ليس كقول سهل بل هو قول ثالث يشير إلى أن الآية مقتضية رضاه في الدنيا والعقبى معا قيل وهو الصواب في معنى الآية. (وقيل يعطيه الحوض) أي المورود (والشّفاعة) أي المقام المحمود وهو داخل فيما قبله بلا مراء وكل الصيد في جوف الفرا وفسر عطاء وغيره الحوض بالخير الكثير تمسكا بما في رواية البخاري ومسلم أي عن أنس بن مالك بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد أغفى اغفاء ثم رفع رأسه فقال نزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 1- 3] ثم قال أتدرون ما الكوثر هو نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترده أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء وفي رواية لهما الكوثر نهر في الجنة عليه حوضي أي يمد ماؤه منه وفي مسلم ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يغث فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورق ويغث بغين معجمة مضمومة فمثناة فوقية مشددة ومعناه يجري جريا متتابعا له صوت. (وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) وهو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على ما ذكره الثعلبي في تفسيره (أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ آيَةٌ فِي الْقُرْآنِ أَرْجَى منها) أي من آية وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ثم بيّن وجهه بقوله، (ولا يرضى رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ النّار) ورواه عنه أيضا ابو نعيم في الحلية موقوفا والديلمي في مسند الفردوس مرفوعا فبطل بهذا قول الحلبي قد ظهر لي والله تعالى أعلم أن هذا الرجل هو الحسن بن محمد ابن الحنفية وذلك أنه أول المرجئة وله فيه تصنيف انتهى وروي أنه لما نزلت قال إذن لا أرضى أن يكون واحد من أمتي في النار قال الدلجي وهذا إن صح فيشكل بما ورد مؤذنا بدخول بعض عصاتهم فيها ومن ثم قال ابن عبد السلام وغيره لا يجوز الدعاء لجميع المؤمنين بمغفرة جميع ذنوبهم إذ لا بد من دخول بعض منهم فيه ويعارضه رب رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ انتهى ولا يخفى أن المعارضة مدفوعة إذ ليس في الآية لفظ الجميع الشامل للإفراد كلها والإشكال السابق أيضا مدفوع بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يرضى رضى كاملا إلا إذا وقعت شفاعته لجميع أمته كاملا وهذا أمر في المستقبل فلا ينافي دخول بعض الأمة النار في الماضي فتأمل هذا وفي حديث الترمذي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال ما في القرآن آية أحب إلي من قوله سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وقيل أرجى آية في القرآن لأهل التوحيد قوله تعالى وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ وقيل قوله تعالى إِنَّا قَدْ

ص: 94

أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى وقيل قوله تعالى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وقيل قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ وقيل قوله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الآية وقيل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ الآية ووجهه أنه سبحانه وتعالى أمرنا بالاحتياط لدنيانا الفانية التي نهانا عن الاغترار بها والركون إليها والاعتناء بها وأمرنا بالإعراض عنها والزهادة فيها فإذا لطف بنا فيها بما ارشدنا إليه مع حقارتها في طول آية من كلامه فكيف بالدار الباقية دار الخلد في النعيم والالتذاذ الذي لا يساوي بل لا يداني بالنظر إلى وجهه الكريم وفيه قول آخر وهو ما في صحيح مسلم من حديث الإفك فأنزل الله تعالى وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى إلى قوله تعالى وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال حبان بن موسى قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل انتهى وقد أخرج الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ارجى آية في القرآن لهذه الأمة قوله تعالى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي هذا وأخوف آية في القرآن قيل وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وقيل سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ وقيل قوله تعالى فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وقيل إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وقيل قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ

وعن أبي حنيفة وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وعن الشافعي أنها قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ انتهى واجتمعت الآيات سبعة في الخوف وعشرة في الرجاء إيماء إلى أنه سبقت رحمته غضبه وغلب رجاء ثوابه خوف عقابه.

(الخامس) أي من الستة (ما عدّه تعالى عليه) أي ذكر له (من نعمه) أي نعمائه وهو أنسب إلى قوله (وقرّره من آلائه) وهما مترادفان على ما قيل والأظهر أن وقت اجتماعهما يراد بهما نعمه الظاهرة والباطنة واختلفت في مفرد الآلاء فقيل إلى بالفتح والتنوين كرحى وقيل بالكسر والتنوين كمعى وقيل بفتحها وسكون اللام وبالواو كدلو وقيل بكسرها وسكون اللام وبالياء كنحى وقيل بالفتح وترك التنوين وقوله (قبله) بكسر القاف وفتح الموحدة أي عنده وجهته ونحوه (في بقيّة السّورة) من أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً إلى فَأَمَّا الْيَتِيمَ تلويحا بأنه تعالى كما أحسن إليه سابقا يحسن إليه لاحقا كما قيل:

لقد أحسن الله فيما مضى

كذلك يحسن فيما بقي

فمما عد وقرر موردا له على خلاف ترتيب السورة ما أشار إليه بقوله (من هدايته) مصدر مضاف إلى فاعله أي من هداية الله إياه (إلى ما هداه له) أي المستفادة بقوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي جاهلا بتفاصيل أحكام الشريعة فَهَدى أي فهداك إليها ودلك عليها (أو هداية النّاس به) أي فهدى الناس بك زيادة على هدايتك في نفسك فجمع الله له بين الهداية القاصرة والمتعدية المعبر عنهما بالكمال والتكميل اللذين يصل بهما العبد إلى مقام

ص: 95

التعظيم ومرتبة التبجيل كما ورد عن عيسى عليه السلام من تعلم وعمل وعلم يدعي في الملكوت عظيما (على اختلاف التّفاسير) أي في هدى من التقادير على ما أشرنا إليها في ضمن التحارير فهدى إما بمعنى هداه الله أو بمعنى هدى به الناس، (ولا مال له) جملة حالية والتقدير ومن كونه لا ماله (فأغناه) الله (بما أتاه) أي اعطاه من مال خديجة أو من الغنائم (أَوْ بِمَا جَعَلَهُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْقَنَاعَةِ والغنى) أي غنى القلب كما أشار إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس وبقوله القناعة كنز لا ينفد وهو من قنع بكسر النون في الماضي قناعة إذا رضي بما أعطاه الله تعالى وبفتحه قنوعا إذا سأل مما سواه ومنه القانع والمعتر أي السائل تصريحا والمعترض تلويحا وما أحسن ما قال من قال من أهل الحال:

العبد حر إن قنع

والحر عبد إن طمع

فاقنع ولا تقنع فما

شيء أضر من الطمع

وهذا المعنى مستفاد من قوله وَوَجَدَكَ عائِلًا أي فقيرا أو محتاجا إلى الخلق فأغناك عنهم بغناه بل أحوج إليك كل من سواه كما أشار إليه بقوله آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة (ويتيما) ومن كونه يتيما أي لا أب له لموت أبيه قبل ولادته فآواه إلى عمه أبي طالب (فحدب) بفتح الحاء وكسر الدال المهملتين أي رق له ورحمه وعطف (عليه عمّه) وأذهب عنه غمه وهمه حتى قال:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمر ما عليك غضاضة

فأبشر وقر بذاك منك عيونا

وفي نسخة عمه منصوب ولا يستقيم إلا إذا كانت الدال مشددة (وآواه إليه) وأحسن في تربيته عليه حيث ضمه إلى نفسه في جملة حاله وجعله من عمدة عياله وآوى متعد ممدودا أو مقصورا لكن التعدية في المد أكثر كما أن اللزوم في القصر أشهر، (وقيل آواه الله) أي ملحوظا بعين عنايته وكفايته محفوظا في ظل حمايته ورعايته وفي نسخة آواه إلى الله أي أغناه بذاته عما سواه وروي أوى إلى الله مقصورا ومعناه لجأ إليه وتوكل عليه وأسلم الأمر لديه وهذه المعاني الأخيرة أنسب إلى ما حكي عن جعفر الصادق أنه سئل لم أفرد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أبويه فكان يتيما في صغره فقال لئلا يكون عليه حق للمخلوق انتهى ويمكن أن يقال لئلا يكون له تعلق بغير الحق فإن الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس (وقيل يتيما لا مثال لك) أي لا نظير يماثلك هذا مراد من قال هو درة يتيمة عصماء أي محفوظة ممنوعة معصومة عن أن يكون لها نظير في الصورة والسيرة وفي الكشاف أنه من بدع التفاسير ومعناه ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير (فآواك إليه) والوجود في السورة بمعنى العلم فيتيما وضالا وعائلا مفاعيل ثواني له أو بمعنى المصادفة فهي أحوال من

ص: 96

المفعول الأول ولعل وجه تقديم الهداية في كلام المصنف إيماء إلى رعاية العناية وإشارة إلى أن الواو لا تفيد الترتيب في العبارة وأما الترتيب الذكري في السورة فهو على وفق الوجود الوقوعي حيث يوجد اليتيم قبل البلوغ وبعده تتحقق الهداية الكاملة العلمية ثم رعاية القناعة العملية، (وقيل المعنى ألم يجدك) أي والناس في ضلال (فهدى بك ضالّا، وأغنى بك عائلا) ، أي فقيرا حين وجدك وفيهم عيلة (وآوى بك يتيما) إذ وجدك وفيهم أيتام وهذا من بدع التفاسير أيضا وإن كان يلائمه في الجملة ما بعده من بقية السورة وهي قوله تعالى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وتذكر حال يتمك وَأَمَّا السَّائِلَ لكونه فقيرا فَلا تَنْهَرْ فلا تزجر ولا تقهر وتذكر حال فقرك وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ بإظهار الهداية والعلم بالبداية والنهاية وتذكر حال جهلك فيكون اللف والنشر مشوشا اعتمادا على فهم السامع ويمكن أن يكون مرتبا بأن يكون المراد سؤال العلم كا هو قول أبي الدرداء وغيره وأن التحدث بنعمة الرب هو الإحسان إلى الفقير المنكر القلب لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم التحدث بالنعم شكر ويمكن أن يحمل على المعنى الأعم ويستفاد منه المراد الأخص والله تعالى أعلم بمراده في كتابه؟ (ذكّره) بتشديد الكاف أي ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم ربه تذكير امتنان لا ناشئا عن نسيان (بهذه المنن) جمع المنة بمعنى النعمة والعطية (وأنّه) بكسر الهمزة والواو للحال أي الشأن أو الله سبحانه أو هو صلى الله تعالى عليه وسلم (على المعلوم من التّفسير) أي بناء على ما علم من أنواع التفسير على ما سبق من التحرير (لم يهمله) من الإهمال أي لم يتركه ربه تعالى (في حال صغره) أي جهله (وعيلته) أي فقره (ويتمه) أي فقد أبيه، (وقبل معرفته) أي وفيما قبل معرفته الكاملة (به) تعالى، (ولا ودّعه) عطف على لم يهمله ولا تركه ولا دفعه، (ولا قلاه) أي ولا أبغضه ولا قطعه، (فكيف) أي حاله (بعد اختصاصه) بالكرامات السنية (واصطفائه) بالمقامات البهية والمعنى بعد ارساله واعلامه أنه اصطفاه واجتباه على خليقته لكرامته عنده ومنزلته وإلا فقد كان اصطفاه في ازليته قبل ظهور أبديته بدليل قوله كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وفي رواية وآدم منجدل في طينته أي وآدم مراد إيجاده منهما في وقته فلا بينة ولا انجدال حال نبوته ثم اعلم أن ملخص الأقوال في تفسير قوله سبحانه وتعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ستة أقاويل أولها أنه وجدك ضالا عن الشريعة وأحكامها فأرشدك إليها بتمامها وثانيها أنه وجدك منسوبا إلى الضلالة عند الأعداء فبين أمرك بالبراهين القاطعة للأحباء وثالثها أنه وجدك بين قوم ضلال فأرشدك إلى ما تميزت به عنهم إلى مقام الوصال ورابعها أنه وجدك ضالا بتزويج ابنتك في الجاهلية لبعض الكفرة فبين لك أن المشرك لا يتزوج المسلمة قال ثعلب وهذا هو قول أهل السنة في هذه الآية وخامسها أنه وجدك ضالا بين مكة والمدينة فأراك الطريق وذلك عليه وبينه أو إشارة إلى ضلالته وهو صغير في شعاب مكة حيث وجده ورقة بن نوفل ورجل من قريش فرداه إلى جده عبد المطلب وسادسها أنه وجدك ضالا أي عاشقا ومحبا فهداك إلى محبوبك والقول الأول في

ص: 97

تفسير الآية هو المعول كما بينه قوله تعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً

. (السّادس) أي من الستة (أمره) فعل ماض على ما صرح به الحلبي والأظهر أنه مصدر مضاف إلى مفعوله (بإظهار نعمته عليه) مصدر مضاف إلى الفاعل عام في جميع ما أنعم به عليه إذا أضافة المفرد قد تفيد العموم (وشكر ما شرّفه به) أي ما أحسنه إليه وعظمه لديه (بنشره) أي ببسط ما شرفه به وإظهاره تبجحا بالنعمة وقياما بشكر المنعم لا افتخارا بالعطية والحال الملم (وإشادة ذكره) أي وتشهير ذكر ما شرفه به ورفع قدره وتعظيم شأنه وأعلاء أمره وبيانه وتعريف حاله (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضُّحَى: 11] فإنّ من شكر النّعمة التّحدّث بها) لحديث التحديث بالنعمة شكر وفي نسخة التحديث وفي أخرى الحديث ومن التحدث بها إظهارها في الملبس والمركب ونحوهما لحديث إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه (وهذا) أي أمره بإظهارها (خاصّ له) صلى الله تعالى عليه وسلم (عامّ لأمّته) لأنه إمامهم فأمره كأمرهم وقال مجاهد معنى قوله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ بث الشرائع والقرآن والمشتمل على البدائع والأولى حمل الآية على عموم النعمة ولعل هذا منشأ ما كان بعض الصالحين يخبر بجميع ما يفعله من الطاعات للسالكين كأنه ينحو إلى أنها نعمة أنعم الله سبحانه وتعالى بها عليه فيجب عليه التحدث بها مع أنه قد يقصد أن الناس يقتدون به في فعلها (وقال تعالى) حال لازمة من ضمير قال أي متعاليا عما لا يليق بجنابه الكريم (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْمِ: 1] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النَّجْمِ: 18] . اختلف المفسّرون في قوله تعالى:

وَالنَّجْمِ [النجم: 1] ) أي في المراد به اختلافا مصحوبا (بأقاويل معروفة منها) أي من جملة الأقاويل قولهم (النّجم على ظاهره) فالمراد به إما جنس النجوم أو الثريا لغلبته عليها وهي سبعة كواكب على ما ذكره السهيلي ولا يكاد يرى السابع منها لخفائه وفي الحقيقة إنها اثنا عشر كوكبا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يراها كلها بقوة جعلها الله تعالى في بصره كما ذكر ابن خيثمة من طريق ثابت عن العباس عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو الزهرة لأنهم كانوا يعبدونها فنبهوا على انتقالها وزوالها كما ذكره الغزنوي في تفسيره أو الذي يرحم به فهواه غروبه أو انتثاره وانكداره يوم القيامة أو انقضاضه أو طلوعه إذ يقال هوى هويا بالفتح إذا سقط وغرب وبالضم إذا علا وصعد. (ومنها) أي من جملة الأقاويل إن النجم هو (القرآن) لأنه نزل منجما في دفعات متعددة وأوقات مختلفة فالهوى بمعنى النزول ويؤيده قوله فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ الآيات على ما اختاره بعض المفسرين وقيل إنه اسم جنس للصحابة ولعلماء هذه الأمة كما ورد عن سيد الأئمة أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ذكره في عين المعاني قال الدلجي فالهوى على هذا كناية عن الموت يعني موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى ولا يخفى بعده فإن الاقتداء بهم والاهتداء أعم من زمن حياته وبعد وفاته فالهوى بمعنى الظهور والعلو. (وعن جعفر بن محمّد) أي الصادق (أنّه) أي

ص: 98

النجم المقسم به (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) قال الدلجي وكثيرا ما يذكر المصنف السلام بدون الصلاة مع كون إفراد أحدهما مكروها قلت المحققون كالجزري وغيره على أنه لا يكره وإنما الجمع أفضل، (وقال) أي جعفر (هو قلب محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) اقول بل هو صلى الله تعالى عليه وسلم بقلبه وقالبه نور يستنار منه الأنوار ويستضاء منه الأسرار وقد ورد اللهم اجعلني نورا وقد سماه الله تعالى نورا على ما تقدم والله تعالى أعلم فالهوى بمعنى الظهور كما هو ظاهر في معنى النور وأما على إرادة قلبه فلعل المراد بهواه ميله إلى ربه وغيبته عن غيره واستغراقه في حبه ويؤيد ما قلناه من إرادة كله قوله، (وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) أي البادي ليلا وأصله لسالك الطريق وخص عرفا بالآتي ليلا ثم استعمل في البادي فيه (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) أي شيء أعلمك أنه ما هو يعني أنه شيء عظيم لا يعرفه أحد ثم بينه أنه (النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطارق: 1- 3] ) أي المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه أي (إِنَّ النَّجْمَ هُنَا أَيْضًا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) عبر عنه أولا بوصف عام ثم بين بما يخصه تفخيما لشأنه وتعظيما لبرهانه بجامع أن كلا يهتدي به وإن كان بينهما بون بين (حكاه السّلميّ) أي نقله في تفسير الحقائق. (تضمّنت) أي فقد جمعت (هذه الآيات) أي من قوله وَالنَّجْمِ إِذا هَوى إِلَى قَوْلِهِ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (من فضله وشرفه) أي الزائد على غيره (العدّ) بكسر العين وتشديد الدال المهملتين أي الشيء الكثير الذي لا تنقطع مادته وأصله في الماء يقال ماء عد إذا كانت له مادة غير منقطعة كماء العين والبئر (ما يقف) أي العد الذي يقف (دونه) أي ينقطع قبله والضمير للعد وقال الدلجي أي يقف دون كل منهما (العدّ) بالفتح أي الاحصاء والاستقصاء والعد أيضا العدد هذا ولما نسبت الكفار المسمى بالهدى إلى الضلال والردى وأن ما ينطق به إنما هو عن الرأي والهوى رد الله عليهم وكذبهم، (وأقسم جلّ اسمه) أي عظم كمسماه (على هداية المصطفى وتنزيهه) أي براءة ساحته وأغرب التلمساني حيث قال أي تعظيمه، (عن الهوى) أي فيما أخبر به للورى، (وصدقه فيما تلا) أي قرأ، (وأنّه) أي متلوه (وَحْيٌ يُوحَى أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ جِبْرِيلُ) أي عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى على خلاف في مرجع الضمير المنصوب هل هو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم، (وهو) أي جبريل (الشّديد القوى) من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي شديد قواه لأنه هو الواسطة في ابتداء خوارق العادة كاقتلاع قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصياحه صيحة واحدة لقوم ثمود فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ وقيل المراد به الحق جل جلاله يعني شديد القوى والقدرة والحكمة ونسب هذا القول إلى الحسن (ثمّ أخبر تعالى) أي بعد قسمه وبراءة ساحته (عن فضيلته بقصّة الإسراء) أي بقضية المعراج المبتدأ بعد الإسراء إلى المسجد الأقصى كما أشار إليه بقوله، (وانتهائه إلى سدرة المنتهى) أي بقوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى وهي عند أكثر المفسرين شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ينتهي إليها علم الخلائق،

ص: 99

(وتصديق بصره فيما رأى) أي بِقَوْلِهِ تَعَالَى مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى يعني ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ببصره من صورة جبريل أو من ذاته سبحانه أي ما كذب قبله بصره بما حكاه له فإن الأمور القدسية تدرك أولا بالقلب ثم بالبصر أو ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ولو قاله لكذب لأنه عرفه بفؤاده كإراءة بصره يقينا لا تخييلا إذ قد سُئِلَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي والجمع بين روايات المحدثين وقول المفسرين واختلاف الصحابة والتابعين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه مرتين مرة ببصره وأخرى ببصيرته هذا وقيل الضمير في رأى عائد على الفؤاد نفسه أي ما كذب الفؤاد ما رآه بل صدقه وتحققه والرؤية ههنا حينئذ بمعنى العلم وكذب بالتخفيف ككذب بالتشديد كما قرئ بهما، (وأنّه رأى من آيات ربّه الكبرى) أي بقوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي رأى ليلة الإسراء عند عروجه إلى السماء بعض آياته الملكية والملكوتية أو كلها فمن مزيدة والكبرى صفة للآيات، ((وقد نبّه) أي الله سبحانه وتعالى (على مثل هذا) أي رؤيته من آيات ربه (في أوّل سورة الإسراء) أي بقوله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا والأظهر أن قوله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا في المسجد الأقصى وقوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى في السموات العلى، (ولمّا كان ما كاشفه) أي الذي رآه عليه السلام أي برؤيته بمعنى اطلع عليه ورآه ابتداء لا بمعنى رفع غطاءه وإن زعم لأنه لو اراد هذا المعنى لقال وكشفه ولعدم مناسبته للمقام إذ لا يقال رفع غطاء ما هنالك (من ذلك الجبروت) بفتحتين فعلوت مبالغة من الجبر بمعنى القهر كالعظموت من العظمة والمراد أنه رأى ما يدل عليه إذ هو معنى المعنى لا يشاهد بالبصر الظاهر إلا أن تحمل الرؤية على رؤية البصيرة فالمراد بها العلم والمعرفة (وشاهده من عجائب الملكوت) مبالغة من الملك كالرهبوت من الرهبة والرحموت من الرحمة والمحققون على أن الملك ظاهر السلطنة والملكوت باطنها وقيل المراد بالملك العالم السفلي وبالملكوت العلوي (لا تحيط به العبارات) أي لا تشمله أنواع التعبيرات ولا تحويه أصناف التفسيرات لقصور الافهام عن إدراكه على وجه الحقيقة والجملة خبر كان (ولا تستقلّ) بتشديد اللام أي لا تستبد (بحمل سماع أدناه) أي أقله (العقول) لعجزها عن حمل أقله فضلا عن حمل أكثره (رمز) جواب لما أي أشار الله سبحانه وتعالى (عنه تعالى) أي عما كاشفه صلى الله تعالى عليه وسلم وأطلع عليه (بالإيماء) متعلق برمز ولعل الإيماء أغمض من الرمز في الإنباء من جهة الإخفاء كالإشارة بالعين والحاجب ونحوهما (والكناية) عطف على الإيماء والمراد بهما التلويح وترك التصريح بدليل قوله (الدّالة على التّعظيم) والحاصل أنه سبحانه وتعالى رمز وأومأ وكنى عما كاشفه بما المبهمة الدالة على الفخامة والعظمة (فقال فَأَوْحى

) أي جبريل أو الله تعالى (إِلى عَبْدِهِ

) أي عبده الخاص الواصل إلى مقام الاختصاص صلى الله تعالى عليه وسلم (ما أَوْحى

[النجم: 10] ) أي شيئا عظيما لا يعلم كنهه سواه ففي إبهامه من التفخيم ما ليس في إيضاحه وقيل المعنى فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحاه جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام

ص: 100

وقد قال بعضهم أوحى إلى عبده أن لا يدخل أحد من الأمم الجنة قبل أمته ولعل المعنى أن هذا من جملى ما أوحي إليه (وهذا النّوع) أي الرمز بالكناية والإيماء (من الكلام) أي من أنواعه (يسمّيه أهل النّقد) أي النظر السديد، (والبلاغة) أي الفصاحة والمراد العارفون بجيد الكلام وبهرجه تشبيها لهم بصيارفة الذهب والفضة (بالوحي والإشارة) أي هنا لعدم الصراحة بالموحى به والمشار إليه فهما اسمان لمعنى واحد إذ هما أحد ما صدقا به كالكناية والإلهام والكلام الخفي قد يتفاوت وضوحا وخفاء، (وهو) أي النوع المسمى بهما (عندهم أبلغ أبواب الإيجاز) أي من حيث إنه جوامع الكلم المشابهة لكونها مبهمة للألغاز حيث فيها مبان يسيرة ومعان كثيرة يذهب فيها الفكر كل مذهب يمكن الانصراف إليها هذا وقيل كل كلام إما ناقص عن معناه أو مساو له أو زائد عليه إيجازا أو مساواة أو إطنابا وأعلاها الأول من حيث إن المعاني هي المقاصد والعبارات طرق لها فكلما قلت العبارة كان ذلك كالقرب في الطريق فكان أحق بالسلوك ويليه المساواة في الاستحسان لاقتفائها له في القرب وأكثر صياغة العبارات مصوغة عليها والاطناب كالبعد في الطريق فتراه متروكا غالبا إلا فيما يحتاج إليه من باب الخطب والمواعظ ومقام التوكيد ولكل مقام مقال بحسب اختلاف الأحوال كما قال قائلهم:

يومون بالخطب الطوال وتارة

وحي الملاحظ حيفة الرقباء

(وَقَالَ: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] أي الدالات على عظمته تعالى (انحسرت الأفهام) جمع فهم وهو عبارة عن إزالة الوهم المستولي على القلب يقال فهم كذا إذا عقله والمعنى كلت العقول (عن تفصيل ما أوحى) أي إليه إذ لا يحيط به حد ولا يحصيه عد والمراد تفصيل الشيء بيان أجزائه مفصلة وأغرب التلمساني حيث فسره بالتميز، (وتاهت الأحلام) أي وذهبت العقول متحيرة (في تعيين تلك الآيات الكبرى) فلم تهتد إلى معرفة شيء منها لكثرتها وفي نسخة في تعبير تلك الآيات أي تبيينها وتفسيرها والعقل محله القلب لقوله تعالى فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها. (قال القاضي أبو الفضل) كذا في نسخة (واشتملت) أي دلت (هذه الآيات) أي السابقة (على إعلام الله) مصدر مضاف إلى فاعله أي على اخباره سبحانه وتعالى (بتزكية جملته) أي بتطهير ذاته وتنمية صفاته عليه السلام، (وعصمتها) أي ويحفظ الله جملته (من الآفات) أي التي تجري في الذوات (في هذا المسرى) بفتح الميم والراء مصدر ميمي أو اسم مكان (فزكّى فؤاده) أي مدح الله قلبه (ولسانه وجوارحه) أي أعضاءه التي يكتسب العمل بها وينتسب الفعل إليها والمراد هنا بصره لما سيجيء في بيان حصره (فقلبه) وهو تفصيل لما أجمله والظاهر كما في أصل الدلجي وغيره فزكى قلبه (بِقَوْلِهِ تَعَالَى مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى) وتقدم ما تعلق به من المعنى (ولسانه بقوله: تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] ) أي لا يصدر نطقه عن هواه بل بوحي

ص: 101

من الإله جليا كالكتاب أو خفي كالسنة وقد تعلق بظاهر الآية من لم يجوز له الاجتهاد وهو بعيد عن طريق السداد وعن استنباط المعنى المراد وأما ما ذكره ابن عطية من أن ضمير ينطق عائد إلى القرآن وإن لم يجر ذكره لدلالة الكلام عليه أي لا ينطق هذا القرآن بشهوتكم ومرادكم ونسب النطق إليه من حيث يفهم منه الأمور كلها قال تعالى هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ فغير ملائم لمقام المرام (وبصره بقوله: تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ) أي ما مال عما رآه إلى ما سواه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يحول بصره عما رآه إلى جهة من الجهات (وَما طَغى [النجم: 17] ) أي ما تجاوز وما تعدى عن رؤية ما أمر برؤيته غيره في المقام الأعلى بل تثبت فيه ورآه رؤية صحيحة مستقيمة من غير وجل ودهشة وحيرة هذا وقد بقي الكلام على بقية الآيات فيما بين ذلك وهو قوله سبحانه وتعالى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى فظاهره أن الضمير في استوى لجبريل عليه الصلاة والسلام والكناية بقوله تعالى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا مانع من عكس الترتيب في هذا التركيب ولا يبعد أن يكون الضمير أن يرجعان إلى أحدهما والجملة حالية وأما جعل الضميرين لله سبحانه وتعالى فهو غير ظاهر كما لا يخفى ثم قوله تعالى فَتَدَلَّى أي دنى جبريل من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فتدلى وزاد في القرب وقيل أي دنى محمد من ربه فتدلى وأما قوله تعالى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي مقدارهما بل أدنى فهو كناية عن كمال القرب فإن كان بين الرسولين فلا إشكال وإن كان بين الله ورسوله فهو كناية عن المكانة أو من الآيات المتشابهات وقد ذكرت بعض الفوائد المتعلقة بأوائل سورة النجم في رسالتي المعمولة للمعراج (وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)) أي بالكواكب الرواجع من خنس إذا تأخر وهي ما عدا النيرين وهو زحل المشتري والمريخ والزهرة وعطارد ومجموع السبعة السيارة نظمت في قوله:

زحل شرى مريخه من شمسه

فتزاهرت بعطارد أقمار

(الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير: 15- 16] ) أي السيارات التي تختفي تحت ضوء الشمس من كنس الوحش إذا دخل كناسه أي بيته (إلى قوله: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ [التكوير: 25] ) وهو كل متمرد من الجن والإنس والدوارب قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (لرجيم) أي مرجوم ومطرود ومبعد وما بينهما هو قوله سبحانه وتعالى وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أقبل أو أدبر والأول أنسب بقوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي أسفر قال المصنف (لا أقسم، أي أقسم) يعني على القول بزيادة لا وإلا فالمعنى فلا عبرة بما قالوا في حق القرآن وفي شأن المنزل عليه بل اقسم أي بما ذكر إِنَّهُ أي القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ أي قاله عن ربه كَرِيمٍ أي مكرم معظم، (عند مرسله) وهو الله سبحانه وتعالى ذِي قُوَّةٍ أي صاحب قوة وقدرة (على تبليغ ما حمّله) بتخفيف الميم على صيغة الفاعل وكذا يجوز بصيغة

ص: 102

المفعول مشددا وكذا بصيغة الفاعل على ما ضبطه في بعض النسخ (من الوحي) أي مما أوحي إليه من الحق إلى الخلق، (مكين) أي ذي مكانة ومنزلة عليه عارية عن المنقصة في مرتبته (أي متمكّن المنزلة) أي الجاه ولكون المكانة على حسب حال المتمكن قال عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ تلويحا بعظم مكانته ومنزلته وعلو مرتبته كما أشار إليه المصنف بقوله (من ربّه، رفيع المحلّ) بفتح الحاء وجوز كسرها أي على الشأن (عنده) أي عنده سبحانه وتعالى عندية منزهة عن المكان والزمان وقوله تعالى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ متعلق بقوله تعالى ذِي قُوَّةٍ أو بمكين (مطاع) أي ذي إطاعة مع كونه صاحب طاعة، (ثمّ) بفتح المثلثة (أي في السّماء) إذ قد بلغ فيها ليلة الإسراء ملائكة السماء فأطاعوه أجمع في ذلك الإنباء وقرئ بضم المثلثة فالمراد بها التراخي في الرتبة، (أمين على الوحي) أي مأمور على تحمل ما أوحى إليه وتبليغ ما أنزل عليه ومقبول القول لديه والظرف يحتمل وصله بما بعده وما قبله.

(قال: عليّ بن عيسى) أي الرماني النحوي المنسوب إلى زمان الفاكهة وبيعه أو لقصر الرمان موضع معرف بواسط وهو من أصحاب ابن دريد مات سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وهو صاحب كتاب النكت في إعجاز القرآن إمام مشهور في سائر العلوم وعن ابن السراج أنه تمذهب إلى الاعتزال والله تعالى أعلم بالحال، (وغيره) أي من أرباب المقال:(الرّسول الكريم) كان الأولى أن يقول رَسُولٍ كَرِيمٍ (هنا) أي في هذا المقام العظيم (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فجميع الأوصاف) أي المذكورة هنا (بعد) أي بعد ذكره وفي نسخة تعد بضم منقوطة بنقطين وفتح عين وتشديد مهملة أي تذكر (على هذا) أي على هذا القول (له) أي لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم. (وقال غيره) أي غير علي بن عيسى وهم الأكثرون من العلماء (هو) أي الرسول الكريم (جبريل فترجع الأوصاف إليه) أي بخلاف وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ فإن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع المفسرين وذلك أن المشركين قالوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فنفى الله سبحانه وتعالى عنه ذلك بهذه الآية وبقوله سبحانه وتعالى ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وقد تمسك بعض المعتزلة وطائفة من أهل السنة في تفضيل الملائكة لعده فضائل جبريل عليه الصلاة والسلام واقتصاره على نفي الجنون عنه صلى الله عليه وسلم وضعف بأن المقصود منه نفي قولهم إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ لأعد فضلهما والموازنة بينهما، (وَلَقَدْ رَآهُ) أي بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (يعني) أي يريد الحق سبحانه وتعالى بالرائي (محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم قيل) أي نقل عن ابن مسعود وغيره (رأى) أي محمد (ربّه) وقدم هذا القول لأنه أوفى بالغرض الذي هو مدح الرسول، (وقيل رأى) أي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (جبريل في صورته) أي التي خلق عليها فقيل إن ذلك إشارة إلى رؤيته إياه عند سدرة المنتهى وقيل إنه إشارة إلى رؤيته إياه في غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض حسبما ثبت في الصحيح، (وما هو) أي ليس النبي صلى الله عليه وسلم (على الغيب) أي على ما يخبر به مما أوحي إليه

ص: 103

وغيره من الأمور الغيبية (بظنين) بالظاء المشالة وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، (أي بمتّهم) يعني من الظنة وهي التهمة، (وَمَنْ قَرَأَهَا بِالضَّادِ فَمَعْنَاهُ مَا هُوَ بِبَخِيلٍ) أي في تبليغ رسالته إلى عموم أمته من الضنة وهي البخل (بالدّعاء به) متعلق ببخيل أي بدعائه الخلق إلى الحق وفي رواية كما في نسخة بالدعاية بالتحتية كالبداية وقيل هي من الادعاء إذا قال في الحرب أنا فلان كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة حنين أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، (والتّذكير بحكمه) أي وبتذكيرهم بأحكام ربهم (وبعلمه) يحتمل أن يعود ضميره إلى الحكم أي وليس ببخيل بعلم كونه واجبا أو مندوبا أو حراما أو مكروها أو مباحا لهم ويحتمل عوده إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أي ولا يبخل أن يعلمهم إياه كما علمه ولا يكتم شيئا (وهذه لمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وهذه الآية وهي وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ على القراءتين صفة لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم (باتّفاق) أي من المفسرين إذ لم يقل أحد بعود ضمير هو إلى جبريل عليه الصلاة والسلام، (وقال تعالى: ن) اسم للحرف أو الحوت وأريد به الجنس أو للحوت الذي عليه الأرض أو للدواة فإن بعض الحيتان يخرج منه شيء أشد سوادا من الحبر يكتب به وينصر الأول سكونه ورسمه بصورة مسماه ويؤيد الثاني قوله تعالى وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وحينئذ فالأنسب أن يراد به ذلك الحوت بعينه أو المراد جنسه الداخل فيه ويقوي الثالث قوله تعالى (وَالْقَلَمِ [القلم: 1] ) وهو ما كتب به اللوح المحفوظ أو ما يكتب به مطلقا (وما يسطرون) أي يكتبون والكتبة هم الحفظة كراما كاتبين أو الأعم والله أعلم (الآيات) أي الواردة في أول السورة في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم من حسن السيرة والصورة (أقسم الله تعالى بما أقسم به) لكثرة فوائده (من عظيم قسمه) أي تعظيما له وتكريما في تخصيص ذكره (على تنزيه المصطفى) أي تبرئته وتبعيده (ممّا غمصته) بمعجمة ومهملة بينهما ميم أي عابه واحتقره (الكفرة به وتكذيبهم له) أي وعلى تكذيبهم للمجتبي في قولهم له أنه كذاب وساحر ومجنون (وآنسه) من باب الأفعال أو التفعيل أي جعله ذا أنس بقربه ومستأنسا بحبه (وبسط أمله) أي نشر مأموله ومقصوده وأكثر له رجاءه فيما شاءه (بقوله محسنا) من باب التفعيل أو الأفعال حال من ضمير ما قبله أي مزينا (خطابه) في كتابه بقوله (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] ) جواب القسم في الآية ومقول القول في الأصل أي ما أنت بمجنون منعما عليك بالنبوة وغيرها والمعنى أنهم مجانين حيث قالوا إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ والحال أنك أعقل العقلاء وافضل العلماء وأكمل العرفاء وسيد الأنبياء وسند الأصفياء والأولياء (وهذه) أي الحالة العظيمة أو المنقبة الجسيمة المأخوذة من قوله آنسه وبسط أمله أو التأنيث باعتبار الخبر وهو قوله (نهاية المبرّة في المخاطبة) أي غاية الإحسان والمطاوعة في المكالمة والمجاوبة (وأعلى درجات الآداب في المحاورة) أي المراجعة والمراددة (ثمّ) أي بعد أن نزهه وبرأه عما لا يليق به مما نسبوا إليه (أَعْلَمَهُ بِمَا لَهُ عِنْدَهُ مِنْ نَعِيمٍ دَائِمٍ) أي أبد الآبدين (وثواب غير منقطع) أي غير ممتنع في زمان

ص: 104

وحين (لا يأخذه عدّ) أي لا يضبطه عد ولا يحيط به حد (ولا يمنّ به عليه) من الامتنان أي ولا يجعله تحت الامتنان مع أن له المنة في الإحسان افتعال من المن وهو الإحسان الذي تمن به على غيرك وفي نسخة ولا يمن به عليه يقال من وأمتن عليه إذا عد عليه بمعروف اسداه إليه صنعه وقيل الامتنان عد الصنيع لإظهار الفضل، (فقال، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي غير منقطع أو غير ممنون به عليك فإنه يعطيك بلا واسطة، (ثمّ أثنى عليه بما منحه) أي أعطاه (من هباته) جمع هبة أي موهوباته وتفضلاته، (وهداه إليه) أي ودله عليه والحاصل أن المصنف رحمه الله تعالى جمع بين أقوال المفسرين في معنى قوله غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير منقطع وهو قول الأكثر أو غير محسوب ولا معدود وهو قول طائفة أو غير ممتن به وهو قول ضعيف ذكره الهروي في غريبه، (وأكّد ذلك) أي الذي يدل على ما منحه (تتميما للتّمجيد) من المجد وهو الكرم والعظمة أي تكميلا للتعظيم والتكريم بنسبته إليه (بحرفي التّوكيد) وهما ان واللام (فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: 4] ) قيل استعظمه لفرط احتماله أذى قومه مع مبالغتهم في عداوتهم وهو يقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون (قيل) أي في تفسير خلقه العظيم (القرآن) أي ما فيه من مكارم الأخلاق ومن ثم قيل هو ما أمره الله بقوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في تفسيره صل من قطعك وأعط من حرمك وأعف عمن ظلمك وهذا القول هو المروي عن عائشة رضي الله عنها أنها لما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَرْضَى بِرِضَاهُ وَيَسْخَطُ بِسُخْطِهِ، (وقيل الإسلام) وهو المنقول عن ابن عباس والمراد بالإسلام ههنا هو التوحيد الحقيقي والانقياد الظاهري والباطني لأوامر الله وأحكامه وقضائه وقدره كما قال تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، (وقيل الطّبع الكريم) ولذا كان يخالق الناس بمكارم الاخلاق ويخالطهم بلطفه وارفاقه وهو المنقول عن الماوردي، (وقيل ليس لك همّة) أي مقصد ونهمة (إلّا الله) أي الذي بيده كل رحمة ونعمة فكان مع الخلق بقالبه مباينا لهم بقلبه وهذا منسوب إلى الجنيد. (قال الواسطيّ أثنى عليه بحسن قبوله) أي أثنى الله على نبيه بقبوله الحسن (وحسن إقباله) أي ذي المنن (لما أسداه إليه من نعمه) أي لما أوصله إليه وأولاه من نعمه الظاهرة والباطنة في دنياه وأخراه (وفضّله بذلك) أي بما ذكر (على غيره) أي من جميع خلقه (لأنّه جبله) أي طبعه وخلقه (على ذلك الخلق) وفي نسخة على تلك الخلق فالخلق بمعنى الخصلة أو السجية (فسبحان اللّطيف) أي بعباده يرزق من يشاء (الكريم) أي الذي وسع كرمه كل شيء (المحسن) أي الذي لا يستغني أحد عن إحسانه وبره وامتنانه (الجواد) أي الكثير العطاء والجود بالنسبة إلى كل موجود (الحميد) الذي يحمده كل أحد من مخلوقاته وهو حامد لأنبيائه وأصفيائه القائمين بوظائف طاعاته وعباداته وفي أصل الدلجي المجيد أي ذي المجد والكرم ففي الحديث القدسي والكلام الأنسي وذلك أني جواد ماجد رواه الترمذي والبيهقي (الذي يسّر الخير) أي سهله وفي نسخة

ص: 105

للخير أي هيأ إهلاله كما قال تعالى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (وهدى إليه) أي ودله عليه كما قال تعالى وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (ثمّ أثنى على فاعله) أي فاعل الخير نحو قوله تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (وجزاه عليه) أي أثابه بما منحه عليه في الدنيا ووعد له بالمزيد في العقبى بنحو قوله تعالى إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ هذا (سبحانه) اسم للتسبيح بمعنى التنزيه وقد يجعل علما له فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف ثم نصبه بفعل ترك إظهاره ويصدر به الكلام للتنزيه عن السوء والملام فهذا أيضا معنى قوله (سبحانه) بدلا مما قبله (ما أغمر) بالغين المعجمة فميم وراء في نسخة ما أعم (نواله) بفتح النون والصيغة للتعجب أي ما أكثر عطاءه (وأوسع إفضاله) بكسر الهمزة أي بره وإحسانه (ثمّ سلّاه) من التسلية وهي التعزية والتهنئة والمعنى أزال عنه ما حز به من الغم وكربه من الهم (بعد هذا) أي بعد هذا المدح والثناء ووعد البر والعطاء وأبعد الدلجي حيث قال أي بعد ما قالوه (عن قولهم) متعلق بسلاه أي عن مقول الكفار في حقه مما لا يليق بجنابه وهو في أصل الدلجي متصل بسلاه وقوله بعد هذا (بما وعده به من عقباهم) بضم العين أي من سوء عاقبتهم الذي هو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين وفي نسخة من أعقابهم أي عذابهم وحجابهم (وتوعّدهم) أي وبما أوعدهم وخوفهم (بقوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)[القلم: 5] . الثّلاث الآيات) أي إلى قوله تعالى وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وهو منصوب بأعني أو أقرأ ويجوز رفعه وخفضه كما تقدم والضمير في فستبصر للنبي صلى الله عليه وسلم وفي ويبصرون للكفار وهذا الإبصار إما في هذه الدار وإما في دار القرار للأبرار وفي دار البوار للفجار والمعنى فستر أو فستعلم ويبصرون بأيكم المفتون أي أيكم الذي فتن بالجنون والباء مزيدة أو بأيكم الجنون على أن المفتون مصدر بمعنى الفتنة كما قالوا ليس له معقول أي عقل ما فالمعنى بأيكم الفتنة وهي كناية عن الفساد والجنون الذي رموه به أو بأي الفريقين الجنون ابفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم فالباء على هذا ظرفية وخلاصته في أي فريق منكم الرجل المفتون ثم ختم الله سبحانه تعالى الآية بوعيدهم ووعد نبيه صلى الله عليه وسلم فأوعدهم بقوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ووعده بقوله تعالى وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فكأنه قال هو أعلم بالمجانين على الحقيقة واليقين وهو أعلم بالمهتدين بحيازتهم كمال العقل في الدين (ثمّ) أي بعد أن مدحه الله وسلاه متوعدا إياهم (عطف) أي التفت وكر (بعد مدحه على ذمّ عدوّه) قيل هو الأخنس بن شريق وكان ثقيفا ملصقا في قريش والأظهر أنه الوليد بن المغيرة ونقل الثعلبي في تفسيره أنه أبو جهل ونسب هذا إلى ابن عباس رضي الله عنهما أيضا وقيل هو عتبة بن ربيعة وكثير الله من المفسرين على أن جميع الصفات التي في هذه الآيات إنما جاءت أجناسا ولم يرد بها رجل بعينه بل المراد أن كل من يكون متصفا بوصف منها فلا تطعه فيها (وذكر سوء خلقه) أي وعلى ذكر سوء خلق عدوه، (وعدّ معايبه) أي وعلى تعداد قبائح مبغضه (متولّيا) أي مباشرا بنفسه (ذلك بفضله) أي من غير وجوب شيء عليه (ومنتصرا لنبيّه صلى الله

ص: 106

تعالى عليه وسلّم) أي منتقما لأجله من أعدائه (فذكر) أي الله سبحانه وتعالى في كلامه بعد ذلك (بضع عشرة) بسكون الشين وتكسر وروي بضعة عشر (خصلة) بفتح الخاء أي خصلة قبيحة وخلة ذميمة والبضع بفتح الموحدة ويكسر ما بين الثلاث إلى التسع وهذا هو المشهور وأراد المصنف إحدى عشرة خصلة وهذا على قول من يقول بدؤه الواحد ومنتهاه العشرة لأنه قطعة من العدد ويجري في التذكير والتأنيث مجرى العدد المركب (من خصال الذّمّ فيه) أي من بعض الخصال المذمومة في عدوه (بقوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم: 8] ) تهييج لتصميمه على معاصاتهم (إلى قوله: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [القلم: 15] ) وهو قوله وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ أي لو تلين فتدع نهيهم عن الشرك فيميلون أيضا إليك في بضع ما تدعوهم إليه وذلك أن قريشا قالوا في بعض الأوقات لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو عظمت آلهتنا لعبدنا إلهك وعظمناه فنهاه الله عن ذلك بقوله فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ أي كثير الحلف حقا وباطلا وكفى به زاجرا لمن اعتاد الحلف حيث يخاف عليه من الكذب كما ورد كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع مهين أي ذي مهانة وحقارة وحاصله أنه ضعيف وحقير ووزنه فعيل لا مفعول والميم أصلية لا زائدة هماز عياب في أعراض الناس مشاهدة مغتاب في حقهم غيبة مشاء بنميم نقال للحديث على وجه السعاية للفساد والنمم مصدر كالنميمة وهو نقل القبائح مناع للخير أي كثير المنع منه فقيل المراد بالخير هو المال فعلى هذا هو وصف بالشح وقيل بل هو على عمومه في المال وجميع أفعال الخير والخصال معتد متجاوز في الظلم أثيم كثير الإثم عتل جاف غليظ من عتله أي دفعه بعنف وشدة بعد ذلك أي بعد ما عد من مثالبه ومعايبه زنيم أي دعي كالوليد بن المغيرة ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده قيل إن الله سبحانه وتعالى لا يعيب أحدا بالأنساب ولكن ذكره ليعرف بذلك وما أحسن قول حسان:

وأنت زنيم نيط في آل هاشم

كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

إن كان ذا مال وبنين علة لما بعده وقرأ حمزة وشعبة بهمزتين فالتقدير الآن كان ذا مال كثير وبنين متعددة قيل كانوا عشرة وقيل اثني عشر إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي قال ذلك حين تليت عليه والأساطير جمع اسطورة بضم الهمزة كأحدوثة وأحاديث وقيل الأساطير جمع اسطار والاسطار جمع سطر بفتح الطاء كذا في حاشية المنجاني وفي القاموس السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر وغيره وجمعه اسطر وسطور واسطار وجمع الجمع اساطير والخط والكتابة ويحرك في الكل انتهى وأراد الكافر به الاباطيل المنسوبة إلى المتقدمين وقائله النضر بن الحارث وسببه أنه دخل بلاد فارس وتعلم أخبار رستم وغيره (ثمّ ختم) أي الله سبحانه (ذلك) أي ما ذكره من مثالب ذلك الشقي (بالوعيد الصّادق) وفي نسخة بالوعيد الصدق (بتمام شقائه) أي تعبه أو كمال شقاوته (وخاتمة بواره) أي هلكه ودماره

ص: 107