الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [في تفضيله بالمحبة والخلة]
(في تفصيله بالمحبّة والخلّة) بضم المعجمة وتشديد اللام وسبق فيهما الكلام وسيأتي ما يتحقق به المرام في هذا المقام (جاءت بذلك) أي بتفصيل تفضيله (الآثار الصّحيحة) أي من الأخبار الصريحة (واختصّ بصيغة المفعول أو الفاعل (صلى الله تعالى عليه وسلم على ألسنة المسلمين بحبيب الله) يعني وألسنة الخلق أقلام الحق لا سيما وهذه الأمة لا تجتمع على الضلالة مع كونه جاء صريحا في بعض الأحاديث بأنه حبيب الله. (أنا) أي أخبرنا (أبو القاسم بن إبراهيم الخطيب) هو الإمام المقري يعرف بابن النخاس بالخاء المعجمة المشددة (وغيره) أي وغير أبي القاسم أيضا من المشايخ (عن كريمة) بفتح الكاف وكسر الراء هي الحرة الزاهدة (بنت أحمد) أي ابن محمد بن حاتم المروزي سمعت جامع البخاري من الكشميهني وسمعت زاهد بن أحمد السرخسي وحدثت كثيرا وكانت مجاورة بمكة إلى أن ماتت رحمها الله كذا ذكره الأمير في إكماله على ما نقله الحلبي فما في بعض النسخ بنت محمد غير صحيح (ثنا) أي حدثنا (أبو الهيثم) أي الكشميهني (وحدّثنا) بالواو الدالة على تحويل السند وفي أصل الحلبي وأخبرنا (حسين بن محمّد الحافظ سماعا عليه) هو ابن سكرة. (حدّثنا القاضي أبو الوليد) أي الباجي (حدّثنا عبد بن أحمد) بالوصف لا بالإضافة هو أبو ذر الهروي (حدّثنا أبو الهيثم) أي الكشميهني (حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) أي الفربري (حدّثنا محمّد بن إسماعيل) أي الإمام البخاري (حدّثنا عبد الله بن محمّد) الظاهر أنه المسندي ومستنداته أنه من طلبة أبي عامر وإلا فقد روى البخاري عن أربعة كل منهم اسمه عبد الله بن محمد على ما ذكره الحلبي وقال الكلاباذي هو عبد الله بن محمد بن جعفر بن السمان أبو جعفر المعروف بالمسندي لأنه كان وقت طلبه يتتبع الأحاديث المسندة ولا يرغب في المقاطيع والمراسيل (حدّثنا أبو عامر) أي عبد الملك بن عمرو بن قيس أي العقدي بفتح العين والقاف بصري أخرج له الستة (حدّثنا فليح) بضم الفاء وفتح اللام فمثناة تحتية ساكنة فحاء مهملة ابن سليمان العدوي مولاهم المدني واسمه عبد الملك ولقبه فليح محتج به في الصحيحين وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي ليس بالقوي اخرج له الأئمة الستة (حدّثنا أبو النّضر) بالضاد المعجمة هو سالم بن أبي أمية المدني التابعي (عن بسر) بضم موحدة وسكون سين مهملة (بن سعيد) أي ابن الحضرمي المدني الزاهد مات ولم يخلف كفنا (عن أبي سعيد) أي الخدري (عن النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خليلا غير ربّي لاتّخذت أبا بكر) أي خليلا والمعنى جعلته مخصوصا بالصداقة والمحبة وهو فعيل من الخلة بالضم وهي الصداقة التي تتخلل باطن القلب فالخليل الصديق الواد فعيل بمعنى الفاعل كما في هذا الحديث وإنما قال ذلك لقصر خلته على حب ربه وربما ورد بمعنى مفعول وهو المناسب لقوله. (وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ) كما سيأتي مصرحا في حديث
ابن مسعود وربما يفرق بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين إبراهيم عليه السلام بهذا التغاير في المعنى مع الاشتراك في المبنى والحديث الأول رواه البخاري في فضل أبي بكر وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي أيضا (وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما) كما رواه الدارمي والترمذي عنه، (قال جلس ناس) أي جمع (من أصحاب النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ينتظرونه) أي خروجه إليهم ووصوله لديهم رجاء إنزال فيضه عليهم. (قال فخرج) أي من مقامه متوجها لهم (حتّى إذا دنا منهم) أي قرب (سمعهم) وفي رواية فخرج سمعهم أي حال كونه قد سمعهم (يتذاكرون) أي متذاكرين كلاما فيما بينهم (فسمع حديثهم) أي فحققه وفهمه (فقال: بعضهم عجبا) أي تعجبا (إنّ الله) بالكسر أو تعجب عجبا أن الله بالفتح (اتّخذ إبراهيم من خلقه خليلا) أي كما أخبره تعالى وقد سقط لفظ إبراهيم من أصل الدلجي فقال يريد إبراهيم عليه السلام، (وقال آخر) أي بعض أو صحابي آخر (ماذا) أي ليس هذا وهو اتخاذ الله إبراهيم خليلا (بِأَعْجَبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا) أي كما أخبر تعالى، (وقال آخر فعيسى كلمة الله وروحه) الفاء فصيحة أي إذا ذكرتم خليل الله وكليمه في مقام الافتخار فاذكروا عيسى فإنه كلمة الله خلقه بأمركن من غير أب أو إضافته للتشريف أي كلمته مقبولة عنده سبحانه ودعوته مستجابة لديه وهو روح مجرد من عند ربه نفخ فيه بغير واسطة أو رحمة منه، (وقال آخر آدم اصطفاه الله) في أصل خلقته من غير واسطة من أب وأم في فطرته وجعله أبا البشر وجد الأنبياء والاصفياء وذكره في كتابه بوصف الاجتباء وحاصل كلامهم أنه يتوهم من هذه الأوصاف لهم أنهم أفضل من نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم حيث ما بلغهم صريحا أنه اختص ببعض المقامات العاليات كما يشير إليه قوله تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ (فخرج عليهم) أي وصل إليهم (فسلّم) فتكراره ليناط به غير ما نيط به أولا أو خرج أولا من مكان إلى آخر فسمع قولهم مارا ثم خرج منه وسلم عليهم (وقال:
«قد سمعت كلامكم) أي في تخصيص بعض الرسل ببعض الفضائل (وعجبكم) أي وإظهار تعجبكم باختصاصهم ببعض الشمائل كما بينه قوله (بأنّ الله) الخ وتكلف الدلجي حيث قدر له عاملا بقوله أي أدركت عجبكم وجعله من قبيل قلدته سيفا ورمحا وعلفتها تبنا وماء باردا وتبعه الأنطاكي ورأيت بخط قطب الدين عيسى الصفوي أنه لا حاجة إلى هذا التكلف فإن المراد سماع ما يدل على تعجبهم هذا وفي نسخة صحيحة إن الله وهي بكسر الهمز أو بفتحه (اتّخذ إبراهيم خليلا، وهو كذلك) أي خليله أو اتخاذه محقق (وموسى نجيّ الله) أي كما قال الله تعالى وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا من المناجاة وهي المكالمة سرا (وهو كذلك) أي نجيه أو أمره كذلك، (وعيسى روح الله وهو كذلك) أي ذو روح منه خلقه بلا واسطة أب (وآدم اصطفاه الله) أي اجتباه (وهو كذلك) بمعنى صفيه بالنبوة والرسالة كما قال الله تعالى اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ (ألا) أي تنبهوا لخصائصي مع اشتراكي معهم في الاصطفاء كما
قال (وأنا حبيب الله) بمعنى محبوبه الذي هو أخص من كل مرتبة ومقام عند ربه (ولا فخر) أي ولا أقوله فخرا بل تحدثا بنعمته شكرا (وأنا حامل لواء الحمد) كما قال في حديث آخر وآدم ومن دونه تحت لوائي (يوم القيامة) أي في المحشر الأكبر في المقام المحمود الذي يحمده الأولون والآخرون (ولا فخر) أي إلا بقربي لربي (وأنا أوّل شافع) أي في الشفاعة العظمى أي كل مرتبة من مراتب الشفاعات الحسنى (وأوّل مشفّع) أي مقبول الشفاعة (ولا فخر) أي بالنسبة إلى ما لي من الذخر، (وأنا أوّل من يحرّك حلق الجنّة) بفتح الحاء واللام وبكسر أوله أي حلق بابها (فيفتح الله لي) أي بأمره لرضوان الجنة بأن يفتح لي كما في رواية (فيدخلنيها) أي الله بفضله وكرمه كما قال إلا أن يتغمدني الله برحمته (ومعي فقراء المؤمنين) أي بعمومهم على تفاوت مراتبهم مقدمون على أغنيائهم على اختلاف أحوالهم وهو لا ينافي ما ورد بلفظ ومعي فقراء المهاجرين لأنهم أفضل فقراء المؤمنين ووقع في أصل الدلجي ما يخالف الأصول المعتبرة (ولا فخر) أي بهذا أيضا لأنه ورد في الحديث القدسي والكلام الأنسي أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، (وأنا أكرم الأوّلين والآخرين) أي من الخلائق أجمعين وهذا فذلكة الكلام ونتيجة المرام (ولا فخر) أي في هذا المقام أيضا إذ الفناء عن السوي والبقاء في حضرة اللقاء هو المقام الأسنى والحاله الحسنى (وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي من أحاديث الاسراء (من قول الله تعالى) وفي نسخة في قول الله أي في جملة قوله سبحانه وتعالى (لنبيّه صلى الله تعالى عليه وسلم إنّي اتّخذتك خليلا) أي كما اتخذت إبراهيم فجمع له بين كونه خليلا وحبيبا فله في المزية زيادة مرتبة المحبوبية كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ أي يحصل لكم حظ من المنزلة المحبوبية بواسطة المتابعة المطلوبية ويؤيده قوله (فهو مكتوب في التّوراة ليس) كذا في نسخة صحيحة من غير ضبط على هذه الصورة وهي ألف بعدها سين مهملة ثم جرة وفي بعض النسخ مكتوب بإزائها على الطرة ذكر ابن جبير بخطه في كتابه أن هذه اللفظة وقعت في الأم المبيضة بخط المؤلف كما هي هنا مبهمة فحكيتها كما وقعت ذكره الشمني ولا يبعد أن يكون بالتاء الفوقية في آخر الكلمة وهي للربط في الجملة بالفارسية وفي نسخة ضبط بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وضم الموحدة وقيل بفتح الهمزة وسكون السين وضم المثناة فوق ولعلها كلمة سريانية بقرينة ذكرها في التوراة أي أنت كما في نسخة (حبيب الرّحمن) وفي نسخة أحمد حبيب الرحمن ولعله مدلولها هذا وقد قال الأنطاكي كذا وقع في النسخ خليلا ولعله مصحف فقد تقدم حديث أبي هريرة هذا في فصل ذكر تفصيله عليه الصلاة والسلام بما تضمنته كرامة الإسراء ولفظ الحديث هنالك قد اتخذتك حبيبا قال وأيضا لفظ الحبيب هنا أنسب بآخر الحديث وهو قوله أنت محمد حبيب الرحمن قال ثم إني وقفت على نسخة قديمة قد كان اللفظ فيها أولا إني اتخذتك حبيبا ثم غيرته أيدي التحريف فصيرته خليلا وعلامة الإهمال
تحت الخاء كانت باقية فيها بعد والله يعلم المفسد من المصلح قلت حمل جميع النسخ على التصحيف بعيد عن صوب الصواب وميل إلى التحريف لا سيما والنسخة القديمة أيضا ظهرت سقيمة وصحت سلمية هذا من جهة المبنى وأما من حيثية المعنى فلا شك أن التأسيس أولى من التأكيد مع ما في مغايرة العبارة من الإشارة إلى الجمع بين النعتين الجليلين والوصفين الجميلين ثم الظاهر أن هذا رواية أخرى عن أبي هريرة لمغايرة الفاظهما في المحلين من الكتاب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) كذا في الأصول المعتبرة ووقع في أصل الدلجي هنا فصل (اختلف) بصيغة المجهول وفي نسخة اختلفوا (في تفسير الخلّة) بالضم (وَأَصْلِ اشْتِقَاقِهَا فَقِيلَ الْخَلِيلُ الْمُنْقَطِعُ إِلَى اللَّهِ) أي المعرض عما سواه يزيادة نعته بأنه (الَّذِي لَيْسَ فِي انْقِطَاعِهِ إِلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ اختلال) أي نقص وخلل لديه فعليه اشتقاقه من الخلال وهو وسط الشيء فإن الود يتخلل النفس ويخالطها بحيث لا يختل بحصول خلل فيه حال خلاله وفي هذا المعنى قوله تعالى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا وقوله سبحانه وتعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ (وقيل الخليل المختصّ) أي بوصف الخلة سواء كان مشتقا من الخلة بضم الخاء كما سبق أو من الخلة بالفتح بمعنى الفقر والحاجة من الخل إذ كل خليل محتاج إلى أن يسد خلل خليله وفي الحديث اللهم ساد الخلة أي الحاجة والفاقة أو من الخلة بمعنى الخصلة فإنهما يتوافقان في الخصال كما ورد المرء على دين خليله وقيل هو المختص بخلافة مولاه والذي اختصه الله تعالى فجعله من خلاصة عباده وسلالة عباده ولكن لا يظهر وجه الاشتقاق في هذين القولين وإن كان الدلجي ذكرهما واقتصر عليهما ثم رأيت الأنطاكي قال المختص يعني بالصداقة والمحبة يقال دعا فلان فخلل أي خص (واختار هذا القول) أي الأخير (غير واحد) أي كثير من الأخيار، (وقال بعضهم أصل الخلّة) بالضم (الاستصفاء) أي الاختيار من الصفوة أو الصفاء أي يختار كل خليل رضى خليله أو يصفو معه في كل حالة كخليله (وَسُمِّيَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلَ اللَّهِ لِأَنَّهُ يُوَالِي فِيهِ ويعادي فيه) أي يحب في الله ويبغض في الله أو لابتغاء رضاه ليس له غرض سواه ففي البخاري الحب في الله والبغض في الله من الإيمان أي من كماله، (وخلّة الله له) أي لإبراهيم (نصره) أي على عدوه (وجعله إماما لمن بعده) كما قال تعالى إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فلم يبعث نبي بعده إلا كان من ذريته مأمورا باتباع ملته قال الدلجي وفي نسخة وجعله أمانا لمن بعده بشهادة أجعل هذا بلدا آمنا والظاهر أنه تصحيف وتوجيهه تحريف (وقيل الخليل أصله الفقير المحتاج المنقطع) أي عن الأعوان والإخوان أو عما سوى الله تعالى في الأكوان (مأخوذ من الخلّة) بفتح الخاء (وهي الحاجة) أي شدتها الملحئة إلى الفافة (فسمّي بها) أي بالخلة يعني بالاتصاف بها في إطلاق الخليل ووقع في أصل الدلجي به بالضمير المذكر وهو واضح دراية لو ثبت رواية أي فسمي بالخليل (إبراهيم لأنّه قصر حاجته) أي حصرها (على ربّه) أي على طلبها من ربه أو على حصول قربه ليس له مأمول غيره في قلبه ويؤيده قوله (وانقطع إليه بهمّه) أي بهمته ونهمته وعزيمته ونيته
أو المراد بالهم ما يهمه ويغمه لقوله (ولم يجعله) أي همه (قبل غيره) بكسر القاف وفتح الموحدة أي عند غيره والمعنى لم يكل همه إلى أحد غيره إذ ليس للغير أثر وجود في نظره وكان هذا حال الخليل في المقام الجليل (إذ جاءه جبريل وهو في المنجنيق) بفتح الميم والجيم وقيل بكسر أوله لأنه آلة للرمي ويؤيد الأول ما في كتب اللغة أنها هي آلة ترمي بها الحجارة معربة وأصلها بالفارسية «من جه نيك» أي ما أجودني ويقال جنق إذا رمى بالمنجنيق قالوا كنا نجنق مرة ونرشق أخرى (ليرمى به في النّار) بصيغة المجهول (فَقَالَ أَلَكَ حَاجَةٌ قَالَ أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا) وزيد في رواية فقال فاسئل ربك قال حسبي من سؤالي علمه بحالي؛ (وقال أبو بكر بن فورك) بضم الفاء وفتح الراء غير منصرف وقد ينصرف (الخلّة) بالضم (صفاء المودّة) أي خلوص المحبة التي لا يتخللها نوع من المخالفة (التي توجب الاختصاص) أي في حالتي المسرة والمضرة من المحبوب للمحب وعكسه (بتخلّل الأسرار) بفتح الهمزة جمع سر أي يدخل في قلوب الأخيار وصدور الاحرار والجملة حالية ولو قرئت بالباء الجارة وصيغة المصدر لكان له وجه وجيه (وقال بعضهم أصل الخلّة المحبّة) أي مطلقا في اللغة (ومعناها) أي مؤداها (الإسعاف) بكسر الهمزة أي انجاز الحاجة بلا مهلة (والإلطاف) بالكسر أي الاعانة على وجه اللطافة (والتّرفيع) أي رفعه على نفسه في مقام أنسه وهو معنى قول بعضهم الترفيع التعظيم والتكريم (والتّشفيع) أي قبول شفاعته وحصول رعايته؛ (وقد بيّن) أي الله تعالى (ذلك) أي هذا المعنى (في كتابه) أي في مفهوم المبنى (بِقَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ) أي اتباع ابنيه عزيز والمسيح على حذف المضاف المقدر أو نزلوا أنفسهم منزلتهما في المقام المعتبر فتدبر وكذا قوله (وَأَحِبَّاؤُهُ) أي محبوبوه أو محبوه ويلزم كونهم محبيه للملازمة الغالبية في نسبة المحبية والمحبوبية كما يشير إليه قوله سبحانه يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة: 18] ) أي إن صح ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم إذ من كان بهذه المثابة لا يعذب بهذه المثابة وقد عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ والأصر وسيعذبكم في النار الموقدة باعترافكم أياما معدودة (فأوجب) أي الله بطريق الإشارة المفهوم من العبارة (للمحبوب أن لا يؤاخذ) بفتح الخاء أي لا يعاقب (بذنوبه) وإن كان قد يعاتب بعيوبه فالحبيب لا يعذب حبيبه بالنار والوالد لا يرمي ولده في العار (قال) أي الله سبحانه وتعالى (هذا) أي هذا الكلام أو قال ذلك البعض خذ هذا أو الأمر هذا أو هذا كما ذكر (والخلّة أقوى) أي في النسبة (من النبوّة) بتقديم الموحدة على النون وضمهما وتشديد الواو (لأنّ النبوّة قد تكون فيها) أي يوجد معها (العداوة) أي الموجبة للمخالفة (كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ) أي بعضهم (عَدُوًّا لَكُمْ) بالمخالفة الدينية أو الدنيوية (فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] ) أي عن المخالطة والمغالطة (الآية) أي وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عَدَاوَةٌ مَعَ خِلَّةٍ) أي مع صداقة على الحقيقة فإنهما ضدان لا يجتمعان على وجه الكمال نعم قد توجد
عداوة من حيثية وصداقة من حيثية كمحبة ولد عاق وعداوة والد جاف وعلى هذه الحالة مدار معاشرة العامة بل ومداراة الخاصة (فإذا) بالتنوين أي فحينئذ (تسمية إبراهيم ومحمّد) وفي نسخة تسميته أي تسمية الله إبراهيم ومحمدا عليهما الصلاة والسلام (بالخلّة إمّا بانقطاعهما إلى الله) أي بالكلية (ووقف حوائجهما عليه) أي حتى في الأمور الجزئية (والانقطاع عمّن دونه) أي في الأحوال الظاهرية (والإضراب) أي الإعراض والانصراف (عن الوسائط والأسباب) أي في الخواطر السرية كما قال أرباب الإشارات التوحيد إسقاط الاضافات (أو لزيادة الاختصاص منه تعالى لهما) أي من بين الأنبياء والاصفياء (وخفيّ إلطافه) بفتح الهمزة أي ولزيادة الطافه الخفية (عندهما) أي من أخفى الشيء إذا ستره لا من خفيته بمعنى أظهرته وحديث خير الذكر الخفي يحتملهما على ما ذكره الدلجي لكنه بمعنى الظهور بعيد كما لا يخفى نعم لو قيل المعنى هنا ظهور الطافة لظهر له وجه وفي نسخة وحفي بالحاء المهملة وكسر همزة الطافه أي ولزيادة مبالغة في إكرامه من حفي إذا بالغ في الإكرام واستقصى عن سؤال المرام ومنه قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها ومنه أيضا حديث أن امرأة دخلت عليه عليه الصلاة والسلام فسألها فأحفى وقال إنها كانت تأتينا في زمن خديجة وأن كرم العهد من الإيمان (وما خالل) أي خالط وباشر (بواطنهما من أسرار إلهيّته) أي وأنوار صمديته (ومكنون غيوبه) أي ومن استار مغيباته، (ومعرفته) أي تعريفاته بذاته وصفاته (أو لاستصفائه) أي اختيار الله سبحانه وتعالى (لهما) ومنه حديث محمد خيرة الله من خلقه (واستصفاء قلوبهما عمّن سواه) أي تخليصهما عن التعلق بالعوائق من الخلائق (حتّى لم يخاللهما حبّ لغيره) بل إذا أحبا أحدا أحباه الله سبحانه وتعالى ولذا دعا صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله اللهم لا تجعل لفاجر علي يدا يحبه قلبي وبقوله اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك (ولهذا) أي المعنى المستفاد من هذا المبنى (قَالَ بَعْضُهُمْ الْخَلِيلُ مَنْ لَا يَتَّسِعُ قَلْبُهُ) بتشديد التاء وكسر السين ويروى من لا يتبع قلبه (لسواه) أي على جهة الشركة في المحبة الأصلية (وهو) أي هذا المعنى هو (عندهم معنى قوله عليه الصلاة والسلام أي كما رواه البخاري أن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر (ولو كنت متّخذا خليلا) أي من الناس أرجع في المهمات عليه والجأ في الملمات إليه (لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا لَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ) ورواية المصابيح ولكن بالواو أي ليس بيني وبينه خلة لكن أخوة الإسلام ثابتة بيني وبينه في أعلى المرتبة فيقوم مقام اتخاذي له خليلا قال التلمساني كذا وقع في النسخ الصحيحة من الشفاء أخوة بالألف وفي الإكمال خوة دون ألف ثم قال كذا للعذري ولغيره بالألف وقوله عليه الصلاة والسلام لو كنت متخذا خليلا الخ قال في المشارق لو كنت متخذا خليلا أفتقر إليه وألتجئ إليه في جميع أموري لكان أبا بكر ولكن الذي التجئ إليه وافتقر إليه هو الله تعالى أو لو كنت منقطعا لحب مخلوق لكان أبا بكر لكن مرافقة الإسلام انتهى وفيه إيذان إلى أن الخلة فوق الأخوة والمودة. (واختلف العلماء أرباب
القلوب) أي أصحاب القلوب الصافية والألباب الواعية من المشايخ الصوفية الجامعين بين المعارف اليقينية البهية والأخلاق السنية الرضية (أيّهما أرفع) أي أي الخصلتين أو الحالتين اعلى أو أغلى في الدرجة العلية والرتبة الجلية (درجة الخلّة) أي درجة الخلة أرفع من درجة المحبة (أو درجة المحبّة) أي أرفع من درجة الخلة فهما مرفوعان بناء على أنهما بدل من أيهما المرفوع ويجوز نصب درجة على أنه تمييز ذكره التلمساني وهو بعيد جدا لا سيما مع وجود أو الترديدية وكونهما معرفة بالإضافة نعم لو ثبت الجر لكان له وجه من حيث إنه بدل من المضاف إليه في أيهما والصحيح ما أشرنا إليه من أنهما مرفوعان بالابتداء وأن خبرهما أرفع مقدارا مع تقدير الاستفهام في أولهما (فجعلهما بعضهم سواء) أي في المرتبة ليس بينهما تفاوت في الدرجة (فَلَا يَكُونُ الْحَبِيبُ إِلَّا خَلِيلًا، وَلَا الْخَلِيلُ إِلَّا حَبِيبًا لَكِنَّهُ خَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالْخِلَّةِ وَمُحَمَّدًا صلى الله تعالى عليه وسلم بالمحبّة) أي بناء على الغلبة ولكن في هذا الاختصاص دلالة باهرة وإشارة ظاهرة إلى زيادة درجة المحبة على رتبة الخلة كما لا يخفى على أرباب المعرفة (وبعضهم قال درجة الخلّة أرفع) أي من مرتبة المحبة وهذا بعيد جدا إلا أن يراد بالخلة معنى الخصوص وبالمحبة معنى العموم وليس الكلام فيه لا في المنطوق ولا في المفهوم (واحتجّ) أي ذلك البعض لما زعمه (بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما رواه البخاري (لو كنت متّخذا خليلا غير ربّي) أي لاتخذت أبا بكر خليلا (فلم يتّخذه) أي غير ربه خليلا (وقد أطلق المحبّة لفاطمة وابنيها) أي الحسنين رضي الله تعالى عنهم (وأسامة) أي وكذا لأسامة ابن مولاه زيد بن الحارث الملقب بحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد كان أسامة أسود كالغراب وأبوه زيد أبيض كالقطن (وغيرهم) أي كأبي بكر وعمر وعائشة رضي الله تعالى عنهم فلو كانت المحبة أرفع من الخلة لم يتخذ غير ربه مما ذكر حبيبا كما لم يتخذ غيره خليلا وفيه أنه لم يطلق على أحد منهم بكونه حبيبا وإنما أراد بمحبتهم المحبة الطبيعية الناشئة عن النسبة الجزئية أو الحالة الصادرة عن تحقق الشمائل الرضية مع أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سمى حبيب الله بمعنى محبوبه فأين هذا المعنى من ذلك المبنى فليس له شريك في هذا الوصف على وجه الكمال كما لا يخفى وهذا هو المشهور عند الجمهور ولذا قال، (وأكثرهم جعل المحبّة) أي الخالصة دون المودة العامة (أرفع) أي درجة (من الخلّة) أي مع أنها من مراتب الخاصة (لِأَنَّ دَرَجَةَ الْحَبِيبِ نَبِيِّنَا أَرْفَعُ مِنْ دَرَجَةِ الخليل إبراهيم عليه السلام يعني اختصاص هذا الوصف بمن هو أكمل يدل على انه أفضل من سائر أوصاف الكمل وإلا لكان الانعكاس أولى فتأمل فإنه اندفع به ما ذكره الدلجي بقوله وأنت خبير بأن أرفعية المحبة على الخلة إنما هي من أرفعية موصوفها لا من حيث ذاتها ثم مما يدل على هذا التحقيق الموجب للتوفيق أن الخليل إنما هو فعيل بمعنى الفاعل مسندا إلى إبراهيم عليه السلام وأما الحبيب فيحتمل أن يكون بمعنى فاعل أو مفعول ولا شك أن نسبة المفعولية في هذا المقام أتم من نسبة الفاعلية في المرام
كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ لا سيما ومحبة الله تعالى كاملة سابقة ذاتية أبدية أزلية ومحبة العبد ناقصة لا حقة عرضية غرضية وأما حديث لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أبا بكر وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا فهو محمول على أنه اتخذ أن يكون خليلا خاصا لا يتخذ غيره خليلا على ما يدل عليه سياق الكلام وسياقه فهو بمعنى الفاعل على حاله وليس كما توهم الدلجي أنه بمعنى المفعول والحاصل أنه يقال محمد حبيب الله والله حبيب محمد ولا يقال الله خليل إبراهيم مع جواز إبراهيم خليل الله وقد صرحوا بأن المعنى الأول أصح يعني كونه مشتقا من الخلة بالضم لأنها تتصور من الجانبين والحاجة لا تتصور من الجانبين فلا يجوز أن يقال الله تعالى خليل إبراهيم لما فيه من إيهام أن يكون مأخوذا من الخلة التي هي الحاجة، (وأصل المحبّة) أي المأخوذة من حبة القلب أو أصل معناها (الميل إلى ما يوافق المحبّ) أي يلائم طبعه ويستلذ به وهذا ظاهر في كونه اسم الفاعل من أحبه فهو محب على ما صرح به الانطاكي وضبطه الحلبي بضم الميم وفتح الحاء أي المحبوب وتبعه الدلجي وزاد عليه قوله من إرادة طاعاته وابتغاء مرضاته لكنه مخالف للرواية وغير مناسب للدراية لأنه ليس اصل المحبة هذا بل نتيجة محبة المحب للمحبوب أن لا تقع منه المخالفة كما قالت رابعة رضي الله تعالى عنها:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه
…
هذا لعمرك في الصنيع بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ
…
إِنَّ المحب لمن يحب مطيع
هذا وقد قال الأنطاكي وفي بعض النسخ وقع محب بفتح الحاء والظاهر أنه خطأ لما سيأتي في كلام المصنف من أن حقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان (وليكن هذا) أي التعريف إنما يصح (في حقّ من يصحّ الميل) أي وجود ميلان القلب (منه) أي إلى محبوبه أو مطلقا (والانتفاع بالوفق) بفتح الواو وسكون الفاء أي وفي حق من يتصور منه الانتفاع والارتفاق بالشيء الذي فيه الموافقة له أو على وفق ميل القلب وهوى النفس إليه (وهي) أي المحبة بمعنى الميل (درجة المخلوق) أي صفته ورتبته، (فأنا الخالق) أي الذي قدس عن القلب والميلان وسائر نعوت الحدثان (فمنزّه عن الأعراض) بالغين المعجمة وهي العلل والحاجات وكذا عن الأغراض بالعين المهملة وهي الأمراض والآفات (فمحبّته لعبده تمكينه من سعادته) أي بأقداره على طاعته وعبادته، (وعصمته) بالرفع وأبعد الدلجي في تجويز الجر أي ومحافظته عن ارتكاب معصيته (وتوفيقه) أي على ارتكاب الحسنات واجتناب السيئات (وتهيئة أسباب القرب) بضم فسكون ولا يبعد أن يكون بضم ففتح أي من النوافل كصلاة وصوم وصدقة وتسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وسائر القرب (وإفاضة رحمته عليه) أي بقبول ما منه إليه وجعله مقربا لديه (وقصواها) بضم القاف مقصورة أي غاية المحبة ونهايتها بالنسبة إلى الخلق (كشف الحجب عن قلبه) أي كشف الرب الحجب النفسانية والنقب الإنسانية عن
قلب المحب لجمال الذات الربانية وكمال الصفات الصمدانية (حتّى يراه بقلبه) أي يرى جمال ربه بعين قلبه (وينظر إليه) أي إلى تجلي ربه في مقام عظمته (ببصيرته) أي بعين بصيرته فيفني عن نفسه وحجبه ويبقى ببقاء ربه فيكون محوا بعد ما كان صحوا وسكرا بعد ما كان فكرا وشكرا وحاضرا في الحضرة بعد ما كان غائبا في الغفلة (فيكون كما قال) أي سبحانه وتعالى (في الحديث) أي القدسي والكلام الأنسي على ما رواه البخاري لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه (فإذا أحببته) أي أظهرت حبي له فإن حبه سبحانه وتعالى قديم غير حادث بعد تقرب عبده (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يبصر به ولسانه الذي ينطق به) وفي رواية زيادة ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها أي كنت حافظ أعضائه وحامي أجزائه أي يتحرك بغير رضائي وأن يسكن إلى غير قضائي والحاصل أنه جعل سلطان محبته لربه آخذا بمجامع قلبه فلا يهم إلا بمرضاة محبوبه ولا يسعى بجميع جوارحه إلا في سبيل مطلوبه وقيل أي كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الإسماع وبصره في النظر ولسانه في النطق وهنا معنى أدق من هذا وهو أنه يظهر للعبد في هذا المقام ما يتم به المرام وهو أنه يشاهد أن قوة سمعه وبصره ولسانه وسائر اركانه إنما هي من آثار قدرة ربه وقوته عز شأنه وليس المراد منه الحلول والاتحاد والاتصال على ما توهمه أهل الضلال كما قال (ولا ينبغي أن يفهم) بصيغة المفعول (من هذا) أي الحديث (سوى التّجرّد لله) أي تجرد القلب عن غير حب الرب (والانقطاع إلى الله) أي ترك الالتفات إلى ما سواه (والإعراض عن غير الله) أي بالتوجه الكلي إلى مولاه حتى كأنه بمسمع منه ومرأى له فيما يتحراه (وصفاء القلب لله) أي بحيث لا يخطر بباله سواه كما قال العارف بالله ابن الفارض نفعنا الله به
ولو خطرت لي في سواك إرادة
…
على خاطري سهوا حكمت بردتي
(وإخلاص الحركات لله) وكذا جعل السكنات في رضاه لأن من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل إيمانه وقد قال تعالى حكاية عن حال إبراهيم إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها كان خلقه القرآن) أي في جميع الشأن (برضاه يرضى وبسخطه يسخط) أي لا ينشأ عنه شيء من الهوى ولا ينظر في جميع أحواله غرض السوى بل يدوم على التخلق بأخلاق المولى؛ (ومن هذا) أي المقام (عبّر بعضهم عن الخلّة) أي التي هي خلاصة المرام لسلالة الكرام من الأنام (بقوله قد تخلّلت مسلك الرّوح منّي) أي تداخلت لحبي إياك تخالط الروح من بدني وهو كالماء في العود الطري وكالطراوة في اللؤلؤ المعدني (وبذا) أي وبذلك التخلل المأخوذ من الخلة (سمّي الخليل) أي إبراهيم وغيره (خليلا فإذا ما) زائدة (نطقت) أي عنك (كنت حديثي) أي منك لما قيل من أن الإناء يترشح بما فيه ولما ورد من أحب شيئا أكثر من ذكره (وإذا ما سكتّ) أي بك أو عن غيرك أو عن بيان حالي معك (كنت الغليلا) بالغين المعجمة وألف
الإطلاق أي حرارة العطش وفي نسخة الدخيلا أي الذي يداخل في الأمور ويخالل بما في الصدور (فإذا) بالتنوين وقد يكتب بالنون أي فحينئذ (مزية الخلّة وخصوصيّة المحبّة حاصلة لنبيّنا محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم بما دلّت عليه الآيات) وفي نسخة الآثار وهي ملائمة لقوله (الصّحيحة المنتشرة المتلقّاة بالقبول من الأمّة) كحديث لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أبا بكر خليلا وفي رواية ولكن أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا وكحديث أنا حبيب الله ونحو ذلك من شواهد الأحاديث الصحيحة المطابقة للآيات الصريحة (وكفى بقوله تعالى) أي كفى شاهدا ودليلا قوله سبحانه وتعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ [آلِ عِمْرَانَ: 31] الآية) أي فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وفيه الغاية القصوى في المقام الأسنى حيث جعل متابعته شرط صحة دعوى محبته له تعالى ورتب على متابعته محبته سبحانه وتعالى له ولعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تمنوا كونهم في أمته ومتابعة ملته لتحصيل هذا المرام وهو مرتبة المحبوبية والمرادية المجذوبية المطلوبية لأهل الكمال من السادة الصوفية ولذا قالوا جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين وقد قال الله تعالى يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ فالجملة الأولى إشارة إلى مقام المراد في المرتبة المريد والثانية إلى مقام المريد في حال الانابة ووصف المستزيد والحاصل أن هذه الآية الشريفة لما كانت دالة على المرتبة المنيفة، (حَكَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الْكُفَّارُ إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ تتّخذه حنانا) بفتح الحاء المهملة وتخفيف النونين أي معبودا مسجودا (كما اتّخذت النّصارى عيسى بن مريم) هذا باطل قطعا من وجهين أحدهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يرد هذا المعنى أصلا بل لما قيل له انسجد لك قال لو أمرت أن يسجد أحد لأحد لأمرت أن تسجد المرأة لزوجها وأيضا إنما نزل القرآن من أوله إلى آخره على رد أهل الشرك الغنيد وإثبات التوحيد على وجه التجريد والتفريد فكيف يتصور له أن يريد خلاف ذلك حيث يكون مناقضا لما هنالك ولكنهم على زعمهم وقياس الكاملين على نفوسهم ومقتضى طباعهم صدر هذا الكلام عنهم وظهر هذا المرام منهم وثانيهما أن التشبيه في كلامهم غير صحيح لأن عيسى ابن مريم لم يرد اتخاذ النصارى له إلها معبودا كما ظنوا لأنه من صغره إلى حال كبره كان يقول إني عبد الله وأبرئ الأكمة والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ولم يخطر بباله وجود من سواه فضلا عن إشراكه مع مولاه وأما ما ذكره الدلجي من قوله الحنان الرحمة والعطف أي نتخذه موضع حنان من الرحمة فنرحمه ونعطف عليه ونتبرك به كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا فلا يناسب التشبيه الذي يلائم التنزيه ولا يسبب لما قاله أهل التفسير (فأنزل الله غيظا لهم) أي زيادة غيظ في حالتهم (ورغما) بفتح الراء ويضم وحكي كسرها أي ردا (على مقالتهم هذه الآية) أي الآتية وهي قوله (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران: 32] ) لان إطاعة كل واحد مستلزمة لإطاعة الآخر وفيه إيماء له خفاء إلى أن الرسول لا يأمر بالمنكر فتدبر (فَزَادَهُ شَرَفًا بِأَمْرِهِمْ بِطَاعَتِهِ وَقَرْنِهَا بِطَاعَتِهِ ثُمَّ
توعّدهم على التولّي) أي الاعراض (عنه) أي ابتداء وانتهاء (بقوله تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا) يحتمل الماضي والمضارع أي تتولوا (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 32] ) أي لا يرضى عنهم ولا يثني عليهم وفي وضع الظاهر موضع المضمر تسجيل على كفرهم لئلا يشمل الفاجرين بنوع من التولي لا يكون موجبا للكفر وفيه أيضا تنبيه نبيه على أن مدار الأمر على الخاتمة ونوع حض على التوبة الموجبة للمحبة والمغفرة والمثوبة (وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ) بضم أوله وهو غير منصرف للعلمية والعجمة وقد يصرف (عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ كَلَامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ المحبّة والخلّة يطول جملة إشاراته) أي وتفصيل عباراته (ترجع إِلَى تَفْضِيلِ مَقَامِ الْمَحَبَّةِ عَلَى الْخِلَّةِ وَنَحْنُ نذكر منه طرفا) بفتحتين أي شيئا يسيرا من الكلام (يهدي إلى ما بعده) أي من مقام المرام، (فمن ذلك قولهم: الخليل يصل) أي إلى من اتخذه خليلا (بالواسطة) أي اخذا لوصوله إليه بها دليلا (من قوله: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: 75] ) أي وليكون بواسطة إراءة الله له ذلك من الموقنين لما هنالك (والحبيب يصل إليه) أي لحبيبه كما في نسخة (به) أي بذاته دون واسطة من إراءة كائناته أخذا له (من قوله تعالى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أي قدرهما أَوْ أَدْنى [النجم: 9] ) أي بل أدنى من قابهما (وَقِيلَ الْخَلِيلُ الَّذِي تَكُونُ مَغْفِرَتُهُ فِي حَدِّ الطّمع) أي لأنه من المريدين وهذا المعنى مأخوذ (من قوله تعالى وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: 82] ) أي يوم الدين (والحبيب الذي مغفرته في حدّ اليقين) أي الناجز الذي غير متوقف ولا متأخر إلى حين لكون صاحبه من المرادين (مِنْ قَوْلِهِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ) أي من جميع ما يصح فيه العتاب دون العقاب لعدم مناسبته في هذا الباب وفي عطف ما تأخر اعتناء عظيم فتدبر فإن الغفران السابق يشمل الواقع واللاحق (الآية) أي ومع زيادة إتمام النعمة وإكمال المنة بالهداية الخاصة والنصرة العامة المستفادة من تتمة الآية التي هي قوله سبحانه وتعالى وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً هذا وقد ذكر فرقا آخر بينهما بقوله، (وَالْخَلِيلُ قَالَ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاءِ: 87] ) أي لكونه طالبا في الطريق (وَالْحَبِيبُ قِيلَ لَهُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ [التحريم: 8] ) أي لأنه مطلوب في مقام التحقيق وهذا معنى في التوفيق هو الذي بينه المصنف بقوله (فابتدىء) أي الحبيب (بالبشارة) أي بنفي الخزي من يقال الفضاحة عنه (قبل السّؤال) أي بحصول المنال في المآل بخلاف الخليل حيث وقع منه السؤال ولم يقع جواب حصوله لا في الحال ولا في الاستقبال فيكون بين الخوف والرجاء في تحسين المآل ثم ذكر فرقا آخر فقال، (والخليل قال في المحنة) أي في ابتلائه بنمرود حين القاه في النار (حسبي الله) أي كان في دفع بلائي ورفع عنائي فكانت عليه بردا وسلاما، (والحبيب قيل له يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال: 64] ) ووجه الفرق أن بونا بينا بين من يقول هو حسبي وبين من يقال له أنا حسبك فإن كل أحد يدعي أنه محب لله ولكن الكمال هو أن يقول الله أنا محبوبه أو محبه ونظير
هذا الفرق ما وقع بين قول يحيى وعيسى عليهما السلام حيث قال في الأول سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا وقال الثاني والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم ابعث حيا ولا شك أن السلام الأول في هذا المحل أفضل لأنه شهادة من الله تعالى على سلامته في جميع حالاته بخلاف الثاني فإنه يخبر به عن حال نفسه وإن كان صادقا في مقاله ولا يتصور تخلف في وقوعه ثم هذا لا ينافي كون عيسى أفضل من يحيى لأنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل مع أنه قد يقال إن عيسى كان في مقام الانبساط والبقاء فطال لسانه وكان يحيى في مقام القبض والفناء فكل لسانه فقام الحق عنه في الانتهاء كما قال هو بحقه سبحانه وتعالى في الابتداء حيث لم يهم بمعصية في الاثناء ومن كان لله كان الله له ومن ترك حظ نفسه قام الله معه هذا (والخليل قال وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) أي في الآخرين كما في نسخة أي ثناء جميلا وذكرا جزيلا قال واجعل لي لسان صدق) أي في الآخرين كما في نسخة أي ثناء جميلا وذكرا جزيلا فيمن يجيء بعده إلى يوم الدين فاستجيب له فما من أمة إلا وهم محبون له ومثنون عليه ومتمنون أن ينتسبوا إليه ولا يبعد أن يقال المراد بالآخرين هذه الأمة من السابقين واللاحقين (وَالْحَبِيبُ قِيلَ لَهُ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْحِ: 4] ) أي فوق المنابر والمنابر مقرونا بذكر ربه بل مكتوبا على ساق عرشه وأشجار جنته وقصورها ونحور حورها (أعطي) أي الحبيب صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك المنال في الحال (بلا سؤال) وأجيب دعوة الخليل عليه السلام في الاستقبال؛ (وَالْخَلِيلُ قَالَ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) أي بعدني وإياهم عن عبادتها وهذه لغة نجد ولغة الحجاز جنبني وأراد بنيه لصلبه حتى يصدق عليه أن دعاءه مستجاب عند ربه لظهور الكفر من بعض أحفاده وفيه إيماء إلى أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه (والحبيب قيل له) أي من غير سؤال منه (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) أي الذنب المدنس (أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] ) بالنصب على المدح أو النداء ولعل المراد بأهل البيت من كان في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم من أولاده وذريته وأزواجه هذا والخليل قال الملائكة لسارة زوجته رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت فمن هنا نشأ فرق آخر بين نسبة أهل بيت الحبيب ونسبة أهل بيت الخليل (وفيما ذكرناه) أي من الخلاف في تفسير الخلة والمحبة وما صدر من أهل المعرفة (تنبيه على مقصد أصحاب المقال من تفضيل المقامات والأحوال) أي للمحبة والخلة وتفاوت مرتبة كل منهما في الحال والمآل وهو بالضاد المعجمة أو المهملة كما في النسخ المختلفة (وكُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي طريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلال أو على عادته وجبلته التي طبع عليها في أوائل الأحوال كما قال الله تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الآيتين (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 84] ) أي وبمن هو أخطأ مسلكا ودليلا فسبحان من أراد جعله مهيبا عزيزا ولو شاء صيره مهينا ذليلا.