الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْلُ التَّاسِعُ [فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كراماته عليه السلام]
(فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كَرَامَاتِهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) اعلم أن سورة الفتح نزلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في منصرفه من الحديبية سنة ست من الهجرة وهو متوجه إلى المدينة فهي على هذا في حكم المدني وقد قيل بل نزلت بالمدينة وعلى بعضها نزل بها وقد ثبت في فضلها حديث لقد أنزل الله علي سورة هي أحب إلي ما طلعت عليه الشمس أي شمس الوجود (قال الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا) أي بعظمتنا (لَكَ) أي لا لغيرك أو لأجلك (فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] ) أي ظاهرا (إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] ) ومعناه قوله سبحانه تعالى وهو القاهر فوق عباده وكثير من السلف وبعض الخلف على أن الله سبحانه وتعالى يدا لا بمعنى الجارحة بل إنها صفة له تعالى على وجه يليق بذاته وكذا قالوا في الاستواء وسائر آيات المتشابه وأحاديث الصفات ثم ما بينهما سيأتي مبينا وفي اثناء الكلام معينا وقد اختلف في هذا الفتح قال كثير إن هذا هو ما اتفق له صلى الله تعالى عليه وسلم في طريق الحديبية من التيسير واللطف وذلك أن المشركين كانوا إذ ذاك أقوى من المسلمين فيسر الله سبحانه أن وقعت بينه وبينهم المصالحة ريثما يتقوى صلى الله تعالى عليه وسلم واتفق له بعد ذلك بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم واستقبل صلى الله تعالى عليه وسلم فتح خيبر فامتلأت أيدي أصحابه خيرا ولم يشترك فيه مع أهل الحديبية احد ممن تخلف منهم ثم ما وقع في ذلك الوقت من الملحمة التي كانت بين الروم وفارس فظهرت فيها الروم وكان ذلك فتحا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واصحابه لانهضام شوكة الكفر العظمى ولأنه صلى الله تعالى عليه وسلم علم كونه فتحا له من سورة الروم فكانت هذه كلها من جهة الفتح الذي جاءت الآية منبهة عليه وقد ذكر ابن عقبة أنه لما كان صلح الحديبية ونزلت الآية قال رجال من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالرواح عن بلادهم ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين وهو أعظم الفتوح فقال المسلمون صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح يا رسول الله وأنت أعلم بالله وبأمره منا وذهب بعض المفسرين إلى أن الفتح في الآية إنما هو إشارة إلى فتح بمكة فمعنى فتحنا على هذا قضينا وقدرنا والأظهر إن فتح الحديبية كان سببا لفتح مكة وذهب بعضهم إلى أن الفتح في الآية إنما هو الهداية إلى الاسلام أي على الوجه العام ومال الزجاج إليه واستحسنه لإمكان الجمع بالحمل عليه قال المصنف (تضمّنت هذه الآيات) أي الواردة في صدر السورة (من فضله) أي من جملة فضائله (وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَكَرِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ونعمته لديه ما) أي الذي أو شيئا (يقصر
الوصف عن الانتهاء إليه) أي لقصور إحاطة العلم به (فابتدأ جل جلاله بإعلامه) أي بإعلام الله نبيه (بما قضاه له من القضاء البين) أي بما حكم له وقدره من الفتح المبين حيث قال إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً أي إنا قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل عام الحديبية (بِظُهُورِهِ وَغَلَبَتِهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ) أي طريقته وفي نسخة شيعته أي أمته بعد صده بها عنها وهذا قول آخر للمفسرين مغاير لما سبق من وجه أو هو وعد بفتح مكة كما تقدم وعبر بالماضي لتحققه أو بما اتفق له بعد نزولها كفتح خيبر وفدك أو بما ظهر له في الحديبية من آية عظيمة وهي أن ماءها نضب فلم يبق بها قطرة فتمضمض ثم مج فيها فدرت ماء حتى رووا كلهم (وأنّه) عطف على أعلامه أي وبأنه صلى الله تعالى عليه وسلم (مغفور له غير مؤاخذ) بالهمز ويبدل واوا وهو تأكيد لما قبله لتضمنه معناه (بما كان وما يكون) حيث قال لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ والمعنى لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك ولا يكون على هذا اثبات لوقوع الذنب ثم غفرانه خلافا لما يتوهم من كلام المصنف (قَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ غُفْرَانَ مَا وَقَعَ وَمَا لم يقع أي أنّك مغفور لك) أي مما يصح أن يعاتب عليه لما في قوله تعالى لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى والأظهر أن في الآية إيماء إلى أن العبد ولو وصل إلى أعلى مرتبته المقدرة لم يحصل له استغناء عن المغفرة لقصور الأطوار البشرية في القيام بحق العبودية على ما اقتضته الربوبية وقيل عد الاشتغال بالأمور المباحة والتفكر بالهمة في مهمات الأمة سيئات من حيث إنها غفلة عن مرتبة الحضرة في الجملة ولذا قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين ثم قوله تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إعلاء دينه وإزاحة شرك الأغيار وتكميل النفوس الناقصة إجبارا واعتبارا ليصير ذلك بالتدريج اختبارا وتخليص الضعفة من أيدي الظالمة اختيارا (وقال مكّيّ جعل الله المنّة) أي العطية والامتنان بالفتح أو بالهداية إلى الإسلام (سببا للمغفرة وكلّ) أي من المنة والهداية والمغفرة حاصل (من عنده) أي لقوله سبحانه وتعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (لا إله غيره) أي حتى يكون قضاء شيء من عنده ويروى لا إله إلا هو (منّة) أي عطية وامتنانا حال أو مفعول مطلق (بَعْدَ مِنَّةٍ وَفَضْلًا بَعْدَ فَضْلٍ ثُمَّ قَالَ) أي الله عز وجل (ويتمّ نعمته عليك) أي بجمعه لك النبوة والملك وظهور دينك وفتح البلاد عليك وغير ذلك ومنها قوله، (قيل بخضوع من تكبّر لك) متعلق بخضوع والمعنى بتواضع من تكبر عليك لأجلك بالانقياد لك والخضوع والخشوع بين يديك والتذلل إليك وفي نسخة بِخُضُوعِ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْكَ (وَقِيلَ بِفَتْحِ مَكَّةَ والطّائف) أي وإقبال أهلهما إليك طوعا وكرها (وَقِيلَ يَرْفَعُ ذِكْرَكَ فِي الدُّنْيَا وَيَنْصُرُكَ وَيَغْفِرُ لك) بصيغ الأفعال تفسير على وفق المفسر وهو قوله ويتم وهو الأظهر وقال التلمساني بباء الجر وكلها مصادر ويجوز الفعل وكذا قال الحجازي ويروى برفع ذكرك وبنصرك وغفر لك بالموحدة وتنوين الأخير انتهى وفيه أن الغفر بمعنى المغفرة قليل
الاستعمال ثم هذه أقوال تناولها عموم الآية ولا مرجح لها فالأولى حملها على عمومها ثم مجمل هذه الأقوال ومحصل هذه الأحوال ما ذكره المصنف بقوله (فأعلمه) أي الله سبحانه (بتمام نعمته عليه) الأول بإتمام نعمته أي بإكمال إنعامه وإحسانه إليه (بخضوع متكبّري عدوّه له) الباء متعلق بنعمته أو بدل مما قبله أو بمعنى من البيانية له ولما بعده أي من تواضع أعدائه المتكبرين عليه سابقا غاية التواضع ولاحقا (وفتح أهمّ البلاد عليه) لأن مكة كانت صقع المشركين وكانت العرب إنما تنتظر بالإسلام ما يكون من أهل مكة مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإن اسلموا اسلموا فكانت مكة لهذا المعنى أهم البلاد لأن إسلام أهلها يستلزم إسلام جميع المشركين أو أكثرهم ولهذا أكثر المسلمون بعد فتح مكة ودخلوا في دين الله أفواجا وفي نسخة أسنى البلاد أي أفضلها لكون القبلة فيها ومعدن النبوة بها وهي أم القرى ويتبعها ما حولها (وأحبّها له) أي على الإطلاق وإنما صارت المدينة أحب من سائر البلاد إليه بعد خروجه منها كما هو ظاهر حديث اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فاسكني أحب البقاع إليك فأسكنه المدينة كما أخرجه الحاكم في مستدركه إلا أن في سنده عبد الله المقبري وهو ضعيف جدا فلا يصلح لاستدلال المالكية لأفضلية المدينة ومما يدل على قول الجمهور في أفضلية مكة ما رواه الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي الحمراء وفي رواية عن أبي هريرة يرفعه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين خرج إلى الهجرة هو وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وقف ينظر إلى البيت ثم قال والله إنك لأحب أرض الله إلي وإنك لأحب ارض الله إلى الله ولولا إن أهلك أخرجوني ما خرجت وما جاء في حديث آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لمكة ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك فاندفع بهذا ما قيل من أن الأحب لا يعارض الأفضل خصوصا بحسب الجبلة الطبيعية (ورفع ذكره) أي مما نشأ عليه كله من نصره إياه على عدوه فعمومها شامل له بخصوصه وهو بالجر عطف على ما قبله وأما قوله (وهدايته الصّراط المستقيم) وكذا ما بعده فبالجر إلا أنه عطف على تمام أي وأعلمه بهدايته إلى الصراط المستقيم أي بقوله وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو بالصاد والسين وإشمام الزاء في السبعة وبالزاء الخالصة في الشاذة والهداية يتعدى بنفسه تارة كقوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وبإلى أخرى كقوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وباللام أيضا ومنه قوله سبحانه وتعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (المبلّغ الجنّة والسّعادة) بكسر اللام المشددة ويجوز تخفيفها نعت للصراط أي الموصل إلى أسباب الجنة وأبواب السعادة وأصناف السيادة (ونصره النّصر العزيز) بقوله تعالى وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أي نصرا غالبا قويا فيه عز ومنعة وقوة وشوكة ظاهرة وباطنة أو نصرا يعز به المنصور فوصف بوصفه للمبالغة وقال المنجاني عزيز في هذه الآية بمعنى معز كأليم بمعنى مؤلم وحبيب بمعنى محب فنصر معز وهو المتضمن لغلبة العدو
وقهره ونصر لا بهذه الصفة وهو المتضمن لدفع أذى العدو فقظ (ومنّته) أي وأعلمه بامتنانه (على أمّته المؤمنين بالسّكينة) أي بإنزال السكينة (والطّمأنينة) عطف تفسير وهو بضم أوله وبهمز ويسهل فيبدل مصدر اطمأن سكن ويروى الطمأنينة والسكينة قيل السكينة هي الرحمة وقيل الوقار والرزانة وقيل الإخلاص والمعرفة (التي جعلها الله في قلوبهم) بقوله تعالى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أتي يقينا مع يقينهم برسوخ العقيدة أو ليزدادوا إيمانا بالشرائع المجددة اللاحقة مع إيمانهم بالأحكام المقررة السابقة لأن حقيقة الإيمان وهي التصديق غير قابلة للزيادة والنقصان عند أرباب التحقيق والله ولي التوفيق (وبشارتهم) بكسر الباء بمعنى ما يسر به أي وأعلمه ببشارة أمته (بما لهم) أي عند ربهم كما في رواية (بعد) بضم الدال أي بعد حالهم (وفوزهم) أي نجاتهم وظفرهم (العظيم) أي في مآلهم (والعفو عنهم) أي المحو لعيوبهم (والسّتر لذنوبهم) أي فيما جرى لهم والستر بالفتح مصدر وبالكسر اسم بقوله تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً واللام علة لما دل عليه قوله تعالى وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من التدبير وحسن التقدير أي دبر ما دبر من تسليط المؤمنين على الكافرين ليعرفوا نعمة ربهم ويشكروها فيدخلوا الجنة ويتنعموا بما فيها (وهلاك عدوّه) أي أعداء النبي والمؤمنين (في الدّنيا والآخرة ولعنهم) أي طردهم (وبعدهم من رحمته وسوء منقلبهم) بفتح اللام أي قبح انقلابهم أي سوء مرجعهم ومصيرهم والمعنى أنه أعلمه ذلك بقوله تعالى وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وظنهم هو أن لا ينصر الله رسوله والمؤمنين وعليهم دائرة ما ظنوه وتربصوه بالمؤمنين لا يتجاوزهم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين في دائرة السوء لا في مطلق السوء على ما في الجلالين وهما لغتان (ثمّ قال) أي الله سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي مزكيا للأصفياء أو مشاهدا للقاء في مقام البقاء (وَمُبَشِّراً) أي للمؤمنين الأحباء بما يحبونه (وَنَذِيراً [الفتح: 8] ) للكافرين الأعداء بما يكرهونه وهي أحوال مقدرة وردت ببعض ما أوتيه مخبرة (الآية) كما سيأتي (فعدّ) أي الله تعالى بذلك (محاسنه) أي فضائله الحسنة (وخصائصه من شهادته على أمّته لنفسه بتبليغه الرّسالة لهم) أي بخلاف سائر الأنبياء فإنه لا تقبل شهادتهم على أممهم لأنفسهم بل يحتاجون إلى أن هذه الأمة يشهدون على الأمم بتبليغ أنبيائهم لهم كما تقدم بيانه (وقيل شاهدا) أي يشهد يوم القيامة (لهم بالتّوحيد) أي بتوحيدهم لله (ومبشّرا لأمّته) أي ويبشرهم (بالثّواب) أي في دار النجاة (وقيل بالمغفرة) أي يبشر أحباءه بحسن المآب (ومنذرا عدوّه) أي يخوف أعداءه (بالعذاب وقيل) أي في معنى منذرا (محذّرا) أي يحذر أمته (من الضّلالات) أي من أنواع الضلالة التي هي الكفر والفسق والبدعة (ليؤمن بالله) أي حق الإيمان (ثمّ به) أي برسوله
(من سبقت له من الله الحسنى) أي المنزلة الأسنى وهي الجنة العليا أو المثوبة الحسنى ويدل عليه قوله تعالى (ليؤمنوا بالله ورسوله)(ويعزّروه) أي يمنعوه ويحرسوه من أعدائه (أي يجلّونه) وهو من الإجلال أي يعظمونه وإثبات النون بناء على أصله قبل دخول لام الأمر على مفسره (وقيل ينصرونه) أي على عدوه في الجهاد أو في الاجتهاد في نصرة دينه (وَقِيلَ يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِهِ وَيُوَقِّرُوهُ أَيْ يُعَظِّمُونَهُ) الأظهر أن يقال يهابونه ويكرمونه ويخدمونه ويعدونه من أهل الوقار (وقرأه بعضهم) أي من قراء الشواذ وقد نسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (ويعزّزوه بزاءين) بالياء بعد الألف وبالهمز وكلاهما صحيح ذكره التلمساني والثاني غير صحيح لأن الفرق المعروف بين الراء والزاء بالياء في الثاني وبتركه في الأول فتأمل ولذا لم يقل بالزاء المعجمة لاستغنائه بالصورة عن القيد ولا راء مهملة لما تقدم والله تعالى أعلم (من العزّ) أي العزة والتفعيل للتكثير والمبالغة والمعنى يعززوه غاية العزة وأما جمهور القراء فقراءتهم بضم أوله وكسر الزاء مشددة وبعدها راء وقرأ الجحدري بفتح التاء وضم الزاء وكسرها وهو شاذ (والأكثر) أي القول الأكثر من المفسرين (والأظهر) أي من العلماء المعتبرين (أنّ هذا) أي قوله تعالى وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ أنزل (في حقّ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) لأنه أقرب ذكرا فيرجع ضميراهما إليه ومما يدل عليه قوله تعالى فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ (ثمّ قال: وَتُسَبِّحُوهُ [الفتح: 8] ) أي ينزهوه أو يصلوا له (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي نهارا وليلا (فهذا) أي ضمير يسبحوه (راجع إلى الله تعالى) ويؤيده أن أرباب الوقوف القرآنية جعلوا الوقف المطلق فوق قوله سبحانه وتعالى وَتُوَقِّرُوهُ إيماء إلى قطع ما قبله عما بعده وقيل الضمائر الثلاثة لله وأريد بتعزيره تعالى تقوية دينه وتأييد نبيه ثم اعلم أن ابن كثير وأبا عمرو قرآ بالغيبة في الأفعال الأربعة والباقون بالخطاب له ولأمته أو لهم تنزيلا لخطابه منزلة خطابهم فعلى الأول تقدير الآية أنا إرسلناك ليؤمنوا بالله وبك يا محمد وعلى الثاني تقديره ليؤمنن بك من آمن (وقال ابن عطاء جمع) بالبناء للمجهول لأن فاعله معلوم والمعنى اجتمع (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه السّورة) أي سورة الفتح (نعم مختلفة) أي متعددة متكثرة أو مختلفة من حيث ذواتها وإن كانت من حيث صفاتها مؤتلفة (من الفتح المبين) من بيانيه للنعم المتقدمة (وهو) أي الفتح المبين (من أعلام الإجابة) بفتح همزة أعلام على أنه جمع علم بفتح اللام أي من علامات قبول إجابة الله، (لدعوته) صلى الله تعالى عليه وسلم إذ قد سأله النصر في مواطن كثيرة وفي الحديث من فتح له باب الدعاء فتح له باب الإجابة (والمغفرة) أي ومن المغفرة (وهي) أي المغفرة (من أعلام المحبّة) لقوله تعالى ردا لأهل الكتاب في محكم الخطاب وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ والمعنى أنكم لو كنتم احبائه لما عذبكم بذنوبكم كما يعذب أعداءه بل غفر لكم وأكثر عليكم عطاءه ونعماءه ومن المعلوم أن المحبة من الله تعالى إما أرادة إنعام أو نفس
إحسان وإكرام لنزاهة ذاته القدسي عن الميل النفسي (وتمام النّعمة) أي ومن تمام النعمة (وهي من أعلام الاختصاص) أي منة له بما لم يؤته أحدا غيره كما يستفاد من قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (والهداية) أي ومن الهداية (وهي من أعلام الولاية) أي التأييد والنصرة، (فالمغفرة) بالرفع مبتدأ (تبرئة) أي تنزيه منه له (من العيوب) أي عيوب الذنوب وفي نسخة تنزيه من العيوب وأما قول الحلبي وهو بكسر الراء المشددة ثم همزة مضمومة من البراءة فخطأ ظاهر في العبارة إذ الصواب أنه بفتح التاء وسكون الموحدة وبكسر الراء المخففة وفتح الهمزة مصدر برأه يبرؤه تبرئة على وزن تفعلة والذي ذكره إنما هو بضم الراء مصدر تبرأ منه وهو غير مناسب للمقام كما لا يخفى على العلماء الاعلام (وتمام النّعمة إبلاغ الدّرجة الكاملة) أي إيصاله تعالى له إلى درجة لا درجة فوقها، (والهداية وهي الدّعوة إلى المشاهدة) أي إلى الحضرة في مقعد صدق وقرب مكانة وكرامة لأقرب مكان ومسافة:(وقال جعفر بن محمّد) أي ابن علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم (مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ أَنْ جَعَلَهُ حَبِيبَهُ) أي اصطفاه وخصه بكرامة تشبه كرامة الحبيب عند محبه فالمحبة أصفى ود لأنها من حبة القلب بخلاف الخلة فإنها ود تخلل النفس وخالطها (وأقسم بحياته) أي في قوله تعالى لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي وحياتك يا محمد وتقديره لعمرك قسمي والعمر بفتح العين لغة في العمر بالضم خص به القسم ايثارا لخفته لكثرة دوران القسم على ألسنتهم (ونسخ به شرائع غيره) لقوله عليه الصلاة والسلام لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي (وعرج) بفتح الراء أي صعد (به إلى المحل الأعلى) أي المنزل الأعلى وهو بفتح الحاء وكسرها والأول أولى والمراد به مقام قاب قوسين أو أدنى (وحفظه في المعراج) أي عن مطالعة السوي والمعراج الدرجة وقيل سلم تعرج فيه الأرواح وجاء أنه أحسن شيء لا تتمالك الروح إذا رأته أن تخرج وأن تشخص بصر الميت من حسنه (حتّى ما زاغ البصر وما طغى) أي ما مال إلى الهوى ولا تجاوز عن المولى (وبعثه إلى الأسود والأحمر) أي إلى العرب والعجم أو الجن والإنس لقوله عليه الصلاة والسلام بعثت إلى الأحمر والأسود وفي رواية بعثت إلى الناس كافة ولقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي الا رساله عامة لهم محيطة بهم من الكف فإنها إذا عمتهم كفتهم عن أن يخرج منها أحد منهم (وأحلّ له ولأمّته الغنائم) لقوله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأحد قبلي وفي رواية أحلت لنا الغنائم (وجعله شفيعا) أي يوم الجمع لجميع الخلائق (مشفعا) بتشديد الفاء المفتوحة أي مقبول الشفاعة في مقام محمود يحمده فيه الأولون والآخرون كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا (وسيّد ولد آدم) أي وجعله سيد البشر ولما كان بعض أولاد آدم أفضل منه فيلزم منه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من آدم عليه الصلاة والسلام بطريق البرهان الذي يسمى بالأولى ومنه قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي فكيف الضرب
بالكف وهو مقتبس من قوله عليه الصلاة والسلام أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر أي ولا أقول فخرا لنفسي بل تحدثا بنعمة ربي وتقييد يوم القيامة لأنه وقت ظهوره ونظيره الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ والحديث رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد مع زيادة وما من نبي آدم فمن سواه إلا تحت لوائي ولا فخر وفي رواية لمسلم وأبي داود مع زيادة وأول شافع وأول مشفع ولا فخر وفي البخاري أنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر (وقرن) أي جمع ووصل (ذكره بذكره) كما يستفاد من قوله تعالى وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ومن قوله سبحانه وتعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (ورضاه برضاه) لقوله تعالى وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ (وجعله أحد ركني التّوحيد) أي المعتبر في الدين (ثمّ قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) أي يعقدون الميثاق معك على قتال أهل الشقاق (إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] ) لأنه المقصود بالبيعة بالاتفاق (يعني) أي يريد الله بهذه المبايعة (بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ أَيْ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ بِبَيْعَتِهِمْ إيّاك يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] ) استئناف مؤكد لما قبله (يريد) أي الله أن يده فوق أيديهم (عند البيعة) أي على طريق الخصوصية قال التلمساني قوله يريد عند البيعة صوابه معناه عند البيعة وإلا فالإرادة والعناية في كلام المخلوقين ولا ينبغي أن يقول المفسر يعني ولا يريد ولكن يقول من معناه أو يجوز أو يحتمل ونحو ذلك مما يجري على الألسنة (قيل) أي المراد بيد الله (قوّة الله) وقدرته والمعنى قوته وقدرته في نصر رسوله فوق قواهم وقدرهم وقد أشار الهروي في غريبه إلى هذا القول فيكون في الآية على هذا ذكر نعمة مستقبلة وعد الله بها نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وهي النصر له وعلى القول الذي بعده يكون فيما ذكر نعمة حاصلة قد شرف الله بها المبايعين واستعمال اليد أيضا في اللغة بمعنى القوة موجودة ومنه قوله تعالى أُولِي الْأَيْدِي أي أولي القوى (وقيل ثوابه) أي المترتب على مبايعتهم بأيديهم وانقيادهم في متابعتهم فاليد بمعنى النعمة (وقيل منّته) أي عطيته ومنه يقال لفلان على يد وفي الحديث اللهم لا تجعل لفاجر علي يدا يحبه قلبي وقد قال الشاطبي رحمه الله إليك يدي منك الأيادي تمدها والمعنى منته عليهم ونعمته لديهم ببيعتهم مما منحوه من العز في الدنيا والثواب في العقبى فوق منتهم عليك بمبايعتهم لك على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم قال المنجاني وإليه ذهب أكثر المفسرين واستعمال اليد في اللغة بمعنى النعمة كثير ومنه قول الشاعر:
لجودك في قومي يد يعرفونها
…
وأيدي الندى في الصالحين فروض
وإلى هذا المعنى يرجع قول من قال هي من الله سبحانه الثواب أعني اليد في الآية المثوبة من المبايعين الطاعة فإن الثواب من الله تعالى داخل تحت منته والطاعة منهم داخلة تحت ما يمتنون به وإلا فليس اليد في اللغة اسما للثواب ولا للطاعة (وقيل) أي المراد بيد الله (عقده) وفي نسخة عفوه وهو تصحيف وتحريف والمعنى أنه تعالى أوجد البيعة وأتم عقدها
فاستعار لإيجاد عقدها اسم اليد من حيث كان الآدميون إنما يفعلونه بأيديهم وهو من باب إطلاق اسم السبب على المسبب وجاء قوله سبحانه وتعالى فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مرشحا لهذه الاستعارة والأيدي من المبايعين على هذا هي الجوارح على حقيقتها ولذا قال المصنف، (وهذه) أي هذه الأقوال المختلفة المعاني في لفظ اليد هل هي على سبيل الاشتراك والحقيقة أو على سبيل النقل والمجاز والمختار أنها (استعارات) أي إطلاقات مجازية لمناسبات سببية (وتجنيس في الكلام) أي وتفنن في العبارات الإيمائية ولم يرد به التجنيس الصناعي وهو اتفاق اللفظ واختلاف المعنى على ما ذكره التلمساني وغيره بل اللغوي بمعنى المناسبة لأن العقد مثلا إذا أطلق عليه اسم اليد فإنما يراد التي بمعنى الجاحة فبينها وبين الأيدي في الآية مناسبة والمناسبة كما ذكره التلمساني ذكر الشيء مع ما يناسبه على جهة الاستعارة والتشبيه (وتأكيد لعقد بيعتهم إيّاه) أي من حيث إن بيعتهم معه صلى الله تعالى عليه وسلم كبيعتهم مع الله تعالى لا تفاوت بينهما فيده التي تعلو أيديهم هي يد الله تخييلا (وعظم شأن المبايع) بصيغة المفعول والمراد به محمد (صلى الله تعالى عليه وسلم) وقوله عظم بكسر العين وفتح الظاء مجرور عطفا على ما قبله أي وتأكيد لعظمة شأنه وفخامة سلطانه من حيث جعل بيعتهم له بيعتهم لله سبحانه كجعل طاعته طاعته (وقد يكون من هذا) أي من قبيل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ (قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أي كفار بدر بنصركم وتسليطكم إياه (وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) أي بهما إذ هو الخالق للقتل وأسبابه وهم المباشرون له بقوة الله عند اكتسابه (وَما رَمَيْتَ) أي رميا يوصل التراب إلى أعينهم ولم تقدر عليه (إِذْ رَمَيْتَ) أي يومي بدر وحنين وجوههم صورة واكتسابا أو أخذا وإرسالا (وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] ) أي حقيقة وتبليغا وأصابه فبلغ رميه تعالى منه حدا لم يبلغ رميك من إيصاله التراب إلى أعينهم جميعا فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وتمكنتم منهم قتلا وأسرا (وإن كان الأوّل) يعني إن الذين يبايعونك وإن وصلية (في باب المجاز) أي أدخل في ذلك الباب والأظهر أن يقال من باب المجاز كما في أصل الدلجي وكذا قوله (وهذا) أي فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الآية (فِي بَابِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ وَالرَّامِيَ بِالْحَقِيقَةِ) وروي في الحقيقة (هو الله وهو خالق فعله) أي فعل المباشر من قتله ونحوه (ورميه وقدرته عليه) أي إيجادا وإبداعا وهو القاتل مباشرة واكتسابا ومن ثم أسند الفعل إليه حقيقة أيضا كما أنه نفاه عنه أيضا لكن بين الحقيقتين بون بين وبيان ظاهر لمذهب أهل السنة والجماعة من أن العبد له نسبة الكسب في الحقيقة على الجملة والحاصل أنه سبحانه وتعالى وصف نفسه في هذه الآية بالقتل والرمي من حيث كونه هو الذي حصل أثرهما ومنفعتهما وإن كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه هم الذين قتلوا ورموا فهو على هذا من باب اطلاق السبب الذي هو القتل والرمي على المسبب الذي هو الأثر على الحقيقة ونسبة الفعل إلى غيره مجاز فلا تشبيه فيه لهذه الآية السابقة ولا تفريق بينهما فافهم (ومسببه) أي هو سبحانه وتعالى مسبب
سبب فعل عبده وفي نسخة مشيئته أي ارادته كذا ذكر في حاشية وليس لها وجه ظاهر بل هو تصحيف كما لا يخفى (ولأنّه) أي الشأن (لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ تَوْصِيلُ تِلْكَ الرَّمْيَةِ حيث وصلت) أي إلى وجوههم فأعمت أبصارهم (حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَمْلَأْ) أي تلك الرمية (عينيه) أي ترابا (وكذلك قتل الملائكة لهم حقيقة) أي في الصورة الكسبية والإضافة النسبية مثل إسناد القتل إلى الأفراد البشرية وإنما احتاج إلى ذكرهم لئلا يتوهم أن القدرة الملكية ليست كقوى البشرية في الاحتياج إلى القوة الإلهية والقدرة السبحانية فإن المخلوقات بأسرها متساوية في مرتبة العبودية فاندفع بتحريرنا ما توهم الدلجي خلاف تقريرنا حيث قال وما أحق هذا بالتعجب لأن القاتل حقيقة أيضا بالنسبة إليهم هو الله وهو خالق فعلهم وقدرهم إيجادا وإبداعا وهم القاتلون مباشرة واكتسابا فلا خصوصية لهم بكون قتلهم حقيقة بدون إسناده إلى الله حقيقة انتهى وظهر لي وجه آخر أنه أراد بقوله حقيقة إنه وقع من الملائكة نوع من المباشرة في قتل الكفرة لا أنه إنما كان نزول المعركة لمجرد وصول البركة وحصول النصرة (وقد قيل في هذه الآية الأخرى) أي الأخيرة وهي قوله تعالى فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الآية (إنّها على المجاز العربيّ) بالباء أي اللغوي أعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة بين المعنى المجازي والحقيقي وهي هنا السببية وفي نسخة العرفي بالفاء قال العلامة محمد بن خليل الانطاكي الحنفي في حاشيته المسماة بزبدة المقتفى اعلم أن المجاز أن تجوز مستعمله عن معنى وضع ذلك اللفظ له واضع اللغة فهو المجاز اللغوي كالأسد للشجاع وإن تجوز عما وضعه الشارع له وهو الله ورسوله فهو المجاز الشرعي كالصلاة للدعاء وإن تجوز عما وضعه طائفة معينة فهو المجاز العرفي الخاص كالفعل للحدث وإن لم تكن معينة فهو المجاز العرفي العام كالدابة للشاة (ومقابلة اللّفظ) أي وعلى مقابلة اللفظ (ومناسبته) أي له لما بينهما من العلاقة المؤذنة باستعمال ما وضع للسبب من اللفظ في مسببه (أي ما قتلتموهم) أي أيها الأمة حين قتلتموهم بآلات القتل (وما رميتهم أنت) أيها النبي (إذ رميت وجوههم بالحصباء) بالمد أي بالحصى أو بالأحجار الصغار يخالطها التراب (وَالتُّرَابِ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى قُلُوبَهُمْ بِالْجَزَعِ) أَيْ واوقع في صدورهم الرعب والفزع (أي أنّ منفعة الرّمي) أي وكذا فائدة القتل (كَانَتْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَهُوَ الْقَاتِلُ وَالرَّامِي بالمعنى) أي الذي هو ابتلاهم بالرعب وإدخال التراب في أعينهم حتى انهزموا (وأنت) أي القاتل والرامي (بالاسم) أي من حيث مباشرتهما بالوسم وصورة المبنى وحذف قوله القاتل والرامي في الجملة الأخيرة للعلم به من الجملة المتقدمة إذ هو من دلائل الأوائل على الأواخر والله أعلم بالظواهر والضمائر والحاصل فيه ما حكي عن المهدوي وأوضحه هبة الله بن سلامة أن الرمي أخذ وارسال وتبليغ وإيصال فالذي اثبت الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم هو الأخذ والإرسال والذي نفى عنه وأثبته لنفسه هو التبليغ والإيصال والله تعالى أعلم بالحال ثم اعلم بطريق الانعطاف إلى
القضية الأمنية أن السكينة لواقعة في الآية السكينة هي كناية عن تسكين نفوس المؤمنين بتحصيل اليقين وذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان أخبرهم حين توجه للحديبية بأنهم يدخلون مكة آمنين ويطوفون بالبيت لرؤيا كان رآها فذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه خلق في نفوسهم ثقة بهذا وجعلها مستقرة في نفوسهم ومستمرة إلى أن يقع ما وعدهم به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويشاهدوه معاينة فيزدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم وقد قضى الله أن يكون ما وعدهم به رسوله لأن رؤيا الأنبياء وحي ولكن في غير ذلك التوجه ولهذا لما انكشف أمر الحديبية عن الصلح قال بعض أصحابه يا رسول الله ألم تقل لنا انا ندخل مكة آمنين ونطوف بالبيت فقال لهم: بلى أفقلت لكم في عامي هذا فكان تحقق هذا في عام الفتح وإلى ذلك أشار الله سبحانه وتعالى بقوله لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وجاء قوله سبحانه وتعالى في هذه الآية وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بأثر ذكر السكينة زيادة في تسكين نفوسهم وإشعارا بأن الله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء ثم عقب ذلك بوصفه نفسه بالعلم والحكمة أي فلا تستعجلوا ما وعدكم به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإن الله يعلم في تأخير ذلك حكمة وهو معنى قوله تعالى فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً وقوله سبحانه وتعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أريد بهم الذين أنزل السكينة في قلوبهم فصدقوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الترمذي بسند صحيح من رواية قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال نزل على رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مرجعه من الحديبية فقرأها عليهم فقالوا هنيئا مريئا يا نبي الله قد بين الله لك ما يفعل بك فما يفعل بنا فنزل لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ والواو لمطلق الجمع وإلا فتكفير السيئة قبل إدخالهم الجنة هذا وقد ذكر المفسرون في قوله تعالى الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ معنيين أحدهما أنه كناية عن قولهم لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً والآخر أنه كناية عما يعتقدونه من صفات الله سبحانه وتعالى غير ما هي عليه فهو ظن سوء باعتبار أنه كذب وموصل لصاحبه إلى جهنم ودائرة السوء المصيبة السوء وسميت دائرة من حيث إنها تحيط بصاحبها كما تحيط الدائرة بمركزها على السواء من كل الجهات وإلى هذا مال النقاش في تفسيره وذهب بعضهم إلى أنها سميت دائرة لدورانها بدوران الزمان لأن الزمان لما كان يذهب ويجيء على ترتيب واحد صار كأنه مستدير ومنه حديث وإن الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السموات والأرض فكأن الخطوب والحوادث في طيه تدور بدورانه ثم سميت بيعة الحديبية بيعة الرضوان لقوله سبحانه وتعالى فيها لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وهي سمرة من شجرة العضاة وذهبت بعد سنين من الهجرة
ومر عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي خلافته بذلك الموضع فاختلف أصحابه في موضعها وكثر تشاجرهم في ذلك فقال عمر هذا هو التكلف سيروا واتركوها وكان الذين بايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ألفا وأربعمائة في إحدى الروايتين عن جابر وألفا وخمسمائة في الرواية الأخرى عنه فبايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يفروا قال جابر ولم يبايعوه على الموت وقال سلمة بن الأكوع في حديثه بايعناه على الموت وكلا الحديثين صحيح لأن بعضهم بايع على أن لا يفر ولم يذكر الموت وبعضهم بايع على الموت ولم يتخلف عن هذه البيعة أحد ممن حضر مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا الجد ابن قيس فإنه اختبأ تحت ناقته وكان عثمان رضي الله عنه غائبا بمكة وبايع عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده وقال هذه يد عثمان رضي الله عنه وكانت هذه البيعة بسبب غيبة عثمان عند ما شاع أن أهل مكة قتلوه وكان صلى الله تعالى عليه وسلم عندما توجه إلى مكة أراد أن يبعث رجلا إلى قريش يخبرهم أنه لا يريد حربا وإنما جاء معتمرا فبعث إليهم خراش بن أمية الخزاعي فلما وصل إليهم أرادوا قتله فمنعته الأحابيش قال ابن قتيبة في المعارف وهم جماعة اجتمعوا فتخالفوا أن يكونوا كلا على من سواهم والتحبش في كلام العرب التجمع وخلوا سبيل خراش حتى أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره بذلك فأراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبعث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إليهم فقال عمر يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من عدي بن كعب من يمنعني وقد علمت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل أعز بها مني عثمان ابن عفان رضي الله تعالى عنه فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عثمان فبعثه إلى أبي سفيان واشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت للحرب وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته فخرج عثمان إلى مكة فلقيه إياد بن سعيد بن العاص قبل أن يدخل مكة فترجل له وحمله على دابته وأجازه بالزاء فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم ما أرسله به فقالوا له حين فزع إن شئت أن تطوف بالبيت فطف فقال مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم واحتبسته قريش عندها تبره وتكرمه فاتفق أن خرج صارخ في عسكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد قتل عثمان فاغتم المؤمنون وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا نبرح إن كان هذا حتى نلقي القوم وأمر مناديه فدعا إلى البيعة وبلغ بعد ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان باطل وجاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سالما فحمد الله على ذلك والمبايعة في الآية مفاعلة من البيع لأن الله سبحانه وتعالى باع منهم الجنة بأنفسهم وأموالهم وباعوه أنفسهم وأموالهم بالجنة وبقية قضية الحديبية في المواهب اللدنية.