الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثّاني [في وصفه تعالى بالشهادة وما تعلق به من الثناء والكرامة]
(في وصفه تعالى له) وفي نسخة في وصفه له تعالى وهو خطأ فاحش (بالشّهادة، وما يتعلّق بها من الثّناء والمدح والكرامة) المراد بالشهادة شهادته صلى الله تعالى عليه وسلم بالتزكية للأمة أو بالتبليغ للأنبياء في موقف القيامة بناء على الاحتمالين المفهومين من قَوْلُهُ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً وقوله وما يتعلق به أي بوصفه فهو تعميم بعد تخصيص ببعضه وفي نسخة صحيحة وما يتعلق بها والمتبادر أنها ترجع إلى الشهادة والتحقيق أنها لمعنى ما المبين بما بعدها (قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي على من بعثت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم ونجاتهم وضلالهم يوم القيامة أو شاهدا لله بالوحدانية أو مشاهدا له بالصمدانية (وَمُبَشِّراً) أي للمؤمنين بالجنة والوصلة (وَنَذِيراً [الأحزاب: 45] ) أي منذرا ومخوفا للكافرين بالحرقة والفرقة ولعل وجه العدول عن منذرا إلى نذيرا مراعاة للفاصلة أو تفنن في العبارة ولذا لم يقل بشيرا مع أنه بمعنى مبشر (الآية) وتمامها وداعيا إلى الله أي إلى الإقرار به وبتوحيده بإذنه أي بتيسيره أو بأمره وهو قيد لجميع ما تقدم لا للدعوة وحدها كما يستفاد من البيضاوي والله تعالى أعلم وَسِراجاً مُنِيراً أي يستضاء به من ظلمات الجهالة ويقتبس من نوره ما يتخلص به عن الضلالة (جمع الله تعالى له في هذه الآية) أي بعد ما تعلق به عين العناية وتحقق له كمال الرعاية (ضروبا) أي أنواعا وأصنافا (من رتب الأثرة) بضم الراء وفتح ثاء جمع رتبة بمعنى المنزلة والمرتبة المخصوصة والأثرة محركة وبضم وبالكسر ما يستأثر به على غيره والأثرة بالضم المكرمة المتواترة كالمأثرة على ما في القاموس وقال النووي بالفتحتين هو الأفصح، (وجملة أوصاف) أي وجمع له نعوتا مجملة أو كثيرة (من المدحة) بكسر الميم أي الثناء والذكر الحسن وإذا فتحت الميم قلت المدح، (فجعله) أي الله تعالى (شاهدا على أمّته لنفسه) أي لذاته الشريفة (بإبلاغهم الرّسالة) من إضافة المصدر إلى مفعوله أي بإبلاغه إياهم ما يتعلق بأمر الرسالة (وهي) أي هذه الخصلة التي هي الشهادة لنفسه على الأمة بدون البينة (من خصائصه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حيث لم يجعل غيره شاهدا بنفسه لنفسه على أمته فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا جحدت أمتهم تبليغهم إياهم فشهدوا لأنفسهم به فإن الله تعالى يطالبهم بالبينة وهو أعلم فنشهد لهم به فتقول أممهم لنا بم عرفتم ذلك فنقول بإخبار الله تعالى لنا في كتابه فيسأل الله تعالى نبينا عنا فيزكينا بشهادة وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً الآية وكفى بها حاكما على كون الإجماع حجة، (ومبشّرا لأهل طاعته) أي بالثواب العظيم، (ونذيرا لأهل معصيته) أي بالعقاب الأليم، (وداعيا إلى توحيده، وعبادته) أي من الدين القويم وفي أصل الدلجي وداعيا إلى الله بإذنه على وفق الآية أي بتيسيره وتسهيله، (وَسِراجاً مُنِيراً) أي مضيئا (يهتدى به للحقّ) بصيغة المجهول أي يهتدي الخلق به إلى
الحق كما يمد بنور السراج نور الأبصار وإلى صراط مستقيم (حدّثنا الشّيخ أبو محمّد بن عتّاب رحمه الله بفتح مهملة وتشديد فوقية فموحدة قال الحجازي ليس للقاضي عياض رواية عن محمد بن عتاب وإنما يروي عن أبي محمد بن عبد الله بن محمد بن عتاب انتهى وكذا قال التلمساني هو عبد الله بن محمد بن عتاب سمع منه القاضي في رحلته إلى الأندلس انتهى وقال العسقلاني هو مسند الأندلس في زمانه عبد الرحمن بن محمد بن عتاب القرطبي الأندلسي سمع من أبيه وكان واسع الرواية فأكثر عنه وعن حاتم بن محمد الطرابلسي وغيرهما وأجاز له جماعة من الكبار منهم مكي بن أبي طالب المقري وكان ابن عتاب عارفا بالقراآت ذكر الكثير من التفسير والعربية واللغة والفقه كريما متواضعا زاهدا ومات سنة عشرين وخمسمائة (حدّثنا أبو القاسم حاتم بن محمّد) أي ابن عبد الرحمن بن حاتم التميمي المعرف بابن الطرابلسي وقد قرأ عليه أبو علي الغساني صحيح البخاري مرات (حدّثنا أبو الحسن) أي علي بن محمد بن خلف المغافري الفروي (القابسيّ) بكسر الموحدة وإنما قيل القابسي لأن عمه كان يشد عمامته شدة أهل قابس توفي سنة ثلاث وأربعمائة بمدينة القيروان ودفن بباب تونس، (حدّثنا أبو زيد المروزيّ) وهو محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد الإمام البارع المحقق النحرير المدقق الزاهد العابد المجمع على جلالته وعظمته قال الحاكم جاور بمكة وحدث بها وببغداد بصحيح البخاري عن الفربري وهو أجل الروايات بجلالة أبي زيد توفي بمرو سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، (حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بتثليث السين وبالهمزة والإبدال كيونس وهو ابن مطر بن صالح ابن بشر ابن إبراهيم الفربري وكان ثقة ورعا توفي سنة عشرين وثلاثمائة قال أبو نصر الكلابادي كان سماعه لهذا الكتاب يعني صحيح البخاري من محمد بن إسماعيل البخاري مرتين مرة بفربر سنة ثمان وأربعين ومائتين ومرة ببخارى سنة اثنتين وخمسين ومائتين انتهى وروي أنه قال سمعت الجامع بفربر في ثلاث سنين وفربر مدينة بخراسان بكسر الفاء أو بفتحها وفتح الراء الأولى فقيل الكسر أكثر وقيل الفتح أشهر، (قال حدّثنا البخاريّ) وهو أظهر من أن يذكر وهو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وقد روى عنه الترمذي وابن خزيمة والصحيح أن النسائي لم يسمع منه وكان إماما حجة حافظا في الحديث والفقه مجتهدا من أفراد العالم مع دينه وورعه وتألفه ذهب بصره في صبا فرده الله تعالى عليه بدعاء أمه ومات يوم الفطر بعد الظهر سنة خمسين ومائتين، (حدّثنا محمّد بن سنان) بكسر السين مصروف وممنوع وهو أبو بكر العوني الباهلي البصري روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه، (حدّثنا فليح) بضم فاء وفتح لام وسكون تحتية تصغير فالح أو أفلح مرخما وهو ابن سليمان العدوي روى عن نافع وغيره وعنه جماعة وأخرج الأئمة الستة (حدّثنا هلال) أي ابن علي وهو هلال بن أبي ميمونة يروي عن أنس وعطاء بن يسار وأبي سلمة وعنه مالك وفليح وغيرهما أخرج له أصحاب الكتب الستة (عن عطاء بن يسار) بفتح تحتية وخفة مهملة
وروى عن ميمونة وأبي زيد وأبي ذر وعدة وعنه زيد بن أسلم وشريك وخلق وكان من كبار التابعين وعلمائهم أخرج له الأئمة الستة، (قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العاص) اختلف في كتابته والجمهور كما قاله النووي على كتابته بالياء وهو الفصيح عند أهل العربية ويقع في كثير من كتب الحديث والفقه وأكثرها بخلاف الياء وهي لغة انتهى وقال ابن الصلاح في الإملاء على المسلسل بالأولية بقول كثير من أهل الضبط في حالة الوصل بالياء جريا على الجادة والمتداول على الألسنة والمشهور حذف الياء وهو مشكل على من استطرف من العربية ولم يوغل وربما أنكره ولا وجه لإنكاره فإنه لغة لبعض العرب شبه ما فيه الألف واللام بالمنون لما بينهما من التعاقب وبها قرأ عدة من القراء السبعة كما في قوله تعالى الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ وشبهه انتهى وقد اثبت ابن كثير ياء المتعال وصلا ووقفا والجمهور على حذفها في الحالين وأراد بشبهه التلاق والتناد فإن قالون بخلاف عنه وورشا وافقا ابن كثير في اثبات الياء وصلا لا وقفا والحاصل أن المنقوص لا خلاف في جواز حذف لامه في اسم الفاعل واثباته وإنما الكلام على أن العاص هل هو اسم الفاعل من عصى بمعنى مرتكب العصيان أو حامل العصا أو الضارب بها أو هو معتل العين فلا يكون من هذا الباب وحينئذ اثبات الياء فيه خلاف الصواب والذي اقتصر عليه صاحب القاموس حيث قال في الأجوف والأعياص من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر وهم العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص هذا وترجمة عبد الله مشهورة وفي الكتب المطولة مسطورة قيل بينه وبين أبيه عمرو في السن اثنتا عشرة وقيل إحدى عشرة سنة وقد أسلم قبل ابيه وأخرج البخاري هذا الحديث منفردا عن بقية أصحاب الكتب الستة في موضعين أحدهما في التفسير وثانيهما في البيوع وهو الذي ساقه القاضي أبو الفضل منه حيث قال (فقلت) وفي نسخة قُلْتُ (أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) قال الحلبي وقع في روايتنا أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في التوراة ولم يذكر ههنا القاضي يعني بل ذكره فيما سيأتي، (قال) أي ابن عمرو (أجل) أي نعم أخبرك فكان قوله أخبرني متضمنا لمعنى اتخبرني أو ألا تخبرني على ما هو مقتضى حسن الأدب في العبارة وإن كان الأمر أيضا هنا محمولا على الالتماس دون التحكم والإجبار (والله) قسم ورد ردا للمكذبين من اليهود والنصارى والمشركين (إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القرآن) وفيه إشعار بأنه حافظ للكتابين وأن ما يوجد في القرآن مع إيجازه وإعجازه أكثر مما يوجد في غيره من التوراة ونحوه وإيماء إلى أن اليهود حذفوا بعض صفاته من التوراة أو غيروا مبانيه أو معانيه قال الحلبي فإن قيل ما الحكمة في سؤال عطاء بن يسار لعبد الله بن عمرو عن صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة وهو قرشي سهمي قيل لأنه كان يحفظها وقد روى البزار من حديث ابن لهيعة عن وهب عنه انه رأى في المنام كان في إحدى يديه عسلا وفي الأخرى سمنا وكأنه يلعقهما فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم فقال تقرأ الكتابين التوراة والقرآن فكان يقرأهما انتهى والظاهر أن العسل معبر بالقرآن حيث فيه شفاء للناس وإيماء إلى حلاوة الإيمان وإشعار بأنه أعلى وأغلى من الأدهان وأن الجمع بينهما نور في عالم الاتقان بالنسبة إلى أهل الإيقان (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) حال مقدرة من الكاف (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وهذا منصوص في القرآن ولعل معناه مذكور في التوراة. (وحرزا) أي حفظا أو حفظا (للأمّييّن) أي يمنعهم بهدايته إياهم من كل مكروه والأميون جمع الأمي وهو من لا يحسن الكتابة والقراءة نسبة إلى أمة العرب حيث كانوا لا يحسنونهما غالبا أو إلى الأم بمعنى أنه كما ولدته أمه وهذا المعنى مستفاد من القرآن حيث قال هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ الآية وفي تخصيصهم تشريف لهم (أنت عبدي ورسولي) وهذا أيضا موجود في القرآن حيث أضافه بوصف العبدية والرسالة إليه سبحانه وتعالى، (سمّيتك المتوكّل) حيث قال وتوكل على الله أو لكونه رئيس المتوكلين في قوله سبحانه وتعالى وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (ليس، بفظّ) فيه التفات تنشيطا للسامع والمعنى ليس هو سيىء الخلق قليل التؤدة، (ولا غليظ) أي قاسي القلب قليل الرحمة كما قال سبحانه وتعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وأما تفسير الحلبي وغيره الغليظ بالشديد القول فلا يلائم مبنى الآية وإن كان شدة القول والجفاوة متفرعة على غلظ القلب والقساوة (ولا صخّاب) بصاد وتشديد معجمة وهو سخاب بالسين المهملة من السخب وهو لغة ربيعة بمعنى رفع الصوت وصيغته فعال للنسبة كتمار لأن المراد به نفيه مطلقا من غير قيد قليل وكثير وقوله (في الأسواق) قيد واقعي لأن الغالب أن يقع فيها ارتفاع الصوت للمخاصمة والمشاجرة على وفق المشاهدة أو احترازي فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يرفع صوته في التلاوة حال الإمامة وفي الموعظة حال الخطبة (ولا يدفع بالسّيّئة) أي منه (السّيّئة) أي الواصلة إليه من غيره مع أنه جائز لقوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وسميت الثانية سيئة للمشاكلة والمقابلة أو بالإضافة إلى التحمل والصبر كما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وهي مقابلة السيئة بالحسنة لكن الأفضل والأكمل ما قاله سبحانه وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي المقابلة بالإحسان وهذا طريق أهل العرفان (ولكن يعفو) أي ولكن يدفعها بالتي هي أحسن فكان يعفو أي عن الخطائين في الباطن (ويغفر) أي في الظاهر وكان حقه أن يقول ثم ويحسن إليهم على ما هو المتبادر مما سبق ومما يفهم من قوله تعالى وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ولذا حكي أن بعض الأكابر دخل عليه خادم بطعام حار فانكب على بدنه فقرأ الخادم وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ قال كظمت فقرأ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال عفوت فقرأ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال اعتقتك وقد وقع مثل هذا كثيرا في نعته صلى الله تعالى عليه وسلم حيث حلم على جفاوة الأعراب فيما اغلظوا له بالقول والفعل وأحسن إليهم بالمال الكثير، (ولن يقبضه الله حتّى
يقيم) أي الله (به) أي بسببه وببركته (الملّة العوجاء) أي غير المستقيمة لأن العرب غيرتها عن استقامتها فصارت كالعوجاء والمراد بها ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهي العادلة المائلة عن الأديان الباطلة إلى دين الحق الذي هو التوحيد المطلق كما أشار إليه بقوله، (بأن يقولوا لا إله إلّا الله) أي ومحمد رسول الله فهو من باب الاكتفاء أو من إطلاق الجزء وارادة الكل أو على أن الكلمة المذكورة هي علم للشهادتين ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة إذ من المعلوم أن اليهود والنصارى وأمثالهم يقولون لا إله إلا الله ولا تفيدهم هذه الكلمة من دون إقرارهم بأن محمدا رسول الله وفي الحديث إيماء إلى قوله سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (ويفتح) بالنصب عطفا على يقيم أو يقولوا (به أعينا) جمع عين (عميا) جمع أعمى، (وآذانا) بالمد جمع أذن (صمّا) جمع أصم، (وقلوبا غلفا) جمع أغلف والغلف غشاء القلب وغلافه المانع من قبول الحق ووصول الصدق وتعقل أمر المبدأ والمعاد كما أخبر الله تعالى عن أحوالهم بقوله صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ أي عن سماع الحق والنطق به وإدراكه ببصرهم فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي الحق ولا يعلمون الصدق ولعله لم يقل والسنة بكما لأنه يلزم من الصمم الأصلي البكم الفرعي والله أعلم، (وذكر مثله) بصيغة المجهول ولعل مثله مروي لابن عمر ولعطاء بن يسار كما في البخاري تعليقا وأسنده الدارمي (عن عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام وقيل مشدده ابن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري الخزرجي الصحابي كان حليفا لبني الخزرج كنيته أبو يوسف بابنه وهو من ولد يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وكان اسمه في الجاهلية حصينا فسماه عليه الصلاة والسلام عبد الله أسلم أول قدمه عليه الصلاة والسلام المدينة ونزل في فضله قوله تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ على مثله وكذا قوله سبحانه وتعالى قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ شهد مع عمه فتح بيت القدس وشهد له صلى الله تعالى عليه وسلم بالجنة روى عنه ابناه محمد ويوسف وغيرهما توفي سنة ثلاث وأربعين أخرج له أصحاب الكتب الستة، (وكعب الأحبار) بالحاء المهملة وسبق بعض ترجمته والمعنى وذكر مثله أيضا عن كعب الأحبار فيما رواه الدارمي من طريق أبي واقد الليثي، (وفي بعض طرقه) أي طرق هذا الحديث (عن ابن إسحاق) كما رواه ابن أبي حاتم في تفسير سورة الفتح عن وهب بن منبه وفي بعض النسخ أبي إسحاق بالياء وهو تصحيف وصوابه بالنون وهو الإمام صاحب المغازي رأى عليا وأسامة والمغيرة بن شعبة وأنسا وروى عن عطاء والزهري وطبقته وعنه شعبة والحمادان والسفيانان وخلق وكان من بحور العلم صدوقا وله غرائب في سعة ما روى تستنكر واختلف في الاحتجاج به وحديثه حسن بل وفوق الحسن وقد صححه جماعة مات سنة إحدى وخمسين ومائة أخرج له البخاري في التاريخ ومسلم والأربعة في سننهم:(ولا صخب)
بفتح فكسر على الوصف وسبق معناه ويفهم من بعض الحواشي أنه رفع الصوت في السوق فقوله (في الأسواق) للتأكيد أو لقصد التجريد، (ولا متزين بالفحش) بالضم أي ولا متجمل ولا متخلق ولا متصف بالقول الفاحش والفعل الفاحش قال الحجازي ويروى ولا متدين وكذا قال التلمساني بالدال من الدين وبالزاء من الزينة والظاهر أنه مصحف وإن تكلف له السيد قطب الدين عيسى بأن معناه لا يجعله دينا وطريقة انتهى ولا يخفى أنه لا يفيد نفي الفحش عنه بالكلية وهو المطلوب في المدحة الجلية وفي حاشية المنجاني ولا متزي بالفحش أي متصف به والزي غالبا إنما يكون في الأوصاف الحسنة وقد يجيء في خلافها وقرئ قوله تعالى هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً بالراء والزاي وعين زي واو وإنما قلبت واوها ياء لسكونها وانكسار ما قبلها وفيما تصرف منه من الأفعال لطلب الخفة والفحش البذاء بالمنطق وأصل الفحش في كل شيء الخروج عن المقدار والحد حتى يقبح وقيل نفى تزينه به عنه مع كونه لا يراه زينة إنما هو باعتبار كون أهله يرونه زينة وفخرا بشهادة أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، (ولا قوّال) بتشديد الواو (للخنا) بفتح الخاء المعجمة مقصور الكلام القبيح ومنه قول زهير شعر:
إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا
…
أصبت حليما او أصابك جاهل
فهو من باب التخصيص بعد التعميم وفعال ليس للمبالغة بل للنسبة كما في قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ واللام في الحديث والآية لمجرد التقوية (أسدّده) قطعه عما قبله لكمال انقطاع بينهما لأنه حكاية عن صفات نفسية سلبية وهذا عن هبات إلهية ثبوتية أي أقيمه وأوفقه (لكلّ جميل) أي نعت جزيل، (وأهب له) بفتح الهاء أي أعطيه من فضلي (كلّ خلق كريم) أي مكارم الأخلاق المتعلقة بالخالق والمخلوق ولذا قال تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، (ثم أجعل) ويروى وأجعل (السّكينة) أي سكون القلب واطمئنانه ورزانة القالب ووقاره فهي فعيلة من السكون والكاف منها مخففة عند الكافة إلا ما حكاه القاضي في مشارق الأنوار عن الكسائي والفراء من جواز تشديدها قال المنجاني وهو نقل غريب وتدفع غرابته بجعل التشديد للمبالغة كما في السكيت والسكين ثم رأيت صاحب القاموس قال السكينة والسكينة بالكسر مشددة الطمأنينة وقرئ بهما في قوله تعالى فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي ما تسكنون به إذا أتاكم (لباسه) أي دثاره وهو مما يظهر آثاره، (والبرّ) أي الطاعة لله والإحسان بخلق الله (شعاره) بكسر أوله أي دأبه وعادته، (والتّقوى ضميره) أي في صدره كما في الحديث التقوى ههنا فيه إيماء إلى أن كمال التقوى محصور فيه، (والحكمة) أي العلمية والعملية (معقوله) أي بحيث يظهر وجه معقوله في مقوله وقال التلمساني الحكمة أي النبوة والعلم ومعقوله مكتومه وسره ولا يخفى خفاء أمره، (والصّدق) أي في المنطق (والوفاء) أي بالوعد (طبيعته) أي غريزته وجبلته التي لا يمكنه مخالفتها، (والعفو) أي عن الاساءة،
(والمعروف) أي الإحسان في محله شرعا وعرفا (خلقه) بالضم أي دأبه وعادته، (والعدل) أي في حكمه أو الاعتدال في حاله (سيرته) أي طريقته، (والحقّ) أي اظهاره (شريعته) أي دينه وملته (والهدى) بضم الهاء أي الهداية (إمامه) بكسر الهمزة أي قدوته مما يقتدى به في جميع حالاته وفي نسخة معتمدة بالفتح أي قدامه ونصب عينيه لا يتعدى منه ولا يميل عنه، (والإسلام) أي الاستسلام الظاهر والباطن (ملّته) أي دينه الذي يمليه ويقرره، (وأحمد اسمه) أي في التوراة والإنجيل وهو لا ينافي أن يكون له اسماء أخر بل فيه إيماء بأنه ابلغ الأسماء وذلك لإفادة المبالغة الزائدة التي لا توجد في غيره من الأبنية ولو كانت من هذه المادة كمحمد ومحمود فإنه بمعنى أحمد من كل حمد وحمد فله النسبة الجامعة بين كمال صفتي الحامدية والمحمودية المترتبة على جمال نعتي المحبة والمحبوبية فتأمل فإنها من الأسرار الخفية والأنوار الجلية (أهدي به) بفتح الهمزة أي أرشد الخلق بسببه (بعد الضّلالة) أي بعد تحقق حضور حصولها منهم أو بعد تعلق ثبوت وصولها بهم وفيه إيماء إلى أن ظلمة ضلالتهم لا ترتفع إلا بنور هدايته لهم مشيرا إلى الحديث القدسي والكلام الأنسي أن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه فقد غوى وارتدى ولا يبعد أن يكون المراد بعد ضلالته مشيرا إلى قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى أي جاهلا بالطريق أو عاشقا بالتحقيق (وأعلّم) بتشديد اللام المكسورة أي اجعل الناس ذوي معرفة (به) أي بالوحي وإنزال القرآن عليه (بعد الجهّالة) أي بعد ظهور زمان الجاهلية أيام الفترة أو بعد جهالته لقوله سبحانه وتعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ يعني تفصيله، (وأرفع به) أي ببركته رتبه هذه الأمة (بعد الخمالة) بفتح الخاء المعجمة بمعنى الخمول أي بعد أن لم يكن لهم ذكر وقدر وشأن وبرهان في الظاهر وإن كانوا في علم الله تعالى وفي اللوح خير أمة أو أرفع شأنه بتعليمنا إياه ببيانه بعد خمول ذكره وخفاء أمره كقوله تعالى وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، (وأسمّي به) بتشديد الميم والمكسورة كذا ضبطه الشراح ولا يبعد أن يجوز بتخفيف الميم أي أشهره بالمعرفة (بعد النّكرة) بضم النون (وأكثر به) من التكثير ويجوز من الإكثار أي أجعل الكثرة ببركته (بعد القلّة) أي في ماله وفي عدد اتباعه، (وأغني) من الاغناء أي أجعله غنيا أو أمته أغنياء (به) أي بنبوته وجهاده ورياضته وصبره على فاقته (بعد العيلة) بفتح العين وهي الفقر ومنه قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إن شاء، (وأجمع به بعد الفرقة) إيماء إلى قوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وهذا معنى قوله (وأؤلّف) أي أوقع الألفة والمودة (به بين قلوب مختلفة) أي في أغراض فاسدة، (وأهواء متشتّتة) أي آراء مبتدعة غير مجتمعة (وأمم متفرّقة) وجماعات من قبائل متباينة قال التلمساني وقع هنا بخط المصنف بتقديم التاء على الفاء من التفرق وبتقديم الفاء على التاء من الافتراق وهي نسخة العوفي، (وأجعل أمّته خير أمّة
أخرجت للنّاس) كان حقه أن يقول به هنا أيضا لأن خيرية أمته إنما هي لأجل أفضلية نبوته بناء على الملازمة العادية لكن جعله سببا أولى من عكس القضية كما أشار صاحب البردة إلى هذه الزبدة بقوله:
لما دعا الله داعينا لطاعته
…
بأفضل الرسل كنا أفضل الأمم
(وفي حديث آخر) رواه الدارمي عن كعب موقوفا والطبراني وأبو نعيم في دلائله عن ابن مسعود: (أخبرنا رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِفَتِهِ فِي التَّوْرَاةِ عَبْدِي) أي المخصوص عندي (أحمد المختار) أي على سائر الأخيار وفي نسخة بالجر فاللام للجنس الاستغراقي أي أحمد كل ما اخترته واصطفيته من الأنبياء والملائكة والأصفياء (مولده) أي مكان ولادته وظهور رسالته (بمكّة ومهاجره) بضم الميم وفتح الجيم أي موضع هجرته ومحل نقلته (بالمدينة) ليحصل للحرمين الشريفين بركته أولا وآخرا وباطنا وظاهرا وليكون زيادة البقعتين بمنزلة ابداء الشهادتين (أو قال طيبة) بفتح الطاء وهو اسم من اسماء المدينة كطابة والتقدير أنه قال بالمدينة أو بطيبة كما في نسخة فأو للشك في الاسم لا في المسمى وقد روي أن لها في التوراة أحد عشر اسما هذان منها وكانت قبل الإسلام تسمى بيثرب باسم رجل من العماليق قبيلة منسوبة إلى عملاق كان يسكنها فلما جاء الإسلام وسكنها عليه الصلاة والسلام كره له هذا الاسم لما فيه من لفظ التثريب فسماها طيبة وقد جاء في القرآن لفظ يثرب ولكن الله سبحانه وتعالى لم يسمها بذلك وإنما قاله حكاية عن الكفار والمنافقين وقال وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فارجعوا فنبه سبحانه وتعالى بما حكى عنهم أنهم قد رغبوا عن اسم سماها به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبوا إلا ما كانوا عليه من جاهليتهم وقد سماها الله سبحانه وتعالى المدينة بقوله ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم وقد روى في معنى قوله تعالى وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أنه المدينة وأن مخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار وقد ورد من سمى المدينة بيثرب فليستغفر الله وهي طابة رواه أحمد في مسنده عن البراء (أمّته الحمّادون لله) أي المبالغون في حمده سبحانه وتعالى تبعا لنبيهم أحمد فكما أنه أحمد الخلق فهم أحمد الأمم ومما يدل على كثرة حمدهم ودوام شكرهم تقييده بقوله (على كلّ حال) أي من السراء والضراء وفي حاشية المنجاني أمته الحمادون يحمدون الله على كل حال وفي رواية حماد بن سلمة عن كعب أنه قال وجدت في التوراة زيادة على هذا وهي يوضئون اطرافهم ويتزرون على انصافهم في قلوبهم اناجيلهم يصلون الصلاة لوقتها رهبان بالليل ليوث بالنهار ولم تزل اليهود بعد ما غيرت من صفات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تغار على ظهور شيء مما بقي فيها وتكتم أشد الكتم وقد أخرج أبي ابن شيبة عن عبد الله بن مسعود في مسنده أنه قال الله تعالى عز وجل ابتعث نبيه لإدخال
رجل الجنة وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دخل كنيسة فإذا هو بيهود فإذا يهودي يقرأ التوراة فلما أتوا على صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمسكوا وكان في ناحيتها رجل مريض فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لكم أمسكتم فقال المريض إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا يعني على عادتهم أو لأجل حضورك عندهم قال ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة وقال للقارئ ارفع يدك فرفع يده فقرأ حتى أتى على صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي بكمالها فقال هذه صفتك وصفة أمتك ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لولا أخاكم وأخرج الواقدي في مصنفه مما يتعلق بصفات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال كان النعمان السابي حبرا من أحبار اليهود فلما سمع بذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قدم عليه فسأله عن أشياء قال إن أبي كان يختم على سفر ويقول لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه قال النعمان فلما سمعت بك فتحت السفر فإذا فيه ما يحل وما يحرم وإذا فيه إنك خير الأنبياء وأن أمتك خير الأمم واسمك أحمد وأمتك الحمادون قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم يتحنن عليهم تحنن الطير على فراخه ثم قال إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجب أن يسمع أصحابه حديثه فأتاه يوما فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يا نعمان حدثنا فابتدأ النعمان الحديث من أوله فرؤي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتبسم وقال أشهد أني رسول الله والنعمان هذا هو الذي قتله الأسود العبسي وقطعه عضوا عضوا وهو يقول أشهد أن محمدا رسول الله وأنك مفتر كذاب على الله (وقال تعالى) أي في حق المتقين من المؤمنين (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ) أي الجامع بين مرتبة النبوة وهي أخذ الفيض من الحضرة بالحق المسمى بالولاية وبين مرتبة الرسالة وهي تبليغ الأحكام الشرعية إلى الخلق فهو برزخ جامع بين الاستفادة والإفادة وبين الكمال والتكميل الذي هو أعلى مقامات أرباب السعادة ولعل وجه تقديم الرسالة في الذكر مع تأخر تحققها في الوجود هو الاهتمام بنعت الرسالة أو الترتيب بحسب التدلي لا الترقي في المرتبة (الْأُمِّيَّ [الأعراف: 157] ) أي مع كونه عاريا عن الكتابة والقراءة السابقة الدالة على أن معارفه كلها من العلوم اللدنية والفتوحات العندية (الآيتين) أي اقرأ إلى آخر الآيتين الدالتين على نعوته الجلية وصفاته البهية وهو الذي يجدونه أي يصادفون نعته ويعلمون صفته مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وهما زبدة الكتب المنزلة على اليهود والنصارى يأمرهم بالمعروف استئناف مبين لأوصافه المكتوبة عندهم أو مطلقا أي يأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بما يعرفه جميع أرباب المعرفة بالمنقولات ويستحسنه أرباب الطبيعة المستقيمة من أصحاب المعقولات حين يأمرهم بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات وينهاهم عن المنكر أي جنس المنكرات شرعا وعرفا نقلا وعقلا ويحل لهم الطيبات أي الحلالات
والمستلذات ويحرم عليهم الخبائث أي المحرمات والمضرات ويضع عنهم أي عن من تبعه من اليهود والنصارى خصوصا إصرهم أي عهودهم الثقيلة التي أخذ عليهم العمل بها في التوراة من العبادات والرياضات والسياحات والأغلال التي كانت عليهم من التكاليف الشاقات كقطع الأعضاء الخاطئة وقرض مواضع النجاسات وتعين القصاص في العمد والخطأ وإحراق الغنائم وظهور الذنوب على أبواب فاعليها فالذين آمنوا به وعزروه أي عظموه في نفسه ونصروه على عدوه وأتبعوا النور الذي أنزل معه أي مع رسالته وهو القرآن أو الوحي الشامل للكتاب والسنة أولئك هم المفلحون الفائزون بالرحمة الأبدية قل يا أيها الناس أي الشامل لليهود والنصارى وغيرهم عامة أني رسول الله إليكم جميعا أي كافة بخلاف موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فإنهما كانا مبعوثين إلى بني إسرائيل خاصة ولعله من هنا قال عليه الصلاة والسلام ولو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي يعني لما كان هو وغيره كعيسى إلا اتباعي الذي له ملك السموات والأرض أي حيث يعم ملكه العلويات والسفليات شملت رسالته جميع الموجودات على ما بيناه في بعض المصنفات لا إله إلا هو فكأنه لا رسول له إلا هو فإنه لولا هو لما خلق غيره ولما وجد من يعرف معنى هو لا من حيثية مبناه ولا من طريقة معناه يُحْيِي وَيُمِيتُ بالإبقاء والإفناء وبالهداية والاغواء فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي تأكيد وتثبيت أو تبكيت لتوفقهم على الإيمان بمثل هذا النبي الذي يؤمن بالله إيمان مشاهدة وعيان ومراقبة وإيقان وكلماته وبجميع كلمات الله المنزلة على الأنبياء مجملة ومفصلة واتبعوه لأن متابعته تورث المحبة لعلكم تهتدون لكي تهتدوا ببركة متابعته إلى طريق محبته وآداب مودته. (وقد قال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ) قيل ما مزيدة للمبالغة والأظهر أنها مبهمة مفسرها رحمة والمعنى فبرحمة عظيمة ونعمة جسيمة كائنة (مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] ) أي تلطفت للخلق وتوجهت إليهم من الحق حيث وفقك للرفق وفيه إشارة خفية إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يريد الثبات على النبوة التي هي الولاية الخاصة الموجبة أن لا يغفل صاحبها عن الحضرة لحظة ولا لمحة مما يوجب التفرقة المانعة عن مقام الجمعية وأراد الله سبحانه وتعالى له الترقي إلى مقام جمع الجمع بحيث لا تحجبه الكثرة عن الوحدة ولا تمنعه الوحدة عن الكثرة وبهذا تبين أن مقام الرسالة أعلى مرتبة من ولاية الرسول المعبر عنها بالنبوة خلافا لمن توهم خلاف ذلك فقال الولاية خير من الرسالة وإن أول كلامه بأن المراد بالولاية النبوة لا جنس الولاية معللا بأن الولاية هي أخذ الفيض اللازم منه توجه صاحبه إلى الحق وأن الرسالة هي الإفادة بالإضافة المستلزمة للإقبال على الخلق فإنا نقول إذا استغرق في عين الجمع بحيث إنه فنى عن الجميع ولم يوجد في عين الشهود غيره موجود ولا في الدار غيره ديار فأنى يتصور منه الإقبال والإدبار وهذا بحر بلا قعر فيرجع إلى ساحل بلا وعر (الآية) وتمامها قوله وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا أي سيىء الخلق مع الخلق بناء على أن الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس
غليظ القلب أي شديدة بالعزلة عنهم لانفضوا من حولك أي تفرقوا عن مجلسك ولم يحصل لهم حظ من انسك فاعف عنهم ما صدر من الغفلة منهم واستغفر لهم فيما يختص بحق الله تعالى إتماما للشفقة عليهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ تلطفا بهم فَإِذا عَزَمْتَ بعد المشاورة أو الاستخارة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ولا تعتمد على ما سواه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ المعتمدين على ما قدره وقضاه فيهديهم إلى الصلاح وينصرهم بالنجاح والفلاح. (قال السّمرقندي ذكّرهم الله تعالى) وفي نسخة ذكر الله تعالى بتشديد الكاف (منّته) أي امتنانه وفي نسخة بنونين على صيغة الجمع لاشتمال هذه المنة على منن كثيرة (أنّه) أي سبحانه وتعالى (جعل) ويروى أن جعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، رحيما بالمؤمنين رؤوفا أي للمتقين فإن الرأفة أرق من الرحمة (ليّن الجانب) أي مع الأقارب والأجانب في جميع المراتب (ولو كان) أي بالفرض (فظّا) أي سيىء الخلق في الفعل (خشنا) أي غليظا (في القول لتفرّقوا من حوله) أي ولم ينتفعوا بفعله وقوله، (ولكن جعله) أي الله سبحانه وتعالى (سمحا) أي جوادا زيادة على ما طلب منه في معاملاتهم أو مسامحا لهم في فرطاتهم وزاد في نسخة سهلا أي لينا (طلقا) بفتح فسكون أي منبسط الوجه (برّا بفتح الباء أي بارا كثيرا الإحسان إلى أمته كالولد البار بأبويه وقرابته أو جامعا للخير كله فإنه من البر الذي هو وسيع الفضاء (لطيفا) أي رفيقا شريفا يراعي قويا وضعيفا (هكذا) أي مثل ما سبق لفظا أو معنى (قاله الضّحّاك) وهو ابن مزاحم الهلالي الخراساني يروي عن أبي هريرة وابن عباس وابن عمر وأنس رضي الله تعالى عنهم وعنه خلق وثقه أحمد وابن معين وضعفه شعبة أخرج له أصحاب السنن الأربع وتوفي سنة خمس ومائة، (وقال تعالى:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا أو عدولا أو معتدلين في الأخلاق غير واقعين في طرفي الإفراط والتفريط من التشبيه والتعطيل والإسراف والتقتير والتهور والجبن وأمثال ذلك (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي بتبليغ رسالة أنبيائهم إليهم (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] ) أي مطلعا ومشاهدا ومشرفا (قال أبو الحسن القابسيّ) بكسر الموحدة وسبق ذكره (أبان الله تعالى) أي أظهر ظهورا بينا (فضل نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم، وفضل أمّته بهذه الآية) أي بسببها أو فيها بقوله (وفي قوله) أي سبحانه وتعالى (في الآية الأخرى وَفِي هذا) متعلق بما قبله وهو أي سبحانه وتعالى سماكم المسلمين من قبل يعني في الكتب المتقدمة وفي هذا أي القرآن (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) بالتبليغ إليكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الحج: 78] ) بتبليغ رسلهم إليهم. (وكذلك) أي ومثل هذا المعنى يفيده (قوله تعالى: فَكَيْفَ) أي كيف حال الكفرة يوم الحسرة (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) أي بنبي يشهد على أمته (الآية) وفي بعض النسخ بتمامها وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ أي على الشهداء من الأنبياء أو على أمتك من الأصفياء والأولياء شهدا حين يشهدون على الأمم المكذبة بتبليغ الأنبياء إليهم الرسالة، (وقوله تعالى: وَسَطاً أي
عدولا) وفي نسخة عدلا أي موصوفين بالعدالة والديانة (خيارا) أي مختارين من هذه الأمة إن كان الخطاب للصحابة وإن كان الخطاب لجميع الأمة فهم خيار الأمم السالفة (ومعنى هذه الآية) أي بناء على مبنى هذه العاطفة على الجملة المقدرة المعبر عنها بقوله: (وكما هديناكم) أي المستفاد من قوله تعالى يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فالمعنى كما هديناكم إلى صراط المستقيم والدين القويم المشترك بين عامة أهل التوحيد والتسليم (فكذلك خصّصناكم) بتشديد الصاد ويجوز تخفيفها (وفضّلناكم) أي على عامة الأمم الماضية (بأن جعلناكم أمّة) أي جماعة مجتمعة غير متفرقة بل متفقة على حقيقة واحدة (خيارا) أي مختارين بخير الرسل (عدولا) عادلين عاملين بأفضل الكتب، (لتشهدوا للأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام) أي الرسل (على أممهم) أي بتبليغ الرسالة يوم القيامة (ويشهد لكم الرّسول بالصّدق) أي بصدق القول وحق الأمانة والديانة، (قيل) قد ثبت بطرق متكاثرة كادت أن تكون متواترة فكان حقه أن يقول صح ونحوه ولا يعبر بقيل المشعر بضعفه إذ رواه البخاري وغيره (إنّ الله جل جلاله أي عظم كبرياؤه (إذا سأل الأنبياء: هل بلّغتم) أي أممكم فيما أرسلتكم به إليهم (فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَتَقُولُ أُمَمُهُمْ، مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، فَتَشْهَدُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَيُزَكِّيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي ويجيز الله تعالى شهادتهم بتزكيته لهم، (وقيل معنى الآية: إنّكم) بالفتح ويجوز الكسر أي أيها الأمة (حجّة) أي ذو شهادة ثابتة (على كلّ من خالفكم) أي من الأمم المكذبة (والرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم حجّة) أي بينة واضحة دالة (عليكم) أي على صدقكم وصدق من وافقكم. (حكاه السّمرقنديّ) أي نقل هذا القول عن بعض المفسرين، (وقال تعالى) أي فيما أثنى عليه وبين إكرامه لديه:(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي من أمتك لا من غيرهم (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يُونُسَ: 2] ) ما قدموه من الأعمال الصالحة كما قاله الخطابي وغيره من المفسرين وقال بعضهم ما قدم لهم عند ربهم من السعادة السابقة في اللوح المحفوظ وقد قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه
لنا القدم الأولى إليك خلفنا
…
لا ولنا في طاعة الله تابع
(قال قتادة والحسن) تقدم ذكرهما (وزيد بن أسلم) هو أبو أسامة مولى عمر بن الخطاب توفي سنة ست وثلاثين ومائة (قدم صدق هو محمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لَهُمْ وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا) أي في رواية أخرى: (هي) أي قدم صدق وأنت الضمير لتأنيث خبره وهو قوله (مصيبتهم بنبيّهم) سواء أدركوا الموت أو حصل لهم جملة الفوت فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم حينئذ يكون لهم فرط حق وقدم صدق عند ربهم قال الحجازي يروي هي فضيلتهم بينهم أي فيما بينهم ولا يخفى عدم ملائمته للمقام ولعله تصحيف أو تحريف ولو كان فضيلتهم بنبيهم لكان وجها وجيها فإنه حينئذ لهم سبق حال صدق وتقدم مقام حق