الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحجاب وكشف النقاب مكان دون مكان ولا زمان دون زمان لإرادة العيان كما لا يخفى على الأعيان ولابن عطاء حكم توجب في الجملة كشف غطاء فأحببت أن أذكرها وهي قوله. كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء أم كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء بل وهو الظاهر قبل وجود كل شيء وهو الواحد الذي ليس معه شيء فالحق ليس بمحجوب وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه إذ لو حجبه شيء لستره ما يحجبه ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر وكل حاصر لشيء فهو له قاهر وهو القاهر فوق عباده انتهى وإذا قال الله تعالى لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً كيف يحيطون به جرما وإني للعدم حتى يغلب القدم نعم أن لله سبحانه وتعالى سبعين ألف حجاب من النور في عالم الظهور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليها نور بصره وقد قال الله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي باطل ومضمحل وفان في نظر أرباب العرفان في كل آن وزمان ولذا قال بعض أرباب الشهود سوى الله والله ما في الوجود وقال بعض الشطار ليس في الدار غيره ديار فهو من غاية ظهوره باطن ومن نهاية بطونه ظاهر وفي عين أبديته أول وفي عين أزليته آخر وغيره كالهباء في الهواء والسراب في نظر مشتاق الشراب وإلا فما للتراب ورب الأرباب والله تعالى أعلم بالصواب.
فصل [ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده]
أي من متعلقات هذا الباب (ثمّ اختلف السّلف) أي الصحابة والتابعون (والعلماء) أي الخلف المجتهدون (هل كان) أي وقع (الإسراء بروحه) أي فقط (أو جسده) أي مع روحه في جميع اسرائه أو في بعضه كما سيأتي في كلامه ويندرج فيه أيضا قول آخر لبعضهم أنه أسري به مرتين مرة مناما ومرة يقظة جمعا بين الروايتين وكذا قول التوقف بأن يقال اسري به ولا يقال يقظة ولا مناما وهو قول غريب حكاه الإمام الجوزية في أوائل كتابه الهدى ولعل وجهه أنه ورد في بعض طرق الخبر أنه كان بين النائم واليقظان فلم يعرف حقيقة أمره ولذا عبر بعضهم عنه بالنوم وبعضهم باليقظة اعتبارا بالغلبة وكأن المصنف لم يلتفت إلى هذه المقالة فينتظم قوله (على ثلاث مقالات) أي لطوائف ثلاث كما فصلها بقوله (فذهبت طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالرُّوحِ وَأَنَّهُ رُؤْيَا منام) بدل مما قبله أو عطف تفسير له إذ هو في هذا المقام إنما يكون في حال المنام (مع اتّفاقهم أنّ رؤيا الأنبياء حقّ) أي ثابت غير كذب (ووحي) أي يعمل به بخلاف رؤيا غيرهم ويدل عليه قوله تعالى حكاية يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ وحديث تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم (وإلى هذا ذهب معاوية رضي الله تعالى عنه) أي من الصحابة كما رواه ابن إسحاق وابن جرير عنه وهو ابن أبي سفيان كلاهما من مسلمة الفتح وهو أحد كتبة الوحي وقيل إنما كتب له كتبه إلى الاطراف وتولى الشام في زمن عمر رضي الله تعالى عنه ولم يزل بها حاكما إلى أن مات وذلك أربعون سنة روى عنه ابن عباس وأبو
سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما وكان عنده إزار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورداؤه وقميصه وشيء من شعره وأظفاره فقال كفنوني في قميصه وأدرجوني وفي رواية وآزروني بإزاره وأحشوا منخري وشدوا مواضع السجود مني بشعره وأظفاره وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين (وحكي) أي مثل ذلك (عن الحسن) أي البصري. (والمشهور عنه خلافه) وهو أنه كان في اليقظة (وإليه) أي وإلى هذا القول (أشار محمّد بن إسحاق) أي ابن يسار إمام المغازي (وحجّتهم) أي لقولهم إنه رؤيا منام (قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) أي ظاهرة إذ في آخر الآية دلالة على أنه كان باليقظة حيث قال (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60] ) أي ابتلاء وامتحانا في تصديق القضية إذ انكرته قريش وارتد كثير من أهل التقليد وصدقه الصديق وأهل التوفيق والتأييد إذ من المعلوم أنه لا فتنة إلا إذا كان في حال اليقظة فالرؤيا بمعنى الرؤية ولعل تسميتها بها لأنها من غرابتها في معنى الرؤيا وقد سبق جواز تقدير مضاف أي تحقيق الرؤيا وتصديقها وبه يجمع بين الروايات فإنه رأى أولا رؤيا وثانيا رؤية فقد قال السهيلي وذهبت طائفة منهم شيخنا أبو بكر إلى أن الإسراء كان مرتين أحديهما في نومه توطئة له وتيسيرا عليه كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة فإنه عظيم تضعف عنه القوى البشرية وكذا الإسراء سهل عليه بالرؤيا لأن هوله عظيم ورأيت المهلب في شرح البخاري قد حكي هذا القول عن طائفة من العلماء وأنهم قالوا كان الإسراء مرتين مرة في نومه ومرة في يقظته ببدنه صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى ولا يبعد أن يقال اسراؤه الروحي كان مرات باعتبار المكاشفات في اليقظات والمنامات وأما اسراؤه الجسدي فمرة واحدة تحقيقا لتلك المقامات والحالات مع الزيادة الحاصلة بالكلام والرؤية وسائر الدرجات هذا مع أن آية وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا قد قيل المراد بها ما رآه عام الحديبية أنه وأصحابه دخلوا مكة بدليل قوله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ الآية فلما صدوا فيه عنه فتنوا فقيل لم يقل في هذا العام فدخلها بعد أو ما رآه في وقعة بدر بدليل قوله تعالى إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا ووقع في أصل الدلجي وقيل رآها عام الحديبية وهو يوهم أنه من أصل الكتاب وهو ليس في الأصول الصحيحة على الصواب (وما حكوا) أي وحجتهم أيضا ما حكوه من رواية ابن إسحاق وابن جرير (عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَا فَقَدْتُ جسد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) ويبطله أنه لم يدخل بها إلا بعد الهجرة والإسراء إنما كان بمكة بعد البعثة كما قال ابن إسحاق بعد ان فشا الإسلام بمكة والأشبه أنه كان بعدها بخمس سنين كما نقله النووي عن المصنف وروي عنها ما فقد جسد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بصيغة المفعول وهو أظهر في الاحتجاج المنقول (وقوله) أي وحجتهم أيضا قوله (بينا أنا نائم) أي في الحطيم وربما قال في الحجر. (وقول أنس رضي الله تعالى عنه) أي وحجتهم أيضا قوله في حديثه (وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ) أي قصة الإسراء وفيه أن كونه نائما في
أول الوهلة لا ينافي وقوع القصة في اليقظة آخر الدفعة (ثمّ قال) أي أنس رضي الله تعالى عنه (في آخرها) أي القصة (فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام) وفيه أن المراد بالاستيقاظ هو الاستحضار والاستشعار عما كان له من الاستغراق في مقام الابرار مع احتمال أن نومه في حال رجوعه واستيقاظه وقت وقوعه (وذهب معظم السّلف والمسلمين) أي من الخلق (إلى أنّه إسراء بالجسد) أي مع الروح لا بالروح دون الجسد (وفي اليقظة) بفتح القاف ولا يجوز تسكينها وهي ضد المنام (وهذا هو الحقّ) أي الثابت عند أهله (وهو قول ابن عبّاس وجابر) أي ابن عبد الله (وأنس رضي الله تعالى عنه) أي ابن مالك (وحذيفة) أي ابن اليمان (وعمر رضي الله تعالى عنه) أي ابن الخطاب وكان حقه أن يقدم على ما سبق من الأصحاب (وأبي هريرة ومالك بن صعصعة رضي الله تعالى عنهما) مدني سكن البصرة وروى عنه أنس وغيره (وأبي حبّة) بفتح حاء مهملة وتشديد موحدة قيل بالنون وقيل بالتحتية (البدريّ) قيل هو الأنصاري وقيل هو غيره (وابن مسعود) رضي الله تعالى عنه وكان حقه أن يذكر بعد عمر لأنه أفضل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة وبه تم ذكر الصحابة رضي الله تعالى عنهم (والضّحّاك) أي ابن مزاحم الهلالي البلخي المفسر تابعي جليل يروي عن أبي هريرة وأنس وابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم وثقه أحمد وابن معين وذكره الشيرازي في فقهاء خراسان من أصحاب عطاء الخراساني وغيره (وسعيد بن جبير) يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره قتل في شعبان شهيدا أخرج له الأئمة الستة (وقتادة) أي ابن دعامة (وابن المسيّب) بفتح التحتية المشددة وتكسر (وابن شهاب) أي الزهري (وابن زيد) أي ابن أسلم وهو متكلم فيه (والحسن) أي البصري (وإبراهيم) أي النخعي (ومسروق) أي ابن الأجدع الهمداني يروي عن أبي بكر ومعاذ رضي الله تعالى عنهما وكان أعلم بالفتيا من شريح أخرج له الأئمة الستة وهو من الزهاد الثمانية يقال إنه سرق صغيرا ثم وجد فسمي مسروقا وقد كانت عائشة تبنته فسمي ابن عائشة وكني بها روى عنه الشعبي والنخعي وغيرهما (ومجاهد) أي ابن جبير (وعكرمة) أي المفسر مولى ابن عباس لكنه أباضي وسيأتي في كلام المصنف بيانه (وابن جريج) بالجيمين مصغرا فهؤلاء كلهم من أجلاء التابعين رحمهم الله تعالى (وهو دليل قول عائشة) أي مذهبها المختار لها وهو لا ينافي ما سبق مما نسب إليها وحكي عنها وهذا الاستعمال شائع فيما بين العلماء والفقهاء حيث يقال هذا قول أبي حنيفة ومالك رحمهما الله ويحكى عنهما خلاف ذلك وبهذا بطل اعتراض الدلجي على المصنف بقوله كيف يكون الإسراء يقظة بدليل قولها ما فقدت جسده المحتج به آنفا أنه كان مناما وقد سمعت إبطاله وتعجب من حكاية المصنف له في المذهبين مع امتناع كونه حجة للأول وكون الثاني دليلا له فإنه سهو لا ريب من ذي فهم ثاقب انتهى ومما يدل على ما قدمنا عنها أنها نفت الرؤية البصرية وقالت بالرؤيا البصيرية ومثل هذه المسألة الخلافية لا تتصور إلا إذا كانت القضية في اليقظة بخلاف الحالة المنامية (وهو قول الطبري) أي محمد
ابن جرير (وابن حنبل) أي الإمام أحمد صاحب المذهب (وجماعة عظيمة) أي رتبه وكثرة (من المسلمين وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ والمتكلّمين والمفسّرين وقالت طائفة) أي من الجامعين بين الروايات المختلفة (كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس) يروى يقظة في المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى (وإلى السّماء بالرّوح) أي مناما وهذا يشبه قول المعتزلة (وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: 1] ) ووجه الاحتجاج ما بينه المصنف بقوله (فَجَعَلَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى غَايَةَ الْإِسْرَاءِ الَّذِي وقع التّعجّب فيه بعظيم القدرة) أي المؤثرة وفق الإرادة حيث كان في سيره ساعة طي مسافة كثيرة والتعجب من لوازم المعجزة وإن صدر من أعدائه على طريق الاستحالة (والتّمدّح) أي ووقع التمدح (بتشريف النّبيّ محمّد) صلى الله تعالى عليه وسلم (به) أي بالإسراء نفسه (وإظهار الكرامة له) أي ووقع إظهار الكرامة له صلى الله تعالى عليه وسلم (بالإسراء إليه) أي إلى المسجد الأقصى بخصوصه (قال هؤلاء) أي الذاهبون إلى المذهب الثالث في الإسراء (وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ إِلَى زَائِدٍ عَلَى المسجد الأقصى لذكره) أي سبحانه في كتابه (فيكون) أي ذكره فيه (أبلغ في المدح) أي في مقام مدحه من عدم ذكره ولعل الحكمة في ذلك أن يكون الإيمان في هذه القصة ثابتا بمجموع الكتاب والسنة؛ (ثمّ اختلفت هذه الفرقتان) أي الثانية والثالثة في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم (هل صلّى ببيت المقدس أم لا) فقيل نعم (فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صلاته فيه) أي بالأنبياء وسبق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الملائكة ولا منع من الجمع (وأنكر ذلك) أي كون صلى الله تعالى عليه وسلم صلى فيه (حذيفة بن اليمان وقال) أي حذيفة كما رواه أحمد عنه (والله ما زالا) أي النبي وجبريل عليهما السلام (عن ظهر البراق حتّى رجعا) وهو بعيد جدا لما سبق صريحا فيما ورد صحيحا من ربط البراق بباب المسجد وصلاته فيه على ما هو اللائق بأدب المسجد من التحية التي هي السنة فيه ثم من القواعد المقررة أن المثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ (قال القاضي رحمة الله تعالى عليه والحقّ من هذا) أي ما ذكر (والصّحيح إن شاء الله تعالى) استثناء للتبرك بمنزلة والله تعالى أعلم (إِنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ فِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا وعليه) أي وعلى هذا (تدلّ الآية وصحيح الأخبار) أي مجموعهما على جميعها غايته أن دلالة الآية على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى نص قاطع يكون جاحده كافرا أو منافقا ودلالة الاحاديث على اسرائه إلى السماء وسدرة المنتهى ومقام قاب قوسين أو أدنى ظنية منكر يكون مبتدعا فاسقا (والاعتبار) بالرفع معطوف على ما قبله على ما اقتصر عليه الحلبي ولا يبعد أن يكون مجرورا بالعطف على الإخبار والمراد به المقايسة يعني إذا ثبت اسراؤه من الحرام إلى الحرام معجزة بدلالة الآية فيجوز اسراؤه إلى السماء بالمقايسة المقرونة بالأحاديث الثابتة إذ لا فرق بينهما في تعلق الإرادة والقدرة (ولا يعدل عن الظّاهر)
بصيغة المجهول أي ولا يصرف عن ظاهر دلالة الآية والأخبار الواردة (والحقيقة) أي ولا عن إرادة الحقيقة اللغوية المنضمة مع الإرادة العرفية (إلى التّأويل) أي فيهما أو في أحدهما (إلّا عند الاستحالة) أي العقلية والشرعية (وليس في الإسراء بجسده) أي الشامل لبدنه وروحه (وحال يقظته استحالة) أي لا شرعا ولا عقلا حتى يحتاج إلى تأويل في مآله بل يتعين أن يكون بكمال جماله ويقظة حاله (إِذْ لَوْ كَانَ مَنَامًا لَقَالَ بِرُوحِ عَبْدِهِ ولم يقل بعبده) أي لأنه بحسب إطلاقه محمول على كمال إفراده من عباده (وقوله) أي ويدل على كونه يقظة لا مناما قوله (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] ) إذ ليس للروح بصر بل بصيرة وأيضا لا يمدح عدم زيغ بصر النائم إذ لا حقيقة لحاله فلا يعد عدم الطغيان من كماله ومعنى الآية ما مال بصره يمينا ولا شمالا في مقام أدبه مع ربه وما جاوز ما أمره (ولو كان) أي الإسراء (مناما لمّا كانت فيه آية) وقد قال الله تَعَالَى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (ولا معجزة) أي أمر خارق للعادة وإن كانت رؤيا الأنبياء حقا وأخبارهم عنها صدقا (ولمّا استبعده الكفّار ولا كذّبوه فيه) أي في أخباره (وَلَا ارْتَدَّ بِهِ ضُعَفَاءُ مَنْ أَسْلَمَ وَافْتُتِنُوا به) أي ولا وقعوا به في الفتنة في انباء اسرائه (إذ مثل هذا) أي الحال (من المنامات لا ينكر) أي لا يعد من المحال لأن أحد الناس يرى في نومه أنه يسير في الشرق مرة وفي الغرب أخرى وهو لم يتحول عن مكانه ولم تتبدل حاله الأولى (بل لم يكن ذلك) أي الإنكار والاستبعاد وعده من الاستحالة ووقوع الارتداد (منهم إلّا وقد علموا أنّ خبره) أي عن اسرائه (إنّما كان عن جسمه) أي مع روحه (وحال يقظته) أي أخذا من خبره منضما (إلى ما ذكر) أي النبي عليه الصلاة والسلام وقال الحلبي إنه بصيغة المجهول (في الحديث) أي الحديث المشهور في الإسراء (من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس) أي قبل اسرائه إلى السماء (فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ أَوْ فِي السَّمَاءِ عَلَى ما روى غيره) أي غير أنس كما تقدم من المنافاة بينهما إذ لا يخفى وجه جمعهما (وذكر مجيء جبريل عليه السلام له) عطف على قوله ذكر صلاته المجرور بمن البيانية أي ومن ذكر مجيء جبريل له عليه السلام (بالبراق وخبر المعراج) أي ومن ذكر خبر حال عروجه إلى السماء بالإسراء والمراد بالمعراج آلة العروج كالسلم للصعود (واستفتاح السّماء فيقال ومن معك) أي بعد ما يقال من أنت فيقول جبريل فيقال ومن معك (فيقول محمّد) أي وأمثال هذا من الدلالات في الروايات (ولقائه) أي ومن ملاقاته عليه الصلاة والسلام (الأنبياء فيها) أي في السماء بأصنافها (وخبرهم معه) أي خبر الأنبياء معه بتفصيل مقاماتهم وتبيين حالاتهم (وترحيبهم به) أي وتحيتهم له كما في نسخة وأصل الترحيب قول مرحبا، (وشأنه) أي وقصته (في فرض الصّلاة) أي خمسين اولا (ومراجعته) أي ومكالمته (مع موسى في ذلك) أي في تخفيفها أو مراجعته إلى الله تعالى مع مساعدة موسى عليهما الصلاة والسلام في ذلك (وفي بعض هذه الأخبار) أي أدلة صريحة على هذا المدعي وروايات صحيحة المبنى من طريق الشيخين عن أنس رضي الله تعالى عنه (فأخذ يعني جبريل بيدي) تفسير من بعض
الرواة (فعرج بي إلى السّماء) أي فلما جئت السماء الدنيا قال جبريل لخازنها افتح فلما فتح علونا السماء الدنيا إذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة الحديث بطوله (إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام) أي صريرها كما في رواية وقد فرض الله هناك عليه خمسين صلاة فرجع فمر بموسى فلم يزل بينه وبينه حتى قيل له هي خمس وهن خمسون (وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ دَخَلَ الجنّة) أي جنة المأوى (ورأى فيها ما ذكره) أي من جنابذ اللؤلؤ وأن ترابها المسك قال الدلجي وظاهر هذا كله شاهد صدق بأنهما نزلا عن البراق وإن أنكره حذيفة انتهى ولا يخفى أن الظاهر عدم النزول عن البراق إلا أن يدل دليل صحيح وصارف صريح فيها هنالك لذلك (قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي كما رواه البخاري (هي رؤيا عين رآها صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في حال اليقظة (لا رؤيا منام) أي وإن كان رؤيا الأنبياء حقا في ثبوت المرام وقد قيل بتعدد المعراج إلى سبع مرات فيمكن الجمع بذلك بين الروايات (وعن الحسن) أي البصري (فيه) أي في حديث معراجه كما رواه ابن إسحاق وابن جرير عنه مرسلا (بينا أنا نائم في الحجر) بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم وقال النووي إنه رأى لبعض المصنفين على المهذب أنه يقال أيضا بفتح الحاء كحجر الإنسان فقيل كله من البيت وقيل ستة أذرع وقيل سبعة هذا وقد سبق أنه رأى بين النائم واليقظان ولا يبعد أن يراد بالنائم المضطجع فإنه على هيئة النائم وقد يعبر به عنه على أنه لا تنافي بين كونه نائما في أول القضية ومستيقظا في آخر القصة مع أنه روي بينا أنا جالس في الحجر (جاءني جبريل فهمزني) أي غمزني (بِعَقِبِهِ فَقُمْتُ فَجَلَسَتْ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَعُدْتُ لمضجعي، ذكر) أي الحسن أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ فَأَخَذَ بِعَضُدَيَّ) بصيغة الإفراد وفيه أربع لغات فتح العين مع ضم الضاد وكسرها وسكونها وضم العين مع السكون أي أمسك ما فوق مرفقي (فجرّني إلى باب المسجد) قال الدلجي الله أعلم بصحة هذا الحديث لنزاهة جبريل عن أن يفعل به ذلك انتهى ولا يخفى أنه إذا ثبت من طريق أمامين جليلين هذا المبنى ينبغي أن يحمل على محمل لطيف في المعنى وهو مناسبة الرجل للرجل في قوله فهمزني بعقبه وقد نبه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعض أصحابه من المنام بهذه الكيفية فهذا ليس من باب قلة الأدب بل من طريق عدم التكلف الدال على كمال الخصوصية وقد قيل ان الهمز تنبيه الرجل بحركة لطيفة وأما الأخذ بالعضد فلا خفاء في المناسبة المساعدة للتقوية العضدية وأما قوله فجرني فكناية عن كمال الجذبة الملكية المتسببة عن الجذبة الالهية على ما تقتضيه القضية الإسرائية إلى المراتب الاصطفائية وقد روي فجبذني وهو مقلوب جذبني (فَإِذَا بِدَابَّةٍ وَذَكَرَ خَبَرَ الْبُرَاقِ وَعَنْ أُمِّ هانىء) بكسر النون فهمز وهي بنت أبي طالب أخت علي رضي الله تعالى عنهما اسلمت يوم الفتح وقد خطبها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت إني امرأة مصيبة واعتذرت إليه فعذرها روى عنها علي وابن عباس وعكرمة وعروة وعطاء وخلق كما روى ابن إسحاق
والطبراني وابن جرير عنها أنها قالت (ما أسري برسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ فِي بَيْتِي تِلْكَ اللّيلة) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن الحرم كله مسجد أي لإحاطته بالمسجد والتباسه به فلا ينافي قوله تعالى من المسجد الحرام (صلّى العشاء الآخرة) أي بأن خرج منه ودخل الحجر فصلى فيه (ونام بيننا) أي فيما بيننا بأن رجع ونام مع أهل بيت أم هانىء وهو كناية عن أنه كان بعد صلاة العشاء الآخرة عندهم في مكة فبيننا بمعنى عندنا وقد تصحف على الدلجي بقوله شيئا أي نام شيئا من الليل أو بعضا من النوم (فلمّا كان قبيل الفجر أهبّنا) بتشديد الموحدة أي أيقظنا (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) وظاهر هذا الحديث أن الإسراء إنما كان في الثلث الأخير من الليل وهو وقت السحر وزمان التهجد للعبادة على أنه لا يلزم من إيقاظه لهم حينئذ أن يكون عقب نزوله إذ يمكن أنه كان في المسجد مشتغلا بالطواف والعبادة فلما قارب الصحيح رجع إليهم وأيقظهم (فلمّا صلّى الصّبح) أي نقلا أو كانت صلاتان فريضة قبل الإسراء صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها والأظهر أنه صلى الصبح المفروض في ليلة الإسراء من جملة الخمس (وصلّينا) أي معه أو بدونه (قال يا أمّ هانىء لقد صلّيت معكم العشاء الآخرة) فيه نوع تغليب أن صلت معه صلى الله تعالى عليه وسلم حقيقة أو معنى (كما رأيت بهذا الوادي) أي وادي مكة لإحاطة الجبال بها (ثمّ جئت بيت المقدس) أي ذهبت إليه (فصلّيت فيه) أي صلاة التهجد مع الأنبياء والملائكة (ثمّ صلّيت الغداة) أي صلاة الغدوة وهي الصبح (معكم الآن كما ترون) أي كما رأيتم فالعدول عن الماضي إلى المضارع لاستحضار الحال الماضية. (وهذا بين) بتشديد التحتية المكسورة أي وهذا الحديث برهان ظاهر (في أنّه) أي الإسراء (بجسمه) أي لا بروحه فقط ولا ينافي قولها وصلينا أنها اسلمت عام الفتح وهو بعد الإسراء بكثير لأن المراد بضمير الجمع جماعة قد اسلموا قبل ذلك وصلوا هنالك وأما قول الدلجي إنه ليس من قولها بل أدرجه الراوي في كلامها فمحمل بعيد وتأويل غير سديد وكذا تأويل الشمني أن معنى صلينا هيأنا له ما يحتاج إليه في الصلاة ثم هذا كله مبني على أن المعراج من بيت المقدس وأنه مع الإسراء في ليلة واحدة وأما على أنه من مكة وأنه ليس مع الإسراء في ليلة واحدة فقولها صلى الصبح على حقيقية من غير تأويل لأن الصلوات الخمس فرضت ليلة المعراج وهو على هذا القول كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا والإسراء كان في الربيع الأول قبل الهجرة بسنة. (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ مِنْ رِوَايَةِ شَدَّادِ بْنِ أوس عنه) أي كما رواه البيهقي وابن مردويه (أنّه قال للنّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ طَلَبْتُكَ يَا رسول الله البارحة في مكانك) أي في محلك المعتاد أول الليلة أو آخرها (فَلَمْ أَجِدْكَ فَأَجَابَهُ إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أي بأنه (حملني) وهو الظاهر المتبادر فلا يحتاج إلى تكلف الدلجي من غير نص على كسر أن حيث قال التقدير فأجابه قوله له إن جبريل حملني أي على البراق (إلى المسجد الأقصى) ثم هذا الحديث أيضا دليل ساطع على أن الإسراء كان يقظة؛
(وعن عمر رضي الله عنه أي كما رواه ابن مردويه من طريق عَنْهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فِي مقدّم المسجد) أي المسجد الأقصى (ثمّ دخلت الصّخرة) أي تحتها أو مكانها (فإذا بملك) وفي نسخة فإذا ملك (قائم) بالجر والرفع بناء على النسختين (معه آنية ثلاث) أي من اللبن والخمر والعسل، (الحديث) أي كما سبق. (وهذه التّصريحات) أي في الروايات الصحيحات ظاهرة في أن القصة كانت يقظة (غير مستحيلة) أي شرعا وعقلا وثبت نقلا (فتحمل على ظاهرها) أي ولا يجوز العدول عنه؛ (وعن أبي ذرّ رضي الله تعالى عنه) كما في الصحيحين مرفوعا (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم فرج) بصيغة المفعول مخففا وجوز مشددا أي كشف وأزيل (سقف بيتي) أضيف إليه تارة لأنه كان ساكنا فيه وإليها أخرى من حيث إنه كان ملكها (وأنا بمكّة) جملة حالية (فنزل جبريل فشرح صدري) أي فعل بي ما يوجب شرح صدري وتصحف على الدلجي بقوله ففرج بالفاء والجيم وفسره بقوله شقه (ثمّ غسله بماء زمزم) لأنه أفضل مياه العالم وقد أبعد الدلجي حيث علله بقوله لأنه فد ألفه صغرا وكبرا (إلى آخر القصّة) أي كما سبقت (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه أتيت) بصيغة المفعول أي أتاني آت وهو جبريل عليه السلام كما صرح به في رواية (فانطلق) بصيغة المجهول أي فذهب (بي) وفي نسخة فانطلقوا بي (إلى زمزم فشرح عن صدري) الجار نائب الفاعل (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه مسلم (لقد رأيتني) بضم تاء المتكلم (في الحجر وقريش تسألني عن مسراي) بفتح ميم وسكون سين أي عن علامات سيرى أو مكانه (فسألتني عن أشياء) أي من بيت المقدس وطريقه (لم أثبتها) من باب الافعال أي لم احفظها ولم اضبطها وعدم اثباته تلك الأشياء لكمال ثباته في مقام الإسراء باشتغاله بالملائكة والأنبياء وعجائب ملكوت الأرض والسماء وأبعد من توهم أن قوله لم أثبتها قرينة على أن القضية كانت مناما فإن النائم أقل ضبطا من المستيقظ حيث لم يعرف أنه لا فرق بين ضبطه مناما ويقظة إذ الأنبياء لا تنام قلوبهم ورؤياهم وحي وأما الإحاطة بجميع علامات الطرق والمسجد الأقصى فليس شرطا في حصول العلم به إذ يكفيه إخباره ببعض العلامات مما يوجب كونه من الآيات وخوارق العادات (فكربت كربا) بفتح فسكون أي غما يأخذ النفس والفعل مبني للمجهول كقوله (مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أنظر إليه) فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم (ونحوه عن جابر) أي روي عن جابر نحو ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مع اختلاف في المبنى دون المعنى (وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى خديجة) أي بسرعة (وما تحوّلت عنه جانبها) أي إلى جانب آخر منها وفيه إشعار بتقليل زمن الإسراء مع انه كان إلى السموات العلى وسدرة المنتهى ومقام قاب قوسين أو أدنى ولعله صلى الله تعالى عليه وسلم أول ما رجع دخل على خديجة ثم ذهبت إلى أم هانئ في بيتها.