المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل [وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة] - شرح الشفا - جـ ١

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأوّل

- ‌[المقدمة]

- ‌ترجمة القاضي عياض

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌القسم الأول [في تعظيم العلي الأعلى جل وعلا]

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عليه السلام]

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ [فِيمَا جَاءَ من ذلك مجيء المدح والثناء]

- ‌الفصل الثّاني [في وصفه تعالى بالشهادة وما تعلق به من الثناء والكرامة]

- ‌الْفَصْلُ الثَّالِثُ [فيما ورد من خطابه تعالى إياه مورد الملاطفة والمبرة]

- ‌الْفَصْلُ الرَّابِعُ [فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌الفصل الخامس في قسمه

- ‌الْفَصْلُ السَّادِسُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في جهته عليه الصلاة والسلام مورد الشفقة والإكرام]

- ‌الفصل السّابع [فيما أخبره الله بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ]

- ‌الْفَصْلُ الثَّامِنُ [فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بصلاته عليه وولايته له]

- ‌الْفَصْلُ التَّاسِعُ [فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كراماته عليه السلام]

- ‌الْفَصْلُ الْعَاشِرُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده]

- ‌الْبَابُ الثَّانِي [فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ المحاسن خلقا وخلقا]

- ‌فصل [قال القاضي رحمه الله تعالى إذا كانت خصال الكمال والجلال]

- ‌فصل [إن قلت أكرمك الله تعالى لا خفاء على القطع بالجملة]

- ‌فصل [وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ وَذَكَاءُ لُبِّهِ وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ وفصاحة لسانه واعتدال حركاته وحسن شمائله]

- ‌فصل [وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول]

- ‌فصل [وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشأه]

- ‌فصل [وأما تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثلاثة ضروب الضرب الأول]

- ‌فصل [وأما الضرب الثاني ما يتفق التمدح بكثرته والفخر بوفوره]

- ‌فصل [وأما الضرب الثالث فهو ما تختلف فيه الحالات]

- ‌فصل [وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة]

- ‌فصل [وأما أَصْلُ فُرُوعِهَا وَعُنْصُرُ يَنَابِيعِهَا وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ]

- ‌فصل [وأما الحلم]

- ‌فصل [وأما الجود]

- ‌فصل [وأما الشجاعة والنجدة]

- ‌فصل [وأما الحياء والإغضاء]

- ‌فصل [وأما حسن عشرته وآدابه]

- ‌فصل [وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق]

- ‌فصل [وأما خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في الوفاء]

- ‌فصل [وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وأما عدله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمانته وعفته وصدق لهجته]

- ‌فصل [وأما وقاره صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وأما زهده صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا]

- ‌فصل [وأما خوفه صلى الله تعالى عليه وسلم من ربه عز وجل]

- ‌فصل [اعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن صفات جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام]

- ‌فصل [قد آتيناك أكرمك الله سبحانه من ذكر الأخلاق الحميدة]

- ‌فصل [في تفسير غريب هذا الحديث ومشكله]

- ‌الْبَابُ الثَّالِثُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ ومشهورها بتعظيم قدره عند ربه عز وجل]

- ‌الفصل الأول [فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل]

- ‌فصل [في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم بما تضمنته كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ]

- ‌فصل [ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده]

- ‌فصل [إبطال حجج من قال أنها نوم]

- ‌فصل [وأما رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم لربه عز وجل]

- ‌فصل [في فوائد متفرقة]

- ‌فصل [وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَظَاهِرُ الآية من الدنو والقرب]

- ‌فصل [في ذكر تفضيله في القيامة بخصوص الكرامة]

- ‌فصل [في تفضيله بالمحبة والخلة]

- ‌فصل [في تفضيله بالشفاعة والمقام المحمود]

- ‌فصل [في تفضيله فِي الْجَنَّةِ بِالْوَسِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالْكَوْثَرِ وَالْفَضِيلَةِ]

- ‌فصل [فَإِنْ قُلْتَ إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ وصحيح الأثر]

- ‌فصل [في أسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته]

- ‌فصل [في تشريف الله تعالى له بما سماه به من أسمائه الحسنى]

- ‌فصل [قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وها أنا أذكر نكتة]

- ‌الْبَابُ الرَّابِعُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ والكرامات]

- ‌فصل [اعلم أن الله عز وجل قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ]

- ‌فصل [اعلم أن معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة]

- ‌فصل [في إعجاز القرآن العظيم الوجه الأول]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ والأسلوب الغريب]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ من الأخبار]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ القرون السالفة]

- ‌فصل [هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نزاع فيها ولا مرية]

- ‌فصل [ومنها الروعة]

- ‌فصل [وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لا تعدم ما دامت الدنيا]

- ‌فصل [وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِي الْأُمَّةِ في إعجازه وجوها كثيرة]

- ‌فصل [في انشقاق القمر وحبس الشمس]

- ‌فصل [في نبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثيره ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَفْجِيرُ الْمَاءِ ببركته وانبعاثه]

- ‌فصل [ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته]

- ‌فصل [في قصة حنين الجذع له صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [ومثل هذا وقع في سائر الجمادات بمسه ودعوته]

- ‌فصل [في الآيات في ضروب الحيوانات]

- ‌فصل [في إحياء الموتى وكلامهم]

- ‌فصل [في إبراء المرضى وذوي العاهات]

- ‌فصل [في إجابة دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [في كراماته صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ]

- ‌فصل [في عصمة الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم من الناس وكفايته من آذاه]

- ‌فصل [ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم]

- ‌فصل [ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام وكراماته وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة]

- ‌فصل [وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرَادَفَتْ]

- ‌فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مولده عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى قد أتينا في هذا الباب]

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌فصل [وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة]

بضم الميم وكسر الراء وتفتح أي له عرق أي أصل (في المدح) والمعنى هو زائد بهما على فضيلة المال (بإضرابه) بكسر الهمزة أي بسبب إعراضه (عَنْهَا وَزُهْدِهِ فِي فَانِيهَا وَبَذْلِهَا فِي مَظَانِّهَا) بفتح ميم وتشديد نون أي محالها من صلة رحم وجهة بر وهو بالظاء المشالة وقد تصحف على التلمساني فضبطه بالضاد وقال أراد مواضع البخل.

‌فصل [وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة]

(وأمّا الخصال المكتسبة) وتسمى ملكات نفسانية لأنها تخلقات كسبية لا سجية جبلية (من الأخلاق الحميدة) أي المحمودة من الشمائل المعدودة من الأحوال السعيدة (والآداب الشّريفة) أي الناشئة من النفوس النفيسة اللطيفة (التي اتّفق جميع العقلاء) أي من الفضلاء والعلماء إذ لا عبرة بالجهلاء (على تفضيل صاحبها) أي بالنسبة إلى فاقدها (وتعظيم المتّصف) بتشديد التاء المثناة أي المتلبس والمتخلق (بالخلق الواحد منها فضلا عمّا فوقه) أي أكثر منه مما أجمع على حسنها وطوبى لمن جمعها بأجمعها (وأثنى الشّرع على جميعها وأمر بها) أي جمعا وأفرادا مجملا ومفصلا (ووعد السّعادة الدّائمة) أي تعلقها (للمتخلّق بها) أي للذي اتخذها خلقا كما هو مذكور في الترغيب والترهيب وكتب الأخلاق من الأحياء وغيره (ووصف بعضها بأنّه من أجزاء النّبوّة) كحديث السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربع وعشرين جزءا من النبوة وحديث أن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمس وعشرين جزءا من النبوة والمعنى أن هذه الخصال منحها الله تعالى أنبياءه فهي من شمائلهم وفضائلهم وأنها جزء من أجزائها فاقتدوا بهم فيها لا أن النبوة تتجزأ ولا أن من جمعها يكون نبيا إذ النبوة غير مكتسبة بل هي كرامة مختصة بمن تعلقت به المشيئة أو المعنى أن هذه الخصال جزء من خمس وعشرين جزءا مما جاءت به النبوة ودعت إليه أصحاب الرسالة وتأنيث اربع وخمس على معنى الخصال أو القطعة مع أن الاجزاء تجري مجرى الكل في التذكير والتأنيث (وهي) أي الخصال المكتسبة التي ورد باستحسانها الكتاب والسنة هي (المسمّاة بحسن الخلق) أي في الجملة (وهو) أي حسن الخلق (الِاعْتِدَالُ فِي قُوَى النَّفْسِ وَأَوْصَافِهَا، وَالتَّوَسُّطُ فِيهَا دون الميل إلى منحرف أطرافها) فإن لها ثلاث قوى نطقية اعتدالها حكمة وشهوية اعتدالها عفة وغضبية اعتدالها شجاعة فللنطق طرف إفراط هو الجربزة كاستعمال الفكرة واشتغال الآلة فيما لا ينبغي وتفريط وهو الغباوة كتعطيل الفكرة عن اكتساب العلوم وإفادتها واستفادتها وللشهوة طرف إفراط هو الفجور كالانهماك في اللذات وتفريط هو الخمود كترك ما رخص شرعا وعقلا من اللذات وللغضب طرف إفراط هو التهور كالإقدام على ما لا ينبغي وتفريط هو الجبن كترك الإقدام على ما ينبغي فما بينهما هو التوسط في الأخلاق المسماة مثلا بالحكمة والعفة والشجاعة وأما قول الدلجي فللحكمة والعفة والشجاعة طرف إفراط وتفريط خبط وتخبط؛ (فَجَمِيعُهَا قَدْ كَانَتْ خُلُقَ نَبِيِّنَا

ص: 229

صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِانْتِهَاءِ فِي كَمَالِهَا. وَالِاعْتِدَالِ إلى غايتها) يحتمل عطف الاعتدال على الانتهاء وهو الظاهر الأنسب في المعنى والعطف على كمالها وهو خلاف المتبادر لكنه الأقرب في المبنى (حتّى) أي إلى حد (أثنى الله عليه بذلك فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)[الْقَلَمِ: 5] ) وقد قيل هو ما أمر به من قوله سبحانه وتعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وقيل هو ما ورد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم هو أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من منعك والأكمل في تفسيره ما ذكره المصنف بقوله. (قالت عائشة رضي الله عنها أي وقد سألها سعيد بن هشام عن خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم: (كان خلقه القرآن) بالرفع ويجوز نصبه زاد البيهقي في دلائله على ما هو في بعض النسخ (يرضى برضاه) أي يرضى ما فيه من الواجب والمندوب والمباح (ويسخط بسخطه) أي ويغضب ويكره ما ينافيه من الحرام والمكروه وخلاف الأولى وزاد في نسخة يعني التأدب بآدابه والتخلق بمحاسنه والالتزام لأوامره وزواجره، (وقال عليه الصلاة والسلام على ما رواه أحمد والبزار (بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق) ورواه مالك في الموطأ ولفظه بلغني أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال بعثت لأتمم حسن الأخلاق ورواه البغوي في شرح السنة بلفظ أن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال أي الملكات النفسية والحالات القدسية التي جمعها حسن الخلق المتضمن لأداء حق الحق والخلق مما لا يستحصى ولا يتصور أن يستقصى وفيه إيماء إلى أن الأنبياء كانوا موسومين بالأخلاق الرضية والشمائل البهية إلا أنها لم تكن على وجه الكمال الذي لا يكون فوقه كمال وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم مجتمع الأخلاق العلية ومنبع الأحوال السنية بحيث لا يتصور فوقها كمال حتى من تعدى عن ذلك الحد وقع في النقصان في المآل ويدل على ما قررنا على وجه حررنا حديث مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل قصر أحسن بنيانه وترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة فكنت أنا سددت موضع اللبنة ختم لي النبيون ويشير إلى هذا المبنى قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. (قال أنس رضي الله تعالى عنه) فيما رواه الشيخان (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحسن النّاس) أي من الأولين والآخرين (خلقا) بشهادة الله الكريم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ؛ (وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مثله، وكان) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فيما ذكره المحقّقون مجبولا) أي مخلوقا ومطبوعا (عليها في أصل خلقته) أي من ابتداء نشأته الروحية (وأوّل فطرته) أي خلقته الجسدية وفي بعض النسخ في أصل خلقته بالظرفية بدلا من من الابتدائية (لم تحصل له باكتساب ولا رياضة) خلافا لما قاله الفلاسفة والحكماء الرياضيةإ (لّا بجود إلهي) أي لكن حصلت له بجذبة صمدانية (وخصوصيّة ربّانيّة؛ وهكذا) أي وكذا فعل الله (لسائر الأنبياء)

ص: 230

وفي رواية سائر الأنبياء أي باقي الأنبياء الماضية وأما وجود الأخلاق الحميدة في غيرهم فقيل إنها جبلية وطبيعية مثل الأنبياء وهذا بعيد عن مشرب الأصفياء ولو مال إليه الطبراني من العلماء وقيل كتسبة لا جبلية ولا طبيعية وهذا قول ظاهر البطلان لمشاهدة تفاوت الأحوال في أخلاق الأطفال والصبيان كما يدل عليه حكاية حاتم الطائي وأخيه ورواية أمهما في ابتداء ارضاعهما وقيل منها ما هي جبلية طبع عليها في أول الخلقة وما هي كسبيه تحصل بالرياضة وتصير لصاحبها ملكة ويؤيده حديث أشبح عبد القيس حيث قال له صلى الله تعالى عليه وسلم إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والإناءة فقال يا رسول الله أشيء من قبل نفسي أو جبلني الله عليه فقال جبلك الله عليه فقال الحمد الله الذي جبلني على خلقين يرضاهما الله ورسوله والتحقيق أن حال الإنسان مركب من الأخلاق المحمودة الملكية ومن الأخلاق المذمومة الشيطانية فإن مال إلى الأولى فهو خير من الملائكة المقربين وإن مال إلى الثانية فهو شر من الشياطين وتحقيق هذا المرام لا يسعه الكلام في هذا المقام وقد صنف في هذا المبحث كتب الأخلاق منها الناصرية ومنها الدوانية ومنها الكشافية وقد حقق الإمام الغزالي في الأحياء الأدلة على وجه الاستقصاء؛ (ومن طالع سيرهم) أي سلوك الأنبياء في سيرهم (منذ صباهم إلى مبعثهم) أي من مبدئهم إلى منتهاهم (حقّق ذلك) أي عرف حقيقة ما ذكر من أن أخلاقهم مرضية وهبية لا رياضة كسبية (كَمَا عُرِفَ مِنْ حَالِ عِيسَى وَمُوسَى وَيَحْيَى وسليمان وغيرهم عليهم السلام بل غرزت) بصيغة المجهول أي طبعت وغرست (فيهم هذه الأخلاق في الجبلّة) أي الطبيعة الأصلية (وأودعوا العلم والحكمة في الفطرة) أي أول الخلقة الإنسانية (قال الله تعالى: وَآتَيْناهُ) أي أعطينا يحيى (الْحُكْمَ) أي النبوة وإتقان المعرفة (صَبِيًّا [مريم: 12] ) أي صغيرا. (قال المفسّرون: أعطى الله يحيى العلم) بصيغة المجهول أو المعلوم ويؤيده نسخة أعطى الله تعالى (بكتاب الله) أي التوراة أو بمضمون كتب الله تعالى مجملة أو مفصلة (في حال صباه) فيه إيماء إلى أن صبيا نصب على الحال من المفعول وقد روي أنه نبئ وفهم العلم بالكتاب وهو ابن ثلاث أو سبع؛ (وقال معمر) بفتح الميمين ابن راشد أبو عروة الأزدي مولاهم عالم اليمن روى عن الزهري وهمام وخلق وعنه ابن المبارك وعبد الرزاق اخرج له الأئمة الستة (كان) أي يحيى (ابن سنتين أو ثلاث) على ما رواه عنه أحمد في الزهد وابن أبي حاتم في تفسيره والديلمي عن معاذ ولم يسنده والحاكم في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه بسند واه والتحقيق أن يحيى عليه الصلاة والسلام أعطي هذا المقام وهو في بطن أمه كما ورد من أن السعيد من سعد في بطن أمه وإنما قيده سبحانه وتعالى بحال الصبا لتعلق علم الخلق به حينئذ فاختلاف الروايات مبني على اختلاف إطلاع الناس على ما به من الحالات (فَقَالَ لَهُ الصِّبْيَانُ لِمَ لَا تَلْعَبُ فَقَالَ أللّعب خلقت) فهمزة الاستفهام للإنكار

ص: 231

على ما في الأصول المصححة واللعب فيه لغتان فتح اللام وكسر العين وكسر أوله وسكون ثانيه ووقع في أصل الدلجي ما للعب خلقت بما النافية ولعله رواية في المبنى أو نقل بالمعنى ثم أغرب واعترض على معمر في قوله أو على المصنف في اعتماده على نقله حيث قال والذي قاله معمر كان يومئذ ابن ثمان سنين وهو الأصح وما ذكر ههنا فغريب في الرواية عنه بشهادة ما رواه ابن قتيبة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ دخل يحيى بيت المقدس وهو ابن ثمان فنظر إلى العباد به واجتهادهم فرجع إلى أبويه فمر في طريقه بصبيان يلعبون فقالوا هلم فلنلعب فقال إني لم أخلق للعب فذلك قوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا انتهى ووجه الغرابة لا يخفى إذ لا يبعد أن يكون ظهور آثار النبوة عليه كان وهو ابن سنتين أو ثلاث ثم وقع له هذا المقام عقب هذا ولو بعد سنين مع الأطفال مع أنه لا مانع من تعدد الواقعة ولو بالاحتمال (وقيل في قوله تعالى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ من الله صدق يحيى بعيسى) أي آمن به (وهو ابن ثلاث سنين) وحكى السهيلي عن ابن قتيبة أنه كان ابن ستة أشهر (فشهد) وفي نسخة وشهد (له أنّه كلمة الله وروحه) فهو أول من آمن به وسمي كلمة لوجوده بأمره تعالى بلا أب فشابه المخترعات التي هي عالم الأمر المعبر عنه يقول كن كما قال الله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؛ (وقيل) كما في تفسير محمد بن جرير الطبري (صدّقه) أي آمن به يحيى (وهو في بطن أمّه) حال من ضمير الفاعل (فكانت) بالفاء وفي نسخة وكانت (أمّ يحيى) أي وهي حامل به (تقول لمريم) أي اختها إذا دخلت عليها وهي حامل بعيسى والله إنك لخير النساء وأن ما في بطنك لخير مولود (إِنِّي أَجِدُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا في بطنك تحيّة له) أي تعظيما وتسليما وتكريما وهذا يدل على أن مريم حملت مدة الحمل كما عليه الأكثر وهو لا ينافي ما تقدم والله أعلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حملته ووضعته في ساعة واحدة فتصديقه إنما كان وهو ابن ثلاث كما سبق؛ (وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَلَامِ عِيسَى لِأُمِّهِ عِنْدَ وِلَادَتِهَا إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ لَهَا، أَلَّا تَحْزَنِي [مريم: 24] ) الأولى أن لا تحزني (على قراءة من قرأ مِنْ تَحْتِها [مريم: 24] بفتح الميم والتاء كما قرأ به ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر (وعلي) أي وكذا علي (قول من قال إنّ المنادي عيسى) كأبي بن كعب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد لأنه خاطبها من تحت ذيلها لما خرج من بطنها وفيه احتراز عن قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلقمة والضحاك أن المنادي جبريل لأنه كان بمكان منخفض عنها قال الدلجي لا وجه لتخصيص القراءة الأولى بالخلاف في المنادي مع وقوعه في الثانية قلت حيث تعارض القولان عن الأئمة ولا يتصور الجمع بينهما إلا بتعدد القضية أشار المصنف إلى أن القراءة الأولى محملها على المعنى الأول أولى وهو أن يكون المنادي عيسى فلا ينافي احتمال وجود آخر في المعنى على ما لا يخفى (ونصّ) أي صرح الله سبحانه وتعالى (على كلامه)

ص: 232

أي نطق عيسى (في مهده فقال) أي الله في كلامه حكاية عنه (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) ردا على إثبات اله سواه وافتخارا بالعبودية واحترازا عن دعوى الربوبية (آتانِيَ الْكِتابَ) أي أعطاني الله من فضله علم الإنجيل أو جنس الكتاب (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم: 30] ) في سابق قضائه أو تنزيلا للمحقق وقوعه منزلة الواقع به كما في أَتى أَمْرُ اللَّهِ كذا ذكره الدلجي والظاهر المتبادر أنه جعله نبيا في ذلك الحال من غير توقف على الاستقبال فلا يحتاج إلى تأويله بالمآل ويؤيده ما روي عن الحسن أكمل الله عقله ونبأه طفلا وقضية يحيى صريحة أيضا في هذا المعنى غايته أن أعطاه النبوة في سن الأربعين غالب العادة الإلهية وعيسى ويحيى خصا بهذه المرتبة الجليلة كما أن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم خص بما ورد عنه من قوله كنت نبيا وإن آدم لمنجدل بين الماء والطين هذا وفي المستدرك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا لم يتكلم في المهد إلا عيسى وشاهد يوسف وصاحب جريج وابن ماشطة فرعون ولفظ مسند أحمد وابن ماشطة ابنة فرعون وزاد البغوي في تفسير سورة الأنعام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وممن تكلم صغيرا يحيى بن زكريا ومبارك اليمامة كلمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذكره في الدلائل ورضيع المتقاعسة ورضيع التي مر عليها راكب فقالت اللهم اجعل ابني مثل هذا والصبي الذي في حديث الساحر والراهب الذي قال لأمه أصبري فإنك على الحق وهو في أواخر مسلم وفي كلام السهيلي في آخر روضته أن أول كلمه تكلم بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو مرضع عند حليمة إن قال الله أكبر قال السهيلي رأيته كذا في بعض كتب الواقدي (وقال) أي عز قائله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) أي الحكومة أو الفتيا إذ روي أنه تحاكم إلى داود صاحب غنم وصاحب زرع أو كرم رعته ليلا فحكم بها لصاحب الحرث لاستواء قيمتها وقيمة نقصه فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة غير هذا أوفق بهما فعزم عليه ليحكم فدفع الغنم لصاحب الحرث ينتفع بدرها ونتاجها وأصوافها والحرث لصاحب الغنم يصلحه فإذا عاد إلى ما كان عليه ترادا ولعلهما قالا مقالهما اجتهادا فقال داود اصبت القضاء ثم حكم بذلك والأول نظير قول أبي حنيفة في العبد الجاني والثاني نظير قول الشافعي بالغرم للحيلولة في العبد المغصوب إذا أبق إما في شرعنا فلا ضمان عند أبي حنيفة لحديث جرح العجماء جبار أي هدر إلا أن يكون معها حافظ أو أرسلت عمدا وأوجبه الشافعي ليلا لا نهارا لجري العادة في حفظ الدواب بالليل دون النهار لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل الماشية حفظها بالليل وفي الحديث إشارة لطيفة إلى قول أبي حنيفة في تقييد القضية بحالة العمدية إذ تخلص الدابة ليلا أو نهارا واتلافها من غير تقصير من صاحبها لا يوجب الغرامة المنفية في الملة الحنيفية حيث قال ليس عليكم في الدين من حرج (وَكُلًّا) أي من داود وسليمان (آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً

ص: 233

[الأنبياء: 68] ) أي معرفة بموجب الحكومة وعلما بسائر القضايا الشرعية (وقد ذكر) بصيغة المجهول (من حكم سليمان) كذا في النسخ المتعددة المعتمدة ووقع في أصل الدلجي وقد ذكر عن سليمان (وهو صبيّ) أي في حال صباه (يلعب) أي مع الصبيان (في قضيّة المرجومة) أي التي كانوا يريدون أن يرجموها وفي نسخة في قضية المرجومة وهي ما رواه ابن عساكر في تاريخه بسنده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن امرأة حسناء في بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من أكابرهم وقيل من قضاتهم الذين رفعت حكمها إليهم فامتنعت فاتفقوا أن يشهدوا عليها عند داود أنها مكنت من نفسها كلبا لها قد عودته ذلك منها فأمر برجمها أو هم به فلما كان عشية يوم رجمها جلس سليمان واجتمع إليه ولدان فانتصب حاكما وتزيى أربعة منهم بزي أولئك الأربعة وآخر بزي المرأة وشهدوا عليها بأن مكنت من نفسها كلبا فسألهم متفرقين عن لونه فقال أحدهم أسود وآخر أحمر وآخر عيسى وآخر أبيض فأمر بقتلهم فبلغ ذلك داود فاستدعى من فوره بالشهود فسألهم متفرقين عن لون كلبها فاختلفوا فقتلهم (وفي قصّة الصّبيّ ما اقتدى) أي الذي اقتدى (به) أي بسليمان ورجع إلى حكمه (داود أبوه) عطف بيان لدفع توهم أن يكون غيره وهذه القضية رواها الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى بينما امرأتان معهما ابنان لهما فأخذ ذئب أحدهما فتحاكمتا إلى داود في الآخر فقضى به للكبرى فدعاهما سليمان وقال هاتوا السكين أشقه بينهما فقالت الصغرى رحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى لها به مستدلا بشفقتها عليه بقولها لا تشقه ورضى الكبرى بشقه لتشاركها في المصيبة أو لما كان بينهما من العداوة ولعل داود عليه السلام حكم به للكبرى لكونه في يدها أو اعتمادا على نوع من الشبه وهو لا يخلو من الشبه فإن قيل المجتهد لا ينقض حكم المجتهد فالجواب إن سليمان فعل ذلك وسيلة إلى حقيقة القضية فلما أقرت بها الكبرى عمل بإقرارها أو لعل في شرعهم يجوز للمجتهد نقض حكم المجتهد وقيل كان بوحي ناسخ للأول قيل وكان قضاؤه وهو ابن اثنتي عشرة سنة ومات وهو ابن اثنتين وخمسين سنة وقيل كان حكم داود باجتهاد وحكم سليمان بوحي والوحي ينقض غيره، (وحكى الطّبريّ) وفي نسخة وقال الطبري وهو محمد بن جرير (أنّ عمره) أي سن سليمان (كان حين أوتي الملك اثني عشر عاما) أي سنة، (وكذلك) أي ومثل ما ذكر عن سليمان في صغره (قصّة موسى) قيل وزنه مفعل أو فعلل أو فعلى (مع فرعون وأخذه بلحيته وهو طفل) وقصته أن فرعون كان يرى أن من يأخذ بلحيته ويأخذ منها خصلة هو الذي يقتله ويسلب ملكه فبينا موسى في حجره إذ تناول لحيته فأخذ منها خصلة فقال هذا عدو لنا فقالت له امرأته المسلمة آسية بنت مزاحم أنه صغير فألقى له الدر والجمر فأخذ الجمر وأدخله في فيه فمنه كان في لسانه عقد وفرعون هذا هو عدو الله الوليد بن مصعب ابن الريان كان من القبط العماليق وعمر أكثر من أربعمائة سنة وقد كتبت رسالة مسماة بفر

ص: 234

العون ممن ادعى إيمان فرعون، (وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) أي كمال هدايته وصلاح حالته (مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: 68] ) أي قبل أوان معرفته (أي هديناه) ووقع في أصل الدلجي هداه بالإضافة (صغيرا) أي قبل بلوغه، (قاله مجاهد وغيره) وقال غيرهم قبل موسى وهارون وقيل قبل محمد عليه الصلاة والسلام، (وقال ابن عطاء) هو أبو العباس أحمد بن سهل بن عطاء مات سنة تسع وثلاثمائة (اصطفاه) أي في سابق قضائه في عالم الأرواح (قبل إبداء خلقه) أي إظهار جسده من العدم إلى الوجود في عالم الأشباح، (وقال بعضهم) كالكواشي وغيره (لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكًا يَأْمُرُهُ عَنِ اللَّهِ أَنْ يعرفه بقلبه) التامة الشاملة للأفعال والصفات والذات الكاملة (ويذكره بلسانه) بوصف المداومة (فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ وَلَمْ يَقُلْ أَفْعَلُ فَذَلِكَ رشده) أي حيث بالغ في الامتثال حتى عبر بالماضي عن الحال فكأنه امتثله وأخبره ومن هنا قيل النفي أبلغ من النهي، (وَقِيلَ إِنَّ إِلْقَاءَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فِي النّار ومحنته) أي بليته من نمرود (كانت وهو ابن ستّ عشرة سنة) وفي عين المعاني عن ابن جريج ست وعشرين إذ أقسم (ليكيدن أصنامهم فألقوه فيها فكانت عليه بردا وسلاما)(وإنّ ابتلاء إسحاق) عليه الصلاة والسلام (بالذّبح) أي كان كما في نسخة صحيحة (وهو ابن سبع سنين) وقيل ثلاث عشرة وهذا على أحد القولين في الذبيح مع خلاف في الترجيح حتى توقف فيه شيخ مشايخنا جلال الدين السيوطي في رسالة مستقلة بعد ذكره من الطرفين بعض الأدلة لكن المشهور بل الصحيح أنه إسماعيل لحديث أنا ابن الذبيحين أي إسماعيل وعبد الله إذ قد نذر عبد المطلب أن يسر الله حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة ذبح أحدهم فتم متمناه فاسهم فخرج على عبد الله ففداه بمائة من الإبل ومن ثم شرعت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا في فتنة ابن الزبير ولأن بشارته بإسحاق كانت مقرونة بأنه يولد له يعقوب المنافي للأمر بذبحه مراهقا وأيضا كانت مقرونة بالنبوة في آية أخرى والغالب في الأنبياء وصولهم إلى حد الأربعين ولأن إسماعيل كان أول ولده الابتلاء حينئذ أشق على ذبحه وفقده قيل وهذا هو الصواب عند علماء الصحابة والتابعين والقول بأنه إسحاق باطل منشأه الحسد من اليهود للعرب بأن يكون أبوهم هو الذبيح قال ابن قيم الجوزية في الهدي وهو مردود بأكثر من عشرين وجها وأما حديث سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي النسب اشرف فقال يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله فأما الذي قال صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه البخاري وغيره الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فزوائده مدرجة من الراوي وما روي من أن يعقوب كتب إلى يوسف مثله فلم يصح، (وَإِنَّ اسْتِدْلَالَ إِبْرَاهِيمَ بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ كَانَ) أي في نفسه (وهو ابن خمسة عشر شهرا) فحكاه الله تعالى عنه جهرا

ص: 235

ولا بدع أنه كان زمان مراهقته وأول مقام نبوته تنبيها لقومه على خطائهم بعبادة غيره سبحانه وتعالى وإرشادا لهم إلى طريق الحق على سبيل النظر والاستدلال على حدوث عالم الخلق وأن للشمس والقمر والكواكب وسائر الأشياء النورانية والظلمانية محدثا دبر طلوعها وسيرها وانتقالها وزوالها من حالها بدليل قوله تعالى يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (وقيل أوحى) وفي نسخة أوحى الله (إلى يوسف) بضم السين وفتحها وكسرها مع الهمزة وعدمه وكان بخده الأيمن خال أسود وبين عينيه شامة وبقي في الرق ثلاث عشرة سنة وقيل ثنتي عشرة قيل عدد حروف اذكرني عند ربك فإن عد المضاعف اثنين فثلاث عشرة وإلا فاثنتا عشرة وعن علي كرم الله تعالى وجهه أن أحسن الحسن الخلق الحسن وأحسن ما يكون الخلق الحسن إذا كان معه الوجه الحسن (وهو صبيّ) أو بالغ فعن الحسن وله سبع عشرة سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة ودفن بمصر بالنيل ثم حمله موسى عليهما الصلاة والسلام حين خرجت بنو اسرائيل من مصر إلى الشام (عندما همّ إخوته بإلقائه في الجبّ) أي في قعر بئر وهي على ثلاثة فراسخ من منزل أبيهم (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا [يوسف: 15] الآية) أي إلى وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ففيه بشارة إلى مآل أمره أي لنخلصنك ولنخبرن إخوتك بما فعلوه وهم لا يشعرون أنك يوسف لعلو شأنك ورفعة مكانك وكان الحال كما قال تعالى فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وأبعد من جوز تعلق جملة وهم لا يشعرون بأوحينا كما لا يخفى لأن الوحي لا يكون إلا على وجه الخفاء (إلى غيره ذلك ممّا ذكر من أخبارهم) ويروى ما ذكر من أخبار غيرهم، (وَقَدْ حَكَى أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ أَخْبَرَتْ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ولد حين ولد) أي أول ما ولد (باسطا يديه إلى الأرض) أي معتمدا بيديه على الأرض وقد جاء كذلك مفسرا (رافعا رأسه إلى السّماء) إيماء إلى بسط دينه وملكه على بساط الأرض ورفعة شأنه بالإسراء إلى جهة السماء. (وقال في حديثه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على ما رواه أبو نعيم في الدلائل (لمّا نشأت) أي انتشأت بحيث ميزت بين الخير والشر وفرقت بين الحق والباطل وهو أولى من قول الدلجي تبعا للتلمساني أي شببت وصرت شابا (بغّضت) بالتشديد للمبالغة أي كره الله (إليّ الأوثان) أي عبادتها والمعنى أنه خلق في جبلته وفطرته بناء على تحقق عصمته محبة الله وبغض عبادة ما سواه (وبغّض إليّ الشّعر) لما أراد أن ينزهه عن كونه شاعرا وأن يكون كلامه شعرا وهو لا ينافي أن يكون موزونا في طبعه كما حقق في موضعه (ولم أهمّ) بفتح فضم وتشديد ميم مضمومة أو مفتوحة أي لم أقصد (بشيء ممّا كانت الجاهليّة تفعله) أي من المعازف وغيرها مما نهى الله عنه (إلّا مرّتين فعصمني الله منهما) أي من الاستمرار عليهما وفي أكثر النسخ منها أي من أفعال الجاهلية بتمامها (ثمّ لم أعد) أي لم ارجع إليها أبدا فعن علي كرم الله وجهه على ما رواه البزار بسند صحيح عنه

ص: 236

مرفوعا بلفظ مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ كُلُّ ذَلِكَ يَحُولُ الله بيني وبين ما أريد ثم ما هممت بعدهما بشيء حتى أكرمني الله برسالته ورواه الحاكم في المستدرك في التوبة بلفظ ما هممت بقبيح مما هم به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر كلتاهما بعصمني الله منها قلت ليلة لفتى من قريش كان بأعلى مكة يرعى غنما لأهله أبصر غنمي حتى أسمر هذه الليل كما يسمر الصبيان فجئت أدني دار من دور مكة فسمعت غناء وصوت دفوف ومزامير فقلت ما هذا فقيل فلان تزوج فلانة فلهوت بذلك الغناء وذلك الصوت حتى غلبتني عيناي فما ايقظني إلا حر الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال لي ما فعلت فأخبرته ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك فسمعت كما سمعت حتى غلبتني عيناي فما أيقظني إلا مس الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال لي ما فعلت فما قلت شيئا أي وذلك حياء قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما هممت غيرهما بسوء مما يعمله أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته وفيه تنبيه على أن هذا الهم إنما كان حال الصغر دون البلوغ كما يشير إليه قوله كما يسمر الصبيان وهذا أوفى دليل على قبح سماء اللهو وضرب الدف إلا ما شرع له خلافا لما يفعله الجهلة من الصوفية حيث يجمعون بين الإذكار وضرب الدفوف ونفخ المزمار حتى في مجالس المواليد ومزار قبور المشايخ الابرار والحاصل أن الأنبياء مخلوقون على المكارم الرضية ومجبولون على الشمائل البهية وأنه لا يضر في ذلك ما وقع لهم حال الصغر على سبيل الندرة (ثمّ يتمكّن الأمر لهم) أي يزداد (وتترادف) أي تتوالى وتتابع (نفحات الله تعالى) جمع نفحة أي عطياته ومعارفه وجذباته (عليهم وتشرق) من الإشراق أي تضيء (أنوار المعارف في قلوبهم) أي وآثار العوارف على صدورهم (حتّى يصلوا إلى الغاية) وفي نسخة إلى الغاية أي نهاية أرباب الهداية وأصحاب العناية (وَيَبْلُغُوا بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ فِي تحصيل هذه الخصال الشّريفة النّهاية) بالنصب مفعول يبلغوا والمراد بها النهاية التي ما فوقها نهاية لكن كما قيل النهاية هي الرجوع إلى البداية فهم بين فناء وبقاء ومحو وصحو في مرتبة الكمال بين صفتي الجلال والجمال (دون ممارسة ولا رياضة) أي من غير معالجة وملازمة رياضة كسبية بل بخلقة جبلية وجذبة الهية (قال الله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي وصل موسى نهاية قوته وغاية نشأته من ثلاثين إلى أربعين سنة (استوى) أي استحكم عقله واستقام حاله بلغ أربعين سنة وهو سن بعث الأنبياء عليهم السلام غالبا في سنة الله وعادته سبحانه وتعالى (آتَيْناهُ حُكْماً) أي نبوة (وَعِلْماً [يوسف: 22، القصص: 14] ) أي معرفة تامة وأبعد الدلجي في تفسيره الحكم بعلم الحكماء ثم في ترجيحه (وقد نجد) أي نصادف نحن (غيرهم) أي غير الأنبياء من العقلاء والحكماء والأولياء (يطبع على بعض هذه الأخلاق) أي الكريمة المستحسنة (دون جميعها) وفي أصل الدلجي دون بعضها (ويولد عليها) أي يولد بعضهم على تلك الأخلاق (فيسهل عليه

ص: 237

اكتساب تمامها) بواسطة تخلقه واتصافه بها (عناية) أي بعناية (مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نُشَاهِدُ مِنْ خَلْقِهِ بعض الصّبيان) بكسر الخاء المعجمة وسكون اللام (على حسن السّمت) أي الهيئة والطريقة والتحلية بحلية أهل الحقيقة كما روي عن بعض ارباب هذا الشأن أنه لم يكن يرضع في نهار رمضان (أو الشّهامة) بفتح المعجمة أي على الجلادة وذكاء الفطنة (أو صدق اللّسان) أي مع نطق البيان (أو السّماحة) أي الجود والكرم والصبر والحلم وقلة الأكل وكثرة الحياء وكمال الأدب والرضى بما أعطي من المأكل والملبس وغيرهما (وكما نجد بعضهم) أي بعض غير الأنبياء أو بعض الصبيان (على ضدّها) أي في الصغر والكبر؛ (فبالاكتساب يكمل) بضم الميم أي يتم (ناقصها وبالرّياضة والمجاهدة يستجلب معدومها) بصيغة المجهول (ويعتدل منحرفها) أي مائلها لمن وفقه الله تعالى على إكمالها واستقامة أحوالها، (وباختلاف هذين الحالين) أي الجبلي والكسبي (يتفاوت النّاس فيها) أي قلة وكثرة وتحصيلا وتعطيلا، (وكلّ ميسّر) أي معد ومهيأ (لما خلق له) وهو مقتبس من حديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة؛ (ولهذا) أي ولتفاوت الناس فيها وفي أكثر النسخ ولهذا (ما) أي وثبت لهذا ما (قد اختلف السّلف فيها) أي في الأخلاق (هل هذا الخلق) أي الحسن أو جنسه (جبلّة أو مكتسبة فحكى الطّبريّ) أي صاحب التفسير والتاريخ (عن بعض السّلف أنّ الخلق الحسن) أي وكذا ضده (جبلّة وغريزة في العبد؛ وحكاه) أي بعض السلف أو الطبري (عن عبد الله بن مسعود) رضي الله تعالى عنه (والحسن) أي البصري (وبه قال هو) أي ابن جرير الطبري؛ (والصواب ما أصّلناه) أي جعلناه أصلا فيما مر أن منها ما هو جبلة غريزية ومنها ما هو كسبية رياضية وكان حق المصنف أن يقول والظاهر أو الصحيح كما في نسخة مكان قوله والصواب مراعاة لما سبق من السلف كما يقتضيه حسن الآداب ثم التحقيق ما قدمناه. (وقد روى سعد) أي ابن أبي وقاص كما في مقدمة كامل بن عدي وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي أمامة (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال كلّ الخلال) بكسر الخاء جمع خلة بالفتح أي الصفات والخصال (يطبع عليها المؤمن إلّا الخيانة) ضد الأمانة (والكذب) أي فلا يطبع عليهما بل قد يواجدن فيه ويعرضان ويحدثان تخلقا وتكسبا (وقال عمر رضي الله عنه أي ابن الخطاب كما في أكثر النسخ (في حديثه) أي الذي رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وسعيد بن منصور عنه موقوفا (الجرءة) على وزن الجرعة الشجاعة ويقال بفتح الراء وحذف الهمزة كما يقال للمرأة مرة وبفتح الجيم والراء والمد (والجبن) ضدها وهو بضم الجيم وسكون الباء وقد يضم (غرائز) جمع غريزة أي طبائع وقرائح (يضعهما) وفي نسخة يضعها (الله حيث يشاء) أي كما قال تعالى الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ انتهى كلامه رضي الله تعالى عنه. (وهذه الأخلاق

ص: 238