الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(والاقتصار) أي وأن الشافعي يرى الاقتصار (في المسح على بعض الرّأس) وهو ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين ومالك يرى وجوب مسح كله احتياطا وأبو حنيفة عمل بحديث مسلم في مسحه صلى الله تعالى عليه وسلم على الناصية وهو ربع الرأس ودليلنا حجة عليهما (وأنّ مذهبهما) أي مالك والشافعي (القصاص) أي القود (في القتل بالمحدّد) أي مما يجرح كالسنان (وغيره) مما لا يجرح كالعصا (وإيجاب النّيّة في الوضوء) أي في أوله (واشتراط الوليّ في النّكاح) أي في عقده (وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُخَالِفُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ) أي لما قام عنده مما صح من الدلائل كما بيناه في شرحنا المسمى بالمرقاة للمشكاة في حل المشكلات لكل طالب وسائل وما يتوقف عليه من الوسائل (وغيرهم) أي من الفقهاء المذكورين ونحوهم كالحنبليين (ممّن لم يشتغل بمذاهبهم ولا روى) وفي نسخة صحيحة ولا رأي (أقوالهم) أي ولا عرف مشار بهم (لا يعرف) وفي نسخة صحيحة ولا يعلم (هذا) أي ما ذكر من هذه المسائل وأمثالها (من مذاهبهم) أي ولو كان على منهجهم وادعى بأنه في مشربهم لكنه ما باشر إلا علوما أخر وضيع عمره فيما لا ينفعه فتدبر (فضلا عمّن) وفي نسخة عما (سواه) أي ممن لم يباشر العلوم أصلا ولم يمازج كتابا ولا فصلا ولا فرعا ولا أصلا (وعند ذكرنا آحاد هذه المعجزات) أي إجمالا كافيا (نزيد الكلام فيها بيانا) أي شافيا (إن شاء الله تعالى) .
فصل [في إعجاز القرآن العظيم الوجه الأول]
(في إعجاز القرآن) أي بيان اعجازه في إطنابه وإيجازه (اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ العزيز) أي الغالب على سائر الكتب لكونه معجزا ولكونه ناسخا لغيره في بعض أحكامه (منطو) أي مشتمل ومحتو (على وجوه من الإعجاز) أي أنواع (كثيرة) وأصناف غريزة (وتحصيلها) مبتدأ أي وتحصيل وجوهه الكثيرة بطريق إجمالها (من جهة ضبط أنواعها) أي مع اندماج أصنافها واندراج أجناسها (في أربعة وجوه) أي منحصرة فيها (أوّلها حسن تأليفه) أي تركيبه بين حروفه وكلماته وآياته وسوره وقصصه وحكاياته (والتئام كلمه) أي وانتظام كلماته في سلك مبانيها المتناسبة لمقتضى معانيها المتناسقة بين أعاليها وأدانيها (وفصاحته) أي ووضوح بيان معانيه مع اقتصاد مبانيه (ووجوه إيجازه) أي من قصر وحذف لاكتفاء وإيماء.
(وبلاغته) أي في عجائب التراكيب وغرائب الأساليب وبدائع العبارات وروائع الإشارات (الخارقة) أي المتجاوزة (عادة العرب) من فصاحتهم وبلاغتهم (وذلك) أي ما ذكر من عادتهم (أنّهم كانوا أرباب هذا الشّأن) أي من جهة الفصاحة (وفرسان الكلام) أي في ميدان البراعة (قد خصّوا من البلاغة، والحكم) بكسر ففتح جمع حكمة وهي كمال العقل واتقان العمل (ما لم يخصّ به غيرهم من الأمم) أي سابقة ولاحقة (وأوتوا من ذرابة اللّسان) بفتح الذال المعجمة أي حدته وبساطته وسلاطته (ما لم يؤت) أي مثله (إنسان) أي ممن عداهم وكان
الاولى أن يقول الإنسان ويراد به جنسه لأنه أنسب في مقام سجعه (ومن فصل الخطاب) أي بيان المراد في الفصول والأبواب (ما يقيّد الألباب) بكسر التحتية الثانية المشددة أي يمنع أرباب العقول الخالصة أن يأتوا بمثل كلامهم وعلى نهج مرامهم (جعل الله لهم ذلك) أي ما خصوا به (طبعا وخلقة) أي سليقة وجبلة (وفيهم) أي وجعل ذلك فيهم (غزيزة) أي سجية (وقوّة) أي وقدرة بديعة (يأتون منه) أي من الكلام الوافي للمرام (على البديهة) من غير الروية (بالعجب) أي العجاب (ويدلون) بضم الياء واللام أي يتوسلون (به إلى كلّ سبب) أي من الأسباب في السؤال والجواب وسائر فصول الخطاب (فيخطبون) أي الخطب البليغة (بديها) أي من جهة البديهة (في المقامات) أي على حسب ما يلائمها من المقالات (وشديد الخطب) أي في الأمر العظيم الشأن والحال الذي يقع فيه تفخيم البيان، (ويرتجزون به) أي يوردونه مرجزا في حال الحرب (بين الطّعن والضّرب) فالطعن بالرمح ونحوه والضرب بالسيف وغيره (ويمدحون) أي بعضهم بعضا إظهارا لمفخرة أو كسبا لمحمدة أو جلبا لفائدة. (ويقدحون) أي ويطعنون ويذمون بعضهم بعضا أيضا لأحد الأغراض السابقة وهذا المعنى بحسب التقابل هو المناسب للمرام وأبعد الدلجي في قوله ويقدحون أفكارهم فيستخرجون سحر الكلام في أحسن النظام (ويتوسّلون) أي به إلى من يقصدون منه نجاح مآربهم (ويتوصّلون) أي به إلى الفوز بمطالبهم (ويرفعون) أي بمدحهم من أرادوا (ويضعون) أي بذمهم من شاؤوا (فيأتون من ذلك) الكلام على وجه الإجمال وطريق الكمال (بالسّحر الحلال) وهو ما لطف مبناه وشرف معناه ويستعار للكلام البليغ وقد ورد إن من البيان لسحرا أي سواء كان نثرا أو شعرا فإنه ربما سحر الإنسان وصرفه عن حيز التبيان والسحر في الشرع حرام إلا أنه حلال في مقال وقع في مقام مرام (ويطوّقون) بكسر الواو المشددة أي يحملون (من أوصافهم) أي صفاتهم الحميدة وسماتهم المجيدة من ظنوه أهلا لتلك الأحوال نعوتا (أجمل من سمط الّلآل) بكسر السين هو الخيط ما دام فيه الخرز وإلا فهو سلك وفي نسخة بضمها على أنه جمع سمط واختاره اليماني لكن في القاموس أن جمعه سموط هذا وقد قال الحلبي اللؤلؤة الدرة وجمعها اللؤلؤ واللآلي انتهى وفيه مسامحة إذ اللؤلؤ جنس واللآلي جمع وقد حذف المصنف ياءه مراعاة للسجع ونظيره في الفواصل قوله تعالى الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (فيخدعون الألباب) في ملهياتهم (ويذلّلون الصّعاب) أي يهونونها في مهماتهم بحسب ما يزينون مراماتهم في مقالاتهم على وفق مقاماتهم (ويذهبون) بضم الياء وكسر الهاء أي يزيلون (الإحن) بكسر الهمزة وفتح الحاء جمع إحنة بكسر فسكون وهي الحقد والضغينة وإضمار العداوة (ويهيّجون) بتشديد الياء الثانية المكسورة وفي نسخة بفتح الياء الأولى وكسر الهاء وتخفيف الياء الثانية أي يحركون ويثيرون (الدّمن) بكسر الدال المهملة وفتح الميم جمع دمنة وهي في الأصل ما تدمنه الإبل ونحوها بأبوالها وأبعارها أي تلبده في مرابضها ثم استعمل في الحقد لتلبده في باطنه ولكونه من دمائم خاطره وفي نسخة الزمن بفتح الزاء وكسر الميم
المقعد والمفلوج وفي نسخة الذمر بفتح الذال المعجمة وكسر الميم فراء وهو الشجاع وهو وإن كان يخالف ما قبله من مراعاة السجع إلا أنه أبعد من التكرار المعنوي وأقرب للمقابل اللفظي بقوله (ويجرّئون الجبان) بتشديد الراء المكسورة أي يحملونه على الجرأة والشجاعة والجبان بفتح الجيم والموحدة المخففة ضد الشجيع (ويبسطون) بضم السين أي ويفتحون (يد الجعد البنان) أي البخيل اللئيم الشأن وأصل الجعد بفتح الجيم وسكون العين وهو الانقباض في الشعر ضد السبط المسترسل والبنان بفتح الموحدة وتخفيف النونين أطراف الأصابع جمع بنانة ومنه قوله تعالى بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (ويصيرون) بتشديد التحتية الثانية أي يحولون (النّاقص كاملا) بحسن رعايتهم وعين عنايتهم (ويتركون النّبية) أي المشهور بالنباهة والتنبه عن نوم الجهالة (خاملا) أي متروكا شأنه ومجهولا بيانه. (منهم البدويّ) أي من يسكن البادية مع كون غالبهم عنه المعرفة عارية (ذو اللّفظ الجزل) بفتح الجيم وسكون الزاء أي صاحب الألفاظ التي فيها الجزالة والسلاسة الكاملة في الدلالة في مراتب الفصاحة والبلاغة (والقول الفصل) أي البين أمره والمبين حكمه. (والكلام الفخم) أي العظيم المرام (والطّبع الجوهري) منسوب إلى جوهر وهو معرب واحده جوهرة وهذا مدح جزيل ووصف جليل كذا ذكره الحلبي واقتصر عليه ووقع في أصل الدلجي بلفظ الجهوري أي الشديد الصوت العالي والواو زائدة من جهر بصوته إذا رفعه بشدة وفي حديث العباس أنه نادى بصوت جهوري انتهى والظاهر أنه تصحيف في المبنى وتحريف في المعنى اللهم إلا أن يتكلف كما اقتصر عليه الشمني فقال المراد بالطبع الجبلة والجهوري الذي قد اشتهر من قولهم جهر بصوته إذا شهره ورفعه إذ الطبع لا يقبله والمقام لا يلائمه كما لا يخفى على من تأمله (والمنزع القويّ) بفتح الميم والزاء أي والمشرب الصفي (ومنهم الحضريّ) بفتحتين أي من يسكن الحاضرة ضد البادية من المصر أو القرية (ذو البلاغة البارعة) أي الفائقة اللائقة (والألفاظ النّاصعة) أي الخالصة من شوائب الركاكة لبلاغة مبانيها وفصاحة معانيها (والكلمات الجامعة) أي لمعان كثيرة في ضمن مبان يسيرة. (والطّبع السّهل) أي المنقاد للأهل كالماء في سلاسته والنسيم في لطافته (والتّصرّف في القول القليل الكلفة) أي اليسير المؤنة لسهولة المعونة (الكثير) أي وفي القول الكثير (الرّونق الرّقيق الحاشية) أي الجزيل الحسن في المبنى واللطيف الطرف في المعنى (وكلا البابين) أي بابي كلام كل في كل مقام مطابق لما قصد من المرام (فلهما في البلاغة الحجّة البالغة) أي الواصلة إلى مقام النهاية والغاية وأعاد المصنف الضمير في فلهما إلى معنى كلا وهو مذهب الكوفي والمختار رأى البصري وهو أن يفرد الضمير بناء على لفظه وبه جاء القرآن في قوله سبحانه وتعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها (والقوّة الدّامغة) أي الماحقة للأمور الزاهقة ومنه قوله تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ وفي حديث علي دامغ جيش الاباطيل. (والقدح) بكسر القاف أي السهم والمراد به واحد الازلام لا الذي قبل أن يراش كما يتوهم من تقرير الحلبي نعم هو أصله لكن قصد هنا
فصله بقرينة قوله (الفالج) بكسر اللام أي الفائز الغالب (والمهيع) بفتح الميم والتحتية أي الطريق الواسع (النّاهج) أي السبيل السالك الواضح وفي حديث علي اتقوا البدع والزموا المهيع (لا يشكّون أنّ الكلام طوع مرادهم) أي منقاد لما يرون من إيرادهم. (والبلاغة ملك قيادهم) بكسر الميم ثم كسر القاف وهو حبل تربط به الدابة ذكره الحلبي فيكون من القيد أي يقيدونه بما أرادوا والأظهر أنه ما يقاد به فهو من القود وهو السوق من قدام أي يقودونه حيث شاؤوا من روائع لطائفه وبدائع عوارفه (قد حووا) بفتح الواو أي حازوا وجمعوا (فنونها) أي من مبانيها (واستنبطوا عيونها) استخرجوا من معانيها لبابها (وَدَخَلُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا وَعَلَوْا صرحا) أي ورفعوا بناء ظاهرا (لبلوغ أسبابها فقالوا في الخطير والمهين) بفتح الميم أي في العظيم والحقير (وتفنّنوا في الغثّ) بفتح الغين المعجمة وتشديد المثلثة أي المهزول (والسّمين) ومنه قول ابن عباس لعلي ابنه الحق بابن عمك يعني عبد الملك بن مروان فقل له نغثك خير من سمين غيرك والمعنى فغايروا في كلامهم بين أسلوب وأسلوب وإيراد وإيراد بلطائف مبان وشرائف معان في كل مراد (وتقاولوا) أي فيما بينهم (في القلّ والكثر) بضم أولهما أي في القليل والكثير مدحا وهجوا وإيجازا وأطنابا (وتساجلوا) بالسين المهملة والجيم مأخوذ من السجل وهو الدلو أي تناوبوا وتراسلوا (في النّظم والنّثر) أي تفاخروا وتكاثروا وعن ابن الحنفية رحمه الله تعالى أنه قرأ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فقال هي سجلة للبر والفاجر أي مرسلة مطبقة في الإحسان إلى كل واحد من أفراد الإنسان ومنه قولهم الحرب سجال (فما راعهم) أي ما أفزعهم شيء اليم (إلّا رسول كريم) أي جاءهم بخلاف هواهم لكن معه هداهم وطريق مناهم حين أتاهم (بكتاب الْعَزِيزُ) أي بديع منيع رفيع حيث لا نظير لمثله (لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي لا يتعلق البطلان به بوجه من وجوهه (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] ) يحمده خلقه بما ظهر عليهم من نعمه (أحكمت آياته) أي نظمت نظما محكما متقنا لا يغشاه خلل لا لفظا ولا معنى (وفصّلت كلماته) أي ميزت وبينت ما يحتاج إليه في أبواب الدين من عقائد وأحكام وأخبار ومواعظ ووعد ووعيد على وجه اليقين (وبهرت بلاغته العقول) أي غلبتها (وظهرت فصاحته على كلّ مقول) أي نظما ونثرا (وتظافر) بالظاء المشالة أي تظاهر وتغالب على غيره (إيجازه وإعجازه) أي مبنى ومعنى ومنه قوله تعالى أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وهو الموافق لما في النسخ المصححة وتصحف علي الدلجي فقال تصافر بالصاد من تصافر القوم تعاونوا (وتظاهرت حقيقته ومجازه) أي تعاونت لبلوغهما أقصى مراتبهما (وتبارت) بمثناة فوقية فموحدة تعارضت (في الحسن مطالعه ومقاطعه) والمعنى تجارت فيه فواتح سوره وآياتها وقصصها وخواتمها تسارعا وتسابقا لا يتصور له لاحق فضلا عن أن يوجد له سابق ثم التباري معتل لا مهموز وفي الحديث نهى عن أكل طعام المتبارين أي المتسابقين المتعارضين بفعلهما ليغلب أحدهما الآخر في صنعهما وإنما كرهه لما فيه من المباهاة والرياء أو لاشتمالهما على
عدم الرضى لإعطائهما بسيف الحياء ويمكن حمل كلام المصنف على هذا المعنى أي تعارضت مطالعه ومقاطعه في الحسن وتغالبت كأن كل واحدة منهم غالبت أختها وعارضت شبيهتها (وحوت) أي جمعت (كلّ البيان) بالنصب أي جميع ما يحتاج إلى البيان من جهة الأديان (جوامعه) أي بكلم قليلة وحكم جزيلة (وبدائعه) أي على أوفق إيجاز وأوثق إعجاز (واعتدل مع إيجازه) أي استقام قاله الدلجي والأظهر توسط بين غاية الاطناب ونهاية الإيجاز (حسن نظمه) وفي نسخة حسن لفظه بجزالة بلاغته وغرابته (وانطبق) أي احتوى (على كثرة فوائده) أي من معانيه (مختار لفظه) أي من إيجاز مبانيه (وهم أفسح) أوسع (ما كانوا في هذا الباب) أي باب السؤال والجواب (مجالا) أي قوة واحتمالا وفي نسخة صحيحة أفصح بالصاد وهو ظاهر المراد (وأشهر في الخطابة) أي في باب المخاطبة والمحاورة (رجالا) ولو قال في الخطاب لكان سجعا لما في الكتاب من لفظ الباب ثم نصب مجالا ورجالا كليهما على التمييز المحمول عن الفاعل فيهما والجملتان حاليتان أي مجالهم ورجالهم إذ مجالهم في باب البلاغة أظهر ورجالهم في باب الفصاحة أشهر (وأكثر) أي من غيرهم (في السّجع) أي في الكلام المقفى في النثر (والشّعر) بزيادة قيد الموزون في النظم (ارتحالا) أي انتقالا من كلام إلى كلام ومن مرام إلى مرام بقوة تفننهم في نوعي الكلام ووقع في أصل الدلجي بالجيم فقال أي بدون ترو ومهلة إذ كان لهم سجية وطبيعة انتهى وفي القاموس ارتجل الكلام تكلم به من غير أن يهيئه وفي نسخة سجالا أي تارة وتارة باعتبار المناوبة أو المغالبة (وأوسع) أي ممن عداهم (في الغريب) أي غريب الاستعمال (واللّغة) بالمعنى الأعم المتناول للقريب والغريب على وجه الكمال (مقالا) أي قالا مما يوجب حالا ومثالا (بلغتهم) متعلق بكتاب أو حال منه أي حال كونه بألسنتهم (التي بها يتحاورون) أي يتجاوبون في محاوراتهم (ومنازعهم) بفتح الميم أي محال المنازعة بمعنى المجاذبة في الأعيان والمعاني (التي عنها يتناضلون) بالضاد المعجمة أي يتغالبون بالكلام من النظم والنثر (صارخا بهم) أي حال كون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو القرآن المعظم داعيا لهم ومناديا عليهم (في كلّ حين) أي زمان من ليل ونهار منفردين أو مجتمعين تسجيلا عليهم بإنكارهم للدين واستكبارهم عن الحق معرضين (ومقرّعا) بتشديد الراء المكسورة بعد القاف أي وموبخا (لهم بضعا وعشرين عاما) بكسر الموحدة وقد تفتح ما بين الثلاث إلى التسع والمراد به هنا ثلاثة على الصحيح من أنه بعث على رأس الأربعين وعاش ثلاثا وستين وقيل خمسا وستين وقيل ستين وقد جمع بين الأقوال الثلاثة كما هو مقرر في محله ولعل المصنف لوقوع اختلاف ما أطلق بضعا وعشرين عاما (على رؤوس الملإ) أي من أشرافهم ورؤسائهم (أجمعين أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) اقتباس أورده شاهدا بثبوت نبوته وأم بمعنى بل والهمزة للإنكار أي بل أيقولون اختلقه محمد وجاء به من عنده وكذب على ربه (أَقُلْ) أي لهم إن كان الأمر كما زعمتم وتوهمتم (فَأْتُوا) على صورة الافتراء (بِسُورَةٍ) أي
بأقصر سورة (مِثْلِهِ) أي تماثله في بلاغة مبانيه وفصاحة معانيه فإنكم عربيون مثلي بل أنتم مشهورون بالخطابة نظما ونثرا من قبلي (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي استعينوا بمن يمكن استعانتكم به من غير تعالى على الإتيان بسورة مثله لا به فإنه تعالى قادر عليه بانفراده (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 38] ) أي في أنه أتى به من عنده (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي في شك وشبهة (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) أي في كل سورة (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] إِلَى قَوْلِهِ وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24] ) وهو قوله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنه سبحانه وتعالى ما انزله عليه وما أوحاه إليه فإن لم تفعلوا أي في الحال ولن تفعلوا أي في الاستقبال فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فهذه الآية منادية عليهم بعجزهم عن المعارضة في الأزمنة الحاضرة مع إخباره سبحانه وتعالى بأن الخلق كلهم عاجزون عن الإتيان بمثله إلى يوم القيامة (وقوله) أي وأصرح من هذا كله قوله تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ) ومنهم أصناف العرب (وَالْجِنُّ) ومنهم أنواع الملائكة (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ [الْإِسْرَاءِ: 88] ) في كمال مبناه وجمال معناه (الآية) يعني قوله لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي متعاونين على الإتيان بمثله وقال الدلجي ولم يدرج الملائكة في الفريقين مع عجرهم أيضا عنه لأنهما المتحديان به انتهى ولا يخفى أن إدراجهم معهم كما حررنا هو الأولى فإنه أظهر في المدعي لا سيما وقد قال بعض العلماء بأن نبينا مبعوث إلى الملائكة بل إلى الخلق كافة كما قررناه في محله اللائق به (وقيل) أي في آية أخرى وفي نسخة وقل (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13] ) أي مختلقات من عند أنفسكم وحاصله أنه ألزمهم الحجة بإتيان قرآن مثله ثم أرخى العنان بتنزله إلى عشر سور مثله ثم تحداهم بسورة واحدة كائنة من عندهم تسهيلا للأمر عليهم وتسجيلا بنداء العجز لديهم كذا قرره الشراح وهو المستفاد مما سيأتي وكلام المصنف على ما حرره وفيه أنهم من أول الوهلة طولبوا المعارضة لا بعد تمام القرآن سورة وسورة والقرآن كما يطلق على الكل يطلق على البعض كما عرف في علم الأصول بما يؤيده من دليل المنقول والمعقول فالوجه أن المراد بالقرآن قدر ما تتعلق به المعجزة وهو اقصر سورة أو قدرها من آيات وحروف وكلمات ويقويه قوله تعالى فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ وعلى كل تقدير فالتحدي بعشر سور مثله تهكم بهم في إثبات عجزهم (وذلك أنّ المفترى) بفتح الراء على ما صرح به الحلبي وغيره (أسهل) أي أهون تلفيقا (ووضع الباطل والمختلق) بفتح اللام أي المكذوب (على الاختيار) أي اختيار المعارض (أقرب) أي أنسب تزويقا وأروج تنميقا ومع ذلك فلم يجدوا إليه طريقا (واللّفظ) أي بعد وضعه في المبنى الفصيح (إذا تبع المعنى الصّحيح كان أصعب) أي ترتيبا وأتعب تهذيبا وهذا أيضا وجه عجزهم عن المعارضة لأن القرآن جمع بين غرائب المعاني وعجائب البيان (ولذلك) وفي نسخة ولهذا أي ولكون المبنى إذا اتبع المعنى أصعب في المدعي (قيل فلان يكتب كما يقال له) فيفتق أكمام ما قيل له من أخبار مبانيه عن أزهار
معانيه ويراعي جميع ما يوافيه بتحريره ويدفع كل ما ينافيه بتقريره حتى يستحسنه المملي إذ عبر عن مراده في شأنه ما كان عاجزا هو عن إيراد بيانه (وفلان يكتب) أي ما يقال له إلا أنه (كما يريد) أي بنفسه لا أنه كما يراد منه بحسب أنسه (وللأوّل) أي من الكاتبين (على الثّاني فضل) أي مزيد سديد (وبينهما شأو بعيد) وفي نسخة صحيحة شأو وبعد وهو بفتح الشين المعجمة وسكون الهمزة فواو منون أي مدى ونهاية وسبق وغاية والمعنى فرق بعيد وفصل عميق لإتيان الأول بالمأمور مفرغا في قالب مراد آمره دون الثاني لإتيانه بمأموره في قالب مراد نفسه إذا عرفت ذلك (فلم يزل صلى الله تعالى عليه وسلم يقرّعهم) بتشديد الراء (أشدّ التّقريع) تفسيره قوله (ويوبّخهم غاية التّوبيخ) أي اسوأه ولا يبعد أن يكون أحدهما بمعنى يهددهم بل هو أولى لأن التأسيس بالنسبة إلى التأكيد أعلى (ويسفّه أحلامهم) بتشديد الفاء أي ينسب عقولهم إلى السفه وبعدهم سفهاء كقوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ وقوله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ (ويحطّ) بضم الحاء وتشديد الطاء أي ينكس (أعلامهم ويشتّت) بتشديد التاء الأولى أي يفرق (نظامهم) ويمزق مرامهم (ويذمّ آلهتهم) أي يعيبها في حد ذاتها بقوله لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها (وإيّاهم) أي ويعيبهم على عبادتها بقوله وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وقوله مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وأمثالهما (ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم) أي بالاستيلاء عليها (وهم) أي والحال أنهم (في كلّ هذا) أي مما ذكر من الأحوال (ناكصون) أي راجعون القهقرى إلى وراء (عن معارضته محجمون) بحاء ساكنة فجيم مكسورة أي متأخرون (عن مماثلته) لظهور مباينته (مخادعون أنفسهم بالتّشغيب) أي بتهييج الشر وإثارة الفتنة والمخاصمة بين القريب والغريب وفي نسخة بالتكذيب وجمع بينهما أصل الدلجي وهو لا يناسب التهذيب خصوصا مع تكرار الباء وعدم العاطف المفيد للجمع أو الترتيب (والإغراء بالافتراء) أي الحث والالزام على وجه التزام نسبة سيد الأنبياء بالافتراء على خالق الأشياء وقد تصحف الإغراء على الدلجي بتوهم الاعتراء على ما في بعض النسخ فقال من عراه إذا مسه وأصابه إلى آخر ما ذكره (وقولهم) أي وبقول بعضهم كالوليد بن المغيرة كما حكى الله تعالى عنه بقوله ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فقال (إن هذا) أي ما هذا (إلّا سحر يؤثر) أي يروى عن أهل بابل وغيرهم وإنما قال هذا الكلام حين سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ حم السجدة فقال لقد سمعت من محمد كلاما ليس بكلام إنس ولا جن وأنه ليعلو ولا يعلى فقيل قد صبا الوليد فقال ابن أخيه أنا اكفيكموه فقد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقال لهم تزعمون أن محمدا مجنون هل رأيتمون يخنق وزعمتم أنه كاهن هل رأيتموه تكهن وأنه شاعر هل رأيتموه يقول شعرا قالوا لا فقال ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه فاهتز النادي فرحا وفي نسخة زيد هنا إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ؛ (وسحر مستمرّ) أي وقول
بعضهم كما حكى الله تعالى عنهم وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي هو أو هذا سحر مطرد دائم صادر عنه أو ذاهب باطل كما قاله قتادة ومجاهد رحمة الله تعالى عليهما أو قوي محكم يغلب كل سحر كما قاله أبو العالية والضحاك (وإفك افتراه) أي وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ أي كذب صرفه عن وجهه واختلقه من تلقاء نفسه وأعانه عليه قوم آخرون، (وأساطير الأوّلين) أي وقالوا هذا أو هو أقاويلهم المزخرفة التي سطرها المتقدمون (اكتتبها) أي استكتبها لنفسه فهي تملي عليه بكرة وأصيلا.
(والمباهتة) أي والإغراء بالمباهتة من بهته إذا رماه بما يتحير منه والمعنى ومخادعون أنفسهم بأكاذيب وافتراآت يحيط بهم ضررها ويحيق بهم مكرها ولا يتخطاهم أثرها (والرّضى بالدّنيئة) بالهمز وقد يسهل أي وبرضاهم منه بالخصلة الرديئة (كقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف أي هي مغشاة بأغطية لا يصل إليها هداية ولا رواية؛ (وفي أكنّة) أي وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي في أغطية (ممّا تدعونا إليه) أي مانعة من وصوله إليها فضلا عن حصوله لديها (وفي آذاننا وقر) أي ثقل وصمم، (ومن بيننا وبينك حجاب) أي حاجز مانع من تقربنا إليك ومن نفعنا بما لديك وزيد من تلويحا بأن ابتدأ منهم وانتشأ عنهم وامتد مستوعبا للمسافة المتوسطة بينهما بحيث لم يبق فراغ فيها (ولا تسمعوا) أي وقال الذين كفروا لأصحابهم وأحبابهم لا تسمعوا (لهذا القرآن والغوا فيه) أي بخرافات الكلام وساقطات المرام (لعلّكم تغلبون) أي قارئه بتشويش خاطره الباعث على ترك قراءته. (والادّعاء مع العجز) أي وبمجرد دعواهم مع ظهور عجزهم عن مدعاهم (بِقَوْلِهِمْ لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَالِ: 31] ) ولعمري أي مانع كان لهم لو ساعدتهم الاستطاعة أن يشاؤوا ذلك حيث تحداهم وقرعهم بالعجز مع فرط أنفتهم واستنكافهم أي يغلبوا لا سيما في ميدان الفصاحة والبيان والتجأوا إلى معالجة السلاح من السيف والسنان والعاقل لا يترك الأسهل ويتبع الأثقل (وَقَدْ قَالَ لَهُمُ اللَّهُ وَلَنْ تَفْعَلُوا فَمَا فعلوا ولا قدروا) فإخباره صدق وكلامه حق (ومن تعاطى ذلك) أي ومن تجرأ على قصد المعارضة في ميدان الفصاحة والبلاغة (من سخفائهم) أي سفهائهم (كمسيلمة) أي الكذاب بهذيانات مخترعات منها قوله يا ضفدع الا تتقين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين لا الماء تكدرين ولا الشراب تمنعين ومنها وقوله حين سمع أول سورة النازعات والزارعات زرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا والطاحنات طحنا والحافرات حفرا والباردات بردا واللاقمات لقما لقد فضلتم على أهل الوبر وما سبقكم أهل المدر ومنها قول آخر الم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج من بطنها نسمة تسعى وقال آخر الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل ومشفر طويل وإن ذلك من خلق ربنا لقليل (كشف عواره) بفتح العين المهملة وتضم وقيل الضم أفصح أي أظهر عيب نفسه (لجميعهم) أي من عقلائهم إذ لم يكن ما عارضه به من بديع كلامهم وبليغ نظامهم بل كان مما ينفر عنه الطبع السليم وينبو عنه السمع القويم من قلة سلاسته
وكثرة ركاكته وأغرب من هذا أنه لما قتل مسيلمة على يد المسلمين من الصحابة قال رجل من بني حنيفة يرثيه
لهفي عليك أبا ثمامه
…
لهفي على ركن اليمامه
كم آية لك فيهم
…
كالشمس تطلع من غمامه
حكاه السهيلي وقال كذب بل كانت آياته معكوسة وراياته منكوسة فإنه كما يقال تفل في بئر قوم سألوه ذلك تبركا فملح ماؤها ومسح رأس صبي فقرع قرعا فاحشا ودعا لرجل في ابنين له بالبركة فرجع إلى منزله فوجد أحدهما قد سقط في البئر والآخر قد أكله الذئب ومسح على عيني رجل استشفى بمسحه فابيضت عيناه (وسلبهم الله ما ألفوه) أي استعملوه (من فصيح كلامهم) أي في صحيح مرامهم وهذا يومي ترجيح القول بالصرفة كما فهم الدلجي وصرح بقوله ولا أقول به بل الصارف عن معارضته كمال بلاغته وأنا أقول وإنما صرفوا عن ما ألفوا لما أراد الله بهم من فضاحتهم وإلا لو عارضوا بطبق كلمات محاورتهم لربما أوهموا الضعفاء أنهم قاموا بمعارضتهم كما يشير إليه قوله (وإلّا فلم يخف على أهل المنبر) أي أصحاب التمييز (منهم أنّه) أي كلامهم هذا في مقام معارضتهم (ليس من نمط فصاحتهم) بضم النون والميم أي من نوعها (ولا جنس بلاغتهم) أي في فنها (بل ولّوا) أي أهل الميز من عقلائهم ولو كانوا من فصحائهم وبلغائهم (عنه مدبرين) أي أعرضوا عن الإتيان بمثله مولين بأدبارهم عن نحوه (وأتوا مذعنين) أي منقادين مقرين بكونهم عاجزين غايته أنهم صاروا مفترقين (من بين مهتد) أي مصدق به وبمن أنزل عليه من جهة رسالته (وبين مفتون) أي متحير في بديع بلاغته ومنيع فصاحته متعجب من عجزهم عن معارضته (ولهذا) أي ولكونه ليس من نمط فصاحتهم وجنس بلاغتهم (لَمَّا سَمِعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) مِنَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل: 90] الآية) يعني وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (قال) أي الوليد (والله إنّ له لحلاوة) وفي نسخة حلاوة أي لذة عظيمة يدركها من له سجية سليمة (وإنّ عليه لطلاوة) بفتح الطاء وقد تضم أي رونقا وحسنا فائقا (وإنّ أسفله لمغدق) بغين معجمة اسم فاعل من الغدق بفتحتين وهو كثرة الماء تلويحا بغرارة معانيه في قوالب مبانيه وفي نسخة لغدق من غير ميم وضبط بفتح عين مهملة فسكون ذال معجمة استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وهي العذق وهو رواية ابن إسحاق وبفتح معجمة فكسر مهملة من الغدق وهو الماء الكثير وهو رواية ابن هشام قال السهيلي ورواية ابن إسحاق أفصح لأنها استعارة تامة يشبه آخر الكلام أوله قال الحلبي فيوجه اللفظ الذي قاله القاضي في الكلام على رواية ابن إسحاق وابن هشام (وإنّ أعلاه لمثمر) إشارة إلى غزارة نفعه وزيادة رفعه بكريم فوائده وعميم عوائده (ما يقول هذا) أي مثل هذا (بشر) أي مخلوق وفي أصل
الدلجي ما هذا بقول بشر وفي حاشية الحلبي قال الغزالي في كتاب الإحياء عند آداب تلاوة القرآن حديث أن خالد بن عقبة جاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال اقرأ علي فقرأ عليه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية فقال أعد فاعاد فقال إن له لحلاوة الخ كما هو في الإحياء ذكره أبو عمرو بن عبد البر في استيعابه بغير إسناد ورواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس بسند جيد إلا أنه قال الوليد بن المغيرة بدل خالد بن عقبة كما قال القاضي وكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة فإن صح ما قاله الغزالي تبعا لما في الاستيعاب فإنهما قضيتان والله تعالى أعلم بالصواب؛ (وذكر أبو عبيد) بالتصغير وفي نسخة أبو عبيدة بزيادة تاء وهو الإمام الحافظ القاسم بن سلام بتشديد اللام البغدادي معدود فيمن أخذ عن الشافعي الفقيه وكان إماما بارعا في علوم كثيرة منها التفسير والقراآت والحديث والفقه واللغة والنحو والتاريخ قال الخطيب كان أبوه سلام عبدا روميا لرجل من أهل هرات سمع أبو عبيد إسماعيل بن جعفر وشريكا وإسماعيل بن عياش وابن علية وغيرهم وروى عنه محمد بن إسحاق الصاغاني وابن أبي الدنيا والحارث بن أبي أسامة وآخرون توفي سنة أربع وعشرين ومائتين (أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] ) ما مصدرية أو موصولة وعائدها محذوف أي أجهر بأمرك أو بالذي تؤمر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو افرق بين الحق والباطل على أن أصل الصدع بالحجة هو التمييز والإبانة وتتمة الآية وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي ولا تبال بإنكار من أنكر وبإشراكه كفر (فسجد) أي الأعرابي وانقاد لما أبداه (وقال سجدت لفصاحته) أي لوصوله نهاية فصاحته وبلوغه غاية بلاغته؛ (وسمع آخر) أي أعرابي آخر أو رجل آخر من المشركين (رجلا) أي من المسلمين (يقرأ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) أي حين يئسوا من يوسف إذ لم يجبهم وزيادة السين التاء للمبالغة (خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: 80] ) أي انفردوا واعتزلوا متناجين في تدبير أمرهم ووحده لكونه مصدرا أو فعيلا (فقال أشهد أنّ مخلوقا) أي أحدا من الأنام (لا يقدر على مثل هذا الكلام) أي في غاية النظام ونهاية المرام (وَحُكِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كان يوما) أي من الأيام (نائما في المسجد) ولعله كان معتكفا في مسجد سيد الأنام (فإذا هو) أي عمر (بقائم) أي رجل واقف (على رأسه) ووقع في أصل الدلجي وعلى رأسه قائم فقال جملة حالية (يتشهّد شهادة الحقّ) أي يأتي بكلمتي الشهادة على وجه الإخلاص وطريق الصدق (فاستخبره) أي عمر عن سبب ذلك الخبر والمعنى أنه طلب منه خبره وما أوجب أثره (فأعلمه) أي ذلك القائم (أنّه) أي باعتبار أصله (من بطارقة الرّوم) بفتح الباء الموحدة جمع بطريق بكسرها وهو كالأمير أو الوزير في لغتهم (ممّن) أي وأنه من جملة من (يحسن كلام العرب) أي فهمه (وغيرها) أي وغير لغة العرب أو كلماتهم من كلام الترك والعجم والهند ونحوها (وأنّه سمع رجلا من أسرى المسلمين) أي من أسرائهم في أيدي أعدائهم (يقرأ آية من كتابكم فتأمّلتها فإذا) أي هي كما في نسخة (قد جمع) بصيغة المجهول أي
اجتمع (فيها ما أنزل الله عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا) أي من علائق المعاش (والآخرة) أي من لواحق المعاد (وهي) أي تلك الآية الجامعة (قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ) في فرائضه (وَرَسُولَهُ) أي في سننه أو في جميع ما يأمرانه وينهيانه (وَيَخْشَ اللَّهَ) أي ويخف خلافه وعقابه وحسابه (وَيَتَّقْهِ [النور: 52] ) فيه قراآت مشهورة في محلها مسطورة أي ويتق الله فيما بقي من عمره في جميع أمره (الآية) تمامها فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أي الظافرون بالمراد في المبدأ والمعاد؛ (وحكى الأصمعيّ) وهو عبد الملك بن أصمع البصري صاحب اللغة والغريب والأخبار والملح ولد سنة ثلاث وعشرين ومائة (أنّه سمع جارية) أي بنتا أو مملوكة خادمة تتكلم بعبارة فصيحة وإشارة بليغة وهي خماسية أو سداسية وهي تقول: استغفر الله من ذنوبي كلها فقال لها مم تستغفرين ولم يجر عليك قلم فقالت:
استغفر الله لذنبي كله
…
قتلت انسانا لغير حله
مثل غزال ناعم في دله
…
انتصف الليل ولم أصله
(فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك) أي هي حقيقة بأن يقال لها ذلك تعجبا من فصاحة قولها كما يقال قاتله الله ما أعجب فعله أي بلغ في الكمال غاية لم يصل غيره إليها فاستحق أن يحسد فيه فيدعي عليه (فقالت أو) بفتح الواو (يعدّ هذا) بصيغة المجهول والمفهوم من الدلجي أن أصله بصيغة الخطاب المعلومة حيث قال عطف على مقدار أي ايعجبك وتعده (فَصَاحَةً بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) أي أشرنا إليها إلهاما أو مناما (أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7] ) أي أخفيه ما أمكنك فيه (الآية) وهي قوله تعالى فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ أي من لحوق الهم فألقيه في اليم ولا تخافي عليه ضياعه ولا تحزني فراقه أنا رادوه إليه لتقري عينا وجاعلوه من المرسلين عنا بمرأى منا (فجمع) أي الله سبحانه وتعالى (في آية واحدة بين أمرين) هما أرضعيه والقيه (ونهيين) أي لا تخافي ولا تحزني (وخبرين) يعني وأوحينا فإذا خفت عليه (وبشارتين) أي رادوه وجاعلوه (فهذا) أي الجمع بين المذكور في الآية ذكره الدلجي والأظهر أن هذا الذي ذكر من غاية الفصاحة ونهاية البلاغة في هذه الآية وغيرها مما سبق ذكره (نوع من إعجازه) أي إعجاز القرآن (منفرد) وفي نسخة مستقل (بذاته غير مضاف إلى غيره) أي من أنواعه المتعلقة بصفاته من حيث إخباره عن مغيباته وإنبائه عن أحكام عباداته ومعاملاته ومأموراته ومنهياته (على التّحقيق) أي عند أهل التوفيق (وعلى الصّحيح من القولين) أي اللذين سبق ذكرهما بالتصريح فإن الأول وهو الأولى هو القول بأنه خارج عن قدرة البشر وثانيهما أنه صرفهم عن معارضته خالق القوى والقدر فتأمل وتدبر (وكون القرآن) أي نزوله باعتبار ظهوره ووصوله (من قبل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بكسر القاف وبفتح الموحدة أي من جانبه وطرف حصوله (وأنّه أتى به معلوم ضرورة) أي
بديهة لا يفتقر إلى إقامة بينة ولا قيام حجة (وكونه صلى الله تعالى عليه وسلم متحدّيا به) أي طالبا لمعارضته ولو بأقصر سورة (مَعْلُومٌ ضَرُورَةً وَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ) أي المتحدين به الموجودين في زمنه (معلوم ضرورة وكونه) أي القرآن (في فصاحته) أي وبلاغته (خارقا للعادة معلوم ضرورة للعالم) بكسر اللام وفي نسخة صحيحة للعالمين أي للعلماء (بالفصاحة ووجوه البلاغة) أي لمقاماتها المقتضية (وسبيل من ليس من أهلها) أي من أهل المعرفة بفنون الفصاحة ووجوه البلاغة (علم ذلك) بكسر العين وفي نسخة بصيغة الماضي معلوما وقيل مجهولا والأول هو المعول أي هو أن يعلم كون القرآن في الفصاحة والبلاغة معجزة خارقا للعادة (بعجز المنكرين) أي لكونه كلام الله تعالى (من أهلها عن معارضته واعتراف المقرّين) أي بكونه كلامه (و) اعتراف (المفترين) أي القائلين بافترائه (بإعجاز بلاغته) أي لهم عن مناقضته (وأنت) أي أيها المخاطب (إذا تأمّلت) أي من جهة الإيجاز الباهر في الإعجاز الظاهر (قوله تعالى: وَلَكُمْ) أي ولغيركم (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] ) أي المودع فيه من بدائع التركيب وروائع الترتيب مع ما فيه من المطابقة بين معنيين متقابلين وهما القصاص والحيات ومن الغرابة بجعل القتل الذي هو مفوت الحياة ظرفا لها ومن البلاغة حيث أتى بلفظ يسير متضمن لمعنى كثير فإن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل اقتص منه دعاه إلى ردعه عن قتل صاحبه فكأنه أحيى نفسه وغيره فيرتفع بالقصاص كثير من قتل الناس بعضهم بعضا فيكون القصاص حياة لهم مع ما في القصاص من زيادة الحياة الطيبة في الآخرة وهو أولى من كلام موجز عندهم وهو أن القتل أنفى للقتل في قلة المباني وكثرة المعاني وعدم تكرار اللفظ المنفر للحظ وفي الإيماء إلى أن القصاص الذي بمعنى المماثلة سبب للحياة دون مطلق القتل بالمقابلة إذ ربما يكون سببا لفتنة فيها قتل فئة وفساد جماعة (وقوله) بالنصب (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) أي عند موتهم أو بعثهم أو وقت هلاكهم (فَلا فَوْتَ) أي لهم من الله بهرب وسبب غريب (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [سبأ: 51] ) أي من ظهر الارض إلى بطنها أو من الموقف إلى النار قعرها أو من نحو صحراء بدر إلى قليبها (وقوله تعالى ادْفَعْ) أي سيئة من أساء إليك من الكائنات (بِالَّتِي) أي بالحسنة التي (هِيَ أَحْسَنُ) الحسنات أو بالخصلة التي هي أحسن الأخلاق في المعارضات من الحلم والصبر والعفو وما يمكن دفعها به من المستحسنات (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي صديق قريب رفيق (وقوله وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) أي انشفي (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [هود: 44] ) أي أمسكي (الآية) يعني وغيض الماء أي نقص وقضي الأمر أي أمر هلاك الأعداء وانجاء الأحباء واستوت استقرت السفينة على الجودي جبل بالموصل أو الشام روي أنه ركبها عاشر رجب وهبط منها بعد استقرارها عليه عاشر شهر المحرم وصامه فصار سنة وقيل بعدا للقوم الظالمين أي هلاكا لهم حين وضعوا العبادة في غير موضعها وفي نداء الأرض والسماء مع أنهما ليستا من العقلاء إيماء إلى باهر عظمته وقاهر قدرته حيث انقادتا
لما يريد منهما إيجادا وإعداما كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهما بقوله فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ امتثالا لأمره وانقيادا لحكمه مهابة من عظمته ومخافة من سطوته وين أردت تفصيل ما يتعلق بهذه الآية في الجملة فعليك بشرح الدلجي حيث ذكر بعض ما يتعلق بها من حسن مبانيها ولطافة معانيها وبدائع الحكم التي أودعت فيها.
(وقوله تعالى فَكُلًّا) أي عقيب ارسالنا الأنبياء إلى أممهم وتكذيبهم كلا منهم (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) عاقبناه بإصراره على كفره وعدم رجوعه إلى توحيد ربه (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً [العنكبوت: 40] ) أي ريحا عاصفا فيه حصباء وهم قوم لوط (الآية) تمامها وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وهم ثمود ومدين وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وهو قارون وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وهم قوم نوح وفرعون مع قومه (وأشباهها) بالنصب أي أمثال هذه الآية ووقع في أصل الدلجي وأشباهه فقال أي أشباه ما ذكر (من الآي) أي من سائر آيات القرآن (بل أكثر القرآن) أي وبل إذا تأملت أكثر القرآن أي مما هو بمحل من إيجاز لا يرام وإعجاز لا يسام (حقّقت) جواب إذا تأملت أي عرفت (ما بيّنته من إيجاز ألفاظها) أي مبانيها (وكثرة معانيها وديباجة عبارتها) أي مما يكسوها زينة إشارتها (وحسن تأليف حروفها) أي من غير تنافر فيما بينها (وتلاؤم كلمها) بفتح فكسر أي توافق كلماتها وتناسبها في مقاماتها قال الدلجي وقد تخفف همزة تلاؤم فتصير ياء من الملائمة أي الموافقة لا واوا وما روي في الحديث بها فتحريف لا أصل له لأن الملاومة مفاعلة من اللوم انتهى ولا يخفى أن تخفيف الهمز المضموم بعد الألف لا يعرف إلا بالواو كالتناوش وأما عروض المشابهة بعد التخفيف فلا عبرة به أصلا كما حقق في تخفيف رئاء وأمثالها. (وأنّ تحت كلّ لفظة منها) أي من مبانيها (جملا) أي من جمل الكلام المجملة (كثيرة) أي من معانيها (وفصولا جمّة) أي غزيرة من الفصول المهمة والأمور المتمة (وعلوما زواخر) لها في مقام الكثرة فواخر كما قال ابن عباس:
جميع العلم في القرآن لكن
…
تقاصر عنه أفهام الرجال
وقد سأل بعض الحكماء من بعض العلماء ما في كتاب الله تعالى من علم الطب فقال كله في نصف آية هي قوله تعالى كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال صدقت وبالحق نطقت (ملئت الدّواوين) أي الدفاتر (من بعض ما استفيد منها) أي مما يعسر احصاؤه (وكثرت المقالات في المستنبطات عنها) أي مما لا يمكن استقصاؤه (ثمّ هو) مبتدأ أي القرآن الكريم (في سرد القصص الطّوال) أي في إيرادها متتابعة (وأخبار القرون السّوالف) أي أهلها السوابق متوالية (التي يضعف) أي يعجز (في عادة الفصحاء عندها الكلام) أي لطولها (ويذهب ماء البيان) أي عند إرادة تقرير فصولها (آية) خبر المبتدأ أي علامة ظاهرة (لمتأمّله) أي لمتذكره وحجة باهرة لمتدبره (من ربط الكلام) أي من جهة ارتباط اجزاء كلامه (بعضه ببعض) في