الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَابُ الثَّانِي [فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ المحاسن خلقا وخلقا]
أي من القسم الأول وفصوله سبعة وعشرون بعد صدر الباب على ما سبق في أول الكتاب (في تكميل الله تعالى له المحاسن) جمع حسن على غير قياس والمراد بها الأوصاف المستحسنة (خلقا وخلقا) بفتح الخاء في الأول وبضمها وضم اللام وسكونها في الثاني وهما منصوبان على التمييز أي محاسن خلقه وخلقه من صورته الظاهرة الطاهرة وسيرته الباطنة الباهرة (وقرانه) أي وفي مقارنة ذاته عليه الصلاة والسلام (جميع الفضائل الدينية والدنيوية فيه نسقا) بفتحتين أي من جهة كون بعضها تبعا لبعض من الصفات المتوالية والمكارم المتعاقبة.
(اعلم أيّها المحبّ لهذا النّبيّ الكريم) خطاب عام في موضع التفخيم أو خاص لمن سأله هذا التأليف المتضمن للتعليم ويؤيده قوله (الباحث) أي المفتش والمتفحص (عن تفاصيل جمل قدره) أي مجملات مقداره (العظيم) والجملة الندائية معترضة بين الخطاب وما خوطب به من الجملة الفعلية (أنّ خصال الجمال والكمال) وفي نسخة الجمال بدل الجلال والجمال تمام الصورة والجلال ظهور العظمة والأولى على ما عرف في علم الأخلاق أن يقال إن خصال الجمال والجلال المقتضية للكمال (في البشر نوعان: ضروريّ) أي أحدهما ضروري (دنيويّ) أي مما لا بد له منه فيها (اقتضته الجبلّة) بكسر الجيم والموحدة وتشديد اللام أي دعته الخلقة التي خلق عليها وطبيعته التي جبل للميل إليها ومنه قوله تعالى وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وقرأها الحسن بالضم وقال التلمساني وبسكون الباء وفتح اللام مخففة فتثليث الجيم بالهاء وبدونها والجبل يضم ويشدد ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً (وضرورة الحياة الدّنيا) أي واقتضته الحاجة الضرورية الكائنة في الحياة الدنيوية مما ليس اختياريا، (ومكتسب) بصيغة المجهول أي وثانيهما مكتسب (دينيّ وهو ما يحمد فاعله) أي مما يتوقف اكتسابه على الشرع من الكمالات العلمية التي أعظمها معرفة الله وصفاته العلية (ويقرّب) بكسر الراء المشددة وفي نسخة بصيغة المجهول أي ما يقرب به (إلى الله تعالى زلفى) أي قربة اسم مصدر لا زلف وفيه أن التقسيم غير جامع لأنه غير شامل للوهبي الحاصل بالجذبة دون الخلقة الأصلية ولا بالتعلقات العارضية؛ (ثمّ هي) أي الخصال (على فنّين) بفتح فاء وتشديد نون (أيضا) أي صنفين (منها) أي من الخصال (ما يتخلّص) أي يتمحض (لأحد الوصفين) أي من الضروري والكسبي من غير امتزاج وتداخل بحيث لا يصدق عليه اسم الآخر ضروريا أو كسبيا (ومنها ما يتمازج ويتداخل) عطف تفسير أي يتخالط بأن يكون
ضروريا وكسبيا كما سيأتي بيانهما ويظهر شأنهما. (فأمّا الضّروريّ المحض) أي الخالص الذي لا يكون مكتسبا (فما ليس للمرء) بفتح فسكون فهمز والحسن لا يهمز ويخفف وابن إسحاق يضم الميم والهمز والعقيلي بكسر الميم والهمز ومؤنثه المرآة كذا ذكره التلمساني والأظهر أنه الشخص بالمعنى الأعم والله أعلم (فيه اختيار) أي في حصوله (ولا اكتساب) أي في وصوله أي بل فيه اضطرار واضطراب في تحصيله (مِثْلُ مَا كَانَ فِي جِبِلَّتِهِ مِنْ كَمَالِ خلقته وجمال صورته) فيه من البديع صنعة جناس لاحق بين كمال وجلال (وقوّة عقله) أي تعقله قال التلمساني مذهب أهل اللغة أن العقل هو العلم وقيل بعض العلوم الضرورية وقيل قوة تميز بها بين حقائق المعلومات ومحله عند أهل السنة القلب بدليل قوله تعالى فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها وقال المعتزلة محله الدماغ ووافقهم أبو حنيفة والفضل بن زياد (وصحّة فهمه) أي إدراكه (وفصاحة لسانه) أي طلاقته وطراوة بيانه مع رعاية مطابقته ووضوح دلالته (وقوّة حواسّه) أي من سمعه وبصره وشمه وذوقه ولمسه (وأعضائه) جمع عضو بضم العين وكسرها أي جوارحه وقد قيل ليس في الإنسان جارحة أحب إلى الله عز وجل من اللسان ولذلك أنطقه الله بتوحيده فإذا فحش ولم يحل اللسان فبأي شيء يذكر ويناجي ويدعو ويتلو، (واعتدال حركاته) أي وسكناته بسلامتهما من آفتهما فهو من باب الاكتفاء (وشرف نسبه) إذ في الغالب أن من تحلى به ربأ بنفسه من سفاسف الأمور إلى أعاليها ومن ذمائم الصفات إلى معاليها (وعزّة قومه) أي وغلبة قبيلته إذ المؤمن كثير بأخيه كما قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (وكرم أرضه) أي طيب مكانه الذي نشأ فيه بأن يكون بلد المسلمين ومنزل الصالحين وأبعد التلمساني في تخصيص أرضه بأرض مكة إذ ليس الكلام في خصوصه عليه الصلاة والسلام (ويلحق به) أي يتصل بالضروري المحض وفي نسخة بصيغة المجهول واقتصر عليه الحلبي أي ويوصل به (ما تدعوه) أي كل شيء من الأمور العادية تدعو المرء (ضرورة حياته) أي شدة احتياجه فيها (إليه من غذائه) بكسر الغين وبالذال المعجمتين على ما في الأصول المصححة وعلى ما ذكره أهل الحواشي المعبرة ما يتغذى به من الطعام والشراب وما به نماء الجسم وقوامه وأما الغذاء بفتح أوله وبدال مهملة فهو طعام الغدوة من الطلوع إلى الزوال ضد العشاء بالفتح وهو غير ملائم لمقام المرام فتجويز الدلجي الوجهين وتقديم الثاني على الأول وتفسيره بقوله هو الطعام بعينه ليس في محله وكذا تقييد المحشي للأول بالقصر والثاني بالمد (ونومه) أي في ليلة ونهاره (وملبسه) بفتح الموحدة (ومسكنه) بفتح الكاف وكسرها (ومنكحه) بفتح الكاف مصادرا وأسماء لما يلبس ويسكن وينكح (وماله) أي جميع ما ينتفع به من الأمور الحسية (وجاهه) أي قدره ومنزلته واعتباره من الأحوال المعنوية قيل هو والوجه بمعنى قلب منه لأنه إن توجه بوجهه قبل منه، (وقد تلحق) ضبط معروفا ومجهولا (هذه الخصال الآخرة) أي الأخيرة المتعلقة بالأمور العادية الواقعة في
الأحوال الدنيوية (بالأخرويّة) أي بالخصال الأخروية (إذا قصد بها التّقوى) مصدر تقوى من باب التفعل أي طلب القوة على الطاعة وفي نسخة التقوى بالتخفيف أي إذا كانت مقترنة بتقوى الله (ومعونة البدن) أي إذا قصد بها مساعدته ومعاونته (على سلوك طريقها) أي سبيل الآخرة وأبعد الدلجي تبعا للتلمساني في قوله أي طريق الخصال الأخروية (وكانت) أي تلك الخصال الملحقة (على حدود الضّرورة) أي على طبق داعية الحاجة وقدر الكفاية من غير زيادة (وقوانين الشّريعة) وفي نسخة قواعد الشريعة أي وكانت أيضا على وفق الأصول الشرعية مما أبيح وجوز له من ارتكابه وهذا معنى قولهم في حديث إنما الأعمال بالنيات أن العادات تصير بالنيات عبادات؛ (وأمّا المكتسبة الأخرويّة) أي الخصال المكتسبة المستفادة المتعلقة بالأمور الأخروية (فسائر الأخلاق العليّة) أي جميعها وهي صفات وأحوال وأفعال وأقوال يحسن بها حالة الإنسان بينه وبين خالقه وأبناء جنسه (والآداب الشّرعية من الدين) أي الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة فيما يجب عمله وتركه (والعلم) أي معرفة النفس ما لها وما عليها مما به تمام معاشها ونظام معادها (والحلم) أي الصبر على الايذاء وعدم العجلة في العقوبة على الاعداء (والصّبر) أي على أنواع المصائب وأصناف البلاء وأجناس القضاء (والشّكر) أي بالثناء على المنعم بما أولاه من النعماء وأن يصرف جميع النعم إلى ما خلقت لأجله في مقام رضى المولى (والعدل) ضد الميل عن الحق بالجور وهو ملكة يقتدر بها على اجتناب ما لا يحل فعله في باب الحكومة وقد ورد كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وقال الله تعالى إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (والزّهد) أي عزفة النفس وقلة ميلها إلى الدنيا والمشتهيات وترك ما عدا الضروريات من المباحات أو ترك ما سوى الله مريدا به وجه الله وهو زهد المقربين (والتّواضع) أي لين الجانب والتذلل للصاحب، (والعفو) أي الصفح والمجاوزة وعدم المؤاخذة، (والعفّة) وهي قمع النفس عن المعصية أو مختصة بالزنا ونحوها وأغرب التلمساني بقوله وهو العفو عما يشين ويعيب وتركه اختيارا، (والجود) وهو الكرم المحمود بأن يكون بين طرفي افراط يسمى سرفا وتفريط يسمى بخلا وقد قيل لا سرف في خير ولا خير في سرف فهو بذل ما ينبغي فيما ينبغي كما ينبغي (والشّجاعة) وهي صفة حميدة متوسطة بين التهور والجبن (والحياء) بالمد وهو انقباض الروح عن القبيح حذرا من الذم متوسط بين وقاحة وجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها وبين الخجالة والانحصار عن الفعل مطلقا وهو محمود إذا كف عن المعصية وذمائم الخسة ومذموم إذا كف عن تحصيل الفريضة واكتساب الفضيلة والأول من الرحمن والثاني من الشيطان (والمروة) بضم الميم والراء وتشديد الواو وقد يهمز وهو الإنسانية وكمال المرء بالأخلاق الزكية والتبعد عن الأمور الدنية (والصّمت) أي السكوت عن غير الخير لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت (والتّؤدة) بضم ففتح همز وقد تبدل واوا وهي بمعنى التأني وعدم العجلة لما قيل:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
…
وقد يكون مع المستعجل الزلل
وفي نسخة التودد من المودة أي التحبب إلى الصلحاء والفقراء والضعفاء فإنهم في الآخرة ملوك وشفعاء (والوقار) بفتح الواو أي الرزانة والطمأنينة وعدم الطيش والخفة (والرّحمة) أي التعطف والرأفة (وحسن الأدب) فإنه أحسن من الذهب وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم أدبني ربي فأحسن تأديبي وجعل حسن الأدب من جملة الآداب الشرعية لأنه حالة خاصة من عموم الأحوال المرضية لحديث أن من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه (والمعاشرة) أي المخالطة بالمخالقة على وجه الموافقة لقوله عليه الصلاة والسلام خالق الناس بخلق وقوله خياركم أحسنكم أخلاقا ومن كلام الشيخ أبي مدين المغربي حسن الخلق معاملة كل شخص بما يؤنسه ولا يوحشه (وأخواتها) أي أشباهها من الأخلاق الحميدة المفصلة في نحو كتاب الاحياء والعوارف والرسالة «1» (وهي) أي هذه الملكات النفسانية المكتسبة (التي جماعها) بكسر الجيم أي جمعها واجتماعها كذا قيل وفي الحديث الخمر جماع الإثم لأنها تجمع عددا منه والأظهر أن يقال مجمعها ومجتمعها (حسن الخلق) أي المحمود عند جميع الخلق وقد قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وكان خلقه القرآن يأتمر بأوامره وينزجر بزواجره ويرضى برضاه ويسخط بسخطه ومجمله قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وقال جبريل عند نزوله هو أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك. (وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ مَا هُوَ في الغريزة) أي مخلوق ومودع في السجية والطبيعية وهي بفتح غين معجمة وكسر راء مهملة ثم زاء. (وأصل الجبلّة) أي الفطرة (لبعض النّاس) أي ممن طبع عليه في أول خلقته وابتداء نشأته ومنه قول القائل:
كل امرئ راجع يوما لشيمته
…
وإن تخلق أخلاقا إلى حين
(وبعضهم لا تكون فيه فيكتسبها) بالرفع أي فهو يحصلها للاقتداء بغيره فيها فتصير له كالغريزة وقال الحلبي هو بالنصب جواب النفي انتهى وفيه بحث لا يخفى (وَلَكِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ أصولها في أصل الجبلّة شعبة) أي شائبة وقطعة خلق عليها ليرجع فيما يكتسبه إليها بميل طبعه الأول فيها (كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى وتكون) أي تصير (هذه الأخلاق دنيويّة إذا لم يرد) بصيغة المفعول أي لم يقصد (بها وجه الله والدّار الآخرة) أي بخلاف ما إذا أريد بها ذلك فإنها صارت حينئذ قربات عند الله فيثاب عليها (ولكنّها) أي الغريزة وإن لم يرد بها ذلك (كلّها) بالنصب أي جميعها (محاسن وفضائل) أي باعتبار افرادها (بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ. وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي موجب حسنها) بكسر الجيم لا بفتحها كما قال التلمساني وسبقه الانطاكي لأنه بمعنى المقتضي وهو لا يناسب المقام كما لا يخفى أي سببها وباعثها
(1) هي للإمام الأستاذ أبي القاسم القشيري قاله مصححه طاهر.