الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (وروي عن جعفر) أي الصادق (ابن محمّد عن أبيه) أي محمد الباقر وهو من أكابر أهل البيت وأجلاء التابعين أدرك جابرا وغيره (إذا كان يوم القيامة نادى مناد) أي في الموقف كما في رواية (أَلَا لِيَقُمْ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ لكرامة اسمه) صلى الله تعالى عليه وسلم أي لإظهار كرامته وأشعار شفاعته وإليه أشار صاحب البردة بقوله:
فإن لي ذمة منه بتسميتي
…
محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم
(وروى ابن القاسم) أي العتقي واسمه عبد الرحمن جمع بين الزهد والعلم صحب مالكا عشرين سنة ومات بمصر أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي (في سماعه) أي عن مالك ورد عنه قال خرجت إلى مالك اثنتي عشرة مرة انفقت في كل مرة ألف دينارا خرج له البخاري وغيره (وابن وهب) وقد سبق ترجمته قريبا وهو ممن تفقه على مالك بن دينار والليث بن سعد وصنف الموطأ الكبير والموطأ الصغير وكان مالك يكتب إليه إلى أبي محمد المفتي (فِي جَامِعِهِ عَنْ مَالِكٍ سَمِعْتُ أَهْلَ مَكَّةَ) أي بعض علمائهم (يَقُولُونَ مَا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ اسْمُ مُحَمَّدٍ إلّا نما) من النمو أي زاد وزكا يعني كثر بركته وفي نسخة نمى بناء على أن المادة واوية أو يائية وفي أخرى إلا قد وقوا بضم واو وقاف أي حفظوا (ورزقوا ورزق جيرانهم) أي ببركة أسمائهم وإيمانهم وإيقانهم وإحسانهم (وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال) أي على ما رواه ابن سعد من حديث عثمان العمري مرفوعا (مَا ضَرَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ محمّد ومحمّدان وثلاثة) أي وأكثر ويميز بينهم مثلا بالأصغر والأوسط والأكبر هذا وفي مسند الحارث بن أبي أسامة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من كان له ثلاثة من الولد ولم يسم أحدهم بمحمد فقد جهل (وعن عبد الله بن مسعود) كما رواه أحمد والبزار والطبراني (أنّ الله تعالى نظر إلى قلوب العباد) أي جميعهم من أولهم إلى آخرهم (فاختار منها قلب محمّد عليه الصلاة والسلام فاصطفاه لنفسه) أي اختاره لذاته أن يكون مظهر صفاته (فبعثه برسالته) أي إلى جميع كائناته؛ (وحكى النّقّاش أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً [الأحزاب: 53] الآية) تمامها إن ذلكم كان عند الله عظيما. (قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْإِيمَانِ إنّ الله تعالى فضّلني عليكم تفضيلا) أي زائدا يليق بقدره وهو على وفق محله (وفضّل نسائي على نساءكم تفضيلا) أي احتراما وتكريما ورفعا لشأنه وتعظيما.
فصل [في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم بما تضمنته كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ]
(فِي تَفْضِيلِهِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كَرَامَةُ الإسراء من المناجاة) أي المكالمة. (والرّؤية) أي البصرية أو القلبية (وإمامة الأنبياء) أي إمامته لهم في بيت المقدس (والعروج به إلى سدرة المنتهى) فإنها ينتهي إليها ما ينزل من فوقها وما يصعد من تحتها (وما رأى من آيات ربّه الكبرى) هذا بيان قضيته إجمالا وأما تفصيل قصته في الجملة اكمالا فقوله (ومن خصائصه
عليه الصلاة والسلام) أي من جملة ما خص في الإعطاء ولم يعط مثله لسائر الأنبياء (قصّة الإسراء) أي إسرائه إلى السماء (وما انطوت) أي اشتملت (عليه من درجات الرّفعة) أي بحسب ما ثبت في اثناء الأنباء (ممّا نبّه عليه الكتاب العزيز) أي من بعض الإسراء (وشرحته صحاح الأخبار) أي وبينته الأحاديث والآثار وفي نسخة صحائح الأخبار قال الحلبي وكلاهما جمع صحيح وإطلاق كل منهما فصيح (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) أي سيره (لَيْلًا منصوب على الظرفية وتنكيره للدلالة على تقليل المدة الاسرائية مع ما فيه من الصنعة التجريدية فإن السري والإسراء كلاهما هو السير بالليل واختير زيادة الهمزة للمبالغة في مقام التعدية المقرونة بالمصاحبة والمعية المشيرة إلى التخلية من مقام التفرقة إلى التحلية والتجلية في مرتبة الجمعية مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الآية) أي الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ثم سبحان علم للتسبيح بمعنى التنزيه ولعل إيراده هنا للتنبيه على أنه منزه عن المكان وإن إسراءه عليه الصلاة والسلام لإعلاء الشأن ولإطلاعه على عجائب الملك والملكوت في ذلك الزمان وهو مضاف إلى الموصول الذي بعده كما يدل عليه قوله فَسُبْحانَ اللَّهِ ونحوه ونصبه على المصدرية وأغرب السمين في إعرابه حيث قال وهو منصرف لوجود الزيادة والعلمية وقال وَالنَّجْمِ إِذا هَوى قوله إلى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى وقد الفت رسالة مستقلة في خصوص هذه المسألة وبدأتها بتفسير صدر سورة الإسراء وختمتها بتفسير صدر سورة والنجم وذكرت فيما بينهما بعض ما يتعلق بهذه الكرامة العظمى وسميتها المدراج العلوي في المعراج النبوي وههنا اتبع كلام الشيخ في تبيين مبناه وتعيين معناه واتتبع كلام شراحه وحواشيه واختار ما ألقاه من مقتضاه ثم الظاهر من الآية المذكورة أن ابتداء الإسراء كان من نفس المسجد لحديث بينا أنا في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أتاني جبريل بالبراق وليطابق المبتدأ المنتهي لأنه ليس حرم للمسجد الأقصى أو من الحرم كما قال صاحب البردة:
سريت من حرم ليلا إلى حرم وسماه مسجدا لإحاطته به ولحديث أنه كان في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص عليها من قصته ويمكن الجمع بينهما بأن كان في بيت أم هانئ فرجع بعد صلاة العشاء إلى المسجد وأتى الحجر عند البيت كما يشير إليه قوله بين النائم واليقظان عند نزوله رجع إليها وقص عليها القصة وكان ذلك قبل الهجرة بسنة ثم وجه تسميته الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام والمراد ببركة حوله بركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء من لدن موسى إلى زمن عيسى عليهم الصلاة والسلام وهو محفوف بالأنهار والأشجار والأزهار والأثمار وفي الحديث بارك الله فيما بين العريش والفرات وخص فلسطين بالتقديس ذكره الدلجي ومن جملة إراءة الآيات ذهابه في لحظة مسيرة أربعين ليلة
ورؤيته ببيت المقدس للأنبياء وإمامته لهم مع علو حالاتهم ووقوفه على مقاماتهم (وقال) أي الله سبحانه وتعالى (وَالنَّجْمِ) أي الثريا أو نجوم السماء أو الرجوم من النجوم أو الكواكب إذا انتثرت أو نجوم القرآن (إِذا هَوى [النجم: 1] ) أي غرب أو طلع أو أنقض أو انتثر أو نزل وانتشر (إِلَى قَوْلِهِ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] فلا خلاف) كذا بالواو بلا خلاف في النسخ المصححة وفي أصل الدلجي فلا بالفاء فحاول أن الفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فلا ريب (بين المسلمين) أي من أهل السنة وطائفة المعتزلة وغيرهم (في صحّة الإسراء به عليه الصلاة والسلام أي بطريق إجمال المرام (إذ هو نصّ القرآن) أي وعليه إجماع أئمة الإسلام إلا أن المعتزلة ومن تبعهم من المبتدعة فسروا الإسراء إلى بيت المقدس لا إلى السماء ممن أنكر مطلق الإسراء فهو كافر بال امتراء (وجاءت بتفصيله وشرح عجائبه) أي بسط غرائبه (وخواصّ نبيّنا محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فيه) أي وظهور خصوصياته في اسرائه وتنزلاته في مراتب سنائه (أحاديث كثيرة منتشرة) أي مشتهرة كادت أن تكون متواترة (رأينا أن نقدّم أكملها) أي أكمل الأحاديث الواردة في الاسراء تصريحا وتوضيحا (ونشير إلى زيادة من غيره) أي غير اكملها تلويحا وترشيحا (يجب ذكرها) أي يتعين بيانها تحقيقا وتصحيحا. (حدّثنا القاضي الشّهيد أبو عليّ) أي ابن سكرة (والفقيه أبو بحر) بفتح موحدة وسكون مهملة وهو ابن العاص (بسماعي عليهما) أي منهما أو واقع على كلامهما. (وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أي وكثير (من شيوخنا) أي المحدثين (قالوا) أي كلهم (حدّثنا أبو العبّاس العذريّ) بضم مهملة وسكون ذال معجمة نسبة إلى عذرة قبيلة (حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الجلوديّ) بضم الجيم (حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ) أي صاحب الصحيح (حدّثنا شيبان بن فرّوخ) بفتح فاء وضم راء مشددة فواو ساكنة فمعجمة غير منصرف للعجمة والعلمية وصرف في نسخة قال التلمساني وصرفه أكثر قيل عنده خمسون ألف حديث وهو من التابعين (حدّثنا حماد بن سلمة) أحد الأعلام روى عن شعبة ومالك وأبو نصر التمار قال عمرو بن عاصم كتبت عن حماد بن سلمة بضعة عشر ألفا (حدّثنا ثابت البنانيّ) بضم الموحدة وتخفيف النون بعدها ألف فنون فباء نسبة إلى قبيلة بنانة كان رأسا في العلم والعمل يابس الثياب الفاخرة ويقال لم يكن في وقته أعبد منه أخرج له الأئمة الستة وقال الذهبي هو ثابت كاسمه (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أتيت) بصيغة المجهول المتكلم (بالبراق) بضم الموحدة لشدة بريقه ولمعانه وسرعة سيره وطيرانه كالبرق (وهو دابّة) أي مركوب (أبيض) وفيه إيماء إلى ما قيل إنه ليس بذكر ولا أنثى (طويل) أي مائل إلى الطول (فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ منتهى طرفه) بفتح فسكون أي نظره وبصره (قال فركبته حتّى أتيت بيت المقدس) أي حضرته وهو بفتح فسكون فكسر وعلى زنة محمد أيضا لأن فيه يتقدس من الذنوب أو لأنه منزه عن العيوب قال التلمساني وروي باب
المقدس (فربطته) أي البراق (بالحلقة) بإسكان اللام وفتحها (التي يربط) بضم الموحدة وكسرها (بها الأنبياء) أي دوابهم عند باب المسجد كما صرح به صاحب التحرير وسيأتي فيه ما ينافيه والبراق إن ثبت أن له الإسراء أيضا إلى بيت المقدس ويؤيده أن إبراهيم عليه السلام كان يزور هاجر بمكة عليه ويقويه قول جبريل له فما ركبك أحد أكرم على الله تعالى منه كما سيأتي وفي حديث الترمذي من طريق بريدة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس أشار جبريل عليه السلام إلى الصخرة فخرقها وربط البراق بها ويمكن الجمع بأنه كان الخرق فيها مسدودا فأظهر خرقها ثم في ربطه دليل على أن الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقي المهالك والحذر في السفر والحضر ومنه قوله عليه الصلاة والسلام اعقل وتوكل وقد قال وهب بن منبه كذا وجدته في سبعين كتابا من كتب الله القديمة ثم اعلم أن نسخ الشفاء كلها اتفقت على لفظ بها بضمير المؤنث وهو ظاهر وقال النووي في شرح مسلم وهو في الأصول يعني أصول مسلم به بضمير المذكر أعاده على معنى الحلقة وهو الشيء انتهى ولا يخفى أن الأولى رجع الضمير إلى خرقها بحذف مضاف أو ارتكاب مجار آخر فتدبر (ثمّ دخلت المسجد) أي أقصى (فصلّيت فيه ركعتين) أي تحية المسجد (ثمّ خرجت) أي منه (فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لبن) أي امتحانا من الله تعالى قال التلمساني هكذا في مسلم وفي البخاري وإناء من ماء وروي ثلاثة لبن وخمر وعسل وروي أربعة لبن وخمر وعسل وماء ولعل هذا هو الأظهر حيث عرض عليه من الأنهار الأربعة الموعودة في الجنة واختياره اللبن لأنه مغن عن غيره بخلاف غيره وقيل العسل إشارة لزهرة الحياة الدنيا ولذتها وحلاوتها والماء للغرق ولذا قيل لو اخترته لغرقت وغرقت أمتك ولعل المراد بغرقهم استغراقهم في جمع المال الذي يؤدي إلى سوء الحال ونقصان المآل وأما الخمر فإشارة إلى جميع الشهوات (فاخترت اللّبن) أي أعرضت عن الخمر وروي فأخذت اللبن (فقال جبريل اخترت الفطرة) أي علامة الإسلام والاستقامة لكونه طيبا طاهرا أسهل المرور في الحق سليم العاقبة سائغا شرابه وطيبا مذاقه والخمر أم الخبائث جالبة لأنواع شرور الحوادث (ثمّ عرج بنا) أي صعد بنا (إلى السّماء) بنون المتكلم إما لتعظيمه أو له ولمن معه فالضمير إلى الله تعالى أو جبريل أو البراق وفي نسخة صحيحة بصيغة المجهول وجزم به الأنطاكي وكذا فيما بعده وهو في غاية من القبول مع الإشارة إلى أن سيره من المسجد الأقصى إلى السموات العلى لم يكن بالبراق بل بالمعراج الذي له درجة من ذهب وأخرى من فضة وبه سميت القصة (فاستفتح جبريل) أي باب السماء الدنيا استئذانا للملائكة ولا يبعد أن يكون الاستفتاح كناية عن مجرد الاستئذان فلا يكون هناك فتح واغلاق وهو الأظهر في مقام أدب الإجلال والاستحقاق (فقيل من أنت؛ قال) أي جبريل (جبريل) أي أنا جبريل (قيل ومن معك) أي لما كوشف لهم أن أحدا معه أو استدلوا باستئذانه على خلاف دأبه ومقتضى شأنه (قال محمّد) أي هو أو معي محمد (قيل وقد بعث
إليه) أي أطلب وقد بعث إليه للإسراء وصعود السماء وليس استفهاما عن بعثة الدعوة لبلوغها من الظهور في الملكوت إلى ما لا يخفى على الخزنة ولكونه أوفق بقام الاستفتاح والاستئذان في الجملة وقيل كان سؤالهم استعجابا بما أنعم الله عليه من القربة واستبشارا بعروجه لحصول الرؤية ثم هذا مؤذن بأن للسموات أبوابا حقيقة وعليها ملائكة مؤكلة هذا وفي رواية صحيحة أرسل إليه وهو قابل للتأويل المذكور مع أنه لا يبعد أن تكون بعثة الرسالة خفيت على بعض الملائكة لكمال اشتغالهم بالعبادة على ما ذكره الطبري (قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أنا بآدم صلى الله تعالى عليه وسلم فرحّب بي) بتشديد الحاء أي قال لي مرحبا كما ورد مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح أي لقيت رحبا وسعة (ودعا لي بخير) أي في الدارين (ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إليه قال قد بعثت إليه ففتح لنا) فيه إيماء إلى أن أهل كل سماء لا يدرون عن حال أهل سماء أخرى أو أرادوا التلذذ بهذه المذاكرة التي هي بالمحاورة أحرى وفيه اشعار إلى غاية بسط الزمان ونهاية طي المكان ولا يبعد أن تكون هذه المكالمة على لسان الملائكة أو بالمناداة من غير الواسطة استقبالا لصاحب الرسالة كما يشير إليه تعبير الأفعال بقيل ونحوه من العبارة فيكون كلام الجبار مع سيد الأبرار من وراء الأستار في لباس الاعيار كما يقتضيه معنى المعية والحالة الجمعية من شهود عين الوحدة في عين الكثرة (فإذا أنا بابني الخالة) لأن أم يحيى ايشاع أخت مريم (عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريّاء) ممدودا أو مقصورا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا فَرَحَّبَا بِي وَدَعَوَا لِي بخير) وفي نسخة صحيحة دعيا لي بالياء ففي القاموس دعيت لغة في دعوت (ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَذَكَرَ مثل الأوّل) أي مثل ما ذكر فيما قبله من استفتاح الباب والسؤال والجواب وهذا اختصار من المصنف أو من غيره والله تعالى أعلم (فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الحسن) أي نصفه أو بعضه والمراد بالحسن جنسه أو حسن حواء أو حسن سارة أو حسن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الأظهر والله تعالى أعلم وروي في حديث مرفوع مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء فقلت لجبريل من هذا فقال يوسف فقيل يا رسول الله كيف رأيته فقال كالقمر ليلة البدر قال البغوي في تفسيره إنه ورث ذلك الجمال من جدته وكانت قد أعطيت سدس الحسن وقال ابن إسحاق ذهب يوسف وأمه يعني جدته بثلثي الحسن انتهى فالمراد بالشطر البعض لا النصف كما قال البعض والله تعالى أعلم (فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أنا بإدريس عليه الصلاة والسلام وهو سبط شيث وجد والدنوح أول مرسل بعد آدم عليه السلام وأول من خط بالقلم وخاط اللباس ونظر في علم النجوم والحساب وأما قولهم إدريس مشتق من الدرس إذ قد روي أن الله تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة فلقب به لكثرة الدراسة فمدفوع بعدم صرفه للعلمية والعجمة (فرحّب بي
وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] ) هو شرف النبوة ومقام القربة وعن الحسن هو الجنة إذ قال لملك الموت أذقني الموت ليهون علي ففعل بإذن الله تعالى ثم حيي فقال له أدخلني النار ازدد رهبة ففعل ثم قال له ادخلني الجنة أزدد رغبة ففعل ثم قال ملك الموت له اخرج فقال قد ذقت الموت ووردت النار فما أنا بخارج فقال الله تعالى بإذني دخل دعه وقيل هو في السماء الرابعة لهذا الحديث (ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بإبراهيم مسندا) بصيغة الفاعل منصوب على الحال كما في مسلم وشرح السنة وفي بعض نسخ المصابيح مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي وهو مسند (ظهره إلى البيت المعمور) قال المصنف يستدل به على الاستناد إلى القبلة وتحويل الظهر إلى الكعبة وفي استدلاله نظر لاحتمال كون إبراهيم حينئذ متوجها إلى الكعبة أو إلى العرش على خلاف أيهما أفضل في باب الاستقبال أو باعتبار نظر ذي الجلال مع احتمال أن يكون التقدير مسندا ظهره إلى شيء من أجزاء السماء أو إلى طرف بابها متوجها إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يوم سبعون ألف ملك لا يعوذون إليه) أي لكثرتهم وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال البيت المعمور في السماء الرابعة يقال له الضراح وهو بمعجمة مضمومة ومهملة بينهما راء فألف من الضراحة بمعنى المقابلة إذ هو مقابل للكعبة كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وممن رواه بصاد مهملة فقد تصحف بصراح الغلط وروى أبو هريرة في السماء الدنيا وقيل في الرابعة وقيل في السادسة ولعل كل بيت في كل سماء يسمى البيت المعمور بالمعنى المذكور وأنه في السماء السابعة على القول المشهور الوارد في حقه أنه نقل من محل الكعبة إلى السماء كما بين في محله المسطور (ثمّ ذهب بي) أي جبريل وضبطه الأنطاكي بصيغة المفعول (إلى سدرة المنتهى) أي ينتهي علم الخلائق عندها وخصت السدرة لأن ظلها مديد وطعمها لذيذ ورائحتها طيبة فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا ونية وعملا فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه وامتداده وطعمها بمنزلة النية لكمونه ورائحتها بمنزلة القول لظهوره (وإذا ورقها كآذان الفيلة) بكسر فاء وفتح تحتية جمع فيل قيل والآذان بالمد جمع الأذن (وإذا ثمرها) كذا في النسخ المصححة ووقع في اصل الدلجي وإذا نبقها (كالقلال) بكسر القاف جمع قلة كقباب جمع قبة وفي رواية كقلال هجر بفتحتين مدينة قرب المدينة ويعمل بها القلال تسع الواحدة مزادة من الماء سميت قلة لأنها تقل أي ترفع وتحمل وليست بهجر الذي هو من توابع البحرين؛ (قال فلمّا غشيها) بفتح فكسر أي علاها وغطاها (من أمر الله تعالى) أي من أجل أمره وارادته أو من آثار عظمته وأنوار قدرته (ما غشي) أي ما غشيها كما في نسخة وهو مستفاد من قوله تعالى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (تغيّرت) أي السدرة مما غشيها من أسرار القدرة (فما أحد من خلق الله يستطيع) أي يقدر
(أن ينعتها) أي يصف كيفية غشيتها أو ماهية ما غشيها (من حسنها) أي من غاية ضيائها ونهاية بهائها فقيل هو فراش من ذهب فقيل لعله شبه ما غشيها من الأنوار التي تنبعث منها وتتساقط على مواقعها بالفراش وجعلها من الذهب لا ضاءتها وصفاء ذاتها وعن الحسن غشيها نور رب العزة فاستنارت (فأوحى الله إليّ ما أوحى) وهو تفسير لقوله تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
وفي إبهامه تفخيم للموحي كما لا يخفى (ففرض) أي الله تعالى كما في نسخة (عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) بيان لما أوحي كله أو بعضه (فنزلت إلى موسى) أي منتهيا إليه (فَقَالَ مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلَاةً قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التّخفيف) أي تخفيف هذا التكليف هذا وإن كان متضمنا للتعريف والتشريف ويجوز في فاسأله التخفيف بالنقل وغيره كما قرئ بهما في السبعة (فإنّ أمّتك) أي جميعهم (لا يطيقون ذلك) وكأنه علم عليه الصلاة والسلام ضعفنا وعجزنا فرحمنا فجزاه الله تعالى أفضل الجزاء عنا ثم علل ذلك بقوله (فإنّي قد بلوت بني إسرائيل) أي جربتهم وبلاه وابتلاه بمعنى ففي الحديث اللهم لا تبتلنا إلا بالتي هي أحسن (فخبرتهم) بتخفيف الموحدة عطف تفسيري أو إشارة إلى أنه جربهم مدة بعد مرة والمعنى امتحنتهم وعالجتهم فلقيت منهم الشدة وعدم الطاقة فيما قصدت منهم من تحمل الكلفة وقبول الطاعة (قال فرجعت إلى ربّي) قال النووي معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته أولا فناجيته فيه ثانيا (فقلت يا ربّ خفّف عن أمّتي) أي الضعفاء وفيه إيماء إلى قوة الأنبياء والأصفياء إذ كثير منهم واظبوا على ألف ركعة في اليوم والليلة وقد أشار موسى عليه السلام إلى هذا المعنى فيما سبق من المبنى وبهذا يظهر ضعف قول الدلجي لم يقل خفف عني حياء من ربه لسؤاله التخفيف عنه (فحطّ عنّي) أي فوضع عني في ضمن الحد عن أمتي (خمسا) ولم يقل عن أمتي لئلا يتوهم بقاء فرضية الخمسين عليه وفيه إشارة إلى أن من كان لله كان الله له (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ حَطَّ عَنِّي خَمْسًا قال إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك) أي لا يقدرون على هذا أيضا (فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ قَالَ فَلَمْ أزل أرجع بين ربّي) وفي نسخة بين يدي ربي (تعالى وبين موسى) أي بين موضع مناجاتي له تعالى وملاقاتي لموسى ويجوز أن يكون الرجوع بمعنى المراجعة في السؤال وإحضار البال والله تعالى أعلم بالحال (حتّى قال) أي الرب سبحانه وتعالى (يا محمّد إنّهنّ) ضمير مبهم تفسيره قوله (خمس صلوات) ذكره الدلجي والأظهر أن يقال التقدير أن الصلاة المفروضة أو الخمسين خمس صلوات محتمة (كلّ يوم وليلة) بالنصب على الظرفية وفي نسخة في كل يوم وليلة (لكلّ صلاة) أي من الخمس (عشر) أي ثواب عشر صلوات (فتلك خمسون صلاة) أي بحسب المضاعفة ولعل هذه المراجعة منهما لما الهم إليهما حيث لم يكن الوجوب حتما مبرما أو أوجبها أولا ثم رحمنا فنسخها بيانا فيجوز نسخ وجوب الشيء قبل وقوعه كنسخ وجوب ذبح إسماعيل عليه السلام عند قصده تبيانا لمحل فضله وكرمه ثم لما كان نية نبينا وهمة صفينا له أصالة ولأتباعه نيابة
أن يقوم بوظيفة خمسين صلاة وجوزي بذلك حيث خفف عليهم في الكمية وزيد لهم في الكيفية ذكر قضية كلية وقاعدة مطردة قياسية في ضمن الحديث القدسي والكلام الأنسي بقوله (ومن همّ بحسنة) أي من صلاة نافلة وغيرها بأن قصدها وعزم على فعلها (فلم يعملها) أي لعاقة عن عملها (كتبت له حسنة) بصيغة المجهول ونصب حسنة على المصدرية والمعنى كتبت له الحسنة التي هم بها ولم يعملها كتابة واحدة لأن الهم سببها وسبب الحسنة حسنة فوضع حسنة موضع المصدر وفي بعض النسخ بصيغة الفاعل والاسناد إلى المتكلم وهو ظاهر لكن لا يلائم ما بعده لم تكتب (فإن عملها كتبت له عشرا) وهذا أقل المضاعفة كما قال الله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (ومن همّ بسّيّئة فلم يعملها) أي فلم يقدر على عملها (لم تكتب) أي تلك السيئة التي هم بها (شيئا) أي ولا سيئة واحدة إذا ندم وتركها خوفا من الله تعالى بل تكتب له حسنة لأجلها كما ورد كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة وقد زاد مسلم في رواية إنما تركها من جر أي بفتح الجيم وتشديد الراء أي من أجلي أو شيئا من الزيادة إذا كان همها باقيا فإن هم السيئة المصمم سيئة وشيئا وعشرا منصوبان وفي بعض نسخ المصابيح مرفوعان ولعله غلط من الناسخ (فإن عملها كتبت سيّئة واحدة) أي باندراج الهم في العمل حيث لا مضاعفة في السيئة كما يستفاد الحصر من قوله تعالى وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها (قَالَ فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ فقال ارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة صحيحة فَقُلْتُ (قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ منه) بياءين وفي نسخة بياء واحدة ولعل وجه الحياء هو أن المبالغة في تخفيف العبادة نوع من الجفاء والقيام بماتعين وتحتم من باب الوفاء في تحمل البلاء لحصول الولاء هذا ولعل الحكمة في وجوب الصلاة ليلة الإسراء للإيماء إلى أنها معراج المؤمن إلى أعلى كمالاته ومقاماته ومحل مناجاته من بين عباداته وكمال ترقي منازل سعاداته وأما حكمة ظهور الأنبياء المذكورين بخصوصهم من بين عمومهم وتخصيص كل بسماء المشير إلى مراتب علوهم فلم يتكلم به أحد من السلف ولم يظهر تحقيقه من الخلف فتبعنا السابقين كما هو وظيفة اللاحقين ثم الصلوات الخمس فرضت بمكة اتفاقا وكذا الزكاة مطلقا وأما تفصيلها فبينت بالمدينة وفرض رمضان ثم الحج بها أيضا فما ذكره التلمساني من أنه فرضت الصلاة والزكاة والحج ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة وفرض صيام رمضان وزكاة الفطر وهو بمكة خطأ فاحش (قال القاضي رضي الله تعالى عنه) كذا في النسخ لكن الأولى أن يقال رحمه الله تعالى لأن الترضية في العرف مختصة بالصحابة كما أن التصلية والتسليم مختصان بالأنبياء والعزة والجلالة بالله سبحانه وتعالى (جوّد) بتشديد الواو أي حسن (ثابت) أي البناني (رحمه الله تعالى) وفي نسخة رضي الله تعالى عنه (هذا الحديث) أي بيان روايته وضبط عبارته الدالة على درايته (عن أنس رضي الله تعالى عنه ما شاء) أي ما شاء الله تعالى
من تجويده وتحسينه وتحريره (ولم يأت أحد) من الرواة (عنه) أي عن أنس رضي الله تعالى عنه (بأصوب من هذا) أي أقرب إلى الصواب من هذا المروي في هذا الكتاب (وقد خلّط) بتشديد اللام (فيه) أي في هذا الحديث (غيره) أي غير ثابت من الرواة (عن أنس) رضي الله تعالى عنه (تخليطا كثيرا) أي وتخبيطا كبيرا (لا سيّما) أي خصوصا ما ورد (من رواية شريك بن أبي نمر) أي عن أنس وشريك هذا بفتح الشين ونمر بفتح نون وكسر ميم فراء مدني روى عن ابن أنس وابن المسيب وجماعة وعنه مالك وأنس بن عياض وطائفة قال ابن معين لا بأس به وقال النسائي ليس بالقوي انتهى وشريك هذا تابعي صدوق وثقه أبو داود وقال ابن عدي روى عنه مالك رحمه الله تعالى فإذا روى عنه ثقة فإنه ثقة ووهاه الحافظ أبو محمد بن حزم لأجل حديثه في الإسراء الذي أشار إليه القاضي وله فيه أوهام معروفة وقد نبه مسلم على ذلك بقوله في صحيحه وقدم فيه شيئا وأخر وزاد ونقص انتهى وقال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد ذكر رواية شريك هذا فقد روي حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقين والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث انتهى والأماكن في حديث الإسراء معدودة عند أهل العلم فيقال أربعة ويقال ثمانية ذكره الحلبي (فقد ذكر) أي شريك (في أوّله) أي مبدأ حديثه (مجيء الملك له) أي لأجله (وشقّ بطنه وغسّله بماء زمزم وهذا) أي ما ذكر كله (إنّما كان وهو صبيّ وقبل الوحي) فيه أنه يمكن تعدده فلا وهم إلا بسبب ما بينه المصنف بقوله (وقد قال شريك في حديثه) أي هذا بعينه (وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَذِكْرُ قِصَّةِ الإسراء) أي معه (ولا خلاف أنّها) أي في أن قصة الإسراء (كانت بعد الوحي) فثبت وهمه بهذا التعارض الواقع بين كلاميه ولكن قال الإمام الحافظ أبو محمد الحسين البغوي هذا الاعتراض الذي اعترض به على رواية شريك لا يصح عندي لأن ذلك كان رؤيا في النوم أراه الله تعالى عز وجل قبل الوحي بدليل آخر الحديث فاستيقظ وهو بالمسجد الحرام ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي تحقيقا لرؤياه من قبل كما أنه رأى عليه الصلاة والسلام فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ثم كان تحقيقه سنة ثمان ونزول قوله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ انتهى وبهذا الجمع يزول الإشكال عن قَوْلُهُ تَعَالَى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ فيكون التقدير تصديق الرؤيا وتحقيقها إذ لا تترتب الفتنة على نفس الرؤيا كما لا يخفى (وقد قال غير واحد) أي كثير من العلماء المحدثين (إنّها كانت) أي قصة الإسراء (قبل الهجرة بسنة) فقد ذكر النووي أن معظم السلف وجمهور المحدثين والفقهاء على أن الاسراء كان بعد البعثة بستة عشر شهرا وقال السبكي الإجماع على أنه كان بمكة والذي نختاره ما قاله شيخنا أبو محمد الدمياطي أنه قبل الهجرة بسنة وهو في الربيع الأول انتهى وروى السيد جمال الدين المحدث في
روضة الأحباب أنه كان في سبعة وعشرين من شهر رجب على وفق ما هم عليه في الحرمين الشريفين من العمل وقيل في الربيع الآخر وقيل في رمضان وقيل في شوال وقيل بعد نقض الصحيفة وقيل بعد بيعة العقبة وقيل أسري به في الحجة لأنه كان ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما وقيل ليلة اثني عشر من الربيع الأول ليلة الاثنين منه فيكون زمان معراجه كميلاده ومدراجه باعتبار يوم الاثنين وشهر الربيع الأول والله سبحانه وتعالى أعلم (وقيل قبل هذا) أي قبل ما قبل الهجرة وفي نسخة غير هذا أي غير هذا القول إلا أنهم اتفقوا على أنها كانت بعد الوحي (وقد روى ثابت) أي البناني (عَنْ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَيْضًا مَجِيءَ جِبْرِيلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان) جمع غلام يعني الصبيان (عند ظئره) بكسر أوله أي مرضعته حليمة أو زوجها الذي لبنها منه فإنه يطلق عليهما (وشقّه) أي وكذا روى ثابت شق جبريل (قلبه تلك القصّة) بدل اشتمال على كل واحدة من القصة حال كونها (مفردة من حديث الإسراء) أي غير منضمة إلى قصة المعراج (كما رواه النّاس) أي كما رواه غيره من الرواة الثقات (فجوّد) أي ثابت (في القصّتين) أي قصة الشق وقصة الإسراء حيث لم يخلط بينهما (وفي أنّ الإسراء) أي ولا خلاف في أَنَّ الْإِسْرَاءَ (إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى كَانَ قِصَّةً وَاحِدَةً وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى بيت المقدس) أي أولا (ثمّ عرج من هناك) أي من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى عند من قال بالجمع بينهما من أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة (فأزاح) أي أزال ثابت (كلّ إشكال أوهمه غيره) أي من شريك ونحوه في روايتهم (وقد روى يونس) أي ابن يزيد الأيلي وهو الحافظ أبو بكر الشيباني سمع ابن إسحاق وابن شهاب والأعمش قال ابن معين صدوق وقال أبو داود ليس بحجة يواصل كلام ابن إسحاق بالأحاديث (عن ابن شهاب) أي الزهري (عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ: أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال فرج) بصيغة المجهول مشددا ومخففا أي كشف وفتح (سقف بيتي فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري) أي شق كما في رواية ومنه قوله تعالى وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي انشقت كما في آية أخرى (ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغها) أي الحكمة وما في معناها أو من مقتضاها (في صدري ثمّ أطبقه) أي غطاه وأصلحه (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ وذكر) أي يونس (القصّة) أي قصة المعراج بطولها. (وروى قتادة الحديث) أي حديث الإسراء (بمثله) أي بمثل مروي يونس (عن أنس) أي ابن مالك (عن مالك بن صعصعة) أي الخزرجي المازني له حديث الإسراء أخرج له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد في مسنده وليس له في الكتب غير حديث الإسراء على ما ذكره الحلبي قال النووي في تهذيبه روي له عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم خمسة أحاديث اتفق البخاري ومسلم على أحدها وهو حديث الإسراء والمعراج وهو أحسن أحاديث الإسراء انتهى وكذا ذكر ابن الجوزي في تنقيحه أن له خمسة
أحاديث (وفيها) أي وفي رواية قتادة عن أنس بن مالك (تقديم وتأخير وزيادة ونقص) أي في بعض مواضعها (وخلاف في ترتيب الأنبياء في السّموات) أي بالنسبة إلى بعضهم وبعضها. (وحديث ثابت) أي البناني (عن أنس أتقن وأجود) أي من حديث قتادة عن أنس عن مالك وكذا غيره مما قدمه على ما تقدم والله تعالى أعلم (وقد وقعت في حديث الإسراء زيادات) أي من الفوائد على اختلف روايات (نذكر منها) أي من جملتها (نكتا) بضم ففتح جمع نكتة وجمعها أيضا نكات وهي بمعنى النقط وتطلق على معاني لطيفة (مفيدة في غرضنا) أي مقصودنا في هذا الباب من الكتاب (منها في حديث ابن شهاب) أي الزهري (وفيه) أي وفي حديثه الذي رواه (قول كلّ نبيّ له) أي مختصا له صلى الله تعالى عليه وسلم (مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ إِلَّا آدَمَ وإبراهيم فقالا له والابن الصّالح) أي بدل والأخ الصالح لأنه كان من ذرية إسماعيل ولقوله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ وأما ما يقوله أهل النسب والتاريخ أن أدريس أب من آباء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإنه جد نوح عليه السلام فإنه لا ينافي كونه أبا له فإن قوله الأخ الصالح يحتمل أنه قاله تأدبا وتلطفا وهو أخ له وإن كان ابنا فإن الأنبياء إخوة كما أن المؤمنين إخوة (وفيه) أي وفي حديث الزهري أو في حديث الإسراء (من طريق ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي كما أخرجه البخاري (ثمّ عرج بي) بصيغة المفعول أو الفاعل (حتّى ظهرت بمستوى) بصيغة المجهول في أوله باء أو لام أي صعدت بمكان عال أو في مكان مرتفع وقيل الباء بمعنى على وقيل هو عبارة عن فضاء فيه استواء (أسمع فيه صريف الأقلام) أي صوت حركتها وجريانها على المخطوط فيه مما تكتبه الملائكة من أقضية الله سبحانه وتعالى ووحيه وينسخ من اللوح المحفوظ ومنه قوله تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وفي نسخة صرير براءين وهو أشهر في اللغة على ما صرح به بعضهم ثم جمع الاقلام يحتمل أن يكون للتعظيم أو لكبره في التجسيم، (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) أي مرفوعا (ثمّ انطلق بي) بصيغة المجهول أو المعلوم (حتّى أتيت سدرة المنتهى فغشيها ألوان) أي أصناف من الأنوار وأنواع من الاسرار (لا أدري ما هي) أي ماهيتها وحقيقتها (قَالَ ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ. وَفِي حَدِيثِ مَالِكِ بن صعصعة رضي الله تعالى عنه) أي كما رواه الشيخان وغيرهما (فلمّا جاورته يعني موسى عليه السلام تفسير من بعض الرواة (بكى) أي تأسفا على قومه إذ لم يتبعوه فينتفعوا به انتفاع هذه الأمة بنبيهم إذ لا حسد في ذلك العالم لآحاد المؤمنين فضلا عن الأنبياء والمرسلين كذا قرره الدلجي وغيره ويؤيده قوله يدخل من أمته الجنة أكثر من أمتي ولا يبعد أن يراد به الغبطة على تلك المنزلة وكثرة الأمة والظاهر أنه لمجاوزته عن مقامه ومرتبته كما يشير إليه قوله فلما جاوزته ولما سيأتي صريحا من قول موسى عليه السلام لم أظن أن يرفع على أحد ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام لقيت موسى في السماء السادسة فلما جاوزته بكى وقال يزعم بنوا إسرائيل أني أكرم ولد آدم وقد جاوزني هذا وكأنه سلم التقديم لإبراهيم لكونه جدا له يحق له التعظيم مع
سبقه عليه سبعمائة سنة في مقام التقديم ولذا عبر عنه عليه الصلاة والسلام بالغلام فتأمل في هذا المقام لعله يتبين لك المرام ثم الأظهر أن وجه الغبطة في القربة أمور كثيرة من أنواع علو الرتبة (فَنُودِيَ مَا يُبْكِيكَ قَالَ رَبِّ هَذَا غُلَامٌ بعثته) وفي نسخة بعث (بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يدخل من أمّتي) ولعله سماه غلاما مع كونه حينئذ كهلا أو شيخا على اختلاف القولين في تعريفهما والغلام إنما يطلق فيمن بلغ سبعا أو ثماني وقد يطلق على الطفل تفاؤلا وقد يقال له ما دام شابا فكأنه نظر إلى قصر عمره وتأخر عصره مع جموم مناقبه وعموم مراتبه. (وفي حديث أبي هريرة) أي ومنها في حديثه الذي رواه البيهقي وغيره (وقد رأيتني) بضم التاء حكاية عن نفسه وفي أصل الدلجي ولقد رأيتني (في جماعة من الأنبياء) أي بأجسامهم أو بأرواحهم ممثلة بصورهم التي كانوا عليها (فحانت الصّلاة) أي دنت الصلاة الجامعة لعظمة تلك الواقعة وقد أبعد الدلجي في قوله ولعلها صلاة الصبح إذ الإسراء لا يكون إلا آخر الليل وهي مما فرض على الأنبياء انتهى وقد سبق أن ابتداء الإسراء كان بعد صلاة العشاء وهو لم يكن إلا زمنا قليلا من الليل على ما يفيده تنكير ليلا فلا يتصور حمله على صلاة الصبح أصلا (فأممتهم) بتخفيف الميم الثانية أي صليت بهم تلك الصلاة إماما وقال النووي في بعض فتاواه ويحتمل أن تكون صلاته بالأنبياء ليلة الإسراء ببيت المقدس قبل صعوده إلى السماء ويحتمل أن تكون بعد نزوله منها قلت وهذا يتوقف على صحة أن يكون رجوعه إليه منها ثم قال واختلف العلماء في هذه الصلاة فقيل إنها الصلاة اللغوية وهي الدعاء والذكر والثناء وقيل هي الصلاة المعهودة المعروفة وهذا أصح لأن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية قبل اللغوية إلا إذا تعذر حمله على الشرعية ولم يتعذر هنا فوجب الحمل على الحقيقة الشرعية وكان قيام الليل وإحياؤه واجبا قبل ليلة الإسراء ثم نسخ ليلة الإسراء ووجبت فيها الصلوات الخمس (فقال قائل منهم يا محمّد هذا مالك خازن النّار) فيه إشعار بأن الصلاة كانت في السماء وفي رواية أنها كانت في المسجد الأقصى ولا منع من الجمع ولا لنزول مالك وإن كان مقرة في السماء (فسلّم عليه) بصيغة الأمر لأنه عليه السلام كالقائم وهو كالقاعد والقائم يسلم على القاعد وإن كان مفضولا (فالتفتّ) أي نظرت إليه (فبدأني بالسّلام) لأنه كان بمنزلة الوافد أو عملا بالأفضل خصوصا مع التأدب بالنبي الأكمل وأما ما قيل إنما بدأه به ليزيل ما يستشعره من الخوف منه فليس في محله (وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي المحكي عنه ما تقدم من الزيادة (ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَ فربط فرسه) أي براقه (إلى صخرة) أي قريبة من صخرة بيت المقدس أو إلى صخرة عظيمة معروفة مشهورة في وسط المسجد الأقصى قال البرقي في غريب المواطن قيل إن مياه الأرض كلها تخرج من تحت صخرة بيت المقدس وهي من عجائب مخلوقات الله تعالى في أرضه ومن غرائبها فإنها صخرة صماء في وسط المسجد الأقصى مثل الجبل بين السماء والأرض قد انقطعت عن الأرض كلها من كل جهة
لا يمسكها إلا الله الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وفي أعلاها من جهة الحرف موضع قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين ركب البراق ليلة الإسراء قد مالت من تلك الجهة من هببته ومن الجهة الأخرى إثر أصابع الملائكة التي أمسكتها إذا مالت به ذكره التلمساني أعلم أن التعبير بالفرس جاء في تذكرة القرطبي برواية البيهقي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة وكذا رواه الطبراني وجاء في التفسير في سورة الملك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل والكعبي في قوله تعالى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ إن الموت والحياة جسمان فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات وخلق الحياة على صورة فرس انثى بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم السلام يركبونها خطوها مدى البصر فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حي ولا تطأ شيئا إلا حي وهي التي أخذ السامري من أثرها والقاه في العجل حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والماوردي عن مقاتل انتهى فلا يحتاج إلى ما تكلف بعضهم من القول بتعدد الإسراء والله تعالى أعلم (فصلّى مع الملائكة) أي الحاضرين من الزائرين (فلمّا قضيت الصّلاة) بصيغة المجهول (قالوا يا جبريل من هذا معك فقال) وفي نسخة قَالَ (هَذَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ قَالُوا وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالُوا حيّاه الله) جملة دعائية إما من الحياة بمعنى البقاء أي بقاه الله وأبقاه بمعنى عمره أو من التحية أي سلمه الله أو سلم عليه (من أخ) إذ المؤمنون إخوة عموما والأنبياء خصوصا لحديث الأنبياء إخوة بنو علات أبوهم واحد أي الإيمان وأمهاتهم شتى يعني الشرائع (وخليفة) أي لله في الأرض حيث يحكم بحكمه من أمره ونهيه (فنعم الأخ ونعم الخليفة) أي هو صلى الله تعالى عليه وسلم (ثمّ لقوا) أي النبي وجبريل ومن معه من الملائكة أو لأن الاثنين أقل الجمع أو جمع للتعظيم والمعنى ثم لقي (أرواح الأنبياء) أي ممثلة أو منضمة إلى اشباحهم ولعل الاقتصار على الأرواح لكمال صفائهم وضيائهم ثم هذه الملاقاة إما ببيت المقدس بعد انقضاء الصلاة أو بعد العروج في مراتبهم من السموات (فأثنوا على ربّهم) أي شكرا لما أنعم عليهم (وذكر) أي أبو هريرة (كلام كلّ واحد منهم) أي مما اثنوا على ربهم (وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ ثُمَّ ذكر كلام النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما اثنى على ربه روي إن إبراهيم عليه السلام قال الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما وجعلني أمة قانتا يؤتم بي وانقذني من النار وجعلها بردا وسلاما وقال موسى عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي كلمني تكليما واصطفاني وأنزل علي التوراة وجعل اهلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي وجعل من أمتي قوما يهدون بالحق وبه يعدلون وقال داود عليه السلام الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلمني الزبور وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن معي والطير وآتاني الحكمة وفصل الخطاب وقال سليمان عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي سخر لي الرياح
وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وعلمني منطق الطير وآتاني ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي ملكا طيبا ليس فيه حساب وقال عيسى عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعلني مثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله تعالى وجعلني ابرئ الأكمة والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله تعالى ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيل (فقال) أي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (وأنّ محمّدا صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ عز وجل فَقَالَ كُلُّكُمْ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ وَأَنَا أَثْنَى عَلَيَّ رَبِّي الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي رَحْمَةً للعالمين) أي لعامة الخلق (وكافّة للنّاس) أي أجمعين كما في نسخة (بشيرا) أي بالثواب (ونذيرا) أي بالعقاب (وأنزل عليّ الفرقان) أي المبالغ في الفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام (فيه تبيان كلّ شيء) أي من مهمات أمور الدنيا والدين إما بالنص أو بالإحالة على السنة لقوله تعالى وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أو بالحث على الإجماع لقوله تَعَالَى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أو بالقياس لقوله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (وجعل أمّتي خير أمّة) أي أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الآية (وجعل أمّتي أمّة وسطا) أي خيارا عدولا أو معتدلين في أعمارهم وأخلاقهم وأرزاقهم مقتصدين في أعمالهم (وجعل أمّتي هم الأوّلون) أي في دخول الجنة (وهم الآخرون) أي في حصول الخلقة وفي إتيان ضمير الفصل تبيان أنهم هم المختصون بهذا الفضل كذا ذكره الدلجي لكن فيه بحث إذ هم في هذا التركيب مبتدأ والأولون خبره والجملة في محل نصب على أنه مفعول ثان لجعل هذا وفي صحيح مسلم نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق نحن أول من يدخل الجنة (وشرح لي صدري) أي ليسع مناجاة الحق ودعوة الخلق (ووضع عنّي وزري) أي ثقل حمل أعباء النبوة وما ترتب عليه من لأواء المشقة (ورفع لي ذكري) أي باقتران اسمه لاسمه واشتراك طاعته لرسمه (وجعلني فاتحا) أي لأبواب التحقيق وأسباب التوفيق وحاكما في خلقه أو بادئا في ظهور أمره ووجود نوره ويناسبه قوله (وخاتما) أي وجعلني خاتم النبيين والأظهر أن يقال معناهما أولا وآخرا لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قَالَ كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ في البعث (فقال إبراهيم بهذا) أي بمجموع ما ذكر فيما حمده وشكره (فضلكم محمّد) أيها الأنبياء وهو بتخفيف الضاد أي بهذا صار أفضلكم (ثمّ ذكر) أي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (أنّه) أي جبريل (عرج به) وفي نسخة بصيغة المجهول فضمير أنه للشأن (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَمِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ نحو ما تقدّم) فيه إيماء إلى أن ملاقاته الأنبياء هذه كانت ببيت المقدس والله تعالى أعلم. (وفي حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) أي مما رواه أبو نعيم في دلائله وابن عرفة في جزئه (وانتهى بي) يعني جبريل عليه السلام
قاله الدلجي لكنه بصيغة المجهول في النسخ المصححة (إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ) كذا في مسلم قال النووي في جميع أصوله وعن المصنف هو الأصح وقول الأكثرين ومقتضى تسميتها بالمنتهى أنها في السماء السابعة ولذا صحح في بعض النسخ المعتمدة بلفظ السابعة وقد جمع بينهما النووي بأن أصلها في السادسة ومعظمها في السابعة انتهى وفي الروايات الأخر من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنها فوق السماء السابعة قال المصنف وخروج النهرين الظاهرين النيل والفرات من أصلها مؤذن بأنه في الأرض انتهى وفيه بحث لا يخفى ومع تسليم ظاهر ما ادعى يمكن الجمع بأن مبدأها في الأرض ومعظمها في السماء السادسة وانتهاءها ومحل اثمارها وغشيان أنوارها في السماء السابعة ويؤيده قوله (إليها) أي إلى السدرة (ينتهي من يعرج به من الأرض) بصيغة المجهول وكذا قوله (فيقبض منها) أي تقبضه الملائكة الموكلون فيها بأخذ ما صعد به من الأعمال والأرواح إليها (وإليها ينتهي ما يهبط) أي ينزل (من فوقها فيقبض منها) أي فيقبضه من أذن له بقبضه وإيصاله إلى من قضى له به وفي الحاشية قال ابن عباس والمفسرون سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سبحانه وتعالى أعلم (قال) أي الله سبحانه وتعالى (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى [النجم: 16] ) أي يغطيها ما يغطي مما يصعد إليها من تحتها ويهبط عليها من فوقها وهذه عبارة لم أر من عبر بها وبهذا يجمع بين روايات مختلفة إذ روي أنه يغشاها جم غفير من الملائكة وفي رواية رفرف من طير خضر وتقدم عن الحسن أنه نور رب العزة (قال) أي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (فراش من ذهب) الفراش بفتح الفاء الطائر الذي يلقى نفسه في ضوء السراج وقد يطلق على الحباب الذي يعلو النبيذ ونحوه وقد ذهب توجيهه (وفي رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي ومنها في روايته (من طريق الرّبيع بن أنس رحمه الله تعالى) والربيع هذا بصري نزل خراسان روى عن جماعة من الصحابة وروى عن النووي وابن المبارك وطائفة (ر فقيل لي هذه) أي المشار إليها (سدرة المنتهى) وفي نسخة صحيحة السدرة بالألف واللام قال الأنطاكي هذا ما وقع في النسخ في هذه الرواية السدرة بالألف واللام وفي باقي الروايات سدرة المنتهى بدونهما وكذا وقع في صحيح مسلم السدرة بالألف واللام في قوله عليه الصلاة والسلام ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى قال النووي في شرحه وفي غيره من الروايات سدرة المنتهى يعني بدون الألف واللام ولم يذكر لذلك علة (ينتهي إليها كلّ أحد) أي روحه أو عمله أو بكليته عند دخول جنته (من أمّتك خلا على سبيلك) أي مضى على طريقتك ومنه قوله تَعَالَى وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي مضى نبي منذر وأما ما ضبط في حاشية بضم الخاء وتشديد اللام على أنه مبني للمفعول فتصحيف وتحريف (وَهِيَ السِّدْرَةُ الْمُنْتَهَى يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَنْهَارٌ من ماء غير آسن) بهمزة ممدودة أو مقصورة كما قرىء بهما في السبعة غير متغير طعما ولونا وريحا، (وأنهار من لبن لم يتغيّر
طعمه) لعل الاقتصار على الطعم لأن مدار التنعم عليه أو للزوم تغييره بتغيير لونه وريحه (وأنهار من خمر لذّة) تأنيث لذ أي لذيذة أو ذات لذة (للشّاربين) وقد يقال وصفها بلذة للمبالغة كأنها نفسها وعينها، (وأنهار من عسل مصفّى) أي مخلص من خلط شمع وغيره من فضلات النحل وغيرها فإنه مخلوق لا من صنع نحل، (وهي) أي سدرة المنتهى (شجرة) أي عظيمة (يسير الرّاكب في ظلّها سبعين عاما) وفي رواية الترمذي مائة سنة (وأنّ ورقة منها) أي من أوراق تلك الشجرة بسبب كبرها وكثرة طولها وعرضها (مظلّة الخلق) بضم الميم وكسر الظاء المعجمة من الإظلال وفي نسخة بفتحهما أي محل ظلالهم والمعنى أن ظلها شامل لهم حافل عليهم والتشبيه السابق لورقها بآذان الفيلة من حيثية الهيئة لا ينافي كبرها باعتبار العظمة (فغشيتها نور) أي نور عظيم من الأنوار الالهية لقوله (وغشيتها الملائكة) أي بأنوارهم الملكية فبقي نور على نور قيل غشيها ملائكة كأمثال الطير يقعن على الشجر وهذا التقرير أولى من قول الدلجي في قوله غشيها نور لعله نور الملائكة حين أقبلت إذ قد خلقت من نور ثم رأيت في حاشية أنه في التفسير فغشاها نور رب العزة وقد سبق أنه قول الحسن فهو أحسن (قال) أي الراوي (فَهُوَ قَوْلُهُ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى [النجم: 16] ) أي فما سبق هو معنى قوله تعالى ما يَغْشى وإيضاح له بعد إبهامه تفخيما وتعظيما وتكثيرا لما يغشاها (فقال تبارك) أي تكاثر خيره وتزايد بره (وتعالى) أي تنزه شأنه وتبين برهانه (له) أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (سل) أي تعط (فقال إنّك اتّخذت إبراهيم خليلا) أي والخلة أعظم خلة إذ هي كرامة جليلة ومقامة جميلة تشبه كرامة الخليل عند خليله مأخوذة من الخلال فإنها ود يتخلل النفس ويخالطها وقد روي أن إبراهيم عليه السلام بعث إلى خليل له بمصر يمتار منه لأزمة أي شدة منه أصابت الناس فقال لو ان إبراهيم أراد لك لنفسه فعلت ولكن يريد لأضيافه وقد علم إبراهيم ما أصاب الناس فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملأوا منها أوعيتهم فوجده أهل بيته دقيقا حواري فخبزوا منه فشم إبراهيم رائحة الخبز فقال من أين لكم هذا فقيل من خليلك المصري فقال بل من خيلي الله فسماه الله تعالى خليلا (وأعطيته ملكا عظيما) أي ملكا جسيما كما قال الله تعالى فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً أي آل إبراهيم معه ومنهم داود وسليمان (وكلّمت موسى تكليما) أي وعظمته بذلك تعظيما وتكريما (وأعطيت داود ملكا عظيما) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل ذكره البغوي في تفسيره (وألنت له الحديد) أي كالشمع لا يحتاج إلى إحماء وطرق (وسخّرت له الجبال) أي معه كما في أصل الدلجي وقد قال الله تعالى إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (وأعطيت سليمان ملكا عظيما) أجمله ثم فصله بالعطف التفسيري في قوله (وسخّرت له الجنّ والإنس والشّياطين) أي كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (والرّياح وأعطيته ملكا لا
ينبغي) أي لا يوجد (لأحد من بعده) وهذا تعميم بعد تخصيص وإعادة لما فيه زيادة وتلويح إلى ما حكاه الله عنه رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي وإنما قاله ليكون له معجزة خارقة للعادة لا أنه قصد به الحسد في الرياسة والمنافسة أو لئلا يقع أحد فيما وقع فيه من ابتلاء الحالة التي لا تخلو من نوع المحاسبة والمناقشة وصنف من المخاطرة من نقصان كمال المرتبة (وعلّمت عيسى التّوراة) أي تبعية (والإنجيل) أصلية يروى وعلمت موسى التوراة وعيسى الإنجيل (وجعلته يبرىء الأكمه) أي من ولد أعمى أو هو الممسوح العين (والأبرص) أي ممن ببدنه بياض أمهق كالجص روي أنه ربما اجتمع الألوف عليه ومن لم يطق اتيانه ذهب إليه وما يداوي إلا بالدعاء لديه والمعنى أن هذا في حال الكبر (وأعذته وأمّه من الشّيطان الرّجيم) أي في حال الصغر (فلم يكن له) أي الشيطان (عليهما سبيل) أي لقوله سبحانه إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ولاستعاذة جدته حنة امرأة عمران (فقال له ربّه تعالى) أي تسلية لنبينا عن مرتبة الغبطة بالعطية من أعلى الرتبة (قد اتّخذتك خليلا وحبيبا) والمحبة أخص من الخلة فإنها من حبة القلب ولأن الفعيل يحتمل معنى الفاعلية والمفعولية فله الجمع بين مرتبيي المحبية والمحبوبية ويؤيده أن في نسخة صحيحة خليلا وحبيبا وهي في إرادة هذا المعنى صريحة وأما قوله (فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ مُحَمَّدٌ حَبِيبُ الرَّحْمَنِ) فلا ينافيه ما قدمناه من البيان إذا ذكر بما خص به من مقام الأعيان هذا وقد قال الدلجي هذا مدرج من كلام الراوي إقامة بينة لصحة زيادة رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولعل وجه تخصيص إضافته إلى الرحمن لكونه رحمة للعالمين من عند ارحم الراحمين (وأرسلتك إلى النّاس كافّة) أي رسالة عامة فإرساله إلى الناس تعميما يفيد تعظيما بالنسبة إلى من أوتي ملكا عظيما ثم زاد عليه بما ضم إليه من قوله (وجعلت أمّتك هم الأوّلون) أي في دخول الجنة شهودا (وهم الآخرون) أي في الدنيا وجودا (وجعلت أمتك) أي أمة الإجابة (لَا تَجُوزُ لَهُمْ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّكَ عبدي ورسولي) أي ولو خارج الخطبة فلا يرد على أبي حنيفة في تجويز الخطبة على نحو تسبيحة وتحميدة أو المراد بالأمة أمة الإجابة والمراد بنفي الجواز أنه لا ينبغي ترك الشهادة لا سيما حال القدرة فالمعنى على نفي الكمال كحديث كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء أي ناقصة مقطوعة الفائدة كحديث كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله أو بالحمد لله فهو أجذم أو أبتر أو أقطع روايات (وجعلتك أوّل النّبيّين خلقا) أي لأنه سبحانه وتعالى خلقه قبل آدم فلما خلق آدم قذفه في صلبه فلم يزل في صلب كريم إلى رحم طاهر من السفاح حتى خرج من بين أبويه فكان أولهم خلقا ووجودا (وآخرهم بعثا) وشهودا مع زيادة أنه أعظمهم خلقا (وأعطيتك) أي خاصة (سبعا من المثاني) وهي الفاتحة على الصحيح من قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الآية (ولم أعطها نبيّا قبلك) تأكيد لما قبله وتأييد (وأعطيتك خواتيم سورة البقرة) الظاهر أنها من قوله آمَنَ الرَّسُولُ إلى آخر السورة (من
كَنْزٍ تَحْتَ عَرْشِي لَمْ أُعْطِهَا نَبِيًّا قَبْلَكَ) أي بإنزال مضمونها على أحد منهم ادخارا لك وقال التوربشتي بل المعنى أنه استجيب له ولمن سأل بحقه مضمون قوله تعالى غُفْرانَكَ رَبَّنا الخ قال الدلجي ويؤيده أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما دعا بهن قيل له قد فعلت وأوثر الإعطاء مناسبة للتعبير بكنز تحت العرش انتهى ولا يخفى أنه لا منافاة بين الجمع فالحمل عليه أولى (وجعلتك فاتحا وخاتما) أي مبدأ للخيرات ومنتهى للمبرات أو أولا وآخرا باعتبار الأرواح والأشباح من بين الأنبياء (وفي الرّواية الأخرى) أي التي رواها مسلم (قال) أي ابن مسعود (فأعطي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاثا) أي مما لم يعطها غيره (أعطي الصّلوات الخمس) أي فريضة في كل يوم وليلة (وأعطي خواتيم سورة البقرة) أي قراءة وإجابة (وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا) أي من الشرك (من أمّته المقحمات) أي السيئات المهلكات أهلها ولو من غير توبة وفيه إشارة إلى أنه من خصوصيات هذه الأمة المرحومة ببركة نبي الرحمة لكنه مع هذا تحت المشيئة ومختص بمن تعلقت به الإرادة لقوله تعالى وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فاندفع ما أورده الدلجي من وجه الإشكال بقوله يفيد ظاهره العموم فيلزم أنه لا يعذب أحد مع الإجماع على تعذيب بعض عصاة المؤمنين أي من هذه الأمة وإلا فلا إشكال وأبعد من قال أراد بغفرانها أن لا يخلد أحد منهم في النار لا أن لا يعذب أصلا إذ فيه أنه لا خصوصية حينئذ قطعا ثم المقحمات بضم ميم وكسر حاء مهملة مخففة وقيل منتقلة الذنوب العظام التي من شأنها أن تقحم صاحبها في النار وتدخله الشدة في دار البوار وهو مرفوع على أنه نائب الفاعل لقوله غفر والمعنى أنه أعطي الشفاعة لأهل الكبائر من الأمة (وقال) أي ابن مسعود فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [النجم: 11] الآيتين) أي في هذه الآية وما بعدها من قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى (رأى جبريل في صورته) أي التي خلق عليها في أصل جبلته (له ستمائة جناح) أي مختص بزيادة الأجنحة على سائر الملائكة كما قال سبحانه وتعالى جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ وأشار إليه سبحانه وتعالى بقوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى لأن القوة على قدر زيادة الأجنحة اللازمة لعظم الجثة ومنه حديث أبي داود وغيره أن الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم إما حقيقة صيانة لأمره وحفظا لشأنه أو تواضعا تعظيما لحقه وأما ما ذكره السهيلي من أنه قد قال أهل العلم في أجنحة الملائكة أنها ليست كما يتوهم من أجنحة الطير ولكنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة فهو خلاف الظاهر المتبادر من معنى الحقيقة التي لا ينافيها عقل ولا نقل وقد أبعد بقوله واحتجوا بالآية فإنه لم ير طائر له ثلاثة أجنحة أو أربعة حيث غفلوا عن أنه لا يقاس الغائب على الحاضر وجهلوا معنى قوله سبحانه وتعالى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وفي الآية قول آخر لبعض الأئمة وهو أنه رأى ربه تعالى والمعنى ما كذب بصره ما حكاه له قلبه. (وفي حديث شريك) أي ومنها في روايته (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم (رأى موسى في السّابعة) أي السماء السابعة كما في أصل الدلجي وقد تقدم الجمع بينهما فلا يحتاج إلى حمله على تعدد الإسراء أو تكلفه بأن إحديهما موضع استقراره والأخرى غير موضع استيطانه أو باعتبار طلوعه ورجوعه وهذا أولى مما قاله الأنطاكي ولعله رآه في السادسة ثم ارتقى إلى السابعة وهذا وجه التوفيق بين ما روي في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام وجد إبراهيم في السادسة وبين ما روي أنه وجده في السماء السابعة انتهى والأظهر أنه من وهم بعض الرواة فإن النسيان يغلب الإنسان (قال) أي شريك أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بتفضيل كلام الله) أي له كما في أصل الدلجي والمعنى أن جعله في السابعة مسبب عن ذلك قال يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي ولا تطلب المعراج ولا الرؤية في ذلك المدراج (ثمّ علي به) بصيغة المفعول وفي أصل الدلجي ثم علا بي أي جبريل (فوق ذلك) أي فوق ما ذكر من السماء السابعة والسدرة (بما لا يعلمه إلّا الله) أي بمقدار لا يعلمه سواه فلا يحتاج إلى ما تكلف له الدلجي بقوله إن بدل من فوق ذلك والباء للاستعلاء كما في قوله تعالى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ أي عليه أو بمعنى إلى كما في وقد أحسن بي أي علا بي على مكان أو إلى مكان لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ (فَقَالَ مُوسَى لَمْ أظنّ أن يرفع عليّ أحد وقد روي) بصيغة المجهول أي ومنها أنه قد روي (عن أنس: أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم صلّى بالأنبياء ببيت المقدس) أي إماما وهو لا ينافي ما روي أنه صلى بهم في السماء أو صلى مع الملائكة في المسجد الأقصى. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) أي ومنها ما رواه البزار والبيهقي عَنْهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم بينا أَنَا قَاعِدٌ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ دَخَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فوكز) بالواو والزاي أي دفع بأطراف أصابعه أو ضرب بكفه مجموعة (بين كتفيّ) بتشديد التحتية وهذا ضرب تلطف ومحبة أو سبب قيام وخفة ويشير إليه قوله (فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ فِيهَا مِثْلُ وَكْرَيِ الطَّائِرِ) أي مكانين مماثلين للوكرين وهو بفتح الواو عش الطائر سواء كان في حجر أو في شجر وقيل إن كان في شجر فهو عش وإن كان في حجر فهو وكر (فقعد) أي جبريل (في واحدة) ولعل تأنيث الوكر باعتبار البقعة أو القطعة من الشجرة (وقعدت في الأخرى) وما ذكرناه أولى وأحرى مما قاله الحلبي أن تأنيثه هنا حمل على الغالب إذ الغالب أن ما يلازم الوكر الانثى للبيض والجلوس عليه وغير ذلك فاكتسب التأنيث بحسب الإضافة انتهى ويرده ما في القاموس من أن الوكر عش الطائر وإن لم يكن فيه وأما قول الدلجي انثهما باعتبار أن كلا منهما بمعنى العش وأهل مكة يذكرونه ويؤنثونه والغالب الآن على ألسنتهم التأنيث فليس في محله لأنه غير مسموع بل في القاموس ما يدل على أنه من وجهين مدفوع حيث قال العش بالضم موضع الطائر يجمعه من دقاق الحطب في افنان الشجر وبفتح (فنمت) بفتح النون والميم من النمو أي زادت وفي نسخة صحيحة فسمت بالسين المهملة والميم المخففة من السمو أي ارتفعت والضمير إلى
الآخرى (حتّى سدّت الخافقين) بتشديد الدال المهملة أي طرفي السماء والأرض أو أفقي المشرق والمغرب (ولو شئت) أي من كمال رفعتي (لمسست السّماء) بكسر السين الأولى وتفتح وقد تحذف كما في نسخة (وأنا أقلّب طرفي) بتشديد اللام والطرف بسكون الراء بمعنى النظر والجملة حالية أي والحال أني أردد بصري تبعا لبصيرة قلبي في آيات ربي في الآفاق وفي الأنفس (ونظرت جبريل) أي رأيت كما في نسخة أي وأبصرته نازلا عني وبعيدا مني (كأنّه حلس) بكسر وسكون وفي نسخة بفتحهما أي كساء رقيق يلي ظهر البعير تحت قتبه شبه به لرؤيته له (لاطئا) بكسر مهملة فهمزة أي لاصقا بما لطئ به من هيبة الله تعالى وشدة الخشية من كمال عظمته كذا قرره الدلجي بناء على نصب لاطئا في أصله لكنه مخالف للأصول المصححة لأنه مرفوع على أنه نعت لقوله حلس ومنه حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه كن حلس بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية أمره بلزوم بيته هذا وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال مررت ليلة أسري بي وجبريل بالملأ الأعلى ساقط كالحلس البالي من خشية الله تعالى (فعرفت فضل علمه بالله سبحانه عليّ) لأنه إنما يخشى الله من عباده العلماء ولأن من يكون أعلم يكون أخشى واتقى وهذا من باب تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم وتعليم لأمته واتباعه وتنبيه نبيه على أن أفضل الملائكة إذا كان يخشى هذه الخشية مع ظهور العصمة فغيره أولى بأن يكون على تلك الحالة مع احتمال وجود السيئة وتحقق الغفلة (وفتح لي باب السّماء) بصيغة المفعول (ورأيت) وفي نسخة ونظرت (النّور الأعظم) أي نور الحضرة الإلهية ذكره الدلجي والله تعالى أعلم (ولطّ) بضم لام وتشديد طاء مهملة أي أرخى وفي نسخة وإذا أدنى بإذا المفاجأة أي قرب ودنا (دوني الحجاب) أي ستر باب الجناب لأن رب الأرباب منزه عن أن يدخل تحت الحجاب أو يخرج من تحت النقاب (وفرجه) بالنصب وهو بضم الفاء وسكون الراء أي ومركوز في شقه (الدّرّ والياقوت) ويروى فوقه الدر والياقوت والظاهر أنه تصحيف وضبط في حاشية التلمساني وغيره بضم الفاء وفتح الراء جمع فرجة وهو الأظهر فتدبر (ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا شَاءَ أَنْ يوحي) أي إلي كما في نسخة صحيحة. (وَذَكَرَ الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالى عنه) وفي نسخة بخط مغلطاي البراء بفتح موحدة وخفة راء والصواب هو الأول وهو بموحدة فزاي مشدة فألف نسبة إلى عمل بزر الكتان زيتا بلغة البغداديين وهو الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل سمع عبد الأعلى بن حماد والحسن بن علي بن راشد وطائفة وعنه أبو الشيخ والطبراني وجماعة فإنه ارتحل في آخر عمره إلى أصبهان وإلى الشام وإلى النواحي ينشر علمه ذكره الدارقطني وأثنى عليه وقال ثقة يخطىء ويتكل على حفظه مات بالرملة سنة اثنتين وتسعين ومائتين (لمّا أراد الله تعالى أن يعلّم) بتشديد اللام أي يعلمه ويلهمه (رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم الأذان) أي ما يختار للإعلام بدخول أوقات الصلوات (جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ
فذهب يركبها) أي شرع وأراد أن يَرْكَبُهَا (فَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ اسْكُنِي فو الله مَا رَكِبَكِ عَبْدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فركبها حتّى أتى بها) أي انتهى بها (إلى الحجاب الذي يلي الرّحمن تعالى) أي عرشه سبحانه وتعالى (فبينا هو) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (كذلك) أي بالوصف الذي هنالك (إذ خرج ملك) أي فاجأه خروجه (مِنَ الْحِجَابِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم يا جبريل من هذا) أي من الملائكة (قال) أي جبريل (وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَأَقْرَبُ الْخَلْقِ مَكَانًا) أي في السماء أو من الحجاب لا من رب الأرباب لأنه منزه عن المكان والزمان وسائر سمات الحدثان (وَإِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قبل ساعتي هذه) يعني فهو داخل تحت قوله سبحانه وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ وقوله تعالى وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (فَقَالَ الْمَلَكُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقِيلَ له) أي جوابا عن مقوله (مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أنا أكبر) هذا يحتمل أنه أمر ملكا أن يقوله عن أمر ربه كعكسه حين حكى الله عن الملائكة في قوله وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ (ثُمَّ قَالَ الْمَلَكُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أنا) ووقع في أصل الدلجي أنه لا إله إلا أنا وهو مخالف للنسخ المعتمدة (وذكر) أي الراوي (مثل هذا) أي الذي ذكر قولا وجوابا (فِي بَقِيَّةِ الْأَذَانِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ) فقيل له من وراء الحجاب (جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ على الفلاح وقال) أي الراوي (ثمّ أخذ الملك) أي المؤذن (بيد محمّد فقدّمه) أي في المقام الأتم (فأمّ أهل السّماء) أي من الملائكة والأنبياء (فيهم آدم) أبو البشر الأكبر (ونوح) ابو البشر الأصغر ولعل هذا وجه تخصيصهما فتدبر وأما ما وقع في أصل الدلجي من قول آدم وإبراهيم ثم قوله وخصا بالذكر لأنهما أبا الأنبياء فهو مخالف للأصول المعتبرة. (قال أبو جعفر) أي الصادق وهو الباقر (محمّد بن عليّ بن الحسين) أي ابن علي بن أبي طالب وهو زين العابدين رضي الله تعالى عنهم ويسمى سلسلة الذهب (راويه) أي راوي هذا الحديث الذي ذكره البزار في مسنده حيث قال حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد حدثنا أبي عن زياد بن المنذر عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أبيه عن جده علي بن أبي طالب قال لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَ رَسُولَهُ الأذان فذكره وفي سنده زياد بن المنذر وهو كذاب وقد أخرج له الترمذي وقد مال السهيلي في روضه إلى صحته لما يعضده ويشاكله من أحاديث الإسراء والله تعالى أعلم وقد تصحف في أصل الدلجي فوقع رواية بالمصدر بدل راويه (أكمل الله تعالى) أي أكمل وأتم (لمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم الشّرف) أي السيادة الأعم (على أهل السّموات وَالْأَرْضِ قَالَ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْحِجَابِ فَهُوَ فِي حقّ المخلوق) أي مقصور من جميع الأبواب إذ الحجاب لغة المنع والستر وحقيقته للاجرام المحدودة إلا أنه قد يطلق مجازا ويقصد به التمثيل لما يفهم من مجرد المنع من رؤيته تعالى بالمشاهدة ليتصور السامع حتى يكون مستحضرا كأنه ينظر إليه متيقنا له متبصرا وأما المعنى الحقيقي فهو منحصر فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ
(لا في حقّ الخالق) لأنه منزه عن ذلك (فهم المحجوبون) أي حسا ومعنى (والبارئ) أي الخالق البريء عن مشابهة المخلوقين (جلّ اسمه) أي وعز مسماه (منزّه عمّا يحجبه) أي يستره عن خلقه ويجعله محجوبا في حقه (إذ الحجب) بضمتين جمع حجاب (إنّما تحيط بمقدّر) أي محدود (محسوس) أي داخل تحت نطاق حاسة البصر (ولكن حجبه) بضمتين جمع حجاب وبفتح فسكون مصدر أي قد يكون حجابه (على أبصار خلقه) بفتح الهمزة أي أعينهم الظاهرة (وبصائرهم) أي أعينهم الباطنة (وإدراكاتهم) عطف تفسير (بما شاء) أي من أنواع الحجاب وفي الحديث حجابه النور أي لكماله في الظهور (وكيف شاء) أي في هذا الباب (ومتى شاء) أي من أوقات تعلق الحجاب (كقوله) أي في الكتاب (كَلَّا إِنَّهُمْ) أي الكفار (عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] ) أي لممنوعون عن رؤيتنا وشهود قدرتنا بخلاف المؤمنين فإنهم في عين عنايتنا وزين رعايتنا وحمايتنا عن عين الأغيار ورين الأوزار (فقوله في هذا الحديث الحجاب) يجوز جره على الحكاية ورفعه على الإعراب في قوله عليه الصلاة والسلام (وَإِذْ خَرَجَ مَلَكٌ مِنَ الْحِجَابِ يَجِبُ أَنْ يقال إنّه حجاب حجب به من ورائه) أي بحسب ظاهره (من ملائكته عن الاطّلاع) بتشديد الطاء (على ما دونه) أي بحسب باطنه (من سلطانه وعظمته وعجائب ملكوته وجبروته) وقد سبق أن الملكوت هو الملك العظيم والجبروت كمال العظمة بناء على أن بناء الفعلوت للمبالغة وما أحسن قول ابن عطاء في كشف هذا الغطاء مما يدلك على وجود قهره سبحانه وتعالى أن حجبك عنه بما ليس بموجود معه وقد انشدوا في هذا المعنى واطنبوا في هذا المبنى:
من أبصر الخلق كالسراب
…
فقد ترقى عن الحجاب
إلى وجود يراه رتقا
…
بلا ابتعاد ولا اقتراب
ولم يشاهد به سواه
…
هناك يهدي إلى الصواب
فلا خطاب به إليه
…
ولا مشير إلى الخطاب
(ويدلّ عليه) ما ذكرناه (من الحديث) أي من بعض ما في نفس الْحَدِيثِ (قَوْلُ جِبْرِيلَ عَنِ الْمَلَكِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ وَرَائِهِ إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قَبْلَ سَاعَتِي هَذِهِ فَدَلَّ عَلَى أنّ هذا الحجاب) أي تعلقه (لم يختصّ بالذّات) بل اختص بالمخلوقات نعم الذات محتجبة بالصفات والصفات محتجبة بالموجودات لا بمعنى أن ذلك الجناب يحجب بالحجاب بل بمعنى إن أكثر الكائنات احتجبوا بوجود الخلق عن شهود صفات الحق وبشهودها عن الموجود المطلق ثم منهم من حجب عن الله تعالى بالشهوات الدنيوية والدرجات الأخروية أو المقامات العلية ومنه قولهم العلم حجاب في هذا الباب وكل ذلك من الأغيار العدمية والوجودات الوهمية ولو ارتفع الحجاب عنهم لفنوا عن أنفسهم وإرادتهم وبقوا بربهم فإن الفناء على ثلاثة أوجه فناء في الأفعال ومنه قولهم لا فاعل إلا الله تعالى وفناء في الصفات
ومنه لا حي ولا عالم ولا قادر ولا مريد ولا سميع ولا بصير ولا متكلم على الحقيقة إلا الله تعالى وفناء في الذات أي لا موجود على الإطلاق إلا الله وأنشدوا في هذا المبنى لتصحيح المعنى:
فيفنى ثم يفنى ثم يفنى
…
فكان فناؤه عين البقاء
(ويدلّ عليه) أي على ما ذكرنا من تعلق الحجاب بالكائنات دون الذات (قول كعب) أي كعب الأحبار (في تفسير سدرة المنتهى) أي في بيان سبب تسميتها بها (قال إليها ينتهي علم الملائكة و) يعني وسببه (أنهم عندها يجدون أمر الله تعالى) أي لا عند غيره (لا يجاوزها علمهم) أي فهم محجوبون عما وراءها (وَأَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي يَلِي الرَّحْمَنَ فَيُحْمَلُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ يَلِي عَرْشَ الرَّحْمَنِ أَوْ أمرا مّا) كذا بالنصب في النسخ والظاهر كونه مجرورا أو مرفوعا ولعله أراد أن أي بمعنى يعني أو أعني أمرا من الأمور اللائقة بمرام هذا المقام وذهب الدلجي إلى أن التقدير يلي أمرا ما (من عظيم آياته أو مبادىء حقائق معارفه) أي المتعلقة بذاته وصفاته (ممّا هو أعلم به) أي من أسرار مكنوناته (كما قال تعالى) أي في استعمال حذف المضاف (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أي أهلها) يعني أنه من قبيل مجاز الحذف وهو أشهر مما قيل إنه من باب ذكر المحل وإرادة الحال والله تعالى أعلم بالحال (وَقَوْلُهُ فَقِيلَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أنا أكبر) كما تقدم (فظاهره أنّه سمع) بصيغة المجهول وقال الدلجي أي سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (في هذا الموطن كلام الله تعالى ولكن مِنْ وَراءِ حِجابٍ قلت فيأول الإشكال في هذا الباب مع ما فيه من سماع كلامه من جهة محصورة بوهم الحجاب ولهذا دفعه بقوله (كما قال تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشُّورَى: 51] ) فإن المراد بالوحي على طريق المكاشفة لأن الوحي إعلام في خفاء إما بالإلهام وهو القذف في القلب كما أوحي إلى أم موسى عليه السلام أو في المنام كما أوحي إلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده وبقوله مِنْ وَراءِ حِجابٍ أن يكون البشر من وراء حجاب البشرية المانعة من شهود وجود الذات الصمدية بأن يسمعه ولا يراه كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام وليس المراد أن هناك حجابا يفصل موضعا عن موضع أو يدل على تحديد المحجوب وإنما هو بمنزلة ما يسمع من وراء الحجاب حيث لم ير المتكلم في هذا الباب والله تعالى أعلم بالصواب ولذا قال المصنف (أي وهو) أي البشر (لا يراه) أي الحق سبحانه وتعالى (حجب بصره) أي منعه (عن رؤيته) أي لا ذاته عن بصره، (فَإِنْ صَحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم رأى ربّه) أي بعين البصر (فيحتمل أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رآه (في غير هذا الموطن بعد هذا) أي هذا الوقت (أو قبله) أي من الزمان بمعنى أنه (رفع الحجاب عن بصره حتّى رآه) وفي أصل الدلجي فرآه (والله أعلم) أقول ولا مانع من أنه رآه في ذلك الحين بعينه إذ لا يختص برفع