الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انبيائهم واختبارهم في ولائهم عند بلائهم وابتلائهم (بهم) أي بقومهم وأقوالهم (وسلّاه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بذلك) أي بما ذكر من ابتلاء الأنبياء (عن محنته) أي بليته عليه الصلاة والسلام (بمثله) أي بنظير ما فعل الأمم بالأنبياء (من كفّار مكّة) في تأذيتهم له (وأنّه) أي وبأنه (ليس أوّل من لقي ذلك) أي الايذاء من قومه (ثمّ) أي بعد أن سلاه (طيّب نفسه) أي أرضاه (وأبان عذره) أي أظهره (بقوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [الذاريات: 54] ) إشفاقا عليه بترك معالجتهم (أي أعرض عنهم) أي بعد ما بذلت جهدك في الدعوة والزمت عليهم الحجة (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات: 54] ) في مكالمتهم (أي) حينئذ (في أداء ما بلّغت) أي من الإعلام (وإبلاغ ما حمّلت) بضم حاء وتشديد ميم مكسورة أي كلفت من الأحكام والمعنى فما تلام في إعراضك عنهم بعد ما كررت عليهم مبالغا في تبليغ ما أمرت به لهم (وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] ) أي بمرأى منا (أي اصبر على أذاهم) أي وبقائك في عناهم (فإنّك بحيث نراك ونحفظك) وجمع العين لجمع الضمير مبالغة في كثرة أسباب الحفظ والعصمة؛ (سلّاه الله تعالى بهذا) أي بما ذكر (في آي كثيرة من هذا المعنى) أي كما لا يخفى على حفاظ المبنى.
الفصل السّابع [فيما أخبره الله بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ]
(فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ العزيز) أي الذي لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ أو الغالب على سائر الكتب بنسخه إياها والنادر في الوجود لبقائه على صفحات الدهر إلى اليوم الموعود (من عظيم قدره) أي مرتبته (وشريف منزلته) أي يشهدان بفضيلته (على الأنبياء وحظوة رتبته) بكسر الحاء وضمها وسكون الظاء المعجمة وقد تقدمت ومن بيان لما (في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) هو كما اختاره المصنف على ظاهره من أخذ الميثاق عليهم بما ذكر أو ميثاقهم الذي وثقوه على أممهم (لَما آتَيْتُكُمْ) وفي قراءة نافع آتيناكم واللام موطئة القسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما شرطية والتقدير لمهما آتيتكم وهو ظاهر قول سيبويه ودخلت اللام عليها كما تدخل على إن إذا كان جوابها قسما نحو قوله تعالى وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أو موصولة صلتها ما بعدها والعائد محذوف أي الذي آتيتكموه (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمران: 79] ) من لبيان ما (إلى قوله) تعالى (مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] ) يعني ثم جاءكم وهو عطف على صلتها وعائدها محذوف أي جاءكم به رسول مصدق وقرأ حمزة لما بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إتياني إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم مجيء رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أي الله تعالى للنبيين أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي قبلتم عهدي قالوا أقررنا قال فاشهدوا أي بعضكم على بعض بالإقرار وأنا معكم من الشاهدين على إقراركم ونشاهدكم وهذا توكيد عظيم وتعظيم جسيم مع علمه تعالى بأنهم لا يدركون زمانه ولا
يلحقون مكانه (قال أبو الحسن القابسي) سبق ذكره (اختصّ الله تعالى محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم بفضل) أي بزيادة فضيلة (لم يؤته غيره) أي من فضلاء انبيائه (أبانه به) جملة استئناف أي أظهره الله تعالى بما آتاه من فضله وفي نسخة ضبط ابانة بالمصدر على أنه منصوب على العلة أي اظهارا بفضله وكماله واشعارا بعلو شأنه وتمام جماله (وهو ما ذكره في هذه الآية) أي مما يدل على تلك الإبانة، (قال المفسّرون أخذ الله الميثاق بالوحي) أي إلى أنبيائه (فلم يبعث نبيّا إلّا ذكره له محمّدا ونعته) أي وذكر له صفته كما في التوراة والإنجيل وغيرهما على ما مر (وأخذ عليه) أي على كل نبي (ميثاقه) أي الخاص به وهو (إن أدركه ليؤمننّ به) بفتح النونين وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله حين رأى عمر أنه ينظر في صحيفة من التوراة لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي أي لأجل أخذ الميثاق بذلك وإلا فكان الأمر يقتضي عكس ما هنالك لان اللاحق يكون تابعا للسابق، (وقيل أن يبيّنه) أي أخذه عليه أَنْ يُبَيِّنَهُ (لِقَوْمِهِ وَيَأْخُذَ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوهُ لمن بعدهم) وفي نسخة لمن بعده أي وهكذا إلى أن يبعث فيؤمنوا به كما بينه سبحانه وتعالى بقوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ الآية؛ (وَقَوْلُهُ ثُمَّ جَاءَكُمْ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُعَاصِرِينَ لمحمّد) اللام للتقوية وفي نسخة المعاصرين محمدا صلى الله عليه وسلم أي الذين كانوا في زمانه ولا يخفى أن هذا المعنى لا يصح على القول بأنه تعالى أخذ ميثاق النبيين بذلك إذ من قاله لا يجعل الخطاب إلا لهم وإنما يصح عند من قال ميثاق معاصريهم وإضافته في الآية إلى النبيين نظرا إلى أنهم هم الذين أخذوه على أممهم وأنهم يأخذونه على من بعدهم وهكذا إلى أن يبعث فتقدير الآية وإذ اخذ الله الميثاق الذي أخذه النبيون على أممهم (قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه كما رواه ابن جرير في تفسيره عنه أنه قال موقوفا يكون في الحكم مرفوعا (لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ آدَمَ فَمَنْ بعده) أي نبيا بعد نبي (إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنَنَّ به ولينصرنّه) بفتح ما قبل النون الثقيلة فيهما لإفراد الضمير بهما (ويأخذ) بالنصب بفتح الذال عطف على ما دخله اللام ونون التوكيد مرادة كإرادتها في قوله:
لا تهين الفقير علك أن تر
…
كع يوما والدهر قد رفعه
حيث أراد لا تهينن فحذفت لما استقبلها ساكن أي وليأخذن (العهد بذلك على قومه) وفي نسخة برفع يأخذ (ونحوه عن السّدّي) أي ونحو هذا القول المروي عن علي منقول عن السدي (وقتادة) تقدم الكلام على قتادة وأنه من أجلاء التابعين وعظماء المفسرين وأما السدي فهو بضم السين وتشديد المهملتين كان يجلس في سدة باب الجامع وهما اثنان كبير وصغير فالكبير هو اسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كربة السدي الكوفي يروي عن ابن عباس وأنس وطائفة وعنه زائدة وإسرائيل وأبو بكر بن عياش وخلق وهو حسن الحديث أخرج له مسلم والأربعة وأما الصغير فهو محمد بن مروان الكوفي روى عن هشام بن عروة والأعمش تركوه
واتهمه بعضهم وهو صاحب الكلبي والظاهر أن المراد هنا الأول والله أعلم (في آي) أي حال كون هذه الآية مندرجة في ضمن آيات كثيرة (تضمّنت فضله) أي فضائله صلى الله تعالى عليه وسلم (من غير وجه واحد) أي بل من وجوه متعددة (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) أي بتبليغ الرسالة وتحمل الدعوة إلى الأمة (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب: 7] الآية) أي وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وهو تخصيص بعد تعميم تلويحا ببيان فضلهم وزيادة شرفهم فإنهم أولو العزم من الرسل ومشاهير أرباب الشرائع وقدم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم تعظيما وتكريما وإيماء إلى تقديم نبوته في عالم الأرواح المشار إليه بقوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد وأخذنا منهم ميثاقا غليظا أي عظيما شأنه ومؤكدا باليمين برهانه وكرر لبيان وصفه تعظيما لمقامه (وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ- إلى قوله- وَكِيلًا [النساء: 163] ) وفي نسخة صحيحة شهيدا وهو الصواب وفيه تلويح إلى فضله حيث قدمه على رسله إذ كان يمكن أن يقال (كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده أوحينا إليك) على نحوه والحاصل أنه قدم من جهة الفضل والشأن لا من جهة التقدم في الزمان والواو وإن لم تقتض الترتيب لكن العرب توتر تقديم المتقدم في الذكر على المتأخر في اللفظ وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال عند الصفا ابدأ بما بدأ الله به وحكى الحافظ في كتاب البيان والتبيين أن عبد بني الحسحاس لما أنشد عمر رضي الله تعالى عنه قوله:
هريرة ودع إن تجهزت غاديا «1»
…
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال له عمر لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك (رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه تعالى عنه) وهو بعض خبر هنا ذكره الرشاطي كله في اقتباس الأنوار (أنّه قال) أي عمر (فِي كَلَامٍ بَكَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) بنصب النبي على أنه مفعول والمعنى رثاه بعد موته من بكيته مخففا ومشددا أي بكيت عليه وذلك حين أفاق من غشيته وتحقق عنده موت النبي صلى الله عليه وسلم بخطبة أبي بكر وموعظته قائلا بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كان لك جذع تخطب الناس عليه فلما كثر الناس اتخذت منبرا لتسمعهم عليه فحن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه فسكن فامتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم (فقال) أي عمر (بأبي أنت وأمّي) متعلق بمقدر ولحذفه أبدل من ضميره المتصل ضمير منفصل وحذفت الجملة لظهور المعنى حتى قيل الباء للتعدية وقد يذكر الفعل كقول الصديق فديناك بآبائنا وأمهاتنا أي أفديك بأبي وَأُمِّي (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ بَعَثَكَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ) أي في مقام الوجود. (وذكرك في أوّلهم) أي في أول بعضهم عند ذكرهم إجمالا أي في معرض الكرم والجود (فَقَالَ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب: 7] الآية) أي على ما سبق. (بأبي أنت وأمّي) أي أفديك بهما مرة بعد أخرى لأنك بذلك أولى وأحرى
(1) في نسخة (غازيا) .
(يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عنده) أي عند الله سبحانه (أنّ أهل النّار يودّون) أي يتمنون ويحبون (أنّ يكونوا أطاعوك وهم بين أطباقها) أي طبقات النار (يعذّبون يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرّسولا) أي فلم يصبنا هذا العذاب تمنوا حيث لا ينفعهم التمني من جميع الأبواب والرسولا بالألف مرسوم والجمهور على إثباتها وقفا ووصلا ومن جملة ما قال عمر رضي الله تعالى عنه بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بلغ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ جَعَلَ طَاعَتَكَ طاعته فقال من يطع الرسول فقد أطاع الله بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بلغ من فضيلتك عنده أن أخبرك بالعفو قبل أن يخبرك بالذنب فقال عفا الله عنك لم أذنت لهم بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا يتفجر منه الأنهار فما ذاك بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله تعالى عليه وسلم عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوها شهر ورواحها شهر فما ذاك بأعجب من البراق حين سرت عليه إلى السماء السابعة ثم صليت الصبح من ليلتك بالأبطح صلى الله تعالى عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان عيسى ابن مريم أعطاه الله تعالى إحياء الموتى فما ذاك بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك فقالت لا تأكلني فإني مسمومة صلى الله تعالى عليك وسلم بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ولو دعوت علينا لَهَلَكْنَا مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا فَلَقَدْ وُطِئَ ظَهْرُكَ وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُكَ فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إلا خيرا وقلت اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ اتبعك في قلة سنينك وقصر عمرك ما لم يتبع نوحا في كثرة وطول عمره فلقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا قليل بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو لم تجالس إلا الأكفاء ما جالستنا ولو لم تنكح إلا إلى الاكفاء ما نكحت إلينا ولو لم تواكل إلا الأكفاء ما واكلتنا لبست الصوف وركبت الحمار ووضعت طعامك بالأرض تواضعا منك صلى الله تعالى عليك وسلم. (قال قتادة) أي كما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره وابن لال في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في دلائله عنه مرسلا (إنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الخلق) أي خلق روحه قبل أرواحهم أو في عالم الذر أو في التقدير بكتابته في اللوح أو ظهوره للملائكة (وآخرهم في البعث) أي لكونه خاتم النبيين، (فلذلك) أي فلأجل كونه أولهم خلقا (وقع ذكره مقدّما) أي في الآية السابقة (هنا قبل نوح وغيره) أي من أولي العزم فضلا عن غيرهم قال السهيلي واسم نوح عبد الغفار وسمي نوحا فيما ذكر لكثر نوحه على نفسه أو على قومه. (قال السّمرقندي) وهو الإمام أبو الليث من أئمتنا الجامع بين التفسير والحديث والفقه والتصوف (في هذا) أي في ذكر وقوعه مقدما (تفضيل نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم لتخصيصه بالذّكر قبلهم) أي إظهارا للكرم والجود (وهو آخرهم) أي بعثا كما في نسخة يعني أي والحال أنه آخرهم من جهة البعث والوجود. (الْمَعْنَى أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ إِذْ أخرجهم من ظهر آدم كالذّرّ) وهو صغار النمل والمعنى أن للأنبياء ميثاقا خاصا بعد دخولهم
في الميثاق العام المعنى به قوله تعالى أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى بتبليغ الرسالة وأخص من هذا الميثاق ميثاق الأنبياء اصالة وأممهم تبعا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لو فرض أنه وجد في أي زمان من الأزمنة لتبعه جميع الأنبياء وجميع أممهم من العلماء والأولياء والأصفياء فكأنهم تابعون بالقوة وعلى فرض وقوعه بالفعل والحاصل أنه تعالى قال للخلق في عالم الذر بعد قوله لهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى اعلموا أنه لا إله غيري وأنا ربكم فلا تشركوا بي شيئا فإني سأنتقم ممن أشرك بي وأني مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتبا فقالوا شهدنا أنك ربنا والهنا لا رب لنا غيرك فأخذ بذلك مواثيقهم ثم كتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم فنظر إليهم آدم فرأى فيهم الغني والحسن وغيرهما فقال يا رب لو سويت بينهم فقال إني احب أن أشكر فلما قررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض أعادهم إلى صلب آدم فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ ميثاقه وكان إعطاء الكافرين العهد إذ ذاك وهم كارهون على جهة التقية وقد وردت الأحاديث بهذا من طريق عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وغيرهما رضي الله تعالى عنهم وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام أول من قال بلى فذلك قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وفي قراءة ذريتهم أي أخرج ذريته بعضا من صلب بعض على ما يتوالدون واكتفى بذكر ظهورهم عن ذكر ظهره إذ كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره وأشهدهم على أنفسهم أي أشهد بعضهم على بعض وأغرب الدلجي في أنه بعد ما ذكر الميثاق على الوجه المسطور المطابق لمذهب أهل السنة المؤيد بالأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة مال إلى مذهب المعتزلة وتبع الزمخشري وسائر أهل البدعة حيث قالوا قوله تعالى أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى تخييل وتصوير للمعنى أي نصب لهم أدلة ربوبيته وأودع عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها فصاروا بمنزلة من قيل لهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شهدنا فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم من منزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل انتهى (والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل) وفي كتاب القصص لوثمية بن الفرات يرفعه إلى أبي موسى الأشعري أنه قال لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام قال له يا آدم فقال نعم يا رب قال من خلقك فقال أنت يا رب خلقتني قال فمن ربك قال أنت لا إله إلا أنت قال فآخذ عليك الميثاق بهذا قال نعم فأخرج الله سبحانه وتعالى الحجر الأسود من الجنة وهو إذ ذاك أبيض ولولا ما سوده المشركين بمسهم إياه لما استشفى به ذو عاهة إلا شفي به فقال الله سبحانه وتعالى امسح يدك على الحجر بالوفاء ففعل ذلك فأمره بالسجود فسجد لله سبحانه وتعالى ثم اخرج من ظهره ذريته فبدأ بالأنبياء منهم وبدأ من الأنبياء بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فأخذ عليه العهد كما أخذه على آدم ثم أخذ العهد على الأنبياء والرسل كذلك وأن يؤمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وإن ينصروه أن أدركوا زمانه فالتزموا ذلك وشهد به بعضهم على بعض وشهد الله سبحانه وتعالى بذلك على جميعهم وأخذ بعد العهد على سائر بني آدم فسجدوا كلهم إلا الكافرين والمنافقين لم يطيقوا ذلك لصياصي
خلقت في اصلابهم ثم أمر الله سبحانه وتعالى آدم فرفع رأسه ونظر إلى ذريته فرأى الأنبياء والعلماء كالسرج والكواكب فقال يا رب من هؤلاء قال هم الأنبياء والعلماء من ذريتك فقال يا رب ومن هؤلاء الذين اراهم بيض الالوان قال هم أصحاب اليمين وقد أعددت لهم الجنة والكرامة وخلقتهم سعداء قال ومن هؤلاء الذين أراهم سودا قال هم أصحاب الشمال وقد أعددت لهم الهوان وجعلتهم أشقياء فقال يا رب لو سويت بين خلقك أجمعين فقال يا آدم خلقت الجنة وجعلت لها أهلا وخلقت النار وجعلت لها أهلا ثم اختلفت العلماء في محل أخذ هذا العهد ففي كتاب الثعلبي أنه كان في السماء وأن الله سبحانه وتعالى أخرج آدم من الجنة ولم يهبط إلى الأرض فأخذ عليه وعلى ذريته العهد هنالك وفي تاريخ الطبراني أن الله سبحانه وتعالى أهبط آدم من السماء إلى نعمان وأخذ عليه وعلى ذريته هذا العهد هنالك ونعمان واد في طريق الطائف يخرج إلى عرفات وهو مفتوح النون ويقال له نعمان الإراك لكثرته به (وَقَالَ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة: 253] الآية) الإشارة إلى من ذكرت قصصهم في السورة أو إلى كلهم المعهودين في العلم واللام استغراقية ثم فصله سبحانه وتعالى بقوله مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ بلا واسطة وهو موسى عليه الصلاة والسلام قيل ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فكلم موسى ليلة الحيرة في الطور ومحمدا ليلة المعراج في مقام النور حين كان قاب قوسين أو ادنى وقرئ كلم الله بالنصب وكالم الله إذ قد كلم الله كما أن الله كلمه ومن ثمه قيل كليم الله بمعنى مكالمه. (قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَرَادَ بِقَوْلِهِ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم) أي رفعه على سائر الأنبياء من وجوه متعددة ومراتب متباعدة ومنها أنه خص بالدعوة العامة (لأنّه بعث) أي بالحجج المتكاثرة والآيات المتعاقبة المتواترة والفضائل العلمية والفواضل العملية (إلى الأحمر والأسود) أي العرب والعجم لغلية الحمرة والبياض على ألوان العجم والأدمة والسمرة على ألوان العرب وقيل الجن والإنس، (وأحلّت له الغنائم) أي ولم تحل لأحد قبله (وظهرت على يديه المعجزات) أي الكثيرة، (وليس أحد من الأنبياء أعطى فضيلة) أي خصلة حميدة (أو كرامة) أي خارقة عادة (إلّا وقد أعطي محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم مثلها) أي مثل تلك الفضيلة أو الكرامة بل مع الزيادة لكن جنسا لا نوعا كانشقاق القمر في مقابلة انفلاق البحر لموسى عليه السلام وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى قيل وفي ابهام درجات تفخيم لجلال شأنه وتعظيم لعلي برهانه إذ هو العلم المعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين عند أرباب اليقين. (قَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْ فَضْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خاطب الأنبياء بأسمائهم) أي كيا آدم ويا نوح ويا إبراهيم ويا موسى ويا عيسى (وخاطبه بالنّبوّة والرّسالة في كتابه) أي كلامه القديم وخطابه العظيم (فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ [الأحزاب: 1] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ [المائدة: 67] ) بل وفد قال الله تَعَالَى لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً (وحكى السّمرقندي عن الكلبيّ) هو أبو المنذر هشام ابن محمد بن السائب الكلبي توفي في السنة التي مات فيها الشافعي رضي الله تعالى عنه