الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم الحياء محمود فيما يجب على الإنسان توقيه أو يكره له فعله ومذموم فيما يؤدي إلى ترك الواجب أو السنة.
فصل [وأما حسن عشرته وآدابه]
(وأمّا حسن عشرته) أي معاشرته ومخالطته مع أمته ولو لم يكونوا من عشيرته (وأدبه) الأدب طبيعي وهو ما جبل عليه الإنسان من الأخلاق السنية والأوصاف الرضية وكسبي وهو ما يكتسب من العلوم الدينية والأعمال الأخروية وصوفي وهو ضبط الحواس ومراعاة الانفاس ووهبي وهو حصول العلم اللدني وما يتعلق به من الكشف الغيبي وهو يجوز رفعه عطفا على المضاف وجره على المضاف إليه وهو الأحسن لحصول تسلط الحسن عليه وكذا قوله، (وبسط خلقه) أي نشر أخلاقه صلى الله تعالى عليه وسلم ومجمل حسن الخلق هو بسط المحيا وبذل الندا وتحمل الأذى وكمال الصدق والاتصاف بأخلاق الحق (مع أصناف الخلق) أي ليتوصل به إلى انقيادهم لدينه (فبحيث) بالفاء جواب أما أي فهو بمحل (انتشرت) أي كثرت واشتهرت (به) أي بما ذكر من الأمور الثلاثة (الأخبار الصّحيحة) وكذا الآثار الصريحة منها خبر الترمذي في شمائله (قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: فِي وَصْفِهِ عليه الصلاة والسلام أي في جملة ما منحه من الصفات الحميدة والنعوت السعيدة (كان أوسع النّاس صدرا) أي لا يمل ولا يضجر في الاحتمال مما يرد عليه من الأحوال واختلاف الخلق في الأقوال والأفعال وفي أصل الدلجي كان أجود الناس صدرا قال أي قلبا وفي رواية أوسع الناس صدرا وقال التلمساني أجود بخط المؤلف وأوسع بتصحيح العرفي انتهى لكن النسخ المعتمدة والأصول المصححة على ما قدمناه وهو الموافق لقوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وقوله تعالى أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وفسر الشراح بمعنى الانشراح والانفساح وقد ورد هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده فسئل هل لذلك من علامة فقال التجافي عن الدنيا والإقبال على العقبى والاستعداد للموت قبل نزوله (وأصدق النّاس لهجة) بفتح فسكون ويفتح أي وكان أصدقهم لسانا وبيانا وفيه وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأن الناس هم الصادقون في الأنفاس (وألينهم عريكة) أي وكان أسهلهم طبيعة سلسا منقادا هينا مطواعا (وأكرمهم عشرة) أي صحبة وخلطة. (حدّثنا أبو الحسن عليّ بن مشرّف) بفتح الراء المشددة (الأنماطيّ) بفتح فسكون نون (فيما أجازنيه وقرأته على غيره قال ثنا) أي حدثنا (أبو إسحاق الحبّال) بفتح مهملة وتشديد موحدة محدث مصر (حدّثنا أبو محمّد) بالتنوين أبدل منه (ابن النّحّاس) بتشديد الحاء المهملة يعني به عبد الرحمن بن عمر بن محمد ابن سعيد بن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب النحاس المصري (ثنا ابن الأعرابيّ) أحد من رويت سنن أبي داود عنه (حدّثنا أبو داود) أي السجستاني صاحب السنن (ثنا هشام) أي ابن خالد بن يزيد وقيل زيد بن مروان (بن مروان) أي الأرزق الدمشقي (ومحمّد بن المثنّى) على
وزن المثنى هو المقري أبو موسى الحافظ وروى عنه البخاري ونحوه (قالا) أي كلاهما (ثنا الوليد بن مسلم) وهو أحد أعلام الشام روى عنه أحمد وغيره قيل صنف سبعين كتابا (ثنا الأوزاعيّ) روى عنه قتادة ويحيى بن أبي كثير شيخاه وهو إمام أهل الشام في زمنه وكان رأسا في العلم والعبادة واختلف في بيان نسبته ذكر التلمساني أن الإمام مالكا كان يقود دابته وهو راكبها وسفيان بن عيينة يسوقها وروي أنه أفتى في سبعين الف مسألة روى عن كبار التابعين كعطاء ومكحول وعنه قتادة والزهري ويحيى بن أبي كثير وهم من التابعين وليس هو من التابعين فهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر (سمعت يحيى بن أبي كثير) بفتح فكسر مثلثة أبو نصر اليماني روى عن أنس وجابر كليهما مرسلا وعن أبي سلمة وخلق (يَقُولُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أسعد بن زرارة) بضم زاء فراءين بينهما ألف وإلى المدينة روى عن شعبة وابن عيينة وطائفة وهو أسعد بالهمز وله أخ يقال له سعد بن زرارة (عن قيس بن سعد) أي ابن عبادة وهو أبو عبد الله الخزرجي وهو صاحب الشرطة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم روى عنه الشعبي وابن أبي يعلى وطائفة وكان ضخما مفرط الطول نبيلا جميلا جوادا سيدا من ذوي الرأي والدهاء والتقدم وهو أبو قيس سيد الخزرج وأحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة وكان شريف قومه ليس في وجهه شعر ولا لحية وكانت الأنصار تقول لوددنا لو نشتري لقيس لحية بأموالنا وكان مع ذلك جميلا وكان أسود اللون توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية (قال زارنا) أي إيانا أو واحدا منا (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) إذ كان من عادته تعهد أصحابه وتفقد أحبابه إذ حسن العهد من الإيمان وتمام الإحسان (وذكر) أي قيس (قصّة) أي طويلة (في آخرها) أي وكان في آخر تلك القصة قوله (فلمّا أراد) أي النبي عليه الصلاة والسلام (الانصراف) أي الرجوع إلى منزله وكان قد جاء على رجله قصدا لزيادة أجره (قرّب) بتشديد الراء أي قدم (له) وفي نسخة إليه (سعد حمارا) أي ليركبه تلطفا إليه وترحما عليه (وطّأ) بتشديد طاء فهمز أي رحل (عليه) أي فوق الحمار (بقطيفة) أي كساء له خمل ومنه تعس عبد القطيفة الذي يعملها ويهتم بتحصيلها (فركب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) إذ الذهاب إلى العبادة حقيقة العبادة بخلاف الأياب فإنه من ضروريات العادة ومنه تشييع الأكابر إلى الجنازة مشاة ورجوعهم ركبانا (ثمّ قال سعد) أي لولده (يَا قَيْسُ اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) بفتح الحاء أي كن في صحبته وخدمته وفي أصل الدلجي أصحبه والظاهر أنه أختصار منه غير لائق به كما فعل في كثير من مواضع كتابه (قال قيس فقال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اركب) أي أنت أيضا معي أو على دابة اخرى (فأبيت) أي امتنعت تأدبا معه أو حياء منه (فَقَالَ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ) بكسر إما فيهما (فانصرفت) أي فاخترت أهون الأمرين وأحسن الحكمين والحديث رواه أبو داود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة. (وفي رواية أخرى) أي لهما أو لأحدهما أو لغيرهما (اركب أمامي) بفتح أوله أي قدامي (فصاحب الدّابّة) أي ولو بالقوة (أولى بمقدّمها)
بفتح الدال المشددة وقد تخفف بالركوب في صدرها لما جاء في طرق متعددة صاحب الدابة وحق بصدرها وفي رواية إلا من اذن وفي أصل الدلجي أي بالركوب في صدرها لما جاء في طرق متعددة صاحب الدابة أحق بصدرها وفي رواية إلا من أذن وفي أصل الدلجي أحق بصدرها قال وفي رواية أولى بمقدمها وصنيعه هذا أيضا مخالف للأصول المعتمدة والنسخ المصححة؛ (وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) كما في شمائل الترمذي من حديث هند بن أبي هالة (يؤلّفهم) بتشديد اللام أي يوقع الألفة فيما بينهم ويجمعهم كما يستفاد من قوله تعالى فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ وهو لا ينافي إسناد التأليف إلى الله تعالى في الآية بل ولو نفي التأليف ايضا في آية أخرى من قوله تعالى وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فإن الآيتين من قبيل قوله سبحانه وتعالى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أو المعنى كان يؤلفهم معه ويتألف بهم كما يشير إليه قوله تَعَالَى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ الآية ولما ورد المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف كما رواه أحمد في مسنده عن سهل بن سعد ورواه الدارقطني عن جابر ولفظه المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف (ولا ينفّرهم) بالتشديد وقيل بكسر الفاء المخففة أي لا يعمل شيئا مما ينفر عنه طباعهم فهو كالتأكيد لما قبله أو المعنى يبشرهم ولا ينفرهم لحديث يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا على ما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه (ويكرم كريم كلّ قوم) هو كالتخصيص بعد التعميم وفي حديث رواه ابن ماجة وغيره عن جماعة من الصحابة مرفوعا إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وفي رواية إذا أتاكم الزائر فأكرموه (ويولّيه) بتشديد اللام المكسور أي ويجعله واليا وأميرا (عليهم) ابقاء لما اختار والديهم (ويحذر النّاس) بفتح الذال المعجمة أي يخافهم وتفسيره قوله (ويحترس منهم) أي يحترز من مكر شرارهم لما ظهر في آثارهم فورد الحزم سوء الظن على ما رواه أبو الشيخ في الثواب عن علي كرم الله وجهه وفي رواية احترسوا من الناس بسوء الظن كما رواه الطبراني في الأوسط وابن عدي عن أنس رضي الله تعالى عنه (من غير أن يطوى) أي يدفع ويمنع (عن أحد منهم بشره) بكسر الموحدة أي بشاشة وجهه (ولا خلقه) أي ولا طلاقة خلقه وزيادة لا لمبالغة نفيها، (يتفقد) وفي نسخة يتعهد (أصحابه) أي يطلبهم ويتجسس أحوالهم بالسؤال عنهم ليعرف المانع عن خدمته وملازمة حضرته منهم فيزور مريضهم ويدعو لغائبهم (ويعطي كلّ جلسائه) أي جميع من جالسه (نصيبه) أي حظه بسلام أو كلام أو طلاقة وجه والتفات خد أو إشارة وبشارة، (لا يحسب) بكسر السين وفتحها أي لا يظن (جليسه) أي مجالسه (أنّ أحدا) أي من جلسائه (أكرم عليه) أي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (منه) أي من ذلك الجليس بحسب حسبانه لما يناله من أنواع الألفة وأصناف المودة وأجناس الكرامة، (من جالسه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لمصاحبة ومكالمة (أو قاربه لحاجة) أي دينية أو أخروية وأو للتنويع لا للترديد ومن خبرية لا شرطية وقاربه مفاعلة من
القرب بالراء والباء وتصحف على الأنطاكي فقال أو قاومه أي قام معه كما يقال جالسه إذا جلس معه (صابره) أي انتظره صلى الله تعالى عليه وسلم وحبس نفسه على ما يريد صاحبه متصبرا (حتّى يكون) أي مجالسه أو مقاربه (هو) ضمير فصل والأصح أنه لا محل له (المنصرف عنه) بالنصب على خبر كان والمعنى بالغ في صبره حتى ينصرف مجالسه من تلقاء نفسه وهذا كله لقوله تعالى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الآية (ومن سأله حاجة) أي طلب عطية (لم يردّه) بفتح الدال المشددة وتجوز ضمها لضم ما قبلها (إلّا بها) أي بالحاجة بعينها حيث قدر عليها أو بوعده لها وهو معنى قوله (أو بميسور من القول) كتسهيل رزق عملا بقوله تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ومن القول الميسور الدعاء له بتحصيلها أو بإزالة طلبها فأو على طريقة منع الخلو أي لا يخلو حاله إذا سئل عن احدهما إما عطاء ونقدا وإما دعاء ووعدا ثم قيل الميسور مصدر وقيل اسم مفعول (قد وسع النّاس) بالنصب أي عمهم وشملهم (بسطه) أي سرور ظاهره وطيب باطنه جودا ورحمة وحلما وعفوا ومغفرة وسلما أو انبساطه فقوله (وخلقه) تفسير له وعلى الأول تعميم بعد تخصيص (فصار لهم أبا) أي رحمة وشفقة وهو كما جاء في قراءة شاذة عند قوله تَعَالَى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو أب لهم مع أن كل نبي أب لأمته بل هو أفصل وأكمل تربية من الأب لولده إذ الأب سبب لإيجاده والنبي باعث لإمداده وإسعاده ويشير إليه قوله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ (وصاروا) أي الناس كلهم (عنده في الحقّ) أي في مراعاة حقهم بحسن خلقه معهم (سواء) أي مستوين لعصمته من الأغراض النفسية الحاملة على خلاف التسوية، (بهذا) أي بما ذكر من الأوصاف البهية (وصفه ابن أبي هالة) وهو هند ربيبه من خديجة، (قال) أي ابن أبي هالة (وكان) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (دائم البشر) أي متهلل الوجه وهو لا ينافي أنه كان كثير الأحزان لاختلاف الظاهر والباطن في العنوان فإنه بالظاهر مع الخلق وبالباطن مع الحق والحزن من لوازم الانكسار والذل والافتقار (سهل الخلق) أي لأصبعه (ليّن الجانب) بتشديد الياء المكسورة أي لا شديده (ليس بفظّ) أي سيىء الخلق في القول (ولا غليظ) أي في الفعل قال ابن عباس رضي الله عنهما الفظ الغليظ في القول وغليظ القلب في الفعل (ولا سخّاب) وفي رواية وكذا في نسخة بالصاد أي كثير الصياح (ولا فحّاش) أي ذا فحش في قوله وفعله، (ولا عيّاب) مبالغة عائب أي وكان لا يعيب على أحد ما يفعله من مباح وإذا كان حراما أو مكروها نهى عنه من غير تعييب وتعيير بل بقصد تبديل وتغيير قال التلمساني وهو والذي بعده فعال على النسب أي ليس بذي عيب ولا بذي مدح وليسا بفعال مبالغة للزوم بعض الأمر ومثله وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي ليس بذي ظلم وإلا لزم بعضه قلت ليس هذا نظيرهما لأنهما على النسبة يستقيم في ذي عيب لا في ذي مدح كما لا يخفى (ولا مدّاح) مبالغة مادح أي لا يبالغ في مدح أحد بما يؤدي إلى اطراء ولا يمدح طعام ولا يذمه كما جاء
في رواية لأنه كان شاكرا للنعمة لا ناظرا للذة ويؤيده قوله (يتغافل عمّا لا يشتهي) أي لا يحبه قولا وفعلا مما لا يترتب عليه إثم أصلا (ولا يؤيس) بضم ياء فسكون همزه وقد تبدل ففتح ياء من الإياس من باب الأفعال الذي هو متعد لأيس اللازم من المجرد والضمير في قوله (منه) راجع إليه صلى الله تعالى عليه وسلم والمعنى لا ييأس أحد من فيض وجوده وأثر كرمه وجوده وأما تجويز الدلجي كونه مبنيا للفاعل تبعا لبعض المحشيين وقوله والمعنى لا يؤيس من نفسه أو مما تغافل عنه أحدا بتغافله عنه بحيث لا يكون كذلك فهو مخالف لما في الأصول من صحة المبنى ومناف لما قدمناه من ظهور المعنى وجعل التلمساني قوله ولا يؤيس منه عطفا على لا يشتهى وقال أي ما لم يحضر في وقته ولم يحصله له فيه شهوة فيتركه ويغفله وإن كان مما يمكن حضوره في وقته ويوئس هو بضم أوله وسكون الواو ثم همزة مكسورة واليأس هو القنوط أي ما وجد مما يجوز له تناوله من المباح يستعمله وما لم يجده من ذلك لم يكن منه تكلف له قال ويفسر هذا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه كَانَ فِي أَهْلِهِ لَا يَسْأَلُهُمْ طَعَامًا وَلَا يشتهيه فإن أَطْعَمُوهُ أَكَلَ وَمَا أَطْعَمُوهُ قَبِلَ وَمَا سَقَوْهُ شرب الحديث انتهى وما فيه لا يخفى وقال الانطاكي بعد نقله عن الحلبي أنه ضبطه بكسر الهمزة وينبغي أن يجوز بضم أوله ثم بهمزة مفتوحة وياء مكسورة مشددة يقال آيس منه فلان مثل أيئس وكذا التأييس حكاه الجوهري انتهى وينبغي أن تكون الدراية تابعة للرواية كما لا يخفى، (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي سهلت أخلاقك لهم وكثر احتمالك عنهم والتقدير فبرحمة وما مزيدة للتأكيد كذا قالوا ولعلهم أرادوا تأكيد التعظيم المستفاد من تنوين التنكير المفيد للتفخيم ولا يبعد أن يكون ما إبهامية ورحمة تفسيرية والجمع بينهما أوقع للمراتب النفسية في إفادة القضية (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أي سيئ الخلق (غَلِيظَ الْقَلْبِ) أي قاسيه على الخلق (لَانْفَضُّوا) أي تفرقوا (مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] ) ولم ينتفعوا بقولك ولم يصيبوا من رحمتك وفضلك وطولك وأما بقية الآية وهي قوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فليست في نسخ الشفاء وإن كان شرحها الدلجي ومزجها بتفسيرها (وَقَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فُصِّلَتْ: 33] الآية) وهي تحتمل قوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ واقتصر الدلجي عليها وقد قيل في معنى هذه الآية ادفع بكلمة التوحيد سيئة الشرك ويؤيده ما بعده من قوله سبحانه وتعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ وقيل ادفع بالطاعة المعصية أي إذا أعلمت سيئة فاتبعها حسنة تمحها كما ورد في الحديث مضمونة أو ادفع بالتوبة المعصية ويحتمل قوله تعالى وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي اصفح عنها وقابلها بالحسنة التي هي أحسن مطلقا وإن كانت المعاقبة بمثلها حسنة أيضا أو بأحسن ما يمكن أن يقابل به من الحسنات ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في أمر الديانات وتمام الآية فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ
نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ولا شك أن معنى الآية الثانية هو الملائم لباب حسن الخلق في معاشرة الخلق ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جاءه أعرابي فصيح فقال اصغ إلي أوصك ثم قال:
فحي ذوي الأضغان تسلى نفوسهم
…
تحيتك الحسنى فقد ترفع الثقل
فإن هتفوا بالقول فاعف تكرما
…
وإن خنسوا عنك الكلام فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه استماعه
…
كأن الذي قالوا وراءك لم يقل
فقرأ عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فقال الأعرابي ليس هذا من كلام البشر وكان سبب إسلامه (وكان) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه ابن سعد مرسلا (يجيب من دعاه) أي ولو بعد منزل الداعي ومأواه ولم يكن له مال ولا جاه تواضعا وشفقة على خلق الله وجبرا لخواطرهم وتألفا لظواهرهم وليقتدي به أمته مع معاشرهم من معاشرهم (ويقبل الهديّة) على ما رواه البخاري أيضا رعاية لزيادة المحبة وإفادة الوصلة والمودة وتفاديا من المباغضة والمقاطعة لما ورد تهادوا تحابوا على ما رواه أبو يعلى في مسنده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وفي رواية أحمد عنه تهادوا إن الهدية تذهب وحر الصدر أي غشه (ولو كانت) أي الهدية وهي فعيلة من الإهداء (كراعا) بضم أوله وهو مستدق الساق وهو أدون من الذراع وأما قول التلمساني أي ذا كرع فمفوت للمبالغة المطلوبة وروى البيهقي عن أنس ولفظه تهادوا فإن الهدية تذهب بالسخيمة أي الحقد ولو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلى كراع لقبلت ولو هنا للتقليل كما في حديث ردوا السائل ولو بظلف محرق واتقوا النار ولو بشق تمرة والتمس ولو خاتما من حديد (ويكافىء) بكسر الفاء بعدها همز وتسهل أي يجازي (عليها) أو على الهدية وأصل المكافأة المماثلة وهو أقل حسن المعاملة وكان يكافئ بأكثر منها لما سبق عن بنت معوذ ابن عفراء ولقوله تعالى وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها على أحد التفاسير فيها من أن المراد بالتحية هي الهدية وفي رواية البخاري ويثبت عليها من الإثابة وهو مطلق المجازاة أو المجازاة الحسنى لقوله تعالى فَأَثابَهُمُ اللَّهُ. (قال أنس رضي الله تعالى عنه خدمت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عشر سنين) أي بعد الهجرة ومبدأ عمره عشر سنين أيضا (فما قال لي أفّ) بفتح الفاء وكسرها وينون الثاني وفيها لغات عشر وهذه الثلاث عن السبعة ومعناه الاستقذار والاستحقار وقال الهروي يقال لكل ما يضجر منه ويستثقل ونقل أبو حيان فيها نحو الأربعين وجها من اللغة في الارتشاف وقد نظمها السيوطي (قطّ) أي أبدا في تلك المدة (وما قال لشيء صنعته) أي فعلته (لم صنعته ولا لشيء تركته) أي ما صنعته (لم تركته) وهذا الحديث كما يدل على حسن خلقه وكمال حلمه صلى الله تعالى عليه وسلم ونظره إلى قضاء الله وقدره يدل على كمال فضيلة أنس رضي الله تعالى عنه وجمال منقبته وجميل أدبه في
خدمته مع صغر سنه لكنها كلها مستفادة من بركة ملازمته ومداومة حضرته؟ (وعن عائشة رضي الله عنها كما رواه أبو نعيم في دلائل النبوة بسند واه عَنْهَا (مَا كَانَ أَحَدٌ أَحْسَنُ خُلُقًا مِنْ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) كما قال حسان:
تراه إذا ما جئنه متهللا
…
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
(ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته) أي من أزواجه وذريته وأقاربه وأحبابه (إلّا قال لبّيك) أي تأدبا معهم وتعليما لهم وإحضارا لنداء ربه على لسان خلقه وقد ورد أدبني ربي فأحسن تأديبي على ما رواه ابن السمعاني عن ابن مسعود؛ (وقال جرير بن عبد الله) البجلي اليمني (ما حجبني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ما منعني عن الدخول عليه (قطّ) أي أبدا (منذ أسلمت) أي تلطفا معه وتعظيما بجنابه أن يرده عن بابه ويكسر خاطره بحجابه (ولا رآني إلّا تبسّم) لأنه كان مظهر الجمال مع كونه سيدا مطاعا عريض الجاه وسيع البال وقد بسط رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رداءه إكراما له. (وكان يمازح أصحابه) كما ذكره الترمذي في باب مزاحه صلى الله تعالى عليه وسلم مع أصحابه من الرجال والنساء والكبار والصغار ولذا كان ابن سيرين مداعبا ويضحك حتى يسيل لعابه وإذا أريد على شيء من دينه كان الثريا أقرب إليه من ذلك (ويخالطهم) أي تواضعا (ويحادثهم) أي يخاطبهم ويكالمهم تأنيسا (ويداعب صبيانهم) أي يلاعبهم ويمازحهم ومنه قوله لجابر هلا بكرا تداعبها وتداعبك ففي القاموس الدعابة بالضم اللعب وداعبه مازحه (ويجلسهم) بضم أوله أي يعقد صبيانهم (في حجره) بفتح الحاء وتكسر أي في حضنه تلطفا بهم وتطييبا لقلوب آبائهم (ويجيب دعوة الحرّ والعبد والأمّة) أي إذا كانا معتقين أو إذا جاآه وطلباه إلى منزل سيدهما (والمسكين) تواضعا لربه وتمسكنا لخلقه مع جلالة قدره ورفعة محله لحسن خلقه (ويعود المرضى في أقصى المدينة) أي ولو كانوا في أبعد منازلها (ويقبل عذر المعتذر) أي ولو كانت اعذاره ليست على تحققها وفي الحديث أنه قبل عذر من تخلف عن غزوة تبوك بحسب ما أبرزوا من أقوال ظواهرهم ووكل إلى الله أحوال سرائرهم، (قال أنس رضي الله تعالى عنه) كما رواه أبو داود والترمذي والبيهقي عنه (مَا الْتَقَمَ أَحَدٌ أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) بضم الذال وسكونها فيه استعارة وضع اللقمة في الفم لوضع الفم عند الأذن أي ما جعل أحد أذنه محاذية لفمه ليحادثه مخافتة (فينحّي) من التنحية أي فيبعد (رأسه) وهو في حكم المستثنى أي إلا فيستمر ملقما له أذنه غير منحي عنه وجهه (حتّى يكون الرّجل) المانقم (هو) ضمير فصل (الذي ينحّي رأسه) في محل نصب على أنه خبر كان وحتى غاية لقوله فينحي رأسه (وما أخذ أحد بيده) أي مصافحة أو مبايعة (فيرسل) أي فيطلق (يده) من وضع الظاهر موضع المضمر أي إلا فتستمر يده في يد آخذها (حتّى يرسلها الآخر) بفتح الخاء المعجمة فراء نقيض الأول وفي أصل الدلجي بكسر خاء فذال معجمة وحتى غاية لتركها حتى
يرسلها هو وهو تصحيف (ولم ير) بصيغة المجهول أي ولم بيصر حال كونه (مقدّما) بكسر الدال المهملة المشددة أي لم يعلم مقدما (ركبتيه بين يدي جليس له) أي فضلا عن أن يمد رجليه عند أحد من جلسائه وهذا كله تواضع وكمال تأدب وحسن عشرة (وكان) على ما في حديث ابن أبي هالة (يبدأ) أي يبتدىء وفي رواية يبدر بضم الدال والراء أي يبادر ويسبق (من لقيه بالسّلام) فإن هذه السنة أفضل من الفريضة لما فيه من التواضع والتسبب لأداء الواجب والضمير البارز له صلى الله تعالى عليه وسلم والضمير المستتر لمن ويحتمل العكس والأول أقرب إلى الأدب (ويبدأ أصحابه بالمصافحة) مفاعلة من الصاق صفحة الكف بالكف ويلزم منه مقابلة الوجه بالوجه عند اللقاء لأنها ملحوظة في معنى المصافحة خلافا لما يتوهم من كلام الدلجي ثم يستفاد من الحديث أن ما يفعله بعض العامة من مد الأصابع أو إشارة بعضها ليس على وجه السنة ثم رأيت التلمساني قال وصفتها وضع بطن الكف على بطن الأخرى عند التلاقي مع ملازمة ذلك على قدر ما يقع من السلام أو من السؤال والكلام أن عرض لهما وأما اختطاف اليد في أثر التلاقي فهو مكروه هذا وزاد الدلجي عن أبي ذر ما لقيته قط إلا صافحني وأسنده إلى أبي داود وهو ليس بموجود في النسخ المصححة والأصول المعتمدة (لم ير) أي كما رواه الدارقطني في غريب مالك وضعفه والمعنى لم يبصر أو لم يعلم (قطّ مادّا رجليه) أو إحديهما (بين أصحابه حتّى لا يضيق بهما على أحد) وهو كالعلة لتركه مدهما أي كان يترك مدهما حذرا من أن يضيق بهما على أحد من جلسائه شفقة عليهم وهو لا ينافي قصد تواضعه وإرادة أدبه معهم وفيه اقتباس من قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ أي ولو بلسان الحال تفسحوا في المجلس فافسحوا يفسح الله لكم، (يكرم من يدخل عليه) أي استئناسا والجملة وقعت استئنافا كما وقع ما قبلها ولعله فصلها عما قبلها حذرا من توهم كونها تتمة حديث سبقها (وربّما بسط له) أي فرش للداخل عليه (ثوبه) إكراما له منهم وائل ابن حجر الحضرمي ولعل المراد بثوبه رداؤه لقوله (ويؤثره) أي يقدمه على نفسه ويفرده (بالوسادة) أي بالجلوس عليها والاعتماد على المخدة (التي تحته) أي كانت تحته مفروشة إجلالا له وتكريما (ويعزم) أي يؤكد (عليه) أي على الداخل له (في الجلوس عليها) لدفع الوحشة وحصول المعذرة (إن أبى) أي امتنع من الجلوس عليها تأدبا لتلك الحضرة (ويكنّي) بتشديد النون (أصحابه) أي يجعل لهم كنى جمع كنية كأبي تراب وأبي هريرة وأم سلمة وهو من الكناية لما فيها من ترك التصريح بأسمائهم الاعلام وهو من آداب الكرام وأما أبو لهب فعدل عن اسمه عبد العزى كراهة لذكره أو تفاؤلا لمقره أو لاشتهاره به وأبعد من قال لتألفه (ويدعوهم بأحبّ أسمائهم) أي تارة أو المراد من الاسماء ما يعم الاعلام والألقاب والكنى والمعنى أنه لا ينبزهم بما يكرهونه بل يدعوهم بما يحبونه (تكرمة لهم) أي تكريما لهم وتعليما لهم في العمل بأصحابهم والتكرمة بكسر الراء وقول التلمساني بضم الراء وهم (ولا يقطع على أحد حديثه) أي بإدخال كلام في اثنائه قبل تمامه (حتّى يتجوّز) غاية لترك قطعه