المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل [وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم] - شرح الشفا - جـ ١

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأوّل

- ‌[المقدمة]

- ‌ترجمة القاضي عياض

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌القسم الأول [في تعظيم العلي الأعلى جل وعلا]

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عليه السلام]

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ [فِيمَا جَاءَ من ذلك مجيء المدح والثناء]

- ‌الفصل الثّاني [في وصفه تعالى بالشهادة وما تعلق به من الثناء والكرامة]

- ‌الْفَصْلُ الثَّالِثُ [فيما ورد من خطابه تعالى إياه مورد الملاطفة والمبرة]

- ‌الْفَصْلُ الرَّابِعُ [فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌الفصل الخامس في قسمه

- ‌الْفَصْلُ السَّادِسُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في جهته عليه الصلاة والسلام مورد الشفقة والإكرام]

- ‌الفصل السّابع [فيما أخبره الله بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ]

- ‌الْفَصْلُ الثَّامِنُ [فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بصلاته عليه وولايته له]

- ‌الْفَصْلُ التَّاسِعُ [فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كراماته عليه السلام]

- ‌الْفَصْلُ الْعَاشِرُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده]

- ‌الْبَابُ الثَّانِي [فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ المحاسن خلقا وخلقا]

- ‌فصل [قال القاضي رحمه الله تعالى إذا كانت خصال الكمال والجلال]

- ‌فصل [إن قلت أكرمك الله تعالى لا خفاء على القطع بالجملة]

- ‌فصل [وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ وَذَكَاءُ لُبِّهِ وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ وفصاحة لسانه واعتدال حركاته وحسن شمائله]

- ‌فصل [وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول]

- ‌فصل [وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشأه]

- ‌فصل [وأما تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثلاثة ضروب الضرب الأول]

- ‌فصل [وأما الضرب الثاني ما يتفق التمدح بكثرته والفخر بوفوره]

- ‌فصل [وأما الضرب الثالث فهو ما تختلف فيه الحالات]

- ‌فصل [وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة]

- ‌فصل [وأما أَصْلُ فُرُوعِهَا وَعُنْصُرُ يَنَابِيعِهَا وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ]

- ‌فصل [وأما الحلم]

- ‌فصل [وأما الجود]

- ‌فصل [وأما الشجاعة والنجدة]

- ‌فصل [وأما الحياء والإغضاء]

- ‌فصل [وأما حسن عشرته وآدابه]

- ‌فصل [وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق]

- ‌فصل [وأما خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في الوفاء]

- ‌فصل [وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وأما عدله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمانته وعفته وصدق لهجته]

- ‌فصل [وأما وقاره صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وأما زهده صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا]

- ‌فصل [وأما خوفه صلى الله تعالى عليه وسلم من ربه عز وجل]

- ‌فصل [اعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن صفات جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام]

- ‌فصل [قد آتيناك أكرمك الله سبحانه من ذكر الأخلاق الحميدة]

- ‌فصل [في تفسير غريب هذا الحديث ومشكله]

- ‌الْبَابُ الثَّالِثُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ ومشهورها بتعظيم قدره عند ربه عز وجل]

- ‌الفصل الأول [فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل]

- ‌فصل [في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم بما تضمنته كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ]

- ‌فصل [ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده]

- ‌فصل [إبطال حجج من قال أنها نوم]

- ‌فصل [وأما رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم لربه عز وجل]

- ‌فصل [في فوائد متفرقة]

- ‌فصل [وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَظَاهِرُ الآية من الدنو والقرب]

- ‌فصل [في ذكر تفضيله في القيامة بخصوص الكرامة]

- ‌فصل [في تفضيله بالمحبة والخلة]

- ‌فصل [في تفضيله بالشفاعة والمقام المحمود]

- ‌فصل [في تفضيله فِي الْجَنَّةِ بِالْوَسِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالْكَوْثَرِ وَالْفَضِيلَةِ]

- ‌فصل [فَإِنْ قُلْتَ إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ وصحيح الأثر]

- ‌فصل [في أسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته]

- ‌فصل [في تشريف الله تعالى له بما سماه به من أسمائه الحسنى]

- ‌فصل [قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وها أنا أذكر نكتة]

- ‌الْبَابُ الرَّابِعُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ والكرامات]

- ‌فصل [اعلم أن الله عز وجل قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ]

- ‌فصل [اعلم أن معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة]

- ‌فصل [في إعجاز القرآن العظيم الوجه الأول]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ والأسلوب الغريب]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ من الأخبار]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ القرون السالفة]

- ‌فصل [هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نزاع فيها ولا مرية]

- ‌فصل [ومنها الروعة]

- ‌فصل [وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لا تعدم ما دامت الدنيا]

- ‌فصل [وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِي الْأُمَّةِ في إعجازه وجوها كثيرة]

- ‌فصل [في انشقاق القمر وحبس الشمس]

- ‌فصل [في نبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثيره ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَفْجِيرُ الْمَاءِ ببركته وانبعاثه]

- ‌فصل [ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته]

- ‌فصل [في قصة حنين الجذع له صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [ومثل هذا وقع في سائر الجمادات بمسه ودعوته]

- ‌فصل [في الآيات في ضروب الحيوانات]

- ‌فصل [في إحياء الموتى وكلامهم]

- ‌فصل [في إبراء المرضى وذوي العاهات]

- ‌فصل [في إجابة دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [في كراماته صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ]

- ‌فصل [في عصمة الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم من الناس وكفايته من آذاه]

- ‌فصل [ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم]

- ‌فصل [ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام وكراماته وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة]

- ‌فصل [وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرَادَفَتْ]

- ‌فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مولده عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى قد أتينا في هذا الباب]

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌فصل [وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم]

أنه بلغه (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فَأَقْبَلَ أَبُوهُ من الرّضاعة) هو الحارث بن عبد العزى واختلف في إسلامه (فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَقَعَدَ عَلَيْهِ ثُمَّ أقبلت أمّه) أي حليمة (فوضع لها شقّ ثوبه) بكسر الشين أي طرفه (مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ أخوه من الرّضاعة) وهو عبد الله بن الحارث المذكور على ما هو الظاهر فيهم جميعا لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كانت له مراضع خمس وقيل ثمان (فقام صلى الله تعالى عليه وسلم فأجلسه بين يديه) أي تكريما له وتعظيما لوالديه. (وكان يبعث) أي يرسل من المدينة إلى مكة (إلى ثويبة) بضم مثلثة وفتح واو فسكون تحتية فموحدة (مولاة أبي لهب) بفتح الهاء وتسكن عمه عليه الصلاة والسلام يقال إنها أسلمت (مرضعته) بالجر بيان أو بدل لثويبة (بصلة) أي نفقة (وكسوة) قال التلمساني بضم الصاد وكسرها وكسوة بضم وبكسر وقرىء بهما في السبع انتهى ولا نعرف أحدا من القراء أنه قرأ بضم الكاف وكذا الصاد غير معروف في اللغة (فَلَمَّا مَاتَتْ سَأَلَ: مَنْ بَقِيَ مِنْ قَرَابَتِهَا فقيل لا أحد) أي ما بقي منهم أحد والحديث رواه ابن سعد عن الواقدي عن غير واحد من أهل العلم وفي الروض الأنف كان يصلها من المدينة فلما فتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح فقيل ماتا. (وفي حديث خديجة رضي الله عنها كما رواه الشيخان (أنّها قالت له صلى الله تعالى عليه وسلم أبشر) بفتح الهمزة وكسر الشين المعجمة أي استبشروا فرح ولا تحزن (فو الله لا يحزنك الله) بضم الياء وسكون الخاء المعجمة وكسر الزاء أي لا يهينك ولا يذلك ولمسلم أيضا لا يحزنك من الحزن وهو بفتح الياء وضم الزاء وبالنون أو بضم أوله وكسر ثالثه كما في بعض الروايات وبعض النسخ وقد قرئ بهما في السبعة (أبدا) أي دائما سرمدا (إنّك لتصل الرّحم وتحمل الكلّ) بفتح فتشديد أي ثقيل الحمل العاجز عن تحمل مؤنة عياله (وتكسب المعدوم) أي تصل كل معدوم من فقير محروم وفي رواية بضم أوله أي تعطي الناس الشيء المعدوم (وتقري الضّيف) بفتح أوله وكسر الراء أي تطعمهم (وتعين) أي الخلق (على نوائب الحقّ) بالإضافة البيانية إشعارا بأنها تكون في الحق والباطل قال لبيد.

نوائب من خير وشر كلاهما

فلا الخير ممدود ولا الشر لازب

وقال التلمساني المراد بالحق هو الله سبحانه وتعالى لأنه الخالق لها قال العلماء ومعنى كلام خديجة رضي الله تعالى عنها أنك لا يصيبك مكروه لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق ومحاسن الشمائل وفي هذا دلالة على أن خصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء.

‌فصل [وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم]

(وأمّا تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم) وهو هضم نفسه من الملكات المورثة للمحبة الربانية والمودة الإنسانية (على علوّ منصبه) بكسر الصاد أي مع سمو منزلته (ورفعة وثبته) أي مرتبته من تمام نبوته ونظام رسالته وفي نسخة رتبه جمع رتبة وأغرب الدلجي في

ص: 293

جعل على على صرافته وصرف عبارته إلى تمثيل تمكنه منهما واستقراره عليهما بحال من اعتلى شيئا واقتعد غاربه وغرابته لا تخفى على أرباب الصفاء (فكان أشدّ النّاس تواضعا) أي لعظم قدره وكرم أمره (وأعدمهم كبرا) كذا في الاصول المصححة ولعله أراد بأنه كان يتكبر أحيانا لظهور كبرياء الله سبحانه وتعالى فيه بالنسبة إلى بعض المتكبرين لما ورد من أن التكبر على المتكبر صدقة وفي أصل الدلجي وأعدمهم كبرا وذكر الحجازي أنه رواية والمعنى أفقدهم وهو يرجع إلى المعنى الأول لكنه باعتبار اللفظ فيه أنه لا يصاغ اسم التفضيل إلا من فعل وجودي والحاصل أنه بلغ من هذا المعنى السلبي مبلغا لا يشاركه فيه أحد ثم قال وفي نسخة وأقلهم كبرا والأولى أجود لافتقار الثانية إلى حملها على نفيه من أصله لكونه في مقام مدح له انتهى وقد ذكر عند قوله تعالى فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ أنه وصف مصدر محذوف أي إيمانا قليلا وقيل لا قليلا ولا كثيرا يقال قلما يفعل أي لا يفعل اصلا ومن استعمال القلة بمعنى النفي حديث النسائي عن ابن أبي اوفى قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو، (وحسبك) مبتدأ خبره الجملة بعده أي وكافيك (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه أحمد والبيهقي (خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا) بكسر اللام أي سلطانا (أو نبيّا عبدا) أي أو أن يكون نبيا عبدا من جملة عباد الله تعالى داخلا في الرعايا والضعفاء وسلك المساكين والفقراء (فاختار أن يكون نبيّا عبدا) أي تباعدا عما هو من شأن الملوك من التكبر والتجبر والتكاثر للخدم والترفع عن الخدمة وتقربا إلى ما هو من صفات العبيد من التقلل في الدنيا والتكثر في خدمة المولى، (فقال له إسرافيل عند ذلك) من اختيار النعت الجليل (فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَ بِمَا تَوَاضَعْتَ لَهُ) أي في هذا العالم (أنّك سيّد ولد آدم يوم القيامة) وهذا كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم من تواضع لله رفعه الله كما رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وكقوله عليه الصلاة والسلام تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبراء الله وتخرجوا من الكبر رواه أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه وقوله تواضعوا لمن تتعلمون منه وتواضعوا لمن تعلمونه ولا تكونوا جبابرة العلماء رواه الخطيب في الجامع عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقوله التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله تعالى رواه ابن أبي الدنيا ثم تقييده بقوله يوم القيام لظهور سيادته فيه عيانا لكل أحد كقوله سبحانه وتعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ مع كون الملك له مطلقا (وأوّل من تنشقّ الأرض عنه) للبعث (وأوّل شافع) أي يوم القيامة للعامة أو في الجنة لرفع درجات الخاصة لحديث مسلم أنا أول شفيع في الجنة.

(حدّثنا أبو الوليد بن العوّاد) بتشديد الواو رحمه الله جملة دعائية (بقراءتي عليه في منزله بقرطبة) بضم قاف وطاء بلد بالمغرب (سنة سبع وخمسمائة) والمقصود مما ذكره كله كمال استحضاره لروايته عنه (قال حدّثنا أبو عليّ الحافظ) أي الغساني وقد تقدم (حدّثنا أبو عمر)

ص: 294

بضم العين وهو يوسف بن عبد الله بن عبد البر بن عاصم النميري القرطبي وانتهى إليه مع إمامته علو الاسناد الدال على جلالته وترجمته مسطورة ومصنفاته مشهورة (حدّثنا ابن عبد المؤمن) وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن (حدّثنا ابن داسة) بتخفيف السين المهملة (حدّثنا أبو داود) أي صاحب السنن (حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة) صاحب التصانيف الحجة عن شريك وابن المبارك وعنه الشيخان وغيرهما قال الغلاس ما رأينا أحفظ منه وقال الذهبي في الميزان ابو بكر ممن قفز القنطرة وإليه المنتهى في الثقة (حدّثنا عبد الله بن نمير) بضم نون وفتح ميم عن هشام بن عروة والأعمش وعنه أحمد وابن معين حجة وأخرج له الأئمة الستة (عن مسعر) بكسر ميم ويفتح وبفتح عين وهو ابن كدام بن أبي سلمة الهلالي الكوفي أخذ العلم عن عطاء وغيره وعنه القطان ونحوه وله ألف حديث وهو من العباد القانتين أخرج له أئمة الستة (عن أبي العنبس) بفتح عين فسكون نون فموحدة مفتوحة فسين مهملة (عن أبي العدبّس) بفتح العين والدال المهملتين وتشديد الموحدة فسين مهملة (عن أبي مرزوق) قال ابن حيان لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به (عن أبي غالب) اختلف في توثيقه (عن أبي أمامة) أي الباهلي (قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم متوكئا) أي متحملا ومعتمدا (على عصا) أي لعارض من ضعف أو مرض (فقمنا له) أي تعظيما وتكريما (فقال) أي تواضعا (لا تقوموا) أي لي أو مطلقا (كما تقوم الأعاجم) أي بطريق الالتزام أو على سبيل الوقوف على الأقدام (يعظّم بعضهم) أي بعض تلك الجماعة (بعضا) على ما هو دأب الملوك الفخام والأكابر العظام ولا يعارضه حديث قوموا لسيدكم خطابا للأنصار حين أقبل سعد راكبا على الحمار وهو شاكي يحتاج إلى استعانة جمع في نزوله إلى محل القرار وأبعد من استدل به على استحباب القيام المتعارف بين الأنام والأقرب أن يحمل النهي على التنزيه أو خاص لطائفة العرب لأن يستمروا على عاداتهم من تكلف في مقام الأدب قال التلمساني والقيام أربعة أقسام فمحظوره القيام لمن يحب أن يقام له ومكروهه القيام لمن لا يحب أن يقام له ومجازه القيام للعالم المتواضع وحسنه القيام للقادم من سفر وإنما خشي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من فعلهم أن يتخذوه سنة وكان لا يحب التشبه بأهل الضلالة (وقال) أي تواضعا لله وترحما على خلق الله (إنّما أنا عبد) أي مشابه للعبيد في مقام التواضع وعدم التكلف والتصنع (آكل كما يأكل العبد) أي من غير سفرة وخوان وجمعه إخونة وأخوان (وأجلس كما يجلس العبد) على التراب من غير سرير وفرش حرير وفي رواية لا آكل متكئا إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وأجلس كما يجلس العبد وربما جثى على ركبتيه وربما نصب اليمنى وجلس على ظهر قدميه اليسرى وعن عبد الله بن جعفر قال رأيت في يمين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قثاء وفي شماله رطبا يأكل من ذا مرة ومن ذا مرة (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم) أيمن كمال تواضعه مع قدرته على

ص: 295

ركوب الفرس والبغل والناقة (يركب الحمار) أي وحده تارة ومع غيره أخرى كما ورد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في طريف قبا (ويردف خلفه) من الإرداف أو من الثاني بكسر الدال في الماضي وفتحها في المستقبل أي ويركب ورآه ظهره على الناقة وغيرها من أراد من أصحابه كالصديق وذي النورين والمرتضى وعبد الله بن جعفر وزيد وأسامة والفضل ومعاوية وغيرهم ممن بلغ عددهم خمسة وأربعين (ويعود المساكين) من المرضى (ويجالس الفقراء) أي ويجتنب مجالسة الأغنياء ويقول اتقوا مجالسة الموتى والمغايرة بين الفقراء والمساكين من تفنن العبارة وإن اختلف الفقهاء في الفرق بينهما في مصرف الصدقة (ويجيب دعوة العبد) أي إلى بيت سيده أو المراد به العبد المعتوق بأن يأتي بيته جبرا لخاطره وتواضعا مع ربه وامتثالا لأمره سبحانه وتعالى بقوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (ويجلس) كما في حديث هند بن أبي هالة كان يجلس (بين أصحابه) أي فيما بينهم (مختلطا بهم) لا يتخير مجلسا يترفع به عليهم بل كان من دأبه معهم أنه (حيثما انتهى به المجلس) أي وخلا فيهم المكان المؤنس (جلس) أي تواضعا له سبحانه وتعالى وإرشادا لأصحابه ليتأدبوا بآدابه. (وفي حديث عمر) أي من رواية البخاري (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا تطروني) من الإطراء وهو المبالغة في الثناء إلى حد يقع الكذب في الاثناء أي لا تجاوزوا الحد في مدحي بأن تنسبوا إلى ما لا يجوز في وصفي (كما أطرت النّصارى عيسى ابن مريم) حتى زعموا أنه ابن الله وغير ذلك (إنّما أنا عبد) أي من عبيد ربي (فقولوا عبد الله ورسوله) وفيه إيماء إلى ما قيل:

لا تدعني إلا بيا عبدها

فإنه أشرف اسمائي

والنهي إنما هو عن الإطراء لا لمطلق المدح والثناء لتقريره صلى الله تعالى عليه وسلم خديجة على مدحها له وأما حديث إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب فمحمول على المجاوزة عن الحد بالكذب ونحوه في هذا الباب كما تشير إليه صيغة المبالغة وقد أشار صاحب البردة إلى زبدة هذه العمدة بقوله:

دع ما ادعته النصارى في نبيهم

وأحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم

(وعن أنس رضي الله عنه كما رواه مسلم (أنّ امرأة) قيل لعلها أم زفر ماشطة خديجة إذ قد ورد مرسلا أنها كانت صحابية ويحتمل غيرها (كان في عقلها شيء) أي من جنون (جَاءَتْهُ فَقَالَتْ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَّةً قَالَ اجلسي يا أمّ فلان) لعل الراوي لم يعرف اسم ابنها فكنى عنه (في أي طرق المدينة) أي اجزائها (شئت) أي أردت أنت مما هو اهون عليك أو قريب إليك (أجلس إليك) أي معك أو متوجها إليك وهو مجزوم لجواب شرط فقدر بعد الأمر أي إن تجلسي أجلس إليك (حتّى أقضي حاجتك) أي من الكلام أو طلب المرام، (قال) أي أنس (فجلست فجلس النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ

ص: 296

حاجتها) من كمال تواضعه لها وملاطفته معها. (قال أنس رضي الله تعالى عنه) على ما رواه أبو داود والبيهقي (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يركب الحمار) بل عريانا أحيانا (وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ) أي زمن غزوتهم وهي عقب غزوة الخندق (راكبا على حمار مخطوم) أي في رأسه خطام وهو حبل كالزمام (بحبل من ليف) أي ورق نخل (عليه إكاف) جملة حالية من ضمير مخطوم والإكاف بكسر الهمزة أو ضمها البردعة أو ما يشد فوقها. (قال) أي أنس رضي الله تعالى عنه (وكان يدعى إلى خبز الشّعير، والإهالة) وهي بكسر الهمزة كل ما يؤتدم به من الأدهان وقيل ما أذيب من الشحم والإلية (السّنخة) بفتح السين المهملة وبكسر النون أي المتغيرة الرائحة الزنخة (فيجيب) أي من دعاه إلى ذلك. (قال) أي أنس (وحجّ صلى الله تعالى عليه وسلم على رحل) أي كور أو قتب وهو للبعير كالسرج للفرس (رثّ) بتشديد المثلثة أي خلق بال (وعليه) أي وعلى كتفه أو على رحله (قطيفة) أي كساء له خمل (ما تساوي أربعة دراهم فقال) أي مع هذا كله (اللهمّ اجعله حجّا) بفتح الحاء وكسرها على ما قرئ بهما في السبع وزيد في نسخة مبرورا (لا رياء فيه ولا سمعة) بل اجعله خالصا لوجهك الكريم (هذا) مبتدأ محذوف الخبر من اسمي فعل أمر وإشارة يورد كأما بعد للانتقال من أسلوب مقال إلى مقال آخر من الأحوال والواو بعده الحال ويذكر بعده خبره كما في قوله تعالى هذا ذِكْرُ أي تأمل هذا الصنيع الجليل والقصد الجميل يورثاك تعجبا من حجه على تلك الهيئة من التواضع والاستكانة كذا حققة الدلجي والأظهر أن يقال إنه مركب من كلمتي التنبيه والإشارة أي تنبه لهذا (وقد) أي والحال أنه قد (فتحت عليه الأرض) أي وألقت أفلاذها من ذهب وغيره من فلذاتها إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (وأهدى) كما روى مسلم عنه (في حجّه ذلك) أي عام الوداع (مائة بدنة) أي ناقة تقربا إلى ربه وإرشادا لمن يقتدى به وإيماء إلى أن ترك تكلفه في ثوبه ومركوبه لم يكن عن افتقار به وقد نقل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نحر بيده الكريمة ثلاثا وستين بقدر سني عمره وأمر عليا كرم الله وجهه بنحر البقية في يومه (ولمّا فتحت عليه مكّة) على ما رواه ابن إسحاق والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها والحاكم والبيهقي وأبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما فتحت عليه مكة (ودخلها بجيوش المسلمين) أي بأصناف منهم (طأطأ) بهمزتين أولاهما ساكنة وقد تبدل وثانيتهما مفتوحة أي خفض مفتوحة وأطرق وأرخى (على رحله) أي حال كونه راكبا فوقه (رأسه) مفعول طأطأ (حتّى كاد) أي قارب صلى الله تعالى عليه وسلم (يمسّ) بفتح الميم كقوله تعالى لا يَمَسُّهُ وقال التلمساني بضم الميم لا غير والظاهر أنه وهم منه أي يصيب برأسه أو قارب رأسه أن يمس (قادمته) أي مقدمة رحله فحتى غاية لطأطأة رأسه وقوله (تواضعا لله) مفعول لأجله وفيه إيماء إلى ما يشير إليه قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ

ص: 297

الْقَرْيَةَ إلى أن قال وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أي متواضعين لا متكبرين كالجبارين (ومن تواضعه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ) مثلث النون وبالهمزة ست لغات (ابن متّى) بفتح ميم وتشديد مثناة وهي أم يونس عليه السلام ولم يشتهر نبي بأمه غير عيسى ويونس كذا ذكره ابن الأثير في الكامل أما يونس فللغلبة وأما عيسى فلأنه لا أب له ومنه قول القائل:

ألا رب مولود وليس له أب

وذي ولد لم يلده أبوان

مشيرا إلى آدم عليه السلام ولم يلده بفتح الياء وسكون اللام وفتح الدال للضرورة وقد قيل إنه من بني إسرائيل وإنه من سبط بنيامين قال الحجازي وما ذكر في قصص الكسائي من أن متى أبوه ليس بصحيح فإن قيل ما الجمع بين قوله في صحيح البخاري لا تفضلوني على يونس ابن فلان ونسبه إلى أبيه وظاهره أن متى أبوه وأجيب بأن متى مدرج في الحديث من كلام الصحابي لبيان يونس بما اشتهر به ولما كان ذلك موهما أن الصحابي سمعه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دفع ذلك بقوله ونسبه إلى أبيه أي لا كما فعلت أنا من نسبته إلى أمه كذا ذكره الحجازي وتبعه الدلجي وغيره ولكن لا يخفى أن مثل هذا التصرف لا يجوز للراوي مع ما فيه من قلة أدب في نسبته إلى أمه لولا أنه منقول من أصله هذا ثم الحديث بهذا اللفظ غير معروف ولفظ البخاري لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى ولعل وجه تخصيصه نفيه سبحانه وتعالى عنه العزم بقوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ أو لما وقع له صلى الله تعالى عليه وسلم من المعراج العلوي وليونس عليه السلام من المعراج السفلي إيماء إلى أن الأمكنة بالإضافة إلى قرب الله تعالى على حد سواء تستوي فيه الأرض والسماء وقد أجاب العلماء عن هذا الحديث بأجوبة منها أنه قاله تأدبا وتواضعا ومنها أنه قال قبل أن يعلم أنه افضلهم فلما علم قال أنا سيد ولد آدم بل وفي البخاري أنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر ومنها أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة كما ثبت سببه في الصحيح بورود لا تفضلوني على موسى كما سيجيء ومنها أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى نقص بعضهم لا عن كل تفضيل لثبوته في الجملة كما قال تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ ومنها أنه نهى عن التفضيل في نفس النبوة لا في ذوات الأنبياء وعموم رسالتهم وزيادة خصائصهم ومزية حالاتهم وهذا معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه الشيخان (ولا تفضّلوا بين الأنبياء) وأما قوله عليه الصلاة والسلام (ولا تخيّروني على موسى) فسببه ما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي من أنه استب مسلم ويهودي قال والذي اصطفى موسى على العالمين فلطم المسلم وجهه وذكر ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسأل المسلم عنه فأخبره فقال لا تخيروني على موسى أي تخيير مفاضلة يؤدي

ص: 298

إلى مخاصمة وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه الشيخان (ونحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم) أي إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى إنما صدر عنه تواضعا لربه وهضما لنفسه لا اعترافا به في حق إبراهيم ولا في حقه فكأنه قال إذا كنت لم أشك في إحياء الله الموتى فإبراهيم بعدم الشك أولى فأثبته لهما بنفي الشك عنهما وقيل بل قال ذلك على سبيل التقديم لأبيه أي أنه لم يشك ولو شك لكنت أنا أحق بالشك منه ثم قوله رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى شاهد صدق بأن سؤاله لم يكن من قبل الشك والشبهة بل من قبل رؤية تلك الكيفية العجيبة الدالة على كمال قدرته الباهرة شوقا إلى معرفتها مشاهدة كاشتياقنا إلى رؤية الجنة معاينة والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام أراد بقوله أرني الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم ليس الخبر كالمعاينة ويدل عليه بقية الآية حيث قال تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم، (ولو لبثت) أي لو مكثت (في السّجن) فرضا وتقديرا (ما لبث يوسف) بتثليث السين مهموز أو غيره ست لغات أي مدة لبثه في السجن (لأجبت الدّاعي) وهو رسول الملك والمعنى لأسرعت إلى إجابة دعوته مبادرة إلى الخلاص من السجن ومحنته قال ذلك هضما لنفسه ورفعة لمقام يوسف ورتبته وإيثارا للأخبار بكمال تثبته وحسن نظره في بيان نزاهته وإظهار براءته وحمدا لصبره وترك عجلته وتنبيها على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا من الله بمكان لا يرام فهم بشر يطرأ عليهم من الأحوال بعض ما يطرأ على غيرهم من الأنام وأن ذلك لا يعد نقصا لهم في مقام المرام وتمام النظام (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام على ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال (للذي قال له) أي خاطبه بقوله (يا خير البريّة) بالتشديد والهمز على ما قرىء بهما في السبع أي الخليقة (ذاك إبراهيم) تعليما لأبوته وتعليما لأمته ودفعا للافتخار عن ذاته. (وسيأتي الكلام على هذه الأحاديث) أي على حل ما فيها من الاشكال الذي تقدم بعض الأجوبة عنه (بعد هذا) أي محل اليق منه (إن شاء الله تعالى) أي بيانه فيه. (وعن عائشة والحسن) أي البصري (وأبي سعيد) أي الخدري وكان حقه أن يقدم على الحسن اللهم إلا أن يراد به الحسن بن علي كرم الله وجهه لكن قاعدة المحدثين أن الحسن إذا أطلق فهو البصري (وغيرهم) أي وغير المذكورين أيضا كما رواه البخاري وغيره (في صفته) أي نعته صلى الله تعالى عليه وسلم (وبعضهم يريد على بعض) أي وبعض الرواة منهم يزيد على بعضهم بعض العبارات في تفصيل الصفات ومجمله قوله. (وكان في بيته في مهنة أهله) بفتح الميم وكسره وأنكره الأصمعي ورجحه المزي بقوله وهو أوفق لزنته ومعناه أي خدمة أهله وفي الحديث ما على أحدكم لو اشترى ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته في أهله مما يتعين عليهم رفقا بهم ومساعدة لهم وتواضعا معهم وبيانه قوله (يفلي ثوبه) بكسر اللام

ص: 299

أي يزيل قمله كراهة لوجوده وتنظيفا لوسخه لما في الشفاء لابن سبع أنه لم يقع على ثيابه ذباب قط ولم يكن القمل يؤذيه تكريما له وتعظيما فيه وروي أم حرام كانت تفلي رأسه (ويحلب شاته) بضم اللام وتكسر (ويرقع ثوبه) بفتح القاف وفي نسخة من الترقيع (ويخصف نعله) بكسر الصاد أي يخرزها ويطبق طاقا على طاق من الخصف وهو الجمع والضم ومنه قوله سبحانه وتعالى وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يطبقان ورقة على ورقة على بدنهما بالخزر أو الربط أو اللصق ومن أحسن ما قيل في مثال نعله صلى الله تعالى عليه وسلم:

أمرغ في المثال بياض شيبي

لما عقد النبي له قبالا

وما حب المثال يشوق قلبي

ولكن حب من لبس النعالا

وقال بعضهم:

يا لاحظا لمثال نعل نبيه

قبل مثال النعل لا تتكبرا

والثم له فلطا لما عكفت به

قدم النبي مروحا ومبكرا

أو لا ترى أن المحب مقبل

طللا وإن لم يلف فيه مخبرا

أقول وأنا في هذا الحال أقبل خيال المثال تعظيما لنبي ذي الجلال (ويخدم نفسه) بضم الدال وكسرها وهو تعميم بعد تخصيص ثم ذكر ما يعم نفعه له ولغيره بقوله (ويقمّ البيت) بضم القاف وكسرها وتشديد الميم أي يكنسه (ويعقل البعير) بكسر القاف أي يربط ركتبه بالعقال وهو ما يعقل به من الحبال ومنه العقل لأنه يمنع صاحبه عما يضره ويبعثه على ما ينفعه (ويعلف) بكسر اللام قيل ويضم أوله (ناصحه) أي بعيره الذي يستقي عليه الماء (ويأكل مع الخادم) أي مملوكا أو غيره وهو يشمل المذكر والمؤنث (ويعجن معها) أي مع الخادمة من الجارية وغيرها وخص العجن بها لأن الغالب أنه من عملها (ويحمل بضاعته) أي مشتراه من مأكول وغيره (من السّوق) أي إلى محله في بعض أوقاته إذ ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان له خدم يقومون بماله من المرام. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) على ما رواه البخاري في الأدب تعليقا ووصله ابن ماجه (إن) هي المخففة من المثقلة والمعنى أن الشان (كانت الأمة من إماء أهل المدينة) أي من جنسها (لتأخذ) بفتح اللام الفارقة (بيد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتنطلق به) أي تذهبه (حيث شاءت) أي من طرق المدينة وبيوتها (حتّى تقضي حاجتها) أي منه عليه الصلاة والسلام بشفاعة ونحوها. (ودخل عليه رجل) هو غير معروف (فأصابته من هيبته) أي مخافته وعظمته (رعدة) بكسر الراء أي اضطراب أو برودة (فقال له هوّن عليك) أي يسر أمرك ولا تخف (فإنّي لست بملك) أي سلطان جائر والحديث سبق إلا أنه أعاده هنا لما فيه من زيادة قوله (إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ القديد) وهو اللحم المجفف فعيل بمعنى المفعول تنبيها له على أنه مأكول

ص: 300