الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عند ربهم وهذا معنى نسخة هي محبتهم لنبيهم، (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه نسبة إلى خدرة بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة قبيلة (هي شفاعة نبيّهم محمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ شَفِيعُ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ولعل التعبير بها عن القدم لاقدامه عليها وتقدمه على سائر أهلها (وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: هِيَ سابقة رحمة أودعها في محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) يعني في أمته ببركة متابعته على وفق محبته ووجه الاختصاص مع أن الرحمة بكل أمة لاحقة على وفق سابقة لأن سبق وجوده وأثر كرمه وجوده وظهور نوره ونشر سروره مما لا يلحقه أحد من أخوانه كما أشار إليه بقوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد ثم قوله أودعها بصيغة الفاعل وهي نسخة المصنف وفي نسخة العوفي على بناء المفعول وجعله التلمساني مضارعا وهو مستقيم بإسناد الفعل إليه سبحانه وتعالى وأما قوله ويتجه إذا سقط في من الكلام ومحمد مرفوع إذ هو النائب عن الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى فكلام ساقط الاعتبار كما لا يخفى على المعربين الأخيار، (وقال محمّد بن عليّ التّرمذيّ) هو من كبار المشايخ له تصانيف في علوم القوم ومن تأليفه نوادر الأصول في الحديث بأسانيده وهو أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن بشر الزاهد المؤذن روى عن أبيه وقتيبة بن سعيد وغيرهما واعتنى بهذا الشأن ورحل فيه وروى عنه يحيى بن منصور وخلق كثير من علماء نيسابور فإنه قدمها سنة خمس وثمانين ومائتين وعاش نحوا من ثمانين سنة وهو معظم جليل علما وعملا واعتقادا عند أكابر ما وراء النهر من العلماء والسادة الصوفية لا سيما الطائفة السادة النقشبندية وتكلم على اعتقاده أبو العباس بن تيمية من أجل كتابه خاتم الولاية ولعله ما فهم مقصوده من الإشارات الخفية وقد سبق تحقيق الترمذي مبنى ومعنى ومنها أبو عيسى الحافظ الترمذي كما تقدم والله أعلم (هو) أي قدم صدق (إمام الصّادقين والصّدّيقين) بكسر الهمزة أي قدوتهم ومقتداهم أو بفتحها أي مقدمهم خلقة ورتبة وقدامهم في مقام الشفاعة كما أشار إليه بقوله (الشّفيع المطاع) أي المقبول الشفاعة ولعله عدل عن الشفيع المشفع للإيماء إلى قوله سبحانه وتعالى ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ يعني بخلاف المؤمنين فإنه لهم شفيع مطاع مع أن النفي في الآية منصب على القيد والمقيد جميعا (والسّائل المجاب) أي المستجاب في سؤاله الأعم من الشفاعة وبقية أحواله (محمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَكَاهُ عَنْهُ السُّلَمِيُّ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ [فيما ورد من خطابه تعالى إياه مورد الملاطفة والمبرة]
(فِيمَا وَرَدَ مِنْ خِطَابِهِ إِيَّاهُ مَوْرِدَ الْمُلَاطَفَةِ والمبرّة) أي في عتابه المنزل في كتابه والمورد بفتح الميم وكسر الراء محل ورود الكلام ومقصد المرام والمبرة بفتحتين وتشديد الراء بمعنى البر وهو الاتساع في الإحسان على ما في القاموس (فمن ذلك) أي من هذا القبيل (قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) معاتبة على وجه الملاطفة (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ) أي
للمنافقين حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (قال أبو محمّد المكيّ) مر الكلام عليه وفي نسخة مكي (قيل هذا) أي قوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ (افتتاح كلام) أي ابتداء كلام الله سبحانه له في كتابه عند خطابه (بمنزلة: أصلحك الله) وما صنعت في حاجتي، (وأعزّك الله) هلا شرفتني بزيارتك لي ونحو ذلك فيما يخاطب به الملوك والعظماء بتقديم الدعاء والثناء على انباء الأنباء ونظيره ما ورد في الحديث لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوني والحاصل أن العادة جارية في مقام التبجيل والإكرام لمخاطبة الكرام بنحو هذ الكلام وإن لم يكن هناك شيء من الآثام ثم التشبيه لا يقتضي المشابهة من جميع الوجوه فلا يرد أن مثل هذا الكلام إنما يكون بين المتساويين في الإقدام أو من الأدنى في مخاطبة الأعلى لا بالعكس كما لا يخفى. (وقال عون بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الهندي الكوفي الزاهد الفقيه أخو عبيد الله الذي هو أحد الفقهاء السبعة بمدينة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم روى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل روايته عن الصحابة مرسلة لكن حديثه عن ابن عمر في مسلم ولم يلحقه وعنه الزهري وأبو حنيفة وقد أخرج له مسلم والأربعة توفي في حدود ستين ومائة (أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذّنب) تسلية له في هذا الباب وملاطفة معه في مقام العتاب وقوله يخبره من باب الافعال أو التفعيل وهما بمعنى واحد وأما قول الحلبي وكأنه أراد التنويع في الكلام ليس له نتيجة في المرام لأن التشديد في هذا المقام ليس للتنويع المتفرع على التكثير بل للتعدية كما صرح به صاحب القاموس والجوهري في التقرير (وحكى السّمرقنديّ) أي أبو الليث (عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ عَافَاكَ اللَّهُ يَا سليم القلب) أي عن ذكر غير الرب كما فسر به قوله تعالى إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (لم أذنت لهم، قال) أي السمرقندي أو بعضهم المنقول عنه ما تقدم (ولو بدأ) بالهمزة أي ابتدأ الله (النّبيّ) أي له (صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة ولو بدأه (بِقَوْلِهِ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] لَخِيفَ عَلَيْهِ أن ينشقّ قلبه) أي ينصدع وينقطع (من هيبة هذا الكلام) أي المشعر بأنه وقع في الآثام، (لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو) أي مبتدئا بالمسامحة عن إجازته (حتّى سكن قلبه) أي وسلم من الدهش لبه وفي نسخة يسكن قلبه وفي بعض النسخ بتشديد الكاف فقلبه منصوب، (ثُمَّ قَالَ لَهُ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بِالتَّخَلُّفِ) أي عن غزوة تبوك (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الصَّادِقُ فِي عُذْرِهِ مِنَ الكاذب؟) أي في عذره لما حكي عن مجاهد أن بعضهم قالوا في غزوة تبوك نستأذنه في الإقامة إن أذن لنا أقمنا وإن لم يأذن لنا أقمنا واعتذرنا له بعد ذلك بعذر يقبله منا (وفي هذا) أي الخطاب في مقام العتاب وفي نسخة وهذا (من عظيم منزلته عند الله تعالى ما لا يخفى على ذي لبّ) أي صاحب عقل سليم من وهم سقيم، (ومن إكرامه إيّاه وبرّه به) أي إنعامه له (مَا يَنْقَطِعُ دُونَ مَعْرِفَةِ غَايَتِهِ نِيَاطُ الْقَلْبِ) بكسر النون عرق من الوتين ينوط القلب به من
جانب الصلب إذا قطع مات صاحبه وقال بعض المفسرين هو الوريد ويروى في غير الشفاء مناط القلب، (قال نفطويه) بكسر نون وسكون فاء وفتح طاء مهملة وواو فسكون تحتية فهاء مكسورة وفي نسخة بضم الطاء وسكون الواو وفتح الياء والتاء المنقلبة عنها الهاء وقفا على وفق القياس وقيل بسكون الهاء وصلا أيضا ويؤيده ما ذكره ابن الصلاح أن أهل العربية يقولون فيه وفي نظائره بواو مفتوحة مفتوح ما قبلها ساكن ما بعدها ومن ينحو بها نحو الفارسية يقولها بواو ساكنة مضموم ما قبلها مفتوح ما بعدها وآخرها هاء على كل قول والتاء خطأ وسمعت الحافظ أبا محمد عبد القادر بن عبد الله يقول سمعت الحافظ ابا العلاء يقول أهل الحديث لا ينحون وبه أي يقولون نفطويه مثلا بواو ساكنة تفاديا من أن يقع في آخر الكلام وبه انتهى وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي النحوي الواسطي ظاهري المذهب له التصانيف الحسان في الآداب توفي سنة ثلاث وثلاثمائة ببغداد ودفن بباب الكوفة:(ذهب ناس) أي من المفسرين (إلى أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم معاتب بهذه الآية) بصيغة المفعول (وحاشاه من ذلك) أي هو منزه عن أن يعاتب أو ينسب إليه ذنب، (بل كان مخيّرا) ضبط بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الموحدة في حاشية الحلبي وهو تصحيف وتحريف فالصواب أنه بتشديد التحتية المفتوحة أي مختارا بين الأذن وعدمه إذ لم يتقدم له في ذلك نهي من الله سبحانه كما ذكره الزمخشري وأقول بل التخيير مصرح به في قوله تعالى فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، (فلمّا أذن لهم) أي في هذه القضية وفي نسخة فلما أن أذن (أعلمه الله تعالى) بما اضمروه مما هو من دأبهم (أنّه لو) وفي نسخة أن (لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم) أي وظهر خلافهم وتحقق شقاقهم، (وأنّه لا حرج) أي لا إثم (عليه في الإذن لهم) زاد القشيري بعد ذكر هذا المعنى في تبيين المبنى أن عفا ههنا ليس بمعنى غفر بل كما قال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخيل والرقيق وهي لم تجب عليهم قط فكذلك قوله تعالى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ أي لم يلزمك ذنب وَإِنَّمَا يَقُولُ الْعَفْوُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذنب من لم يعرف كلام العرب انتهى ولعل الأولى أن يقال وقع العتاب ولا يلزم من العتاب تحقق العقاب المحتاج إلى العفو وإنما هو بيان أن عدم إذنهم كان أصلح بخصوص شأنهم لفضاحة حالهم وخزية مآلهم خلاف ما اختاره صلى الله تعالى عليه وسلم من الأخذ برضاهم بدناءة أفعالهم استبقاء لهم على أحوالهم واعتمادا على الله في إدبارهم وإقبالهم. (قال الفقيه القاضي وفّقه الله تعالى) أي المصنف (يجب على المسلم) أي الكامل (المجاهد نفسه) أي في مرضاة ربه (الرّائض بزمام الشّريعة خلقه) بضمتين ويسكن الثاني وهو منصوب والمراد به تدريبه وتمرينه بما شرعه الله إلينا من أنواع تهذيبه والرائض بهمزة مكسورة اسم فاعل من رضت المهر أروضه رياضة ذللته وجعلته طوع إرادتك والزمام بالكسر بمعنى اللجام وهو مستعار للأحكام (أن يتأدّب بأداب القرآن) أي من المستحسنات كما قال الله تعالى وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وفي نسخة بآداب القرآن فهو مصدر بمعنى المفعول أي بما يتأدب به منه (في قوله وفعله) أي مع الحق فيتسم بالعدل والصدق في معاملاته، (ومعاطاته) أي عطائه وأخذه ومناولاته، (ومحاوراته) بالحاء المهملة أي مخاطباته ومجاوباته ومراجعاته ومعارضاته مع الخلق فإن الصالح من قام بحقوق الله وحقوق العباد وكلها مستفاد من القرآن على أحسن البيان ولذا لما قيل لعائشة رضي الله تعالى عنها عن خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم قالت كان خلقه القرآن تعني كان يمتثل لمأموراته ويجتنب عن منهياته وفيه إيماء إلى أنه لا يكون كمن قال لاخيه وهو يحاوره أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً مفتخرا بذلك متغررا به كافرا لنعمة ربه معرضا نفسه لسخطه مستوليا عليه حرصه متماديا في غفلته تاركا نظره في عاقبته ولعمري إن أكثر الأغنياء الأغبياء وإن لم يلهجوا بنحوه فألسنة أحوالهم ناطقة مع شهود أفعالهم، (فهو) أي القرآن (عنصر المعارف الحقيقيّة) أي اساسها ومنبعها من الأمور العلمية والأحوال العملية بضم العين والصاد وبفتح الأصل (وروضة الآداب الدّينيّة والدّنيويّة) أي المحتاج إليها في أمور الدين والدنيا مما له تعلق بأمر العقبى وطريق المولى لقوله تعالى وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ والعجب كل العجب من المؤمن بالكتاب والسنة المبينة للخطاب أن يعدل عن تعلمهما والعمل بهما مع أن بعضهما فرض عين خاصة ومنهما فرض كفاية عامة وهو يقدم عليهما اكتساب العلوم المذمومة أو المباحة من المنطق والكلام والهيئة والحساب والفلسفة ودقائق العربية وغيرهما مما كان السلف لم يتداولوها ولم يتناولوها بل طعنوا فيها وفي من قبل عليها، (وليتأمّل) أي وليتدبر المسلم المذكور (هذه الملاحظة العجيبة) أي والمخاطبة الغريبة الكائنة (في السّؤال) أي سؤاله سبحانه وتعالى بصورة الاستفهام عنه عليه الصلاة والسلام (من ربّ الأرباب) أي المنزه عن المناسبة بينه وبين ما خلق من التراب (المنعم على الكلّ) أي عموما وخصوصا (المستغني عن الجميع) أي جميع العباد والسعداء والاشقياء أو عن عبادة جميعهم هذا قال الجوهري كل وبعض معرفتان ولم يجيئا عن العرب بالألف واللام وهو جائز لأن فيهما معنى الإضافة أضيفت أو لم تضف انتهى وقال ابن فارس كل اسم موضوع للإحاطة يكون مضافا أبدا إلى ما بعده وقد صرح الزجاج بقوله بدل البعض من الكل كما حكاه عنه أبو حيان (ويستثر) بفتح التحتية وسكون المهملة وفتح الفوقية وكسر المثلثة من ثار الشيء إذا ارتفع وانتشر واستثاره طلب ظهوره ويروى ويتبين وجعله الحجازي أصلا كما في نسخة والظاهر أن يكون مجزوما للعطف على يتأمل كما جزم به الدلجي ويجوز رفعه كما في نسخة أي يظهر وينشر ويبحث ويستخرج (ما فيها) أي في هذه الملاطفة العجيبة (من الفوائد) أي المنافع الغريبة، (وكيف) أي ومن جملتها أن يعلم أنه سبحانه وتعالى كيف (ابتدأ) أي في الخطاب (بالإكرام) أي بتعظيمه بقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ مصدرا في الكتاب (قبل العتب) بفتح وسكون
أي قبل بيان العتاب، (وآنس) بالمد وفي نسخة بالفتح والشد وأصل الإيناس ضد الإيحاش فالمعنى كيف اذهب وحشة الإنس وأظهر لذة الإنس من حضرة القدس (بالعفو) أي بذكره (قبل ذكر الذّنب) من إضافة المصدر إلى مفعوله وفي نسخة قبل ذكره الذنب وجعله الحجازي أصلا والآخر رواية والمراد الذنب باعتبار الصورة الظاهرة المأخوذة من المعاتبة المعبر عنها بخلاف الأولى لما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين من حيث الغفلة في تلك الحالة عن مشاهدة المولى ولذا استدركه المنصف بقوله (إن كان) أي بالفرض والتقدير (ثمّ) بالفتح فالتشديد أي هناك (ذنب) والمعنى أنه لا ذنب هناك حقيقة وإنما وقع في صورة المعتبة، (وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء: 74] ) المعنى ولولا ثبوت تثبيتنا إياك لقد قاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا من أدنى الميل إذ ذاك لكن امتنع قرب ميلك وهواك لوجود تثبيتنا إياك ونظيره لو لاك لما خلقت الافلاك وهذا لأن لولا حرف امتناع للشيء لوجود غيره وأن مع الفعل في تأويل المصدر والجملة في محل الرفع على الابتداء والخبر محذوف لعلم السامع به واللام جواب لو كقولهم لولا زيد أي موجود لهلك عمرو والمحققون يقدرون مضافا قبل المبتدأ ليستغنى به عن تقدير الخبر مع قيام لو مقامه واختلفوا في سبب نزول الآية فقيل وهو المحكي عن مجاهد وابن جبير أن قريشا قالوا لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تمس أوثاننا فخطر في باله أن يفعل ليتمكن من استلام الحجر في مآله وقيل في استدعاء الأغنياء طرد الفقراء وقيل غير ذلك وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين. (قال بعض المتكلّمين) أي من جملة المفسرين (عاتب الله الأنبياء) أي كآدم ونوح وداود عليهم الصلاة والسلام (بعد الزّلّات) أي العثرات الصورية والخطرات البشرية الضرورية فإن الزلة ما صدر من سالك الطريقة من غير قصد المخالفة، (وعاتب نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم قبل وقوعه) أي قبل وقوع الزلل وحصول الخلل (ليكون) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بذلك) أي بسبب ذلك العتاب على وجه الاهتمام (أشدّ انتهاء) أي عن المخالفة، (ومحافظة لشرائط المحبّة) أي وأكثر مراعاة لشرائط المودة من الموافقة والمتابعة في الطاعة، (وهذه) أي الحالة (غاية العناية) أي ونهاية الرعاية في الحماية فإن المعاتبة إنما تكون على حسب المكانة أما ترى أن الله تعالى أخذ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمثاقيل الذر لقربهم عنده وحضورهم وتجاوز عن العامة أمثال الجبال لمكان بعدهم وغيبتهم فإن الزلة على بساط الآداب ليست كالذنب على الباب كما لا يخفى على أولي الألباب، (ثمّ انظر) أي أيها الناظر بعين الاعتبار وتفكر فيما يشار إليه من علو المقدار لأحمد المختار صلى الله تعالى عليه وسلم (كيف بدأ) أي الله (بثباته) أي على الموافقة (وسلامته) أي من المخالفة (قبل ذكر ما عتبه عليه) وفي نسخة عاتبه عَلَيْهِ، (وَخِيفَ أَنْ يَرْكَنَ إِلَيْهِ، فَفِي أَثْنَاءِ عتبه براءته، وفي طيّ تخويفه) أي في ضمن إخافته (تأمينه) أي جعله مأمونا من المخالفة
(وكرامته) أي بالثبات على الموافقة، (ومثله) أي في هذا المعنى. (قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ) أي الشان (لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) قرأ نافع من أحزنه يحزنه والباقون من حزنه يحزنه بفتح الزاي في الماضي وضمها في الغابر وكلاهما متعديان بمعنى واحد وأما حزن يحزن من باب علم فهو لازم فاعلم والزم والمعنى بالتحقيق أو في بعض أوقاتك من التضييق نعلم أن الشأن ليوقعك في الحزن ما يقولون في شأننا أو في حق القرآن أو في كقوله تَعَالَى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام: 33] ) بالتشديد للجمهور وبالتخفيف لنافع والكسائي والمعنى لا ينسبونك إلى الكذب ولا يتهمونك به ولا ينكرون أمانتك وديانتك أو لا يكذبونك في الحقيقة (الآية) أي ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون يعني ينكرونها أو ينكرون عليك بسبب اتيان آياتنا فقط وفي هذا نوع تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وتهديد لهم ولكن لم يظهر لإيرادها وجه مناسبة ولا جهة ملائمة لما نحن فيه من مرتبة المعاتبة وقضية الملامة (قال عليّ كرم الله وجهه) كما رواه الترمذي وصححه الحاكم، (قال أبو جهل للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: إنّا لا نكذّبك) أي في الصدق والأمانة، (ولكن نكذّب ممّا جئت به) أي من القرآن الدال على التوحيد والديانة، (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَامِ: 33] الآية) وفي نسخة فنزلت وإنما هو شهادة من الله تعالى له بالصدق والديانة وبيان أن هذا مما اتفق عليه الأمة عامة (وروي أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: لمّا كذّبه) وفي نسخة أكذبه (قومه حزن) بكسر الزاء أي اغتم (فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ: مَا يُحْزِنُكَ؟) بالوجهين السابقين فقال: (كَذَّبَنِي قَوْمِي.
فَقَالَ: إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ) يعني لكن جئت بشيء ليس لغرضهم موافقا، (فأنزل الله تعالى الآية) أي المتقدمة قال الدلجي وحديث جبريل هذا أورده بصيغة روي ولم أعرف من رواه، (ففي هذه الآية منزع) بفتح ميم فسكون نون وفتح زاء أي مأخذ ومشرع (لَطِيفُ الْمَأْخَذِ مِنْ تَسْلِيَتِهِ تَعَالَى لَهُ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي بإذهاب حزنه وجلب أنسه، (وإلطافه به) بكسر الهمزة أي إكرامه (في القول) أي في قوله، (بأن قرّر عنده) أي بما اطمأنت به نفسه (أَنَّهُ صَادِقٌ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَذِّبِينَ لَهُ) أي في الحقيقة بل مكذبين لنا أو غير مكذبين في الباطن، (لأنهم معترفون بصدقه قولا واعتقادا، وقد كانوا) أي عامة المشركين (يسمّونه) سماه وأسماه بمعنى والمراد هنا يصفونه ويعدونه (قبل النّبوّة الأمين) أي من الأمانة في القول والفعل والعهد والوعد ضد الخيانة، (فدفع) أي الله سبحانه وتعالى (بهذا التّقرير) أي المذكور في الآية بالتحرير وهو في أصل المصنف بالراءين وجعل التلمساني اصله بالدال بعد القاف بمعنى الفرض والتصوير قال وبالراء بمعنى تبيينه وتمهيده وكل منهما قريب من الآخر فتدبر (ارتماض نفسه) أي اقلاقها وإحراقها (بسمة الكذب) بكسر السين أي بوسمته وعلامته من الوسم وأصلها في المكي للأمارة والكذب بفتح فكسر هو الأفصح ويجوز بكسر فسكون وهو أنسب إذا قوبل بالصدق للمشاكلة اللفظية كما قال به
بعض أرباب العربية في الأبواب الأدبية، (ثمّ جعل) أي الله سبحانه وتعالى (الذّمّ لهم بتسميتهم) أي بتسميته إياهم (جاحدين) أي منكرين عنادا (ظالمين) أي بوضع التكذيب موضع التصديق (فَقَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] فحاشاه) أي نزهه سبحانه وتعالى (من الوصم) أي العيب وهو بسكون الصاد وضبط في حاشية بكسر الصاد وهو وهم لأنه حينئذ وصف لا مصدر ولا وجه له هنا، (وطوّقهم) أي الزم أطواقهم في أعناقهم (بالمعاندة) أي بسبب المناظرة على وجه العناد (بتكذيب الآيات) متعلق بالمعاندة (حقيقة المعاندة) منصوب على المفعول الثاني لطوق وفي بعض النسخ حقيقة للظلم أي تحقيقا للظلم، (إِذِ الْجَحْدُ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ عَلِمَ الشَّيْءَ ثُمَّ أَنْكَرَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] ) أي تعديا وتكبرا ونصبهما على العلة لجحدوا والجملة بينهما معترضة بالحالية لا يقال إن الجحد بمعنى الإنكار في الماضي مطلقا كما هو مقرر في علم التصريف فوجود العلم يؤخذ من جملة واستيقنتها لأنا نقول الجحد في اللغة هو الإنكار مع العلم كما صرح به صاحب القاموس ففي الآية تجريد أو تأكيد ثم حاصل كلام المصنف رحمه الله تعالى أن الجمع بين الأمرين وهو نفي تكذيبهم وإثبات جحدهم أنهم كانوا غير مكذبين له بقلوبهم فإنهم يعلمون صدقه في كل قضية ولكنهم جحدوا بناء على عنادهم كما تدل عليه الآية الثانية وهذا تأويل حسن ومسلك مستحسن ويصححه ما روي إِنَّ الْأَخْنَسَ بْنَ شُرَيْقٍ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا الْحَكَمِ أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا غيري وغيرك فقال له وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش وقيل وجه ثان في الجمع بينهما وهو أن يكون معنى الآية إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم لما أصروا على تكذيبك مع ظهور المعجزات الخارقة على وفق دعواك لم يكذبوك وإنما كذبوني أنا وهذا كما يقول القائل لرجل أهان عبدا له أنك لم تهن عبدي وإنما اهنتني وهنا وجه ثالث وهو أن الظالمين ما خصوك بالتكذيب بل عم تكذيبهم لسائر المرسلين ويلائمه ما ذكره المصنف بقوله (ثمّ عزاه) بتشديد الزاء أي سلاه وصبره (وآنسه) بالضبطين أي سكنه وأزال وحشته (بما ذكره عمّن قبله) أي من الأنبياء (ووعده النّصر) أي على الأعداء (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام: 34] الآية) يعني فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ. (فمن قرأ لا يكذبونك بالتّخفيف) وهو نافع والكسائي، (فمعناه لا يجدونك كاذبا) فهو من باب ابخلته وجدته بخيلا (وقال الفرّاء) بتشديد الراء وهو الإمام النحوي اللغوي الكوفي مات سنة سبع ومائتين في طريق مكة ولم يكفه يعمل الفرو ولا يبيعها وإنما قيل له ذلك لأنه يفري الكلام أي يصنعه ويأتي بالعجب منه (والكسائيّ) بكسر الكاف لأنه كان ملتفا بكساء
عند قراءته على حمزة وقيل لأنه أحرم بكساء وهذا القول جزم به أبو عمرو الداني في التيسير ونظمه الشاطبي في كتابه وهو أحد القراء السبعة والإمام في النحو واللغة من أهل الكوفه روى عن أبي بكر بن عياش وحمزة الزيات وابن عيينة وغيرهم وعنه الفراء وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهما توفي سنة تسع وثمانين ومائة بالري وقيل بطوس والحاصل أنهما قالا في معنى لا يكذبونك بالتخفيف: (لا يقولون إنّك كاذب) فيكون معناه النسبة كالإكفار والتكفير وهو أنسب للجمع في المعنى بين القراءتين، (وقيل لا يحتجّون) أي لا يستدلون (على كذبك ولا يثبتونه) أي شبهة فضلا عن حجة وهو راجع إلى قولهما في المعنى وإن اختلف في المبنى، (ومن قرأ بالتّشديد) وهم الباقون، (فَمَعْنَاهُ لَا يَنْسِبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ، وَقِيلَ لَا يعتقدون كذبك) وهو خلاصة المعنيين وزبدة القراءتين (وممّا ذكر من خصائصه) أي الدالة على زيادة قدره (وبرّ الله تعالى به) أي اكرامه له من بين أصفيائه (أنّ الله تعالى خاطب جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) أي المذكورين في القرآن (بأسمائهم) أي بأعلامهم دون أوصافهم الدالة على إعظامهم (فقال يا آدم) أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، (يا نوح) اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا، (يا إبراهيم) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا، (يا موسى) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ، (يا داود) إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً، (يا عيسى) إِنِّي مُتَوَفِّيكَ، (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وأمثال ذلك، (ولم يخاطب) بفتح الطاء ويروى ولم يخاطبه كذا ذكره الحجازي لكن لا يلائمه قوله (هو) ولعله غير موجود في تلك الرواية (إِلَّا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يا أيّها المزّمّل يا أيّها المدّثر) يعني فهذا كله دال على رفعة منزلته عنده فإن السيد إذا دعا أحد عبيده بأوصافه المرضية وأخلاقه العلية ودعا غيره باسمه العلم الذي لا يشعر بوصف من الأوصاف الجلية دل على أن عزته عنده أكثر من غيره كما في عرف المخاطبة وآداب المحاورة ومعنى المزمل وأصله المتزمل المتغطي بالثوب وكذا المدثر لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها حين رجع من غار حراء بعد ما حاوره الملك ما حاوره زملوني زملوني وفي رواية أخرى دثروني دثروني على ما ورد في الصحيح وإنما خوطب بالمزمل في هذا والمدثر في هذا المقام للملاطفة والتأنيس إذ من عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمي المخاطب باسم تشتقه من الحالة التي هو فيها كقوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة قم يا نومان ولعلي بن أبي طالب وقد نام في التراب قم يا أبا تراب هذا بحسب دلالة الخطاب ومن ذلك أنه تعالى منع الخلق صريحا أيضا في الكتاب لسد هذا الباب حيث قال لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً وقد قال كثير من العلماء أي لا تقولوا يا محمد يا أحمد ونحوهما ولكن قولوا يا رسول الله يا نبي الله وإن مناداته عليه الصلاة والسلام بأسمائه الاعلام من نوع الحرام في الأحكام.