المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل العاشر [فيما أظهره الله تعالى في كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده] - شرح الشفا - جـ ١

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأوّل

- ‌[المقدمة]

- ‌ترجمة القاضي عياض

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌القسم الأول [في تعظيم العلي الأعلى جل وعلا]

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عليه السلام]

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ [فِيمَا جَاءَ من ذلك مجيء المدح والثناء]

- ‌الفصل الثّاني [في وصفه تعالى بالشهادة وما تعلق به من الثناء والكرامة]

- ‌الْفَصْلُ الثَّالِثُ [فيما ورد من خطابه تعالى إياه مورد الملاطفة والمبرة]

- ‌الْفَصْلُ الرَّابِعُ [فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌الفصل الخامس في قسمه

- ‌الْفَصْلُ السَّادِسُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في جهته عليه الصلاة والسلام مورد الشفقة والإكرام]

- ‌الفصل السّابع [فيما أخبره الله بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ]

- ‌الْفَصْلُ الثَّامِنُ [فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بصلاته عليه وولايته له]

- ‌الْفَصْلُ التَّاسِعُ [فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كراماته عليه السلام]

- ‌الْفَصْلُ الْعَاشِرُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده]

- ‌الْبَابُ الثَّانِي [فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ المحاسن خلقا وخلقا]

- ‌فصل [قال القاضي رحمه الله تعالى إذا كانت خصال الكمال والجلال]

- ‌فصل [إن قلت أكرمك الله تعالى لا خفاء على القطع بالجملة]

- ‌فصل [وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ وَذَكَاءُ لُبِّهِ وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ وفصاحة لسانه واعتدال حركاته وحسن شمائله]

- ‌فصل [وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول]

- ‌فصل [وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشأه]

- ‌فصل [وأما تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثلاثة ضروب الضرب الأول]

- ‌فصل [وأما الضرب الثاني ما يتفق التمدح بكثرته والفخر بوفوره]

- ‌فصل [وأما الضرب الثالث فهو ما تختلف فيه الحالات]

- ‌فصل [وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة]

- ‌فصل [وأما أَصْلُ فُرُوعِهَا وَعُنْصُرُ يَنَابِيعِهَا وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ]

- ‌فصل [وأما الحلم]

- ‌فصل [وأما الجود]

- ‌فصل [وأما الشجاعة والنجدة]

- ‌فصل [وأما الحياء والإغضاء]

- ‌فصل [وأما حسن عشرته وآدابه]

- ‌فصل [وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق]

- ‌فصل [وأما خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في الوفاء]

- ‌فصل [وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وأما عدله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمانته وعفته وصدق لهجته]

- ‌فصل [وأما وقاره صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وأما زهده صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا]

- ‌فصل [وأما خوفه صلى الله تعالى عليه وسلم من ربه عز وجل]

- ‌فصل [اعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن صفات جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام]

- ‌فصل [قد آتيناك أكرمك الله سبحانه من ذكر الأخلاق الحميدة]

- ‌فصل [في تفسير غريب هذا الحديث ومشكله]

- ‌الْبَابُ الثَّالِثُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ ومشهورها بتعظيم قدره عند ربه عز وجل]

- ‌الفصل الأول [فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل]

- ‌فصل [في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم بما تضمنته كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ]

- ‌فصل [ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده]

- ‌فصل [إبطال حجج من قال أنها نوم]

- ‌فصل [وأما رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم لربه عز وجل]

- ‌فصل [في فوائد متفرقة]

- ‌فصل [وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَظَاهِرُ الآية من الدنو والقرب]

- ‌فصل [في ذكر تفضيله في القيامة بخصوص الكرامة]

- ‌فصل [في تفضيله بالمحبة والخلة]

- ‌فصل [في تفضيله بالشفاعة والمقام المحمود]

- ‌فصل [في تفضيله فِي الْجَنَّةِ بِالْوَسِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالْكَوْثَرِ وَالْفَضِيلَةِ]

- ‌فصل [فَإِنْ قُلْتَ إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ وصحيح الأثر]

- ‌فصل [في أسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته]

- ‌فصل [في تشريف الله تعالى له بما سماه به من أسمائه الحسنى]

- ‌فصل [قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وها أنا أذكر نكتة]

- ‌الْبَابُ الرَّابِعُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ والكرامات]

- ‌فصل [اعلم أن الله عز وجل قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ]

- ‌فصل [اعلم أن معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة]

- ‌فصل [في إعجاز القرآن العظيم الوجه الأول]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ والأسلوب الغريب]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ من الأخبار]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ القرون السالفة]

- ‌فصل [هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نزاع فيها ولا مرية]

- ‌فصل [ومنها الروعة]

- ‌فصل [وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لا تعدم ما دامت الدنيا]

- ‌فصل [وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِي الْأُمَّةِ في إعجازه وجوها كثيرة]

- ‌فصل [في انشقاق القمر وحبس الشمس]

- ‌فصل [في نبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثيره ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَفْجِيرُ الْمَاءِ ببركته وانبعاثه]

- ‌فصل [ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته]

- ‌فصل [في قصة حنين الجذع له صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [ومثل هذا وقع في سائر الجمادات بمسه ودعوته]

- ‌فصل [في الآيات في ضروب الحيوانات]

- ‌فصل [في إحياء الموتى وكلامهم]

- ‌فصل [في إبراء المرضى وذوي العاهات]

- ‌فصل [في إجابة دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [في كراماته صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ]

- ‌فصل [في عصمة الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم من الناس وكفايته من آذاه]

- ‌فصل [ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم]

- ‌فصل [ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام وكراماته وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة]

- ‌فصل [وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرَادَفَتْ]

- ‌فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مولده عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى قد أتينا في هذا الباب]

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌الفصل العاشر [فيما أظهره الله تعالى في كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده]

‌الْفَصْلُ الْعَاشِرُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده]

(فيما) أي في ذكر ما (أظهره الله تعالى في كتابه العزيز) أي المنيع الذي لا يعتري ساحة عزه إبطال وتحريف أو الكثير النفع العديم النظير اللطيف (من كرامته عليه ومكانته عنده) الأولى لديه (وما) أي وفي بيان (خصّه به من ذلك) أي الإكرام (سوى ما انتظم) أي غير ما دخل (فيما ذكرناه قبل) هو مبني على الضم مقطوع عن الإضافة أي قبل ذلك في الفصول السابقة من الفضائل المتقدمة (من ذلك) أي الذي أكرم به ولم ينتظم فيما ذكره قبل (ما نصّه الله تعالى) أي صرحه وفي نسخة قصه (من قصّة الإسراء في سورة سبحان) وفي نسخة في قصة الإسراء من سورة سبحان وهي غير صحيحة، (والنّجم) أي وفي سورته وقد سبق الكلام عليه، (وما انطوت) أي ومن ذلك ما اشتملت (عليه القصّة) أي القضية (من عظيم منزلته وقربه) أي قرب مكانته المفهوم من قوله تعالى دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (ومشاهدته) أي مطالعته (ما شاهد من العجائب) أي ما رآه من الغرائب المستفاد من قَوْلِهِ تَعَالَى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى كرؤية الأنبياء وتمثلهم له ووقوفه على مقاماتهم وعجائب الملكوت وغرائب الجبروت ومشاهدة الملائكة المقربين وحملة العرش والكروبيين ورؤية العرش المحيط بالسموات والأرضين ورؤية رب العالمين مع كون ذهابه وإيابه في برهة من الليل مسيرة ما لا يعلمه أحد من المهندسين وقد ورد أن ما بين الأرض وسماء الدنيا مسافة خمسمائة عام وكذا ما بين كل سماء وسماء وكذا غلظ كل سماء وجميع السموات والأرضين بجنب الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة وهو بجنب العرش كحلقة ملقاة في فلاة وقد تعجب قريش من ذلك وأحالوه ولا استحالة فيه عند أرباب العقول إذ ثبت عند الحكماء في علم الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ومع ذلك فطرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ساعة وقد حكم علماء الكلام من علماء الأنام بأن الأجسام متساوية في قبول الأعراض وأن الله قادر على جميع الممكنات فلا ينكر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة فيه صلى الله تعالى عليه وسلم أو في البراق كيف وقد ورد أنه يضع حافره عند منتهى طرفه والتعجب من لوازم المعجزات، (وَمِنْ ذَلِكَ عِصْمَتُهُ مِنَ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي يحفظك من تعرض أعدائك لك روى الترمذي كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه فقال يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله ولا ينافيه ما في البخاري وغيره من شج وجهه وكسر رباعيته يوم أحد لخصوص العصمة بالقتل تنبيها على أنه يجب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتحمل ما دون النفس لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أشد الناس من جهة البلاء أو أنهما بعد وقعته قال المنجاني والمراد بالناس في الآية الكفار بدليل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ قلت الظاهر هو العموم ولا دلالة في الآية على

ص: 140

قصد الخصوص عند أرباب الفهوم وإن كان الخصوص من الخارج هو المعلوم (وقوله تعالى) بالجر أي ومن ذلك عصمته منهم قبل نزول تلك الآية بقوله تَعَالَى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَالِ: 30] الآية) ذكر سبحانه وتعالى بعد الفتح مكر قريش به بمكة قبل الهجرة ليشكر نعمة ربه بخلاصه من مكرهم به واحتيالهم عليه فالقضية مكية والآية مدنية أي واذكر إذا يمكرون بك في دار الندوة متشاورين في أمرك بحضور عدو الله إبليس حيث دخل فيه وقال أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم ولكن تعدموا مني رأيا ونصحا ليثبتوك بوثاق أو حبس إشارة إلى قول أبي البحتري ارى أن تحبسوه وتشدوا منافذه إلى كوة تلقون إليه منها طعامه وشرابه حتى يموت فقال إبليس بئس الرأي يأتيكم من قومه من يخلصه منكم أو يقتلوك إشارة إلى قول أبي جهل لعنة الله عليه أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما مع كل واحد سيف ويضربونه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم فإذا طلبوه عقلناه فقال إبليس صدق الفتى أو يخرجوك إشارة إلى قول هشام بن عمرو أرى أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع فقال له إبليس بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم فتفرقوا على رأي أبي جهل فأخبره جبريل بذلك وقال له لا تنم الليل في مكان نومك فأمر عليا أن ينام فيه وخرج عليهم وقد اجتمعوا عشاء لقتله وأخذ كفا من تراب فنثره على رؤوسهم يقرأ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله تعالى لا يُبْصِرُونَ وهذا معنى قوله تعالى وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فمكر الله من باب المشاكلة أو محمول على المعاملة (وقوله) بالجر أي ومنه عصمته بقوله تعالى (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة: 40] ) أي إن لم تنصروه ولم تخرجوا معه إلى غزوة تبوك فسينصره من نصره عند قلة أوليائه وكثرة أعدائه إذ أخرجه الذين كفروا وليس معه إلا أبو بكر فخذا الجواب وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه وأسند إليهم الإخراج لتسبب أذن الله له في الخروج عن همهم به فكأنهم أخرجوه وقوله ثاني اثنين حال من ضمير أخرجه أي أحد اثنين روي أن جبريل لما أمره بالخروج قال من يخرج معي قال أبو بكر (وما دفع الله) أي ومنه ما دفعه الله (به) أي بنصره (عنه في هذه القصّة) أي قصة مكرهم به لقوله تعالى وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ولما قيل من حفر بئرا لأخيه وقع فيه والمعنى ما حفظ الله له (من أذاهم) أي ليلة عزموا على قتله (بعد تحزبهم) أي تجمعهم ووقع في نسخة بعد تحريهم براء مكسورة مشددة فتحتية أي بعد قصدهم (لهلكه) بضم أوله وسكون ثانيه أي هلاكه (وخلوصهم) أي وبعد انفرادهم واعتزالهم خالصين من مخالطة غيرهم (نجيّا) مصدر أو وصف أريد به معنى الجمع وقد جاء مفردا في قوله تعالى وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا وجمعا في قوله تعالى خَلَصُوا نَجِيًّا كما هو المراد هنا أي متناجين ومتشارين (في أمره) أي على أي صفة يؤذونه ليظفروا بحاجتهم فطوقوا بخيبتهم (والأخذ) بالجر في أكثر النسخ واقتصر عليه الدلجي حيث قال والظاهر كما في نسخة مصححة رفعه عطفا على ما دفع لا على أذاهم

ص: 141

لفساد المعنى كما لا يخفى إلا أن الأقرب والأظهر الأنسب أنه مجرور عطفا على تحزبهم وخلوصهم والمعنى بعد الأخذ (على أبصارهم عند خروجه عليهم) أي مع أبي بكر إلى الغار ليلة قصدوا قتله وكذا الكلام من حيث المبنى والمعنى على قوله (وذهولهم) أي غفلتهم (عن طلبه في الغار) أي مع ترددهم حوله فلم يهتدوا إليه وذلك بآيات أظهرها الله في الحال من نسج العنكبوت على الغار حَتَّى قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ حِينَ قَالُوا ندخل الغار ما أرى إلا انه قبل أن ولد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وبعث حمامتين عَلَى فَمِ الْغَارِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لَوْ كَانَ فيه أحد لما كانت الحمام هناك والمراد بالغار نقب بأعلى جبل ثور عن يمين مكة مسيرة ساعة واللام فيه للعهد (وما ظهر) أي لهم (في ذلك من الآيات) إذ خرج عليهم وهم ببابه فلم يروه بناء على حجاب الله ونقابه تحت قبابه ونثره التراب على رؤوسهم فلم يعلموا به حتى قيل لهم إلى غير ذلك من الآيات والمعجزات (ونزول السّكينة عليه) أي ومن نزول الطمأنينة والأمن الذي تسكن عنده النفوس على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويؤيده قوله تعالى وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أو على أبي بكر رضي الله تعالى عنه لأنه الذي كان منزعجا لقوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فأنزل الله سكينته عليه ويؤيده أن بعض القراء جعل عليه وقفا لازما وجعل ما بعده كلاما مستأنفا أو عطفا على صدر القصة مما يكون محلا قابلا لئلا يلزم تفكيك الضمير مع تجويز بعضهم ذلك كما في قوله تعالى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ الآية وأما قول الدلجي أن هذا هو الحق فليس في محله لورود الخلاف عن أكابر المفسرين على أن التحقيق في مقام الجمع على جهة التدقيق أن يقال المعنى فأنزل الله سكينته على منهما بناء على إرادة زيادة الاطمئنان والسكون فيهما كما يدل عليه ما في مصحف حفصة فأنزل الله سكينته عليهما ولا ينافيه ما ورد في تسلية الصديق من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما ظنك باثنين الله ثالثهما (وقصّة سراقة) بالجر عطفا على الآيات أي ومن قصة سراقة (بن مالك) أي ابن جعشم وهو الذي أعطت له قريش الجعائل وأخذ في طلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين هاجر وساخت قوائم فرسه عند ذلك وهو الذي ألبس له عمر رضي الله عنه سواري كسرى وقال الحمد لله الذي سلبهما من كسرى وألبسهما تراقة وقد كان أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك فهي معجزة دائمة باقية إلى يوم القيامة (حسب) بفتح الحاء والسين وقد يسكن الثاني واقتصر عليه الحلبي وغيره أي على قدر (ما ذكره أهل الحديث والسّير) بكسر ففتح جمع سيرة وارباب السير من الشمائل والمغازي (في قصّة الغار وحديث الهجرة) أي مفصلا ومجملا أنه تبعهما حين توجها من الغار مهاجرين إلى المدينة ليفتك بهما فرده الله خاسئا ثم أسلم بالجعرانة منصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الطائف قال الحلبي وفي الصحابة من اسمه سراقة ثمانية عشر غيره (ومنه) أي ومن ذلك (قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) ومعناه سيأتي أي الكثير من أنواع التفضيل إلا أن فوعل أبلغ من فعيل وفيه تسلية

ص: 142

له عن موت ابنه إبراهيم (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) فيه التفات من التكلم إلى الغيبة إذ مقتضى الظاهر فصل لنا أي فدم على الصلاة كما أمرنا أو على صلاة العيد خالصا لوجهه وشكرا لأنعمه فإنها جامعة لأنواع شكره لاشتمالها على أصناف ذكره ويؤيد الوجه الثاني قوله تعالى (وَانْحَرْ [الكوثر: 1- 3] ) أي ضح بالبدن التي هي خيار أموال العرب وتصدق على المحتاجي من الفقراء والمساكين وقيل المراد بالنحر وضع المصلي يده في الصلاة عند نحره ويروى هذا عن علي كرم الله وجهه (إِنَّ شانِئَكَ) أي مبغضك (هُوَ الْأَبْتَرُ) أي مقطوع الخير والبركة في الدنيا والآخرة أو الذي انقطع عن بلوغ أمله فيك (أعلمه الله) أي منة عليه في هذه السورة (بما أعطاه) أي ببعض ما أولاه وإلا فعطاؤه لا يمكن احصاؤه (والكوثر حوضه) أي لما في مسلم اتدرون ما الكوثر قيل الله تعالى ورسوله أعلم قال نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوضي ترده أمتي يوم القيامة وضمير هو راجع إلى النهر إشعارا بأن له نهرا من الجنة منصبا في حوضه يوم القيامة فلا ينافيه قوله (وقيل نهر) بفتح الهاء ويسكن (في الجنّة) كما يدل عليه حديث الترمذي رأيت في الجنة نهرا حافتاه قباب اللؤلؤ قلت ما هذا يا جبريل قال الكوثر الذي أعطاك الله وحديثه أيضا أعطاني الله الكوثر نهرا في الجنة يسيل في حوضي (وقيل الخير الكثير) وهذا هو الأظهر لأنه هو الحق كما عبر به الدلجي لأنه فوعل من الكثرة بمعنى المفرط المبالغ فيها ويؤيده خبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في البخاري الكوثر هو الخير الكثير الذي اعطاه الله قيل لسعيد بن جبير إن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة قال هو من الخير الكثير الذي اعطاه (وقيل الشّفاعة) أي العظمى الشاملة للخلائق كلها المستفاد منها الكثرة (وقيل المعجزات الكثيرة وقيل النبوّة) أي لاشتمالها على خيرات كثيرة واللام للعهد أي النبوة العظيمة أو النبوة المختوم بها ليتميز بها عن غيره بنوع المزية (وقيل المعرفة) أي الكاملة وهذه الأقوال حسنة معانيها إلا أنه لا دلالة على ما فيها؛ (ثمّ أجاب) أي الله سبحانه وتعالى (عنه) أي بدلا منه صلى الله تعالى عليه وسلم (عدوّه) أي العاص بن وائل أو أبا جهل ونحوه (وردّ عليه) حين مات ابنه القاسم (قوله) أي أن محمدا قد أصبح ابتر أي قليل العدو مقطوعا من الولد إذا مات مات ذكره لأنه لا عقب له (فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الْكَوْثَرِ: 3] أي عدوّك ومبغضك) بالنصب تفسير لشانئك؛ (والأبتر الحقير الذّليل) أي على ما قيل وهو الذي لا ذكر حسن له ولا ثناء جميل (أو المفرد) بفتح الراء أي المنفرد (الوحيد) أي الذي لا ولد له ولا عقب (أو الذي لا خير فيه) وأما هو صلى الله تعالى عليه وسلم فذكره حسن وثناؤه جميل ونسبه مستمر وآثار أنواره باقية إلى يوم القيامة وما لا يدخل تحت العبارة في الآخرة (وَقَالَ تَعَالَى:

وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] وقيل) وهو المحكى عن ابن عمر وابن مسعود والمنقول عن ابن عباس (السّبع المثاني: السّور الطّوال) بكسر الطاء جمع الطويلة كما صرح به الشراح فاندفع به قول المنجاني هكذا وقع في الكتاب وصوابه الطول

ص: 143

مضموم الطاء دون ألف فيه لأن السورة مؤنثة فهي طولى والجمع طول لا غير وقوله (الأول) بضم همزة وفتح واو مخففة جمع الأولى وهي البقرة وآل عمران والنسائي والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال مع براءة لأنهما في حكم سورة واحدة ومن ثم لم يفصل بينهما بالبسملة وقيل السابعة سورة يونس أو يوسف بدل الأنفال، (والقرآن العظيم) بالنصب على الحكاية ويجوز رفعهما بناء على أنه مبتدأ خبره:(أمّ القرآن) أي أصله أو بمنزلة أمه لاشتمالها على كليات معانيه ومهمات مبانيه إذ أولها تمجد وأوسطها تعبد وآخرها وعد وتوعد فكأنها هو في التحقيق دون التعدد وفيه إطلاق الكل على الجزء لا سيما وهو الأكمل في المعنى ولذا وجبت قراءتها في الصلاة، (وقيل) وهو المحكي عن عمر وعلي والحسن البصري (السّبع المثاني أمّ القرآن) لحديث البخاري أم القرآن هي السبع الثاني، (والقرآن العظيم سائره) أي باقيه أو جميعه بناء على أنه مأخوذ من السؤر بالهمزة بمعنى البقية أو من السور الذي هو الجمع والإحاطة والشمول من سور الحصن فالعطف من باب عطف الخاص على العام، (وقيل السّبع المثاني: ما في القرآن) أي هو جميع القرآن وتسبيعه لما في القرآن (من أمر) أي إيجابا كأقيموا الصلاة أو ندبا كافعلوا الخير (ونهي) أي تحريما كلا تقربوا الزنا أو كراهة كلا تيمموا الخبيث منه تنفقون إذ روي أنهم كانوا يتصدقون بردى التمر فنزلت والمعنى لا تقصدوا الردى منه حال كونكم تتصدقون (وبشرى) أي ومن بشارة للمؤمنين (وإنذار) أي تخويف للمخالفين (وضرب مثل) كقوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ (وإعداد نعم) بكسر الهمزة على ما في نسخة مصححة أي تعداد نعم كثيرة وتذكار منح غزيرة وهو بالمعنى المصدري أنسب للعطف على ما قبله من المصادر وقال الدلجي تبعا لبعضهم بفتح همزته جمع عدد بمعنى ونعم معدودة وأغرب التلمساني بقوله ولا يصح الكسر هنا لمخالفة المعنى انتهى (وآتيناك نبأ القرآن العظيم) أي أعطيناك علم ما اشتمل عليه مما ذكر من قصص ومواعظ وبلاغة واعجاز وثناء على الله بما هو أهله وغير ذلك كذا قرره الدلجي والأظهر أن يخص النبأ بالقصص ليكون السابع للسبع المثاني ومع هذا لا يظهر وجه العدول عن نمط السابق من ذكر المصادر إلى الجملة الفعلية في المرتبة التفصلية (وقيل سمّيت أمّ القرآن) أي الفاتحة (مثاني: لأنّها تثنّى) بصيغة المجهول مثقلا ومخففا وهو أظهر لأن المثاني هو جمع المثنى كالمرامي جمع المرمى ونظيره المعنى والمعاني وقد أبعد التلمساني في قوله مثنى المعدول من اثنين اثنين أي تكرر (في كلّ ركعة) أي صلاة تسمية للشيء باسم جزئه أو في كل قومة باعتبار الركعة بعدها ففي الفائق أنها تثنى في قومات الصلاة أي في كل قومة أو في مجموع القومات وقيل سميت مثاني لأن آياتها نزلت مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة حين حولت القبلة ثم سميت سبعا لأنها سبع آيات بالاتفاق غير أن منهم من عد التسمية آية دون انعمت عليهم ومنهم من عكس، (وقيل بل الله تعالى استثناها) أي خصها من بين الآيات (لمحمّد صلى الله تعالى عليه

ص: 144

وسلم، وذخرها) بالذال المعجمة أو أدخرها بالمهملة كما في نسخة أي جعلها ذخيرة (له دون الأنبياء) لما في مسلم والنسائي ورواه الحاكم أيضا وصححه من حديث ابن عباس بينا جبريل قاعد عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمع نقيضا أي صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة الحديث والمعنى أنه خص بإعطاء معانيهما المأخوذة من مبانيهما فاندفع قول الدلجي تبعا للمنجاني وهذا لا يخص بالفاتحة بل جميع السورة كذلك (وسمّي القرآن مثاني: لأنّ القصص) بكسر القاف جمع القصة قبل وهي المراد هنا وبفتحها مصدر معناه الخبر والحكاية (تثنّى) بالتأنيث أو التذكير أي تكرر (فيه) والمثاني جمع مثناة أو مثنى من التثنية بمعنى التكرير أو من الثني بمعنى اللين والعطف لما فيه أيضا من تكرير الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والأخبار والأمثال وغير ذلك أو من الثناء لما فيه من كثرة ذكره تعالى بصفاته العظمى وأسمائه الحسنى، (وقيل) أي عن الإمام جعفر الصادق (السّبع المثاني) أي معناه في قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي (هو أنا أكرمناك بسبع كرامات: الهدى) هو وما بعده مجرور بدل بعض من كل أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف أي هي الهدى أو منصوب بتقدير أعني والمراد بالهدي الهداية الكاملة المتعدية المكملة ولا يلائم المقام تفسير التلمساني له بضد الضلالة، (والنبوّة) أي المتضمنة للرسالة وقال التلمساني أي الرفعة ولا يخفى أنه أحد معانيها اللغوية، (والرّحمة) أي لجميع الأمة، (والشّفاعة) أي العظمى يوم القيامة، (والولاية) وهي النصرة والانتقام من العدو بالغلبة، (والتّعظيم) أي ظهور العظمة، (والسّكينة) أي السكون والوقار والطمأنينة قيل فمن أوتي السبع المثاني باعتبار أخذ جميع المعاني أمن من الدخول في سبعة أبواب جهنم، (وقال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ [النحل: 44] ) أي القران وسمي ذكرا لأنه يذكر به الرحمن وموعظة وتنبيه للكسلان وشرف لأهل العرفان (الآية) يعني لتبين للناس أي الجن والإنس ففيه تغليب وقيل يشملهما ما نزل إليهم أي ما أمروا به ونهوا عنه وما أخبروا به وتشابه عليهم حكمه لإجماله والتبيين أعم من أن يكون بنص على المراد به أو بالرشاد إلى ما يدل عليه كأساس قياس وبرهان عقل وإيناس (وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) أي حال كونك تكفهم وتمنعهم بشرعك عن ظلمهم وكفرهم فالتاء للمبالغة كما في علامة (بَشِيراً) أي مبشرا (وَنَذِيراً)[سبأ: 28] ) أي مخوفا للفجار (وقال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ) حال من ضمير إليكم فإنه مفعول في المعنى (الآية) وتمامها الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، (قال القاضي) أي المصنف رحمه الله فهذه) أي الآية (من خصائصه) جمع خصيصة أي خصلة لم يشاركه فيها أحد لورودها شاهدة باختصاصه برسالة عامة ومشعرة بأن كل رسول

ص: 145

بعث إلى قومه خاصة (وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) أي بلغة قبيلته الذين هو منهم وبعث فيهم (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ) ما أمروا به وما نهوا عنه فيفهموا عنه بيسر وسهولة أمر (فخصّهم بقومهم) أي لغة ورسالة ودعوة ونذارة وبشارة (وبعث محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الخلق) أي المخلوقين (كافة) أي جميعا من الكف بمعنى الإحاطة والجمع أو من الكف بمعنى المنع أي لكفهم بدعوته عن أي يخرج منها أحد منهم لإحاطتها بهم (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «بعثت إلى الأحمر والأسود» ) أي العرب والعجم كما تقدم وفي صحيح مسلم بعثت إلى الخلق وفي حديث بعثت إلى الناس كافة فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم فإن لم يستجيبوا لي فإلى وحدي ذكره السيوطي في جامعه الصغير عن ابن سعد عن خالد بن معدان مرسلا وفيه كما في الآية السابقة إيماء إلى حكمة أنه بعث بلسان العرب وأن العجم أمروا بتتبع لغتهم مع كمال الأدب ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم احبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي رواه الطبراني والبيهقي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس وفيه إشعار بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما أرسل إلى العرب والعجم وهم مختلفوا الألسنة من الفارسية والتركية والهندية وغيرها مما يتعذر في العادة أن يكون واحد يعرف جميع اللغات المختلفة في أصناف المخلوقات اختار الله له سبحانه أفضل أنواعه وأمر الغير بتعلمه واتباعه مع أنه أيسر اللغات وأسهلها وأضبطها وأجمعها وأشملها وأيضا كان من أنفة العرب وغلاظتهم أنه لو نزل القرآن بلسان العجم أو لم يتكلم الرسول إلا بلغة غير العرب معهم لما آمنوا وتعللوا بما حكى الله تعالى عنهم في قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لقالوا لولا فصلت آياته ءأعجمي وعربي وقال في موضع آخر ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وفي الآيتين الشريفتين تشريف لطائفة العجم ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم لو كان الدين أو العلم في الثريا لناله رجال من فارس (وقال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) أي أحق بهم في جميع أمورهم أو مقيد بأمر دينهم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من أرواحهم فضلا عن آبائهم وأبنائهم (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] ) جمع أم أصلها أمهة وهي لغة قيل مختصة بالآدميات والأمات بالحيوانات وقيل الهاء زائدة (قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي ما أنفذه) بالنون والفاء والذال المعجمة أي أظهره وأمضاه (فيهم من أمر فهو ماض عليهم) أي ناقض وماض (كما يمضي حكم السّيد على عبده) إذ لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم فقوله كما يمضي كالنظير لأنه دون مرتبته في التأثير (وَقِيلَ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ أَوْلَى مِنَ اتِّبَاعِ رَأْيِ النّفس) وهذا قول صحيح وعلى طبق ما تقدم صريح فتعبيره بقيل ليس لكونه كلاما غير مرضي بل لجلالة قائلة أو جهالة حاله وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ندب إلى غزوة تبوك فقال أناس نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت ويدل على

ص: 146

هذا المعنى آيات أخر نحو قوله تَعَالَى قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وكما قال تَعَالَى لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وقال صلى الله تعالى عليه وسلم لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ من ولده ووالده والناس أجمعين رواه الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه وقد ورد في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا يصلي على ميت وعليه دين وكان يقول صلوا على أخيكم فلما نزلت هذه الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فهو لورثته وأخرج النسائي في السنن نحوه إلا أنه قال فلما فتح الله الفتوح ولم يقل فلما نزلت الآية، (وأزواجه أمّهاتهم أي هنّ) على ما في النسخ المصححة وقال التلمساني أي هم في الحرمة وضميرهم عائد إلى الأزواج وعليه الروايات هنا وعبر بضمير جماعة المذكرين اعتبارا للفظ الأزواج (في الحرمة) أي الاحترام والتعظيم (كالأمّهات) أي الحقيقة تنزيلا لهن منزلتهن في العظمة بل اللائق أن يكون لهن مزية تعظيما لحضره النبوة ثم إنهن فيما عدا ذلك كالأجنبيات ولذا حجبن ولم يتعد التحريم إلى بناتهن وهذا إنما هو فيمن دخل بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النساء وأما من تزوجها وفارقها قبل الدخول فليس لها هذا الحكم وقد كان عمر رضي الله عنه أمر برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل الدخول فنكحت بعده فقالت له لم وما ضرب رسول الله علي حجابا ولا دعيت أم المؤمنين فكف عمر عنها (حرم) بفتح الحاء وضم الراء ورفع قوله (نكاحهنّ) ويجوز ضم الحاء وكسر الراء المشددة أيضا وفي نسخة حرام بزيادة الألف وفي أخرى حرم بصيغة الفاعل من التحريم أي حرم الله ورسوله نكاحهن (عليهم بعده) أي بعد تزوجه لهن قيل ولو طلق قبل الدخول ببعضهن كما يستفاد من إطلاق قوله تَعَالَى وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً وإنما حرمهن عليهم (تكرمة له) أي لتكريمه وتعظيمه المستفاد من الآية (وخصوصيّة) أي بها يتميز عن غيره من إفراد أمته وهي بضم الخاء وقول الحجازي بفتحها سهو (ولأنّهنّ له أزواج في الجنّة وفي الآخرة) قال البغوي وكذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أزواجهم لهم في الآخرة وفي نسخة في الجنة والظاهر ان هذا مقيد بمن مات منهن في عصمته أو هو توفي عنهن وهن في عدته لتخرج من اختارت الدنيا حين نزلت آية قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا الآية فإنها كانت في آخر عمرها تلتقط البعر في سكك المدينة وأيضا لما أراد صلى الله تعالى عليه وسلم أن يطلق سودة قالت لا تطلقني يا رسول الله ويومي لعائشة رضي الله تعالى عنها لأني أريد أن أكون من نسائك في الجنة أو قولا هذا معناه (وقد قرىء)

ص: 147

أي في الشواذ قيل وهي قراءة مجاهد ونسبت إلى أبي بن كعب أيضا (وهو أب لهم) إذ كل نبي أب لأمته كما قال الله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ من حيث إن به حياتهم الأبدية وتعلم الآداب الدينية ومن ثم صاروا أخوة في الدين كما قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ من حيث انتسابهم إلى أصل واحد هو الإيمان الناشىء عنه صلى الله تعالى عليه وسلم (ولا يقرأ به) بصيغة المجهول أي ولا يجوز أن يقرأ به أحد (الآن) أي في هذا الزمان (لمخالفته المصحف) بتثليث الميم والضم أتم وهو ما يجمع فيه القرآن لقول عائشة رضي الله تعالى عنها ما بين دفتي المصحف كلام الله والمراد من المخالفة عدم وجود تلك الجملة من جميع المصاحف العثمانية إذ أحد أركان القراءة هي المطابقة الرسمية وثانيها الموافقة العربية وثالثها النقل المواتر الإجماعية والعمدة هي الأخيرة والأخريان تابعتان لها لازمتان لوجودها واختلف في محل الجملة الشاذة فقيل قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قبل قوله وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وقراءة أبي بعده وروي عن عكرمة أنه قال وهو أبوهم وهو أشبه بالتفسير وعلى جميع التقادير هو من باب التشبيه البليغ نحو زيد أسد أي كالأسد لا على الحقيقة أي إلا فيمن له الولادة وأما ما ذكره الدلجي أن المراد بالمصحف هو الإمام الذي نسخه عثمان وعليه الناس فقد يوهم أنه مصحف خاص وليس كذلك بل المراد المصاحف التي كتبت بأمره واختلف في عددها فأرسل واحدا إلى مكة وآخر إلى الشام وآخر إلى الكوفة وآخر إلى البصرة وأبقى عنده واحدا في المدينة والآن لم يتحقق وجود واحد منها في محالها (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ

[النساء: 113] الآية) أي وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً

أي فيما أنعم عليك وبما علمك في خفيات الأمور وأمور الدين ومعارف اليقين وفي بعض النسخ (وأنزلنا عليك الكتاب والحكمة) وهو لا يصح لمخالفته تنزيل الآية (قيل فضله العظيم بالنّبوّة) وفي نسخة النبوة إذ لا فضل أعظم منها إذا قرنت بالرسالة العامة (وقيل بما سبق له في الأزل) أي من تعلق العناية القديمة العظمى حيث جعل رئيس من سبقت له الحسنى كما بدل عليه خلق نوره أولا وجعله نبيا في عالم الأرواح قبل ظهور الأشباح (وأشار الواسطي إلى أنّها) أي هذه الآية (إشارة إلى احتمال الرّؤية) أي تحملها وإطاقتها (الَّتِي لَمْ يَحْتَمِلْهَا مُوسَى عليه السلام .

ص: 148