المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأوّل

- ‌[المقدمة]

- ‌ترجمة القاضي عياض

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌القسم الأول [في تعظيم العلي الأعلى جل وعلا]

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عليه السلام]

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ [فِيمَا جَاءَ من ذلك مجيء المدح والثناء]

- ‌الفصل الثّاني [في وصفه تعالى بالشهادة وما تعلق به من الثناء والكرامة]

- ‌الْفَصْلُ الثَّالِثُ [فيما ورد من خطابه تعالى إياه مورد الملاطفة والمبرة]

- ‌الْفَصْلُ الرَّابِعُ [فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌الفصل الخامس في قسمه

- ‌الْفَصْلُ السَّادِسُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في جهته عليه الصلاة والسلام مورد الشفقة والإكرام]

- ‌الفصل السّابع [فيما أخبره الله بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ]

- ‌الْفَصْلُ الثَّامِنُ [فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بصلاته عليه وولايته له]

- ‌الْفَصْلُ التَّاسِعُ [فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كراماته عليه السلام]

- ‌الْفَصْلُ الْعَاشِرُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده]

- ‌الْبَابُ الثَّانِي [فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ المحاسن خلقا وخلقا]

- ‌فصل [قال القاضي رحمه الله تعالى إذا كانت خصال الكمال والجلال]

- ‌فصل [إن قلت أكرمك الله تعالى لا خفاء على القطع بالجملة]

- ‌فصل [وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ وَذَكَاءُ لُبِّهِ وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ وفصاحة لسانه واعتدال حركاته وحسن شمائله]

- ‌فصل [وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول]

- ‌فصل [وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشأه]

- ‌فصل [وأما تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثلاثة ضروب الضرب الأول]

- ‌فصل [وأما الضرب الثاني ما يتفق التمدح بكثرته والفخر بوفوره]

- ‌فصل [وأما الضرب الثالث فهو ما تختلف فيه الحالات]

- ‌فصل [وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة]

- ‌فصل [وأما أَصْلُ فُرُوعِهَا وَعُنْصُرُ يَنَابِيعِهَا وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ]

- ‌فصل [وأما الحلم]

- ‌فصل [وأما الجود]

- ‌فصل [وأما الشجاعة والنجدة]

- ‌فصل [وأما الحياء والإغضاء]

- ‌فصل [وأما حسن عشرته وآدابه]

- ‌فصل [وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق]

- ‌فصل [وأما خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في الوفاء]

- ‌فصل [وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وأما عدله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمانته وعفته وصدق لهجته]

- ‌فصل [وأما وقاره صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وأما زهده صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا]

- ‌فصل [وأما خوفه صلى الله تعالى عليه وسلم من ربه عز وجل]

- ‌فصل [اعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن صفات جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام]

- ‌فصل [قد آتيناك أكرمك الله سبحانه من ذكر الأخلاق الحميدة]

- ‌فصل [في تفسير غريب هذا الحديث ومشكله]

- ‌الْبَابُ الثَّالِثُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ ومشهورها بتعظيم قدره عند ربه عز وجل]

- ‌الفصل الأول [فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل]

- ‌فصل [في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم بما تضمنته كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ]

- ‌فصل [ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده]

- ‌فصل [إبطال حجج من قال أنها نوم]

- ‌فصل [وأما رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم لربه عز وجل]

- ‌فصل [في فوائد متفرقة]

- ‌فصل [وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَظَاهِرُ الآية من الدنو والقرب]

- ‌فصل [في ذكر تفضيله في القيامة بخصوص الكرامة]

- ‌فصل [في تفضيله بالمحبة والخلة]

- ‌فصل [في تفضيله بالشفاعة والمقام المحمود]

- ‌فصل [في تفضيله فِي الْجَنَّةِ بِالْوَسِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالْكَوْثَرِ وَالْفَضِيلَةِ]

- ‌فصل [فَإِنْ قُلْتَ إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ وصحيح الأثر]

- ‌فصل [في أسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته]

- ‌فصل [في تشريف الله تعالى له بما سماه به من أسمائه الحسنى]

- ‌فصل [قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وها أنا أذكر نكتة]

- ‌الْبَابُ الرَّابِعُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ والكرامات]

- ‌فصل [اعلم أن الله عز وجل قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ]

- ‌فصل [اعلم أن معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة]

- ‌فصل [في إعجاز القرآن العظيم الوجه الأول]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ والأسلوب الغريب]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ من الأخبار]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ القرون السالفة]

- ‌فصل [هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نزاع فيها ولا مرية]

- ‌فصل [ومنها الروعة]

- ‌فصل [وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لا تعدم ما دامت الدنيا]

- ‌فصل [وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِي الْأُمَّةِ في إعجازه وجوها كثيرة]

- ‌فصل [في انشقاق القمر وحبس الشمس]

- ‌فصل [في نبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثيره ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَفْجِيرُ الْمَاءِ ببركته وانبعاثه]

- ‌فصل [ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته]

- ‌فصل [في قصة حنين الجذع له صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [ومثل هذا وقع في سائر الجمادات بمسه ودعوته]

- ‌فصل [في الآيات في ضروب الحيوانات]

- ‌فصل [في إحياء الموتى وكلامهم]

- ‌فصل [في إبراء المرضى وذوي العاهات]

- ‌فصل [في إجابة دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [في كراماته صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ]

- ‌فصل [في عصمة الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم من الناس وكفايته من آذاه]

- ‌فصل [ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم]

- ‌فصل [ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام وكراماته وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة]

- ‌فصل [وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرَادَفَتْ]

- ‌فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مولده عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى قد أتينا في هذا الباب]

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌فصل [وأما الحلم]

وشمائل سيرته (والبحث عن حاله) أي التفحص عن أفعاله (ضرورة) أي علما ضروريا قارب أن يكون بديهيا (وبالبرهان) أي يعلم ذلك بالدليل (القاطع) مما قام من الإرهاصات بعد خلقته والمعجزات (على) دعوى (نبوّته نظرا) أي علما نظريا واستدلالا فكريا. (فلا تطوّل بسرد الأقاصيص) أي بإيراد قصص الأنبياء متتابعة مما يفيده بالطريق الضروري (وآحاد القضايا) أي ولا بسردها مجتمعة مما يقتضيه على السبيل الفكري، (إذ مجموعها ما لا يأخذه حصر) يحصيه عددا (ولا يحيط به حفظ جامع) يضبطه علما أبدا، (وبحسب عقله) بفتح الحاء والسين على ما في الأصول المصححة وضبطه الأنطاكي بسكون السين وقال أي بعقله فقط والصواب ما قلنا والمعنى وبمقدار كمال عقله (كانت معارفه عليه الصلاة والسلام في نهاية لا ترام وغاية لا تسام بل ولا تشام مرتقيا ومعتليا (إلى سائر ما علّمه الله تعالى) أي باقيه (وأطلعه عليه من علم ما يكون) في عالم الشهادة (وما كان) في عالم الغيب من السعادة والشقاوة (وعجائب قدرته وعظيم ملكوته) أي من ظهور قوته ووضوح سلطنته (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ

) من تفاصيل الشريعة وآداب الطريقة وأحوال الحقيقة (وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً

[النساء: 113] ) حيث أنعم عليك إنعاما جسيما (حارت العقول) أي دهشت وترددت (في تقدير فضله عليه) أي في تقرير علمه لديه وتصوير إحسانه إليه (وخرست الألسن) بكسر الراء أي سكتت وبكمت الألسنة (دون وصف يحيط بذلك) أي عجزت عن أن تنطق بما يحصي مما منّ الله به عليه (أو ينتهي إليه) أي دون نعت ينحصر لديه لأنه مظهر الاسم الأعظم والله سبحانه وتعالى أعلم.

‌فصل [وأما الحلم]

(وأمّا الحلم والاحتمال والعفو مع المقدرة) بفتح الدال وضمها وحكي كسرها بمعنى القوة وفي نسخة مع القدرة (والصّبر على ما يكره) بصيغة المجهول أي ما تكرهه النفس ويخالفه الهوى (وبين هذه الألقاب) أي الأخلاق والآداب (فرق) أي فارق دقيق به يتميز كل عن الآخر في هذا الباب (فإنّ الحلم حالة توقّر وثبات) أي صفة تورث طلب وقار وثبوت في الأمر واستقرار (عند الأسباب المحرّكات) أي للغضب الباعث على العجلة في العقوبة، (والاحتمال) بالنصب أو الرفع (حبس النّفس) أي تحملها (عند الآلام والمؤديات) أي عند ورد ما يؤلمه ويوجعه من الأمراض ويؤذيه ويتعبه من الأعراض فالآلام من المحن الإلهية والأذى من جهة الحيوانات والآدمية فليس هذا من عطف العام على الخاص كما توهمه الدلجي وفي نسخة المرديات بالراء والدال المهملة أي المهلكات (ومثلها) أي المذكورات (الصّبر) فإنه حبس النفس على ما تكره إلا انه أعم منها فهو كالجنس وكل مما ذكر كالنوع فإن الصبر يكون على العبادة وعن المعصية وفي المصيبة وهو في الله وبالله ومع الله وعن الله:

والصبر يحمد في المواطن كلها

إلا عليك فإنه مذموم

ص: 241

أي عنك أو على بعدك (ومعانيها متقاربة) أي وإن كانت حقائق مبانيها متباينة، (وأمّا العفو فهو ترك المؤاخذة) وأصله المحو ثم استعمل في معنى المجاوزة عن مجازاة المعصية وهو مصدر وليس كما قال الدلجي إنه من أبنية المبالغة (وهذا) أي ما ذكر من الأخلاق الكريمة (كلّه) أي جميعه على الحالة المستقيمة (مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) كما ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أدبني ربي فأحسن تأديبي (فقال) أي من جملة ما أدبه به سبحانه وتعالى (خُذِ الْعَفْوَ) أي المساهلة والمسامحة (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف: 199] ) أي بالمعروف من حسن المعاشرة (الآية) أي وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ بالمجاملة وحسن المعاملة وترك المقابلة كما قال تعالى وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً أي سلام الموادعة الذي فيه السلامة من المواقعة وقد قيل ليس في القرآن آية اجمع لمكارم الأخلاق منها، (روي) أي كما في تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في مكارم الأخلاق وابن أبي الدنيا مرسلا ووصله ابن مردويه (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ) يعني خذ العفو إلى آخرها (سأل جبريل عليه السلام قيل جبر وميك اسمان اضيفان إلى إيل أو آل وهما اسمان لله تعالى ومعنى جبر وميك عبد بالسريانية ورده أبو علي الفارسي بأنهما لا يعرفان من أسماء الله سبحانه وتعالى وبأنه لو كان كذلك لم ينصرف آخر الاسم في وجوه العربية وكان آخره مجرورا أبدا كعبد الله قال النووي وهذا الذي قاله هو الصواب انتهى وفي جبريل اربع قراءات وتسع لغات (عن تأويلها) أي تحقيق تفسيرها (فقال له) أي جبريل (حتّى أسأل العالم) أي الحقيقي الذي هذا كلامه ولم يعرف غيره حقيقة مراده ومرامه فصاحب البيت أدرى بما فيه من بيان مبانيه وتبيان معانيه (ثمّ ذهب وأتاه) أي بعد سؤاله إياه (فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُوَ عمّن ظلمك وقال) أي الله تعالى (له) أي للنبي عليه الصلاة والسلام حكاية عن وصية لقمان لابنه يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ [لقمان: 17] ) أي من أنواع المحن وأصناف الضرر خصوصا من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الآية) أي أن ذلك من عزم الأمور أي من مفروضاتها وواجباتها التي لا رخصة في إهمالها لأرباب كمالها (وقال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) أي أصحاب اثبات والحزم (مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] ) إما بيانية وإما تبعيضية وهو المشهور وعليه الجمهور وهم الخمسة المجتمعة في آية مختصة وهي قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وقدم صلى الله تعالى عليه وسلم لما أنه في الرتبة قد تقدم وقيل هم الصابرون على بلاء الله فنوح صبر على أذى قومه كانوا يضربونه حتى يغشى عليه وإبراهيم صبر على النار وذبح ولده والذبيح على ذبحه ويعقوب على فقد ولده وبصره ويوسف على الجب والسجن والرق وأيوب على الضر وموسى على محن قومه وداود على قضيته وبكائه أربعين سنة على خطيئته وعيسى على

ص: 242

زهده وعدم بناء لبنة على لبنة وزكريا على قطع المنشار ويحيى على الذبح وقيل هم المأمورون بالجهاد وقيل من يصيبهم فتنة منهم وقيل هم أهل الشرائع وقيل استثنى من الرسل آدم لقوله تعالى وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ويونس لقوله سبحانه وتعالى وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ (وقال) أي الله له ولأتباعه (وَلْيَعْفُوا) أي ما فرط في حقهم من بعضهم (وَلْيَصْفَحُوا [النور: 22] ) بالأغماض منهم والإعراض عنهم (الآية) أي الا تحبون أن يغفر الله لكم أي لعفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم واعتدى عليكم وفيه التفات يفيد الاهتمام بأمرهم وقد روى البخاري أنه لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه بلى أحب ورجع إلى مسطح نفقته التي قطعها عنه لخوضه مع أهل الإفك وخطأه وصدر الآية وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ في سبيل الله وكان مسطح قريب أبي بكر ومسكينا ومهاجريا وفي الآية دليل على فضل الصديق وسعه علمه بالتحقيق وإذا كان هذا العفو والصفح موصوفا أكابر الأمة بهما فكيف صاحب النبوة لا يكون موصوفا بأعلى مراتبهما (وقال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ أي على الأذى (وَغَفَرَ) أي ستر ومحا وتجاوز وعفا (إِنَّ ذلِكَ) ما ذكر من الصبر والغفران (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 40] ) أي من أفضل الأمور وأما قول الدلجي أي أن ذلك الصبر والغفران منه لمن عزم الأمور فحذف منه كما حذف في نحو السمن منوان بدرهم أي منه للعلم به فليس في محله إذ هو مستغني عنه في صحة حمله وحله (ولا خفاء) أي عند أهل الصفاء (بما يؤثر) أي فيما يروى (من حلمه) أي صبره مع أحبابه (واحتماله) أي تحمله على أعدائه حتى قال أبو سفيان له ما أحلمك حين قال له يا عم أما آن لك أن تسلم بأبي أنت وأمي، (وأنّ) بفتح الهمزة وفي نسخة بكسرها (كلّ حليم) أي صاحب حلم (قد عرفت منه زلّة) بفتح الزاي أي عثرة وفي الحديث اتقوا زلة العالم وانتظروا فيئته وفي الحديث ما أعز الله بجهل قط ولا أذل الله بعلم قط وقيل ما عز ذو باطل ولو طلع القمر من جبهته (وحفظت عنه هفوة) بالفاء أي معرة بمقتضى ما قيل نعوذ بالله من غضب الحليم مع أن الكامل من عدت مساويه لكنه عصم عند باريه عصمة لا يشاركه أحد فيها ولا يساويه فالكلية عامة شاملة لأصحاب النبوة وأرباب الفتوة ولذا قيل إن الأنبياء كلهم معصومون صغرا وكبرا من الكبيرة والصغيرة فإن مراتب العصمة متفاوتة (وهو صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لثباته في محامد صفاته (لا يزيد مع كثرة الأذى) أي الواصل منهم إليه (إلّا صبرا) أي تحملا عليهم بل إحسانا إليهم (وعلى إسراف الجاهل) أي مجاوزته الحد في التقصير إليه ويروى الجاهلية أي على اسراف أهلها (إلّا حلما) أي تجاوزا وكرما. (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عليّ التّغلبيّ) بمثناة فوقية مفتوحة وسكون غين معجمة وفتح لام وتكسر نسبة إلى قبيلة وإماما وقع في بعض النسخ من الثاء المثلثة والعين المهملة فتصحيف في المبنى وتحريف في المعنى مات سنة ثمان وخمسمائة (وغيره) أي من المشايخ المشاركين له في هذه الرواية

ص: 243

(قالوا حدّثنا محمد بن عتاب) بفتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية وآخره باء موحدة (أنبأنا) أي قال أخبرنا (أبو بكر بن واقد) بالفاء المكسورة أو القاف (القاضي وغيره) أي وغير أبي بكر (حدّثنا) أي قال حدثنا (أبو عيسى) أي الليثي واسمه يحيى بن عبيد الله بن أبي عيسى (حدّثنا) أي قالوا حدثنا (عبيد الله) يعني أباه (أنبأنا) أي قال أخبرنا (يحيى بن يحيى) لم يخرج له في الكتب الستة شيء والموطأ مشهور به وموطوؤه أصح الموطآت (أنبأنا) أي قال أخبرنا (مالك) أي ابن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي إمام المذهب قيل تابعي ولم يصح (عن ابن شهاب) أي الزهري (عن عروة) أي ابن الزبير بن العوام من الفقهاء السبعة بالمدينة كان يصوم الدهر ومات وهو صائم (عن عائشة رضي الله تعالى عنها) كما رواه الشيخان وأبو داود أيضا عَنْهَا (قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي ما خيره الناس (في أمرين) أي في اختيار أحدهما (قطّ) أي أبدا (إلّا اختار أيسرهما) أي أهونهما على المخير أو أسهلهما عنده لأنه ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم يسروا ولا تعسروا وأن هذا الدين يسر وقال الله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (ما لم يكن) أي الأيسر (إثما) أي ذا إثم (فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ) أي تنزها واجتنابا فبالأولى أن لا يختاره ولو كان سهلا ففيه تلويح باستحباب الأخذ بالأيسر والأرفق ما لم يكن حراما أو مكروها فإن الله تعالى يحب أن يؤتى رخصه كما يجب أن يؤتى عزائمه وأما قول الدلجي بني خير لمفعوله وحذف فاعله تعويلا على ظاهر القرينة وإيذانا بعمومه إذ كان هو الله أو غيره فالله ما جعل له الخيرة في أمرين جائزين إلا اختار أيسرهما كاختياره حين قال له جبريل إن شئت جعلت عليهم أي على قريش الأخشبين بقاءهم بقوله دعني أنذر قومي رجاء أن يوحدوه أو يخرج من أصلابهم من يوحده فلا يخفى أنه غفلة منه عما في نفس الحديث ما لم يكن إثما إذ من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى أو جبريل عليه الصلاة والسلام لا يخيره بين أمرين يحتمل أن يكون أحدهما إثما ثم رأيت النووي ذكر عن القاضي أنه يحتمل أن يكون تخيره من الله فيخيره فيما فيه عقوبتان أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية أو في حق أمته في المجاهدة في العبادة والاقتصاد فكان يختار الأيسر في هذا كله قال وأما قوله ما لم يكن إثما فيتصور إذا خيره الكفار أو المنافقون فأما إذا كان التخيير من الله أو من المسلمين فيكون الاستثناء منقطعا انتهى ولا يخفى أن التخيير من المسلمين أيضا يتصور فيما لم يصل إلى بعضهم كونه إثما في الدين، (وما انتقم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لنفسه) أي ما انتصر ولم يعاقب أحدا لأجل خاصة نفسه ما بلغت به الكراهة حدا يورثه انتقاما من أحد على مكروه أتاه من قبله (إلّا أن تنتهك حرمة الله تعالى) بصيغة المجهول أي إلا أن يبالغ احد في خرق حرمة الله التي تتعلق بحقه سبحانه وتعالى أو بحق أحق من خلقه ومن جملته خرق حرمته صلى الله تعالى عليه وسلم على وجه يجب الانتقام من هاتكها والاستثناء منقطع أي لكن إذا انتهكت حرمة الله انتصر لله وانتقم له تعالى

ص: 244

بسببها (فينتقم لله) أي لا لحظ نفسه (بها) بسبب حرمة الله ممن ارتكبها والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود كما أخرجه المصنف عن مالك في موطئه وفي رواية مسلم ما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله أي ما أصيب بأذى من أحد وعاقبه به انتصارا لنفسه لكن إذا بالغ في خرق شيء من محارم الله التي من جملتها حرمته انتصر لله وعاقبه له لا لنفسه فلم يكن انتقامه إلا لله لا لغرض سواه وإن كان فيه موافقة هواه لكن المدار على متابعة هذاه والحاصل أن في الحديث دلالة على كمال حلمه وعفوه وتحمل الأذى وترك الانتقام لنفسه مع مراعاة الله في حقه فهو الجامع بين فضله وعدله تخلقا بأخلاق ربه (وروي أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لمّا كسرت) بصيغة المجهول أي انكسرت (رباعيته) على وزن الثمانية بفتح راء وكسر عين وتخفيف ياء تحتية وهي التي بين الثنية والناب وللإنسان ثنايا أربع ورباعيات أربع وأنياب أربعة وأضراس عشرون وقد كسرها عتبة بن أبي وقاص وهو أخو سعد بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكسرت رباعيته يعني شطبت وذهبت منها فلقة (وشجّ وجهه) بصيغة المفعول شجه عبد الله بن شهاب الزهري كلاهما (يوم أحد شقّ ذلك) أي ما ذكر أو كل واحد منهما (على أصحابه شديدا) وفي نسخة شقا شديدا (وقالوا لو دعوت) أي الله (عليهم) أي بإنزال العقوبة إليهم (فقال إنّي لم أبعث لعّانا) أي صاحب لعن وطرد عن رحمة الله تعالى (ولكنّي بعثت داعيا) أي هاديا إلى الحق (ورحمة) للخلق كما قال تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون) أي ولا تؤاخذهم بما يجهلون والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلا وآخره موصولا وهو في الصحيح حكاية عن نبي ضربه قومه زاد ابن هشام في سيرته أنها ثنيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى وأن ابن قميئة جرحه في وجنته فدخلت حلقتان من المغفر في وجنته فنزعهما أبو عبيدة ابن الجراح حتى سقت ثنيته قال يعقوب بن عاصم فكان ابن قميئة هلك حتف أنفه أن سلط الله عليه كبشا فنطحه فقتله أو فألقاه من شاهق فمات وأما ابن شهاب فأسلم وأما عتبة ففي تهذيب النووي أن ابن منده عده من الصحابة وأنكره أبو نعيم إذ لم يذكره فيهم أحد قبله فالصحيح أنه لم يسلم قال السهيلي ولم يولد من نسله ولد فبلغ الحلم إلا وهو ابخر أو اهتم فعرف ذلك في عقبه وفي مستدرك الحاكم أنه لما فعل عتبة ما فعل جاء حاطب بن أبي بلتعة فقال يا رسول الله من فعل هذا بك فأشار إلى عتبة فتبعه حاطب حتى قتله فجاء بفرسه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي تفسير عبد الرزاق بسنده إلى مقسم قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص حين كسر رباعيته ودمى وجهه انتهى فإن قلت حديث عبد الرزاق في تفسيره يدل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا على عتبة حين كسرها وهذا الحديث بظاهره يدل على ضده قلنا لا يلزم من دعائه عليه عدم دعائه على الجميع مع أن النفي قد يوجه لكثرة اللعن لا لأصله فكأنه قال لم أبعث كثير

ص: 245

اللعن عليهم إذ قد روى البخاري وغيره اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد والتحقيق أنه عليه الصلاة والسلام ما دعا عليهم جملة بل دعا على من علم منهم أنهم لا يؤمنون فقوله عليك بقريش عام أريد به المخصوصون بقرينة المقام والله أعلم بالمرام. (وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه) قال الدلجي لم يعرف (أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ بِأَبِي أَنْتَ وأمّي) أي فديتك بهما وأنت مفدى بهما (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ [نوح: 26] الآية) أي من الكافرين ديارا كما في نسخة أي أحدا يدور في الأرض فيقال إنه من الدور (ولو دعوت علينا مثلها) أي مثل دعوة نوح (لهلكنا من عند آخرنا) أي إلى عند أولنا فهو كناية عن الاستئصال (فلقد وطىء ظهرك) بصيغة المجهول وهمز في آخره وكذا قوله (وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُكَ فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إلّا خيرا) وهو الدعاء بالهداية والاعتذار عنهم بالجهالة والغواية (فَقُلْتَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) أي المصنف (انظر) أي تأمل ايها المعتبر بنظر الفكر والعقل (مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِمَاعِ الْفَضْلِ) بكسر الجيم أي ما يجمعه (ودرجات الإحسان) أي بالعقل (وحسن الخلق) أي مع شرار الخلق (وكرم النّفس) أي على عموم الأنام (وغاية الصّبر) أي عن العدو (والحلم) أي التحمل وعدم الجزع المؤدي إلى الدعاء غالبا، (إذ لم يقتصر صلى الله تعالى عليه وسلم على السّكوت عنهم) أي في التحمل منهم (حتّى عفا عنهم) وصفا لهم (ثمّ أشفق) أي خاف (عليهم ورحمهم) أي من غاية الشفقة ونهاية الرحمة (ودعا) أي لهم و (شفع) أي عند ربه (لهم) وهو بفتح الفاء على ما في القاموس شفعه كمنعه فقول المنجاني بكسر الفاء سهو من الكتاب (فقال اغفر) أي استر قومي ووفقهم لما يستحقون المغفرة لأجله (أو اهد) أي اهدهم بالإيمان وأو للشك أو للتنويع، (ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الشَّفَقَةِ، وَالرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ لِقَوْمِي) بإضافتهم إليه، (ثمّ اعتذر عنهم بجهلهم) أي بسبب جهلهم بحاله ومقام كماله (فقال فإنّهم لا يعلمون) وليس المراد بقومه قريش وحدهم كما توهمه الدلجي وقال كل ذلك لكونهم رحمة إذ ما من بيت إلا وله فيه قرابة بل لكونه رحمه للعالمين فالمراد بقومه جميع أمته بدليل حديث الشيخين إِنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ إنما وليي الله وصالح المؤمنين لكن لهم رحم أبلهم ببلالها أي أصلهم بما يظهر أثرها وقد ورد بلوا ارحامكم أي صلوها وكأنه اراد بالبل حفظ أصلها وطراوة فرعها، (ولمّا قال له الرّجل) أي وحين قال له الرجل المنافق وهو ذو الخويصرة حرقوص ابن زهير التميمي قتل في الخوارج يوم النهروان على يد علي كرم الله تعالى وجهه (اعدل فإنّ هذه قسمة) أي قسمة غنائم بدر وقيل كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسم ذهيبة في ترتبها بعث بها علي رضي الله تعالى عنه من اليمن (ما أريد بها وجه الله لم يرده) بالزاي أي ما زاده (في جوابه أن بيّن له ما جهله ووعظ) عطف علي بين أي ونصح صلى الله

ص: 246

تعالى عليه وسلم (نفسه) أي نفس الرجل (وذكّرها) بالتشديد أي وعرفها وأعلمها (بما قال له فقال: ويحك) قيل هو بمعنى ويلك وقيل هو كلمة ترحم يقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها فلجهله رحمه مبينا له ما جهله من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحرى الخلق بالعدل بقوله (فمن يعدل) بالرفع فإن من استفهامية (إن لم أعدل) شرط حذف جزاؤه لدلالة ما قبله عليه والمعنى أيعدل غيري وأنا أجور كلا (خبت) بكسر الخاء (وخسرت) بكسر السين وضم تاءيهما (إن لم أعدل) أي فرضا وتقديرا إرشادا إلى أن من لم يعدل فقد باء بالخيبة والخسران واشعارا بكمال اتصافه بالعدل بل بزيادة الحلم والعفو والفضل وروي بفتح تاءيهما فالمعنى حرمت كل خير وخسرته في متابعتي إن لم أعدل في قسمتي على فرض قضيتي فكأنه قال خبت أيها التابع إذا كنت لا أعدل لكونك تابعا ومقتديا لمن لا يعدل أو خبت وخسرت إذ لا تستقر في الإسلام بما تقول إن نبيك ممن لا يعدل ومعنى الخيبة الحرمان والخسران الضياع والنقصان وحاصله أنك خبت في الدنيا وخسرت في العقبى إذا اعتقدت أني لم أعدل قال الحافظ المزي والضم أولى لأنه تعليق بعدم العدل الذي هو معصوم منه صلى الله تعالى عليه وسلم وقال النووي الفتح أشهر ولعله أسقط ما وجب له عليه من قتله رعاية لإيمانه الظاهر والله أعلم بالسرائر ولما ورد في بعض طرق هذا الحديث من زيادة قوله عليه الصلاة والسلام ويخرج من ضئضيء هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (ونهى من أراد من أصحابه) وهو خالد بن الوليد أو عمر وهو عند الأكثر أو كلاهما فتدبر (قتله) بناء على ظهور ارتداره بسبب طعنه في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بنفي عدله والحديث رواه الشيخان، (ولمّا تصدّى له) أي وحين تعرض له صلى الله تعالى عليه وسلم (غورث بن الحارث) على ما رواه البيهقي وهو بفتح الغين المعجمة ويضم وقيل بالمعجمة والمهملة وقيل مصغر (ليفتك به) بكسر التاء وضمها فتكا بالتثليث أي ليقتله غفلة (ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي والحال أنه (منتبذ) بكسر الموحدة وبالذال المعجمة أي منفرد عن أصحابه (تحت شجرة) أي في ظلها (وحده) حال مؤكدة أي ليس عنده أحد من احبابه (قائلا) اسم فاعل من القيلولة وقت الظهيرة أي مستريحا أو نائما (والنّاس قائلون) أي نازلون للقيلولة (في غزاة) وهي ذات الرقاع في رابع سنة من الهجرة (فلم ينتبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لم يستيقظ من نومه أو لم يتنبه من غفلته عن عدوه (إلّا وهو) أي غورث (قائم) أي عند رأسه (والسّيف صلتا) بفتح الصاد ويضم أي حال كونه مسلولا أو التقدير صلته صَلْتًا (فِي يَدِهِ فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟

فقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (الله) أي مانعي أو يمنعني؛ (فسقط) أي السيف كما في أصل صحيح (من يده: فأخذه النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وقال) أي لغورث (مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ كُنْ خَيْرَ آخِذٍ) بالمد أي متصفا بالحلم والعفو والكرم؛ (فتركه وعفا عنه) وكان ذلك سببا لإسلامه؛ (فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خير النّاس) ورواه

ص: 247

الشيخان بدون سقوط السيف وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم من يمنعك مني وجواب غورث وروي أنه كان أشجع قومه فقالوا له قد أمكنك محمد فاختار سيفا من سيوفه واشتمل عليه وأقبل حتى قام على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالسيف مشهورا فقال يا محمد من يمنعك مني قال الله فدفع جبريل في صدره ووقع السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وقام به على رأسه وقال من يمنعك مني اليوم فقال لا أحد ثم قال أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ محمدا رسول الله ثم أقبل فقال والله لأنت خير مني فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنا أحق بذلك منك. (ومن عظيم خبره) أي حديثه صلى الله تعالى عليه وسلم (في العفو) أي في جنس عفوه (عفوه عن اليهوديّة التي سمّته) أي جعلت له السم (في الشّاة بعد اعترافها على الصّحيح) متعلق بعفوه (من الرّواية) أي بعد اعترافها على ما رواه الشيخان وكان ينبغي للمؤلف أن يقدم قوله على الصحيح من الرواية على قوله بعد اعترافها وهي زينب بنت الحارث بن سلام بتشديد اللام كما ذكره البيهقي في الدلائل وموسى بن عتبة في المغازي وقال ابن قيم الجوزية هي امرأة سلام بن مشكم وقال ابو داود هي اخت مرحب وفي رواية أبي داود أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قتلها وفي شرف المصطفى قتلها وصلبها وروى ابن إسحاق أنه صفح عنها وجمع بأنه عفا عنها لحق نفسه إذ كان لا ينتصر لها ثم قتلها قصاصا بمن مات من أصحابه بأكله منها كبشر بن البراء إذ لم يزل معللا به حتى مات بعد سنة ويقال إنه مات في الحال لكن فيه اشكال لما جاء في رواية أنها أسلمت ففي جامع معمر عن الزهري أنه قال أسلمت فتركها قال معمر والناس يقولون قتلها وأنها لم تسلم والله أعلم بالأحوال وبالصحيح من الأقوال؛ (وإنّه) بالكسر والأظهر أنه بالفتح والتقدير ومن عظيم خبره في العفو أنه (لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم) وقد هلك على التهود وقد حكى القاضي خلافا في مؤاخذته عليه الصلاة والسلام لبيدا وسيجيء في إحياء الموتى ولعله أشار إلى صحة عدم المؤاخذة (إذ سحره) أي حين سحره (وقد أعلم به) بصيغة المجهول أي أوحى الله إليه أو جاءه جبريل وأخبره بأنه سحره (وأوحي إليه بشرح أمره) أي ببيان حاله كما رواه أحمد والنسائي والبيهقي في دلائله سحر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى لذلك فجاء جبريل فقال إن رجلا من اليهود سحرك عقد لك عقدا في بئر كذا فبعث عليا فجاء بها فحلها فكأنما نشط من عقال فما ذكر ذلك لليهودي ولا أظهره في وجهه حتى مات، (ولا عتب عليه) أي أعرض عن معاتبته (فضلا عن معاقبته) وكان السحر أخذه عن النساء وهي امرأته زينب اليهودية وبناته منها قيل قال تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ ولم يقل النفاثين تغليبا لفعل النساء أو المراد النفوس النفاثات قال الدلجي والسحر مزاولة نفوس خبيثة أقوالا وأفعالا يترتب عليها أمور خارقة للعادة وتعلمه للعمل به حرام وفعله كبيرة واعتقاد حله كفر ولتأثيره زيادة بيان تأتي في محل تقريره ومكان تحريره وقال الإمام الرازي استحداث الخوارق إن كان لمجرد النفس فهو

ص: 248

السحر وإن كان على سبيل الاستعانة بالخواص السفلية فهو علم الخواص وإن كان على سبيل الاستعانة بالفلكيات فذلك دعوة الكواكب وأن كان على سبيل تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية فذلك الطلسمات وإن كان على سبيل النسب الرياضية فذلك الحيل الهندسية وإن كان على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة فذلك العزيمة انتهى وقال غيره السحر اسم يقع على أنواع مختلفة وهي السيميا والهيميا وخواص الحقائق من الحيوان وغيرها والطلسمات والأوفاق والرقى والاستخدامات والعزائم (وكذلك لم يؤاخذ) على ما رآه الشيخان (عبد الله بن أبيّ) أي ابن سلول بفتح السين المهملة وهي أمه فلا بد من تنوين أبي وكتابة ألف بعدها ورفع ابن لأن سلول أم عبد الله وزوجة أبي فلو لم يفعل ذلك لتوهم أن سلول أم أبي وليس كذلك وسلول غير مصروف للعلمية والتأنيث وقيل منصرف وقيل الصواب أن يكتب ابن بالألف لأن علة الحذف وقوعه بين علمين مذكرين أو مؤنثين فلو اختلفا لم يحذف وهو رئيس أهل النفاق وهو القائل:

متى ما يكن مولاك خصمك لم تزل

تذل ويصرعك الذين تصارع

وهل ينهض البازي بغير جناحه

وإن جذ يوما ريشه فهو واقع

وابنه عبد الله بن عبد الله من فضلاء الصحابة (وأشباهه) أي وكذا لم يؤاخذ أمثاله (من المنافقين) قال ابن عباس كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة ومن النساء مائة وسبعين (بعظيم ما نقل عنهم) وفي نسخة منهم (في جهته) أي من الجرائم (قولا وفعلا) كقوله تعالى حكاية عن ابن أبي يقولون لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل أراد بالأعز نفسه وبالأذل أعز خلق الله سبحانه وتعالى (بل قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على المريسيع ماء لبني المصطلق (لمن أشار) أي من أصحابه (بقتل بعضهم) أي بعض المنافقين بعد أن بلغه وقد هزم بني المصطلق قول ابن أبي وقد لطم حليفا له جعال رجل من فقراء المهاجرين مساعدة لأجير لعمر ما صحبنا محمدا إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك أما والله إن رجعنا الآية ثم قال لقومه والله إن أمسكتم عن جعال وذويه فضل طعامكم لم يركبوا رقابكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن أرقم أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمن وقوة من المسلمين ثم أخبره به الله فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنقه فقال إذن ترغاد له أنوف كثيرة فقال عمر إن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن عبادة أو محمد بن مسلمة أو عبادة بن الصامت فليقتلوه فقال (لا، لئلا يتحدّث) بصيغة المجهول ويروى لا يتحدث الناس وهو نفي معناه نهي وقال الدلجي لا آذن لك يتحدث وفي رواية فكيف إذا تحدث الناس (أنّ محمّدا يقتل أصحابه) قيل هذا في حكم العلة لترك قتله مع رعاية إسلامه الظاهري وإنكاره هذا القول في أخباره ولعل حكمة العلة أنه يكون تنفيرا عن دخول الأنام في

ص: 249

الإسلام ولذا ورد يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ولذا كان يتألف الكفار المصرحين لكونه رحمة للعالمين وفي هذا دليل على ترك بعض الأمور التي يجب تغييرها مخافة أن يترتب عليها مفسدة أكبر منها (وعن أنس رضي الله عنه كما رواه الشيخان (كنت مع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وعليه برد) أي شملة مخططة أو كساء أسود مربع (غليظ الحاشية فجبذه) أي فجذبه كما في نسخة والأول لغة في معنى الثاني أو مقلوبة في حروف المباني والمعنى فجره (أعرابيّ) مجهول لم يعرف اسمه (بردائه جبذة شديدة) أي دفعه عنيفة (حَتَّى أَثَّرَتْ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ فِي صَفْحَةِ عَاتِقِهِ) أي جانب ما بين كتفه ومنكبه ولم يتأثر هو صلى الله تعالى عليه وسلم من سوء أدبه، (ثمّ قال) أي الأعرابي على عادة أجلاف العرب (يا محمّد أحمل لي) بفتح الهمزة أي أعطني ما احمل لي وأغرب التلمساني حيث قال المعنى أعني على الحمل وفي نسخة أحملني والظاهر أنه تصحيف في المبنى لأنه تحريف في المعنى (عَلَى بَعِيرِيَّ هَذَيْنِ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عندك) زاد البيهقي (فإنّك لا تحمل لي) وفي نسخة لا تحملني وفيه ما سبق إلا أن يقال معناه أعطني على التجريد وفي أصل التلمساني لا تحمله (من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حلما وكرما (ثُمَّ قَالَ الْمَالُ مَالُ اللَّهِ وَأَنَا عَبْدُهُ، ثمّ قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ويقاد منك) فعل مجهول من القود أي يقتص منك ويفعل بك (يا أعرابيّ ما فعلت بي) أي مثل فعلك معي من جذب ثوبي (قال لا) أي لا يقاد مني (قال لم) أي لأي شيء (قال لأنّك لا تكافىء) بالهمز أي لا تجازي (بالسّيئة السّيّئة) بل تجازي بالسيئة الحسنة (فضحك النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تعجبا (ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر) ويروى على بعير تمر وقيل إذا أحب الله عبدا سلط عليه من يؤذيه، (وعن) وفي أكثر النسخ قالت (عائشة رضي الله تعالى عنها) ، كما في الصحيحين (ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منتصرا من مظلمة) بكسر اللام وتفتح أي ما يطلب عند الظلم وأما قول المنجاني وبفتح الميم الثانية وكسرها فلا وجه له (ظلمها) بصيغة المجهول (قطّ) أي أبدا (ما لم تكن) أي المظلمة (حرمة من محارم الله) أي متعلقة بحقوق الخلق أو الحق خارجة عن خاصة نفسه وحرماته فرائضه أو ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه (وما ضرب بيده شيئا قطّ) واحترزت بقولها بيده عن ضرب غيره بأمره تأديبا أو تعزيرا أو حدا وهذا كله من باب الكرم والرحم على العامة والخاصة (إلّا أن يجاهد في سبيل الله) أي فإنه كان يضرب بيده مبالغة في مقام جده واجتهاده في جهاده ثم ما ضرب أحدا من أعدائه إلا كان حتف أنفه وعذابا له في آخر أمره بدليل قول أبي بن خلف وقد خدشه يوم أحد في عنقه فجزع جزعا شديدا بألم شديد فقيل له ما هذا الجزع فقال والله لو بصق محمد علي لقتلني (وما ضرب خادما ولا امرأة،) تخصيص بعد تعميم ودفع لتوهم أن النفي الأول متعلق بمن كان خارجا عن أهله وإشعارا بأن التحمل منهما أشد ثم فيه جواز ضرب المرأة والخادم للأدب إذ لو لم يكن مباحا لم يتمدح بالتنزه عنه

ص: 250

(وجيء إليه برجل) على ما روى أحمد والطبراني بسند صحيح (فقيل هذا أراد أن يقتلك) أي فحصل للرجل روع في روعه وفزع في روحه (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لن تراع) بضم أي لن تفزع بمكروه (لن تراع) كرره تأكيدا والمعنى لا تخف لا تخف قال التلمساني وتضع العرب لن بمعنى لا كما ههنا (ولو أردت ذلك) أي قتلي (لم تسلّط عليّ) بصيغة المجهول إعلاما منه بأن قتله محال لقوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (وجاءه زيد بن سعنة) بفتح سين فسكون عين مهملتين فنون وهو الأصح على ما ذكره الذهبي في تجريده والنووي في تهذيبه وفي رواية بتحتية بدل النون (قبل إسلامه) وهو يهودي (يتقاضاه) أي حال كونه طالبا (دينا) أي قضاء دين له (عليه) صلى الله تعالى عليه وسلم (فجبذ ثوبه) أي جذب رداءه وأزاله وأبعده (عن منكبه) بكسر الكاف (وأخذ بمجامع ثيابه) جمع مجمع وهي أطرافه وحواشيه أو إزاره كله ويقال له التلبب (وأغلظ له) أي في القول بخصوصه (ثمّ قال) قصدا لعموم قومه (إنّكم يا بني عبد المطّلب مطل) بضمتين ويسكن الثاني جمع مطول كفعول بمعنى فاعل أي مدافعون في وعدكم (فانتهره عمر) أي زجره (وَشَدَّدَ لَهُ فِي الْقَوْلِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم يتبسّم) حال مبينة لكمال حلمه وحسن خلقه وجميل عفوه (فقال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَهُوَ كُنَّا إِلَى غَيْرِ هذا) أي الذي صدر (منك) أي من الزجر الأكيد والقول الشديد (أحوج) أي أكثر احتياجا (يا عمر) فكان الأولى بك أنك (تأمرني بحسن القضاء) أي الأداء لدينه (وتأمره بحسن التّقاضي) أي المطالبة لحقه، (ثمّ قال لقد بقي من أجله) أي من أجل دينه لا عمره (ثلاث) أي ثلاثة أيام وحذف تاؤه لحذف مميزه الذي هو أيام كما في حديث من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنه صام الدهر كله، (وأمر) أي النبي عليه الصلاة والسلام (عمر يقضيه ماله) أي ماله من الحق (ويزيده عشرين صاعا لما روّعه) بتشديد الواو أي لأجل ما خوفه عمر زجرا فيجازيه برا (فكان) أي فصار ذلك (سبب إسلامه) والحديث رواه البيهقي مفصلا ووصله ابن حبان والطبراني وأبو نعيم بسند صحيح، (وذلك) أي كونه سبب إسلامه (أنّه كان يقول) كما روى عنه عبد الله بن سلام (مَا بَقِيَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وقد عرفتها في محمّد) وفي رواية في وجه محمد (إلّا اثنتين لم أخبرهما) بفتح الهمزة وضم الموحدة أي لم أخبر بهما فلم أعرفهما ويروى لم أجدها أي لم أتحققهما (يسبق حلمه جهله) أي جهل الذي يفعل به، (ولا تزيده شدّة الجهل) أي عليه (من أحد إلا حلما) بل لطفا وكرما، (فاختبره) أي امتحنه (هو بهذا) أي الذي صدر منه في حقه قولا وفعلا (فوجده) ويروى فاختبرته بهذا فوجدته (كما وصف) بصيغة المجهول أي نعت في كتب الأولين في صفة المرسلين وكان أعلم من أسلم من أحبار اليهود وأجلهم وأكثرهم ما لا شهد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مشاهد كثيرة وتوفي راجعا من غزوة تبوك إلى المدينة، (والحديث) الأحاديث الواردة المخبرة (عن حلمه صلى الله تعالى عليه وسلم وصبره وعفوه عند المقدرة) بفتح الدال وضمها وحكي كسرها بمعنى القدرة وهو احتراز عن توهم

ص: 251

كون عفوه عن معجزة (أكثر من أن تأتي عليه صلى الله تعالى عليه) أن نذكر كله أو معظمه، (وحسبك) أي كافيك ومغنيك (ما ذكرناه ممّا في الصّحيح) أي في الكتب الصحيحة (والمصنّفات الثّابتة) أي ولو لم تكن من الصحاح الستة أو ولو لم تكن صحيحة بل ثابتة حسنة فإنها حجة بينة (إلى ما بلغ) أي منضمة إلى ما وصل مجموعه (متواترا) أي في المعنى (مبلغ اليقين) أي مبلغا يحصل به اليقين للمؤمنين في أمر الدين (من صبره) بيان لما أي من تحمله (على مقاساة قريش) أي مكايدتهم ومعارضتهم ومخالفتهم (وأذى الجاهليّة) أي وتأذيه من أهل جاهليتهم وسفلتهم (ومصابرة الشّدائد) أي مبالغة المحن وفي نسخة ومصابرة الشدائد (الصّعبة) أي الشاقة (معهم) أي مع أعدائه (إلى أن أظفره الله عليهم) بنصره وأظهره كما في نسخة (وحكّمه فيهم) بتشديد الكاف أي جعله حاكما عليهم متصرفا في أمرهم (وهم لا يشكّون) أي لا يترددون بناء على زعمهم وقياسه على أنفسهم (في استئصال شأفتهم) بفتح شين معجمة فسكون همزة ففاء فتاء أي جمعهم وقطع أثرهم وهي في الأصل قرحة تخرج للإنسان في أسفل القدم فتكوى فتذهب فهم يقولون في المثل استأصل الله شأفته أي أذهبه كما أذهبها وروي في استئصاله بالإضافة ونصب شأفتهم التي في استهلاكه دابرهم من أصلهم وفصلهم (وإبادة خضرائهم) بفتح خاء وسكون ضاد معجمتين بعدهما راء فألف ممدودة أي إهلاك جماعتهم وتفريق جمعهم فالإبادة بكسر الهمزة مصدر أباده الله أي أهلكه وخضراؤهم سوادهم ومعظمهم والمعنى لا يشكون في هلاكهم وذهابهم وفنائهم (فما زاد على أن عفا) أي تجاوز عن أفعالهم (وصفح) أي وأعرض عن أقوالهم، (وقال) أي لهم تلويحا بلطفه إليهم وشفقته عليهم واستخراجا لما في ضمائرهم واستظهارا لما في سرائرهم (ما تقولون) أي فيما بينكم أو ما تظنون بي (إنّي فاعل بكم) أي بعد ما ظفرت عليكم (قالوا خيرا) أي نقول قولا خيرا أو نظن ظنا خيرا أو نفعل خيرا، (أخ كريم) أي هو أو أنت وهو في معنى العلة أي لأنك أخ كريم (وابن أخ كريم) أي فلا يجيء من مثلك إلا ما يوجب الكرم والعفو عمن ظلم، (فقال أقول) أي في جواب قولكم (كما قال أخي يوسف) أي لإخوته فأنا مقتد بالأنبياء العقلاء لا بالأغبياء الجهلاء (لا تَثْرِيبَ) لا تعيير ولا توبيخ ولا تعييب (عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: 92] ) أي هذا الوقت الذي ظهر فضلي لديكم أولا أذكر لكم الذنب في هذا اليوم الذي محله التثريب فما ظنكم بغيره من الزمان البعيد أو الغريب وأما ما جوزه التلمساني من الوقف على عليكم وجعل اليوم ظرفا لما بعده ففي غاية من البعد مبنى ومعنى (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) أي ما فرط منكم وظهر عنكم (الآية) أي وهو أرحم الراحمين وإنما رحمتي أثر من آثار رحمته كما قال تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكما في الحديث الشريف أنا رحمة مهداة أي رحمة لكم ومهداة إليكم. (اذهبوا فأنتم الطّلقاء) بضم ففتح ممدودا جمع طليق بمعنى مطلوق وهو الأسير يخلى عن سبيله أي الخلصاء من قيد الأسر فإنهم كانوا حينئذ اسراء وقد قال ذلك يوم فتح مكة آخذا بعضادتي باب الكعبة على ما رواه ابن سعد

ص: 252

والنسائي وابن زنجويه وجاء نوفل بن معاوية إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو ومن منا من لم يعادك ويؤذك ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ ولا ما ندع حتى هدانا الله بك وأنقذنا بوجودك من الهلكة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد عفوت عنك فقال فداؤك أبي وأمي وقد روى سفيان عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم أنه قال الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف أي أهل الطائف كما رواه ابن سيرين قال التلمساني وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما فتح مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين ثم أتى الكعبة وفيها رؤساء قريش فأخذ بعضادتي الباب وقال ماذا ترون أني صانع بكم فقالوا أخ كريم وابن أخ كريم ملكت فاسمح فقال أني أقول لكم كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ الآية وقال أنتم الطلقاء ولكم أموالكم قال فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام (وقال أنس) كما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (هبط ثمانون رجلا من التّنعيم) وهو أقرب أطراف مكة إليها وهو على ثلاثة أميال منها وقيل أربعة وهو من جهة المدينة والشام سمي بذلك لأنه عن يمينه جبل يقال له نعيم وعن شماله جبل يقال له ناعم والوادي نعمان بفتح النون (صلاة الصّبح) أي نزلوا وقت صلاة الفجر (ليقتلوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بغتة وغفلة (فأخذوا) بصيغة المجهول (فأعتقهم رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ [الفتح: 24] ) أي كفار مكة (عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ الآية) وهي ببطن مكة أي داخلها أو قريبا منها من بعد أن أظفركم عليهم أي أظفركم وغلبكم فهزمهم وأدخلهم بطنها وقد ذكر المفسرون أن سبب نزولها عام الحديبية أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خالد بن الوليد في جماعة فهزمهم حتى أدخلهم بطن مكة أو كان يوم فتح مكة وبه أخذ أبو حنيفة أن مكة فتحت عنوة ولا ينافيه ما ذكر من أن السورة نزلت قبله إذ هي من جملة المعجزات والأخبار عن المغيبات قبل وقوعها (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لأبي سفيان) أي ابن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف شهد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حنينا وأعطاه من غنائمها مائة وأربعين أوقية وزنها له بلال كان شيخ مكة ورئيس قريش بعد أبي جهل أسلم يوم الفتح ونزل المدينة سنة إحدى وثلاثين ودفن في البقيع (وقد سيق إليه) أي جيء به إليه والجملة معترضة بين القول ومقوله مبينة لحال صاحبها والمعنى به العباس ليلا مردفا له على بغلته إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو متوجه لفتح مكة (بعد أن جلب) أي ساق (إليه الأحزاب) وهي جموع مجتمعة للحرب من قبائل متفرقة والمعنى بعد كثرة قبائحه وجملة فضائحه منها أنه جمع أحزاب كفار مكة وغيرهم وأتى أهل المدينة على عزم قتلهم ونهبهم وهم أهل الخندق وكانوا ثلاثة عساكر وعدتهم عشرة آلاف قال ابن إسحاق وكانت في شوال سنة خمس وكان الحصار أربعين يوما (وقتل عمّه) أي وتسبب بقتل عمه حمزة إذ قتله

ص: 253