المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول [فيما جاء من ذلك مجيء المدح والثناء] - شرح الشفا - جـ ١

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأوّل

- ‌[المقدمة]

- ‌ترجمة القاضي عياض

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌القسم الأول [في تعظيم العلي الأعلى جل وعلا]

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عليه السلام]

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ [فِيمَا جَاءَ من ذلك مجيء المدح والثناء]

- ‌الفصل الثّاني [في وصفه تعالى بالشهادة وما تعلق به من الثناء والكرامة]

- ‌الْفَصْلُ الثَّالِثُ [فيما ورد من خطابه تعالى إياه مورد الملاطفة والمبرة]

- ‌الْفَصْلُ الرَّابِعُ [فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌الفصل الخامس في قسمه

- ‌الْفَصْلُ السَّادِسُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في جهته عليه الصلاة والسلام مورد الشفقة والإكرام]

- ‌الفصل السّابع [فيما أخبره الله بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ]

- ‌الْفَصْلُ الثَّامِنُ [فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بصلاته عليه وولايته له]

- ‌الْفَصْلُ التَّاسِعُ [فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كراماته عليه السلام]

- ‌الْفَصْلُ الْعَاشِرُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده]

- ‌الْبَابُ الثَّانِي [فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ المحاسن خلقا وخلقا]

- ‌فصل [قال القاضي رحمه الله تعالى إذا كانت خصال الكمال والجلال]

- ‌فصل [إن قلت أكرمك الله تعالى لا خفاء على القطع بالجملة]

- ‌فصل [وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ وَذَكَاءُ لُبِّهِ وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ وفصاحة لسانه واعتدال حركاته وحسن شمائله]

- ‌فصل [وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول]

- ‌فصل [وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشأه]

- ‌فصل [وأما تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثلاثة ضروب الضرب الأول]

- ‌فصل [وأما الضرب الثاني ما يتفق التمدح بكثرته والفخر بوفوره]

- ‌فصل [وأما الضرب الثالث فهو ما تختلف فيه الحالات]

- ‌فصل [وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة]

- ‌فصل [وأما أَصْلُ فُرُوعِهَا وَعُنْصُرُ يَنَابِيعِهَا وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ]

- ‌فصل [وأما الحلم]

- ‌فصل [وأما الجود]

- ‌فصل [وأما الشجاعة والنجدة]

- ‌فصل [وأما الحياء والإغضاء]

- ‌فصل [وأما حسن عشرته وآدابه]

- ‌فصل [وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق]

- ‌فصل [وأما خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في الوفاء]

- ‌فصل [وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وأما عدله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمانته وعفته وصدق لهجته]

- ‌فصل [وأما وقاره صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وأما زهده صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا]

- ‌فصل [وأما خوفه صلى الله تعالى عليه وسلم من ربه عز وجل]

- ‌فصل [اعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن صفات جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام]

- ‌فصل [قد آتيناك أكرمك الله سبحانه من ذكر الأخلاق الحميدة]

- ‌فصل [في تفسير غريب هذا الحديث ومشكله]

- ‌الْبَابُ الثَّالِثُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ ومشهورها بتعظيم قدره عند ربه عز وجل]

- ‌الفصل الأول [فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل]

- ‌فصل [في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم بما تضمنته كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ]

- ‌فصل [ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده]

- ‌فصل [إبطال حجج من قال أنها نوم]

- ‌فصل [وأما رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم لربه عز وجل]

- ‌فصل [في فوائد متفرقة]

- ‌فصل [وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَظَاهِرُ الآية من الدنو والقرب]

- ‌فصل [في ذكر تفضيله في القيامة بخصوص الكرامة]

- ‌فصل [في تفضيله بالمحبة والخلة]

- ‌فصل [في تفضيله بالشفاعة والمقام المحمود]

- ‌فصل [في تفضيله فِي الْجَنَّةِ بِالْوَسِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالْكَوْثَرِ وَالْفَضِيلَةِ]

- ‌فصل [فَإِنْ قُلْتَ إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ وصحيح الأثر]

- ‌فصل [في أسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته]

- ‌فصل [في تشريف الله تعالى له بما سماه به من أسمائه الحسنى]

- ‌فصل [قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وها أنا أذكر نكتة]

- ‌الْبَابُ الرَّابِعُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ والكرامات]

- ‌فصل [اعلم أن الله عز وجل قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ]

- ‌فصل [اعلم أن معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة]

- ‌فصل [في إعجاز القرآن العظيم الوجه الأول]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ والأسلوب الغريب]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ من الأخبار]

- ‌فصل [الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ القرون السالفة]

- ‌فصل [هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نزاع فيها ولا مرية]

- ‌فصل [ومنها الروعة]

- ‌فصل [وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لا تعدم ما دامت الدنيا]

- ‌فصل [وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِي الْأُمَّةِ في إعجازه وجوها كثيرة]

- ‌فصل [في انشقاق القمر وحبس الشمس]

- ‌فصل [في نبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثيره ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَفْجِيرُ الْمَاءِ ببركته وانبعاثه]

- ‌فصل [ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته]

- ‌فصل [في قصة حنين الجذع له صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [ومثل هذا وقع في سائر الجمادات بمسه ودعوته]

- ‌فصل [في الآيات في ضروب الحيوانات]

- ‌فصل [في إحياء الموتى وكلامهم]

- ‌فصل [في إبراء المرضى وذوي العاهات]

- ‌فصل [في إجابة دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [في كراماته صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ]

- ‌فصل [في عصمة الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم من الناس وكفايته من آذاه]

- ‌فصل [ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم]

- ‌فصل [ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام وكراماته وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة]

- ‌فصل [وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرَادَفَتْ]

- ‌فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مولده عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى قد أتينا في هذا الباب]

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌الفصل الأول [فيما جاء من ذلك مجيء المدح والثناء]

‌الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عليه السلام]

أي من القسم الأول (في ثناء الله تعالى) أي مدحه (عليه وإظهاره عظيم قدره لديه) أي عنده في مقام قربه كما يفهم من الآيات المتلوة والأحاديث النبوية وقال الدلجي أي عنده في اللوح المحفوظ لتعلم الملائكة زيادة شرفه وتمييزه على غيره إذ هي المرادة. هنا فيلتزموا توقيره وتعظيمه انتهى لكنه يحتاج إلى نقل كما لا يخفى ثم قال الدلجي الثناء هنا باعتبار غايته فهو إما أنعام بأنواعه من تكريم وتعظيم فيرجع إلى صفات الأفعال وأما إرادة ذلك فيرجع إلى صفات الذات وإلا فهو في الأصل إما بمعنى الحمد والشكر أو المدح أو عام فيهما ومورد ذلك كله الجوارح وهو في حقه محال فيكون مجازا مرسلا لكون العلاقة غير المشابهة ففيه بحث ظاهر إذ الثناء من باب الكلام وهو في حقه سبحانه وتعالى ثابت حقيقة على ما عليه أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة فلا يحتاج إلى اعتبار مجاز الغاية بخلاف صفتي الغضب والرحمة لما حقق في محلهما والله تعالى أعلم (اعلم) خطاب عام وهو الاحق أو خاص بالسائل كما سبق (إن في كتاب الله العزيز) أي النادر في بابه أو الغالب على سائر الكتب بنسخه في خطابه (آيات كثيرة مفصحة) أي موضحة مصرحة (بجميل ذكر المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم) أي المجتبى في باب الصفاء والوفاء (وعد محاسنه) أي وبتعداد مكارم اخلاقه (وتعظيم أمره وتنويه قدره) أي رفعة شأنه وحكمه (اعتمدنا منها) أي من تلك الآيات (على ما ظهر معناه) أي من منطوق الدلالات (وبان فحواه) أي تبين مقتضاه من مفهوم العلامات على ما له من الكمالات (وجمعنا ذلك) أي ما ذكر من الأصول (فِي عَشَرَةِ فُصُولٍ) .

‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ [فِيمَا جَاءَ من ذلك مجيء المدح والثناء]

أي النوع الأول من هذا الباب (فيما جاء) أي في كتابه (من ذلك) أي مما ذكر من الآيات (مجيء المدح والثناء) نصب مجيء على المصدر. (وتعداد المحاسن) بفتح التاء أي ومجيء تكرار أخلاقه الحسنة وهو جمع حسن على غير قياس ونصبه على ما في نسخة غير مستقيم (كقوله تعالى) وفي نسخة لقوله تعالى باللام وهو غير ملائم للمرام: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ الآية) بدأ بها فإنها مشتملة على جملة من امتنانه سبحانه وتعالى مما يوجب تعظيم رسوله ويعلي شأنه منها القسم المستفاد من اللام المقرونة بقد الدالتين على تحقيق الكلام ومنها الإيماء في جاء إلى أن رسولنا لو كان في الصين لكان

ص: 39

الواجب عليكم المأتي إليه لتعلم علم الدين ومعرفة اليقين فيكون إتيانه فضلا منا عليكم وإحسانه منه إليكم فيجب حسن استقباله وإطاعة أمره وإقباله ومنها تنكير رسول فإنه يشير إلى أنه رسول عظيم تفخيما لشأنكم وتأييدا لبرهانكم ومنها أنه جعل من جنسكم البشري فإنكم لن تطيقوا على التلقين الملكي وليكون أدعى إلى متابعته حيث يفعل أيضا بمقتضى مقالته ولو كان ملكا لربما قيل إن القوة البشرية ليست كالقدرة الملكية ومنها أنه جعل من صنفكم العربية وإلا لقلتم أمرسل إليه عربي والرسول إليه أعجمي ثم بقية الآية عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شديد شاق عليه عنتكم وتعبكم ووقوعكم في عذابكم حريص عليكم أن تؤمنوا كلكم بالمؤمنين منكم ومن غيركم رؤوف رحيم والرأفة أشد الرحمة فذكر الرحيم تذييل أو عكس مراعاة للفواصل لا لكونه أبلغ كما توهم الدلجي (قال السّمرقنديّ) بفتح سين مهملة وميم وسكون راء هو المشهور على الألسنة وأما ما ضبطه بعض المحشيين كالتلمساني وغيره من سكون ميم وفتح راء فهو لحن على ما صرح به القاموس وهو الإمام الجليل الحنفي المحدث المفسر نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي الفقيه أبو الليث المعروف بإمام الهدى تفقه على الفقيه أبي جعفر الهندواني وهو الإمام الكبير صاحب الأقوال المفيدة والتصانيف المشهورة العديدة توفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة له تفسير القرآن أربع مجلدات والنوازل في الفقه وخزانة الفقه في مجلدة وتنبيه الغافلين وكتاب البستان وذكر التلمساني أنه أبو علي واسمه الحسن بن عبد الله منسوب إلى بلدة سمرقند من أهل الظاهر روى عن داود بن علي الظاهري لكن المعتمد هو الأول وسيأتي في مواضع من كتاب الشفاء حيث يروي عنه القاضي بواسطة واحدة والله أعلم وأبو الليث السمرقندي متقدم يلقب بالحافظ وهو الفرق بينهما ذكره التلمساني. (وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] بِفَتْحِ الْفَاءِ) وهي قراءة شاذة مروية عن فاطمة وعائشة رضي الله تعالى عنهما وقرأ به عكرمة وابن محيص وغيرهما وفي المشترك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قرأها كذلك، (وقراءة الجمهور بالضّمّ) وضبطه بعضهم بالفتح وهو غير مشهور وضبط قراءة بصيغة المصدرية ويمكن قراءته بالجملة الفعلية ثم رأيت في حاشية أنهما روايتان والجمهور بالضم معظم الناس، (قال الفقيه القاضيّ أبو الفضل وفّقه الله تعالى) أي المصنف، (أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْعَرَبَ أَوْ أَهْلَ مَكَّةَ أَوْ جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ المفسّرين من المواجه) أي من الذي وقع له المواجهة من المؤمنين أو غيرهم (بهذا الخطاب) يعني جاءكم فمن بفتح الميم موصول وكسر نونه في الوصل لالتقاء الساكنين والمواجه بصيغة المفعول مرفوع ثم الظاهر العموم الشامل لجميع الإنس بل والجن أيضا على وجه التغليب أما من اختار المؤمنين فلأنهم المرادون في الحقيقة والمنتفعون بمتابعته في الطريقة وأما من اختار العرب فلما يدل عليه ظاهر قوله تعالى حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ولما يتبادر من قوله أَنْفُسِكُمْ

ص: 40

جنس العرب ولا ينافي ما اخترناه من العموم فتح الفاء لأنه إذا كان أشرف جنس العرب فيكون أفضل سائر الأجناس فإنهم أكرم الناس لما تقرر في محله وأما من اختار أهل مكة فلما أشار إليه المصنف بناء على قراءة الضم. (أَنَّهُ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَعْرِفُونَهُ) اي محله ومرتبته بحليته ونعته (ويتحقّقون مكانه) أي مكان ولادته ونسبه ورتبته أو رفعة قدره وعلو شأنه ويؤيده ما في نسخة مكانته وهو مخل بالتسجيع لما قبله ملائم لقوله (ويعلمون صدقه، وأمانته، فلا يتّهمونه بالكذب) في دعوى رسالته أي ولذا كانوا يسمونه محمد الأمين لكمال ديانته (وترك النّصيحة لهم) أي وترك ارادة الخير لهم (لكونه منهم) وهو أبعد للتهمة في ترك النصيحة في حقهم، (وأنّه) بالفتح عطف على أنه السابق الواقع مفعولا ثانيا لا علم ولا يبعد أن يكون مجرور المحل معطوفا على كونه والحاصل أنه:(لَمْ تَكُنْ فِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَلَهَا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) على للمصاحبة كقوله تعالى وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أي مع رسول الله (ولادة) ، أي قرابة قريبة (أو قرابة) أي بعيدة، (وهو) أي هذا المعنى المستفاد من قوله وأنه الخ (عند ابن عبّاس)، كما رواه عنه البخاري والطبراني (وغيره) أي من المفسرين (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] ) في قوله تعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ أجرا إلا المودة أي لكن المودة في القربى لازمة من الجانبين وأنا لا أقصر في نصيحتكم وإرادة الخير لكم ومحبتكم فيجب عليكم أيضا أن تجتهدوا في متابعتي ونصرتي ودفع الاذى عن أهل ملتي (وكونه) قال الحلبي هو بالرفع لكن الظاهر كما اقتصر عليه الدلجي أنه بالجر عطفا على قوله والمعنى وهو معنى كونه عليه السلام (من أشرفهم) أي نسبا، (وأرفعهم) أي حسبا، (وأفضلهم) أي سخاوة ونجادة (على قراءة الفتح) أي بناء عليها (وهذه) أي المنقبة (نهاية المدح) أي من هذه الجهة، (ثمّ وصفه) أي الله سبحانه وتعالى (بعد) بالضم أي بعد قوله من أنفسكم (بأوصاف حميدة، وأثنى عليه بمحامد) بالمنع جمع محمدة بمعنى مدحة (كثيرة) أي عديدة: (من حرصه على هدايتهم) أي دلالتهم على العقائد الدينية، (ورشدهم) أي إرشادهم إلى ما فيه صلاح أمورهم من الأحكام الشرعية، (وإسلامهم) أي انقيادهم واستسلامهم للحوادث الكونية بقوله حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ (وشدّة ما يعنتهم) من الأفعال والتفعيل أي ما يشق عليهم ولا يطيقونه، (ويضرّ بهم) ضبط في نسخة بضم الياء وكسر الضاد وهو غير صحيح لوجود الباء في مفعوله وقول الدلجي إن الباء زائدة غير صحيح ففي القاموس ضره وبه وأضره والصواب ضبطه بفتح وضم التقدير وما يضرهم (في دنياهم وأخراهم وعزّته عليه) أي ومن غلبة ما يعنتهم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لقوله عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ وكان الأولى مراعاة الترتيب القرآني كما لا يخفى بأن يقدم قضية العزة على الشدة ثم يقول. (ورأفته، ورحمته بمؤمنيهم) أي ومؤمني غيرهم وفي نسخة بمؤمنهم بصيغة الإفراد على إرادة الجنس بطريق الاستغراق

ص: 41

بقوله بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ والرأفة أدق من الرحمة ولعل التفاوت بحسب القابلية والرتبة، (قال بعضهم: أعطاه) أي الله (اسمين من أسمائه رؤوف) بالاشباع ودونه فمن الأول قول كعب بن مالك الأنصاري.

نطيع نبيا ونطيع ربا

هو الرحمن كان بنا رؤوفا

ومن الثاني قول جرير:

يرى للمسلمين عليه حقا

كفعل الوالد الرؤوف الرحيم

(رحيم) أي على وصف التنكير وأما بصيغة التعريف فالظاهر أنه لا يجوز إطلاقهما على غيره سبحانه (ومثله) أي ومثل معنى الآية الأولى (فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) خصوا لكونهم المنتفعين (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 164] . الْآيَةَ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) أي العرب الذين غالبهم ما قرأ ولا كتب (رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2] ) أي أميا مثلهم لكن الأمية في حقه عليه الصلاة والسلام معجزة ومنقبة وفي حق غيره معيبة ومنقصة (الآية) تمامها يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي مع كونه أميا فهذا أظهر معجزاته ويزكيهم أي يطهرهم من خبائث الأحوال والأعمال ويعلمهم الكتاب والحكمة أي السنة والشريعة. (وقوله) أي وفي الآية الأخرى وقوله: (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 151] الْآيَةَ) إلى قوله فَاذْكُرُونِي بالطاعة أذكركم بالمثوبة. (وروي عن عليّ بن أبي طالب، كرم الله تعالى وجهه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما رواه ابن أبي عمر العدني في مسنده (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 129] قَالَ: نسبا) أي قرابة مختصة بالآباء على ما في القاموس ونصبه على التمييز وكذا قوله (وصهرا) قال البيضاوي في وقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم وذوات صهر أي اناثا يصاهر بهن والحاصل أنه شريف الجانبين وكريم الطرفين ثم قوله (وحسبا) أريد به ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه من الدين أو الكرم أو المال وقيل الحسب والكرم قد يكونان بمن لا شرف لآبائهم والشرف والمجد لا يكونان إلا بهم (ليس في آبائي) أي أسلافي من الأب والجد والأم والجدة (من لدن آدم) بفتح لام وضم دال وسكون نون ويجوز سكون الدال وكسر النون أي من عند ابتداء زمن آدم عليه الصلاة والسلام إلى وجود الخاتم صلى الله تعالى عليه وسلم (سفاح) بكسر السين وهو صب ماء الرجل بلا عقد على ما قاله المحشي والأولى أن يقال المراد به الوطء من غير مجوز لأن السرية لا عقد لها والحاصل أن المراد به الزنا وما لا يجوز وطؤه شرعا (كلّها نكاح) أي ذو عقد أو كل واحد منا ناكح أو قصد به المبالغة كرجل عدل وهو واقع على التغليب وإلا فأم إسماعيل عليه الصلاة والسلام سرية اللهم إلا أن يقال قد اعتقها وعقد عليها قال المحشي ويروى كلها نكاح وهو

ص: 42

كذا في نسخة ولعل التقدير كل المجامعة ذات نكاح وفي حديث لما خلق الله تعالى آدَمَ أَهْبَطَنِي فِي صُلْبِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَجَعَلَنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ وَقَذَفَ بِي فِي النَّارِ فِي صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ لَمْ يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة إلى أن أَخْرَجَنِي مِنْ بَيْنِ أَبَوَيَّ لَمْ يَلْتَقِيَا عَلَى سفاح قط، (قال ابن الكلبيّ) وهو محمد بن السائب أبو النصر المفسر النسابة الأخباري وترجمته معروفة في الميزان وغيره:(كتبت للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم خمسمائة أمّ) لعله أراد به التكثير وإلا فمحال أن يكون بينهما خمسمائة أم إذ بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين عدنان أحد وعشرون أبا إجماعا وبين عدنان وآدم على ما بينه ابن إسحاق وغيره ستة وعشرون ابا فيكون بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين آدم عليه الصلاة والسلام سبعة وأربعون أبا بسبع وأربعين أما ولا يبعد أنه عد امهاته وأمهات أعمامه وأمهات أعمام آبائه إلى آدم والله تعالى أعلم (فما وجدت فيهنّ سفاحا) أي ذات سفاح (ولا شيئا ممّا كان عليه الجاهليّة) أي من اخذ الأخدان لشهادة حديث ابن عدي والطبراني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح وقد نقل عن أكثر أهل السير كزبير بن بكار وغيره أن كنانة خلف على برة بعد أبيه خزيمة على عادة العرب في الجاهلية في أن أكبر ولد الرجل يخلف على زوجته إذا لم يكن منها وهذا مشكل لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول كلنا نكاح ليس فينا سفاح ما ولدت من سفاح أهل الجاهلية وذكر السهيلي وغيره في هذا اعذارا منها أن الله تعالى يقول وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي من تحليل ذلك قبل الإسلام وفائدة هذا الاستثناء أن لا يعاب نسب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى وبعده لا يخفى وذكر الحافظ أبو عثمان وعمرو بن بحر في كتاب له سماه كتاب الأصنام قال وخلف كنانة بن خزيمة بن مدركة على زوجة أبيه بعد وفاته وهي برة بنت اد بن طابخة تحت كنانة بن خزيمة فولدت له النضر بن كنانة وإنما غلط كثير من الناس لما سمعوا أن كنانة خلف على زوجة أبيه لا تفارق اسمها وتقارب نسبها قال وهذا الذي عليه مشايخنا من أهل العلم بالنسب قال ومعاذ الله أن يكون أصاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقت بنكاح وقال من اعتقد غير هذا فقد أخطأ وشك في الخبر ويؤيد ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم تنقلت في الأصلاب الزاكية إلى الأرحام الطاهرة؛ (وعن ابن عبّاس، رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)[الشعراء: 218] ) أي كما رواه ابن سعد والبزار وأبو نعيم في دلائله بسند صحيح عنه أنه (قال من نبيّ إلى نبيّ حتّى أخرجتك) وفي نسخة صحيحة حتى أخرجتك (نبيّا) ولا يخفى أن المراد به أن بعض الآباء كانوا من الأنبياء وفي الآية عنه وعن غيره معاني أخر، (وقال جعفر بن محمّد) أي ابن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب الهاشمي المدني المعروف بالصادق أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأمها اسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر وكان يقول ولدت في الصديق مرتين متفق على إمامته

ص: 43

وجلالته وسيادته قال البخاري في تاريخه ولد سنة ثمانين وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة انتهى وقد أخرج له مسلم والأربعة وكذا البخاري في كتابه أدب المفرد: (علم الله تعالى عجز خلقه عن طاعته) أي عن معرفة ما يطلب منهم فعلا وتركا من طاعته بغير واسطة رسول وبعثته لبيان عبادته، (فعرّفهم) بتشديد الراء أي فأعلمهم (ذلك) أي العجز (لِكَيْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَ الصَّفْوَ مِنْ خدمته) أي الخالص من طاعته بل إنما ينالون بالواسطة من فضله ورحمته كما قال الله تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وفي قضية إبليس إيماء إلى أن كثرة الخدمة غير مفيدة مع قلة الرحمة، (فأقام بينه وبينهم مخلوقا من جنسهم في الصّورة) أي مباينا لصنفهم في السيرة؛ (أَلْبَسَهُ مِنْ نَعْتِهِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ، وَأَخْرَجَهُ إِلَى الخلق سفيرا) أي وأظهره مرسلا إليهم حال كونه رسولا مصلحا لما بينهم (صادقا) أي مطابقا قوله فعله وموافقا حكمه خبره، (وجعل طاعته طاعته) بنصبهما أي كطاعة الله تعالى أي فيما يأمره وينهاه وهو تشبيه بليغ مفيد للمبالغة وهو أن طاعته عين طاعته وكذا قوله (وموافقته موافقته) أي في أمر دينه ودنياه فلا تجوز مخالفته في طريق مولاه كما قال سبحانه وتعالى في حقه فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ (فَقَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] ) وقد روي من أحبني فقد أحب الله ومن عصاني فقد عصى الله تعالى وكذا قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ (وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)[الأنبياء: 107] ) وكذا قوله صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أنا رحمة مهداة على ما رواه الحاكم عن أبي هريرة (قال أبو بكر محمّد بن طاهر) وفي نسخة محمد ابن طاهر أي ابن محمد بن أحمد بن طاهر الاشبيلي القيسي وبهذا يعرف أن ليس المراد به عبد الله بن طاهر الأبهري الذي هو من أقران الأشبيلي خلافا لما توهمه التلمساني قال العسقلاني هو مغافري شاطبي روى عن أبيه وابن علي النسائي وغيرهما وأجاز له أبو الوليد الباجي: (زيّن الله محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم بزينة الرّحمة) أي بزيادة المرحمة (فكان كونه) أي وجوده (رحمة) وأغرب الدلجي في قوله مكان كونه موصوفا بالرحمة رحمة، (وجميع شمائله) جمع شمال بالكسر وهو الخلق بالضم والمراد بها أخلاقه الباطنة، (وصفاته) الظاهرة من نحو كرمه وجوده (رحمة) الأولى مرحمة لتغاير الأولى والمعنى محل رحمة نازلة (على الخلق) أي عامة وخاصة، (فَمَنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ رَحْمَتِهِ فَهُوَ النَّاجِي) قال التلمساني أي الخالص والصواب المخلص (في الدّارين) أي حالا ومآلا (من كلّ مكروه) أي مغضوب (والواصل فيهما) أي وهو الواصل في الكونين (إلى كلّ محبوب) وفيه إيماء إلى ما ورد من أن الله تعالى خلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه فقد ضل وغوى؛ (ألا ترى) بصيغة الخطاب المعلوم ويجوز أن يقرأ بصيغة الغائب المجهول أي ألا تعلم (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً) أي ذا رحمة وأريد بها المبالغة (لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ) أي من غير تقييد للمؤمنين أو

ص: 44

لأمته دون غيرهم من المخلوقين ويستفاد من نسبة الرحمة الإلهية أنها ليست من الأمور العارضية (فكانت حياته رحمة، ومماته رحمة) بل وليس هناك موت ولا فوت بل انتقال من حال إلى حال وارتحال من دار إلى دار فإن المعتقد المحقق أنه حي يرزق. (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم) فيما رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده والبزار بإسناد صحيح:

(حياتي خير لكم) وهو ظاهر (وموتى لكم) قال الدلجي بشهادة وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ حيا وميتا انتهى وغرابته لا تخفى فالأظهر أن يقال لأنه قال تعرض على أعمالكم فأشفع في غفران سيئاتكم وأدعو لكم في تحسين حالاتكم والمعنى أني متوجه إليكم وراحم عليكم وشفيع لكم حيا وميتا بالنسبة إلى حاضركم وغائبكم أو التقدير وموتي قبلكم خير لكم فيوافق ما أراده المصنف بقوله. (وكما قال عليه الصلاة والسلام أي على ما رواه مسلم (إذا أراد الله تعالى رحمة بأمه) قال الحافظ المروزي المعروف رحمة أمة وكذا رواه مسلم كذا ذكره الحجازي قلت وفي الجامع الكبير أيضا بلفظ أن الله تعالى إذا أراد رحمة أمة من عباده: (قبض نبيّها قبلها) أي قبل موت جميعها (فجعله لها فرطا وسلفا) أي بين يديها كما في الصحيح وهما بفتحتين أي متقدما وسابقا فإنهما ما أصيبت بمصيبة أعظم من موت نبيها وأصل الفرط هو الذي يتقدم الواردين ليهيئ لهم ما يحتاجون إليه عند نزولهم في منازلهم ثم استعمل للشفيع فيمن خلفه ثم تتمة الحديث على ما في صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا وإذا اراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فاقر عينيه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره. (وقال السّمرقنديّ) أي أبو الليث إمام الهدى الحنفي كما ذكره الدلجي (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ) بالنصب على الحكاية. (يعني) أي يريد سبحانه وتعالى بالعالمين (للجنّ والإنس) أي المؤمنين بقرينة تقابله بقوله. (وقيل لجميع الخلق) أي المكلفين لقوله: (للمؤمن رحمة) بالنصب ويجوز رفعها أي رحمة خاصة (بالهداية) وكان الأولى أن يقول رحمة للمؤمن بالهداية ليطابق الآية وليوافق قوله، (ورحمة للمنافق بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب) أي إلى العقبى ولا يبعد أن يكون تقديم المؤمن إشارة إلى حصر الرحمة المختصة بالهداية كما قال الله تعالى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي بالدلالة الموصلة التي هي خلق الهداية في خواص الإنسان من أهل الإيمان مع أنه هدى للناس باعتبار عموم الهداية بالدلالة المطلقة التي هي بمعنى البيان. (قال ابن عبّاس رضي الله عنهما أي فيما رواه جرير وابن أبي حاتم في تفسيرهما والطبراني والبيهقي في دلائله: (هُوَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ إِذْ عُوفُوا مِمَّا أصاب غيرهم من الأمم المكذّبة) أي من أنواع العقوبة ومآل هذا القول إلى ما قبله ثم الأظهر أن العالمين يشمل الملائكة أيضا ويدل عليه قوله. (وحكي) بصيغة المجهول وقال الحجازي ويروى (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ عليه السلام: هَلْ أصابك من هذه الرّحمة) أي المنقسمة على هذه الأمة من نبي الرحمة (شيء) أي من الرحمة مختص بك فالاشارة إلى موجود في الذهن إذ

ص: 45

الرحمة معنى يوجده الله تعالى فيمن يشاء من خلقه وفيها يتفاوتون. (قال: نعم، كنت أخشى العاقبة) أي آخر أمري من سوء الخاتمة لما وقع لإبليس من الزلة (فأمنت) بفتح فكسر وضبطه التلمساني بصيغة المجهول ففي القاموس الأمن ضد الخوف أمن كفرح وقد أمنه كسمع ائتمنه واستأمنه انتهى ولا يخفى أن بناء المجهول غير ظاهر في المعنى إذ المراد فصرت آمنا ببركة القرآن الذي نزل عليك (لِثَنَاءِ اللَّهِ عز وجل عَلَيَّ بِقَوْلِهِ: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي صاحب مكانة (مُطاعٍ) أي بين الملائكة (ثَمَّ) أي فيما هنالك (أَمِينٍ [التكوير: 20- 21] ) أي على أمر الوحي وغيره ووجه الاستدلال به أنه تعالى حيث مدحه في محكم كتابه العظيم وأخبر عن حسن حاله للنبي الكريم لا يتصور تبدل حاله ولا تغير مآله ولا يبعد أن يجعل قوله أمين بمعنى مأمون العاقبة وقد سنح بالبال والله تعالى أعلم بالحال أنه صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وكرم رحمة لجميع خلق الله تعالى فإن العالمين لا شك أنه حقيقة فيما سواه ولا صارف بالاتفاق يصرفه عن دلالة الإطلاق ثم من المعلوم أنه لولا نور وجوده وظهور كرمه وجوده لما خلق الإفلاك ولا أوجد الاملاك فهو مظهر للرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء من الحقائق الكونية المحتاج إلى نعمة الإيجاد ثم إلى منحة الإمداد وينصره القول بأنه مبعوث إلى كافة العالمين من السابقين واللاحقين فهو بمنزلة قلب عسكر المجاهدين والأنبياء مقدمته والأولياء مؤخرته وسائر الخلق من أصحاب الشمال واليمين ويدل عليه قوله تعالى تبارك الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ومن جمله انذاره للملائكة قوله سبحانه وتعالى وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ويقويه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثت إلى الخلق كافة وقد بينت وجه ارساله إلى الموجودات العلوية والسفلية في رسالتي المسماة بالصلاة العلية في الصلاة المحمدية. (وروي عن جعفر بن محمّد) أي الباقر (الصّادق) نعت لجعفر (في قوله تعالى:

فَسَلامٌ) أي فسلامة من كل ملامة (لَكَ) أي لرحمتك (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة: 91] ) خبر سلام أي حاصل من أجلهم ولو كان من أعظمهم وأجلهم. (أي بك) أي بسبب وجودك أو بسبب كرمك وجودك (إِنَّمَا وَقَعَتْ سَلَامَتُهُمْ مِنْ أَجْلِ كَرَامَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بالشفاعة العظمى فإنها شاملة للنفوس العليا والسفلى من الأولى والأخرى فشملت رحمته في الابتداء والانتهاء في الدنيا والعقبى وقال التلمساني لمحمد روي باللام والباء واللام تعليلية والباء سببية فتكون كرامة مضافة إلى ضمير الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى انتهى والنسخ المصححة والأصول المعتمدة على الإضافة إلى المفعول وهو الظاهر في المعنى قال الدلجي أي من أجل إكرام الله إياه فوضع الظاهر موضع المضمر وإلا ظهر أنه التفات من الخطاب إلى الغيبة ثم أغرب الدلجي أن من على هذا زائدة ويجوز أنت كون بمعنى لام التعدي أي لسببك وقع السلام لأصحاب اليمين من أجل إكرام الله تعالى اياك وما قاله تكلف بعيد انتهى والكل تكلف بل تعسف والتحقيق أنه أراد أن الخطاب في

ص: 46

ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والتقدير فسلامة عظيمة لأجلك وبسببك حاصلة لأصحاب اليمين وقوله من أجل توضيح لقوله بك إما بطريق عطف البيان أو على سبيل الاستئناف في التبيان وهذا التأويل خلاف ما قاله أهل التفسير فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين يقال له سلام لك أي مسلم لك أنك منهم أو يا محمد لا ترى فيهم إلا ما تحب من سلامتهم من العذاب وأن منهم من يقول يوم القيامة سلام عليك، (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] ) أي منورهما كما قرئ به ومظهر ما خلق فيهما أو موجد أنوارهما (الآية) بالنصب ويجوز رفعها وخفضها أي اقرأها أو هي معلومة أول إلى آخرها والمراد ما بعدها وهو قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وقد أوضحت معنى الآية في الرسالة المسماة بالصلاة العلية في الصلاة المحمدية عند قوله اللهم صل وسلم على نورك الأسنى واعلم أن النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة ويستحيل اطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف ونحوه من نوع تأويل. (قال كعب) وفي نسخة كعب الاحبار بالحاء المهملة وهو كعب بن ماتع بالمثناة الفوقية أدرك زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يره وأسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وقيل في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وقيل أدرك الجاهلية وصب عمر وأكثر ما روي عنه وروي أيضا عن جماعة من الصحابة وروى عنه أيضا جماعة من الصحابة والتابعين وكان يسكن في حمص وكان قبل إسلامه على دين اليهود ويسكن اليمن توفي في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين متوجها للغزو ودفن بحمص ويقال له كعب الحبر أيضا بفتح الحاء وكسرها لكثرة علمه أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وأغرب شارح حيث قال هو كعب بن مالك الأنصاري، (وابن جبير) وهو سعيد بن جبير أحد أكابر التابعين والعلماء العاملين روى عن ابن عباس وغيره وعنه أمم من المحدثين أخرج له الجماعة في كتبهم الستة وكان أسود الصورة وأنور السيرة مستجاب الدعوة قتل سنة خمس وتسعين وهو ابن تسع وأربعين شهيدا في شعبان ومما يدل على كماله في اليقين وتمكنه في الدين ما روي أنه لما دخل على الحجاج بعد إرساله إليه قام بين يديه فقال له أعوذ منك بما استعاذت مريم إذ قالت أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا

فقال له ما اسمك قال سعيد بن جبير وقال شقي بن كسير فقال أمي أعلم باسمي قال شقيت وشقيت أمك فقال الغيب يعلمه غيرك قال لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى فقال لو علمت أن ذلك بيدك ما اتخذت إلها غيرك قال لأوردنك حياض الموت فقال إذا أصاب في اسمي أمي يعني إذا كنت شهيدا أكون سعيدا قال فما تقول في محمد قال نبي ختم الله تعالى به الرسل وصدق به الوحي وأنقذ به من الجهالة إمام هدى ونبي رحمة قال فما تقول في الخلفاء قال لست

ص: 47

عليهم بوكيل وإنما استحفظت أمر نبي قال فأيهم أحب إليك فقال أحسنهم خلقا وأرضاهم لخالقه واشدهم منه فرقا قال فما تقول في علي وعثمان في الجنة هما أم في النار لو دخلت فرأيت أهلهما لأخبرتك فما سؤالك عن أمر غيب عنك قال فما تقول في عبد الملك بن مروان قال فما لك تسألني عن امرئ أنت واحد من ذنوبه قال فما لك لم تضحك قط قال لم أر ما يضحكني وكيف من خلق من التراب وإلى التراب يعود قال فإني أضحك من اللهو قال ليست القلوب سواء قال فهل رأيت من اللهو شيئا قال لا فدعا بالزمر والعود فلما نفخ فيه بكى فقال له الحجاج ما يبكيك قال ذكري يوم ينفخ في الصور وأما هذا العود فمن نبات الأرض وعسى أن يكون قطع في غير حقه وأما هذه المثاني والأوتار فإن الله سيبعثها معك يوم القيامة قال فإني قاتلك قال إن الله قد وقت وقتا أنا بالغه فإن أجلي قد حضر فهو أمر قد فرغ منه ولا محيص ساعة عنه وإن تكن العافية فالله أولى بها قال اذهبوا به فاقتلوه قال أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له استحفظ لها يا حجاج حتى القاك يوم القيامة فأمر به ليقتل فلما تولوا به ليقتلوه ضحك فقال الحجاج ما أضحكك قال عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عنك ثم استقبل القبلة فقال إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال فحولوه عن القبلة قال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ قال اضربوا به الأرض قال مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى قال اضربوا عنقه قال اللهم لا تحل له دمي ولا تمهله بعدي فلما قتله لم يزل دمه يغلي حتى ملأ أثواب الحجاج وفاض حتى دخل تحت سريره فلما رأى ذلك هاله وافزعه فبعث إلى بياذوق المتطبب فسأله عن ذلك فقال لأنك قتلته ولم يهله ذلك ففاض دمه ولم يخمد في نفسه ولم يخلق الله شيئا أكثر دما من الإنسان فلم يزل به ذلك الفزع حتى منع منه النوم فيقول ما لي ولك يا سعيد بن جبير ستة أشهر ثم إن بطنه استسقى حتى انشق فمات فلما دفن لفظته الأرض وبقي بعد سعيد بن جبير ستة أشهر ونقل أن السجون عرضت بعد موته فوجد فيها ثلاثة وثلاثون ألفا من المظلومين وقد أحصى من قتله صبرا فوجد مائة ألف وعشرين ألفا: (المراد بالنّور) أي بنوره (الثّاني هنا) أي في تتمة هذه الآية: (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) لقوله، (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ نُورِهِ [النُّورِ: 35] أَيْ نُورِ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) على أنه عطف بيان لما قبله وبها يندفع ما قاله الدلجي في قوله هنا أي في هذه الآية من قوله مثل نوره هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فضميره لله تعالى وقوله مثله نوره أي نور محمد عليه السلام إن كان قولهما فهو مناقض لما قبله إلا أن يقال الإضافة بيانية أي مثل محمد الذي هو نور وهو بعيد أو لغيرهما فلا تناقض انتهى والأظهر أن يقال المراد بالنور محمد والتقدير مثل نور الله الذي هو مشرق ظهوره ومظهر نوره في عالم الكون بخلقه وأمره حسب قضائه وقدره كمشكاة إلى آخره فإن النور عبارة عن الظهور وقد انكشف به الحقائق الإلهية والأسرار الأحدية والأستار الصمدية

ص: 48

وبه اشرقت الكائنات وخرجت عن حيز الظلمات وبه صلى الله تعالى عليه وسلم فسر بعض المفسرين قوله تَعَالَى قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. (وقال) وفي نسخة وقاله وهو غير صحيح (سهل بن عبد الله) هو التستري منسوب إلى تستر قال النووي هو بمثناتين من فوق الأولى مضمومة والثانية مفتوحة بينهما سين مهملة مدينة بخوزستان وقال التلمساني والتاآن مضمومتان وقيل بضم الثانية وتفتح وقيل بفتح فقط وقيل بفتح الأولى وبضم الثانية ويقال ششتر بشينين معجمتين من أعمال الأهواز وقيل بحوزستان انتهى وفي القاموس تستر كجندب بلد وبشينين معجمتين لحن وسورها أول سور بعد الطوفان وقد روي أنه كان صاحب الكرامات العالية ولم يكن في وقته له نظير في المعاملات ولم يزل يشتغل في الرياضة العملية إلى أن كان يفطر في كل يوم على أوقية من خبز الشعير بلا أدام فكان يكفيه لقوته درهم واحد في عام وهو مع ذلك يقوم الليل كله ولا ينام وأسلم عند وفاته يهود تنيف على التسعين لما رأوا الناس انكبوا على جنازته وشاهدوا أقواما ينزلون من السماء فيتمسحون بجنازته ويصعدون وينزل غيرهم فوجا بعد فوج وقد توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين (المعنى) أي معنى الآية كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (الله هادي أهل السّموات والأرض) أي فهم بنوره يهتدون وبظهوره يوحدون ففسر النور بالهادي لأن النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره وقدر المضاف ليتعلق كمال هدايته بأرباب ولايته (ثم قال) أي سهل بن عبد الله: (مثل نور محمّد) أي صفة نوره العجيبة الشأن الغريبة البرهان (إذ كان) أي حين صار (مستودعا) بفتح الدال أي مودعا (في الأصلاب) أي أصلاب الآباء أولهم آدم عليه الصلاة والسلام من الأنبياء فنوره صلى الله تعالى عليه وسلم في كل صلب انتقل إليه (كمشكاة صفتها كذا) أي كصفة كوة غير نافذة موصوفة بكونها فيها مصباح أي سراج أو فتيلة المصباح في زجاجة أي قنديل من الزجاج الزجاجة كأنها إلى آخرها فشبه مادة جسمه وقالبه في أصلاب الآباء السالفة بالكوة في الحائط التي ليست نافذة فصح قوله.

(وأراد بالمصباح قلبه، والزّجاجة) أي وأراد بالزجاجة (صدره: أي كأنّه) يعني صدره المعبر به عن الزجاجة (كوكب) أي نجم (درّيّ) بضم أوله وتشديد آخره أي مشرق يتلألأ كأنه منسوب إلى الدر المضيء وتخفيف ياء فهمزة نسبة إلى الدرة بمعنى الدفع فكأنه يدفع الظلام بنوره ويرفع الحجاب لظهوره وبكسر أوله مع التخفيف والهمز ولعله من تغيرات النسب كما يقال في بصري وبصري (لما فيه من الإيمان والحكمة) أي من نور الإيمان والإيقان والمراد بالحكمة نور النبوة والإيقان على وجه العيان، (توقد) بصيغة المجهول أي من أوقد مذكرا أو مؤنثا وتوقد بصيغة الماضي المعلوم فقراءة التأنيث مرجعها الزجاجة وقراءة التذكير مرجعها مصباح الزجاجة على حذف المضاف (من شجرة مباركة) أي مبتدأة منتشئة من شجرة كثيرة البركة زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ:(أَيْ مِنْ نُورِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام إذ هو أصل شجرة التوحيد وفضل ثمرة التفريد، (وضرب) بصيغة المفعول

ص: 49

والفاعل أي بين وعين (المثل بالشّجرة المباركة) فطوبى لشجرة لها هذه الثمرة فجعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكونه معدن اسرار عوارف المنافع وأنوار لطائف الشرائع الذين هم الأنبياء وأتباعهم الاصفياء إذ غالبهم بل كلهم بعده من ذريته فهو شجرة النبوة مشبهة بشجرة مباركة زيتونة لكثرة نفعها إذ هو فاكهة وادام ودواء ودهن له ضياء والحاصل أن نور محمد صلى الله تعالى عليه وسلم انتقل من آبائه الكرام إلى أن ظهر ظهروا بينا في ظهر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ صار علما في علم التوحيد ولا سيما في باب التفويض والاستسلام فهو شجرة كثيرة الخير لأن من بعده من الأنبياء كلهم من ذريته وكان أكثرهم في جهة الشام من الأرض التي بارك الله تعالى حولها وكان الزيتونة إشارة إليها وقوله لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي حيث لا تقع الشمس عليها حينا دون حين بل حيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة جبل مرتفعة أو صحراء واسعة فإن ثمرتها تكون أنمى وزيتها أصفى أولا نابتة في شرق المعمورة ولا غربها بل في وسطها وهو توابع الشام فإن زيتونه أجود الزيتون في غيرها وهذا بطريق العبارة وأما بتحقيق الإشارة فإيماء إلى قبلة أهل التوحيد وكعبة أهل التفريد حيث إنها ليست شرقية كقبله النصارى ولا غريبة كقبلة اليهود وبالجملة إشارة إلى أن الملة الحنفية أعدل الملل الإسلامية فأهلها متوسطون بين الخوف والرجاء فلا خوف لهم يزعجهم إلى بعد القنوط ولا رجاء يجرهم إلى بساط الانبساط وقال بعضهم لا دنيوية أو لا أخروية بل جذبة الهية إلى مكانة معنوية (وَقَوْلُهُ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النُّورِ: 35] أَيْ: تَكَادُ نبوّة محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي المقتبسة من شجرة النبوة. (تبين) بفتح فوقية وكسر موحدة أي تظهر (للنّاس قبل كلامه) أي بادعاء النبوة حالة الرسالة لقوة ما فيها من الأنوار الإلهية ولكونه مظهر الأسرار الصمدية (كهذا الزّيت) أي في صفاء ظاهره وباطنه حيث يضيء ولو لم تمسسه نار من الأنوار الحسية وبعد اجتماع النبوة والرسالة والجمع بين الخلوة والجلوة نُورٌ عَلى نُورٍ كما في اجتماع النار مع ضياء الزيت في كمال الظهور يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي لأجل نوره وبواسطة ظهوره أو إلى حضرة نوره وأخذ النور من حضوره من يشاء من خواص أوليائه وأكابر أصفيائه وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ فيه إشعار بأن ما قبله إنما هو مثل للاستئناس ليدرك المعنى في قالب المبنى لكن لا يعقلها إلا العالمون العاملون والمخلصون الكاملون رضي الله تعالى عنهم وجعلنا بفضله منهم، (وقد قيل في الآية) أي على ما ذكره المفسرون وأرباب العربية (غير هذا) أي غير ما ذكرنا مما يتعلق بالعبارة والعاقل تكفيه الإشارة لأن الزيادة على العلامة ربما تورث الملالة والسآمة (وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي القرآن في غير هذا الموضع نورا) أي عظيما مطلقا (وَسِراجاً مُنِيراً) أي شمسا مضيئة حقا ولعل وجه التذكير أنها كوكب والظاهر أنه من باب التشبيه البليغ وكون المشبه به أقوى من حيث شهرته ووضوح دلالته العامة للخاص والعام من عالم الخلق. (فقال) أي الله تعالى:(جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ) أي لظهور الحق

ص: 50

وإبطال الباطل وأطلق عليه عليه الصلاة والسلام لأنه يهتدي به من الظلمات إلى النور (وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] بين الإعجاز ومبين الاحكام بالإيجاز وهذا شاهد للمدعي الأول وبيانه أن الأصل في العطف المغايرة وقد حاول بعض المفسرين بأنه من باب الجمع بين الوصفين باعتبار تغايرهما اللفظي وأن المراد بهما القرآن وقد يقال في مقابلهم وأي مانع من أن يجعل النعتان للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه نور عظيم لكمال ظهوره بين الأنوار وكتاب مبين حيث إنه جامع لجميع الاسرار ومظهر للأحكام والأحوال والأخبار (وقال) أي الله سبحانه مخاطبا له صلى الله تعالى عليه وسلم: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي على من بعثك إليهم بتصديقهم وتكذيبهم أو شاهدا على جميع الشهداء من الأنبياء كما يستفاد من قَوْلُهُ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً وهو وما بعده أحوال مقدرة مخبرة بحيازته جميع الجهات المعتبرة (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي منذرا ولعل وجه العدول رعاية الفواصل أو تفنن العبارة في المحل القابل فهو بشير ونذير ومبشر ومنذر للمطيعين بالجنة والوصلة وللعاصين بالحرقة والفرقة (وَداعِياً) أي جميع الخلق (إِلَى اللَّهِ) أي إلى دينه وحبه ومقام قربه (بِإِذْنِهِ) أي بأمره وتيسيره (وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45، 46] ) يميز بين الحق والباطل في المعتقدات وبين الحلال والحرام في المعاملات وبين محاسن الاخلاق ومساويها في الرياضات فهو الداعي بالشريعة والطريقة والحقيقة إلى المراتب الحقية والدرجات العلية عليه أفضل الصلاة وأكمل التحية.

(ومن هذا) أي الباب أو النوع أو القبيل (قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] إلى آخر السّورة) استفهام أفاد انكار نفي الشرح مبالغة في اثباته إذ انكار النفي نفي له ونفي النفي إثبات أي قد شرحناه لك ومن ثم عطف عليه قوله وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ إشارة إلى المبنى ورعاية للمعنى ومعنى قوله. (شرح: وسّع) بالتشديد، (والمراد بالصّدر هنا: القلب) لأن الصدر غير قابل للتضييق والتوسيع أي وسع قلبه لتجليات ربه وتنزلات حكمه بعد ما كان يضيق صدره لما ينعكس عليه من غبار غيره لقوله تَعَالَى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ أي فينا أو في القرآن أو فيك ثم قال تعالى كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ فهذا نهي تكوين كما أن قوله تعالى لكِنْ أمر تكوين فيكون المأمور ولا يكون المنهي وبه ينتفي التلوين ويتحقق التمكين المعبر عنه بمرتبة جمع الجمع بين مناجاة الحق ومفاداة الخلق بحيث لا تحجبه الكثرة عن الوحدة ولا عكسه. (قال ابن عبّاس رضي الله عنهما أي كما رواه أبن أبي حاتم عن عكرمة وابن مردويه وابن المنذر في تفسيرهما عنه أنه قال: (شرحه بنور الإسلام) وفي نسخة بالإسلام وفي أخرى بالإيمان والمعاني متقاربة البيان أي فسح قلبه ووسعه بسبب نور الانقياد وتفويض الأمر إلى المريد المراد العالم بالعباد والعباد في جميع البلاد وفيه إيماء إلى قوله تعالى أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، (وقال سهل: بنور الرّسالة) أي شرحه به خصوصا

ص: 51

فلا ينافي ما تقدم عموما. (وقال الحسن) أي الحسن البصري وهو من أفاضل التابعين ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه تعالى ومات بالبصرة سنة عشر ومائة وهو ابن ثمان وثمانين سنة وكانت أمه خادمة أم سلمة رضي الله تعالى عنها من أمهات المؤمنين فكان إذا بكى في صغره جعلت ثديها في فمه فأصاب لذلك بركة عظيمة حتى صار عالما زاهدا يضرب به المثل في كمال العلم والعمل أخرج له الجماعة في الكتب الستة: (ملأه) بالهمزة أي ملأ قلبه (حكما) أي ما يحكم من الأحكام (وعلما) أي بجميع ضروريات الانام وفي نسخة بكسر الحاء وفتح الكاف جمع الحكمة فلعله أراد بها السنة وبالعلم ما يتعلق بالكتاب من جهة دلالة المعنى وقراءة المبنى، (وقيل معناه: ألم نطهّر قلبك) من الاستئناس بالناس (حتّى لا يؤذيك) وفي نسخة لا يقبل (الوسواس) أي لا يشوش عليك الموسوسون من الإنس والشياطين حالة الحضور في حضرة العيان وهو أتم وأعم من تفسير بعضهم الوسواس بالشيطان والحاصل أن الهمزة للتقرير في البيان والمعنى قد طهرنا لك صدرك ولذا عطف عليه قوله (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) أي إثمك وأصله ما يحمل على الظهر ولذا قال (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح: 8- 9] ) أي أثقله حتى ظهر نقيضه ونقيض الظهر صوته.

(وقيل) أي في المراد من قوله وزرك (ما سلف من ذنبك) يعني من التقصيرات أو الهفوات والغفلات (يعني) أي يريد صاحب القيل بهذا القول (قبل النّبوّة) لأنه كان بعدها في مرتبة العصمة، (وقيل أراد) أي الله تعالى به (ثقل أيّام الجاهليّة) وهو بكسر المثلثة وفتح القاف ضد الخفة ويجوز تسكينها تخفيفا وهو لا ينافي أن الثقل بالكسر والسكون واحد الأثقال لأنه لا شك أن المراد به نوع من أثقال الأحمال وهو الواقع في ازمنة الجاهلية من أصحاب الفترة قبل ظهور نور الدولة الإسلامية وقبل إعلاء أعلام العلوم الدينية ولعل فيه إيماء إلى قوله تعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ أي تفاصيل ما يتعلق به على وجه الإيقان ومنه قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي جاهلا عن كمال المعرفة فهدى أي فهداك هداية كاملة وهدى بك جميع الأمة وأما الثقل بفتحتين بمعنى متاع المسافر فلا يبعد أن يكون مرادا هنا إشعارا بأنه صلى الله عليه وسلم حال سلوكه وسيره كان حاملا لأمور ثقيلة على ظهره فرفعها الله تعالى عنه حتى تمكن في مقام تفويضه وتسليم أمره، (وَقِيلَ أَرَادَ مَا أَثْقَلَ ظَهْرَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ) أي من أعبائها فإنه من باب التوجه من الحق إلى الخلق وهو مستثقل عند أرباب الولاية إلا بعد حصول مرتبة جمع الجمع الذي يزيل تفرقة بالكلية بحيث لا تشغله الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة (حتّى بلّغها) بتشديد اللام أي حتى بلغ الرسالة بعد ما بلغ تلك الحالة، (حكاه الماورديّ) من علماء الظاهر وهو ممن تفقه على أبي حامد الاسفراييني وصنف في الفقه والتفسير والأصول توفي سنة خمسين وأربعمائة وهو أبو الحسن بن علي بن حبيب الشافعي (والسّلميّ) من علماء الباطن وهو أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن حبيب الكوفي سمع عليا وأبا موسى وغيرهما توفي في زمن بشر بن مروان

ص: 52

بالكوفة سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وهو بضم السين وفتح اللام منسوب إلى سليم كذا ذكره التلمساني وهو غير صحيح فإنه متناقض الآخر والأول فتأمل والصواب ما ذكره الحلبي بقوله هو أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم مولده سنة ثلاثين وثلاثمائة وتوفي في شعبان سنة اثنتي عشرة وأربعمائة له ترجمة في الميزان، (وقيل عصمناك) أي حفظناك من ارتكاب الذنوب في فعلك (ولولا ذلك) أي عصمتنا لك (لأثقلت الذّنوب ظهرك) وهذا معنى بديع (حكاه السّمرقنديّ) أي أبو الليث وبقي قوله تعالى، (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْحِ: 4] قَالَ يَحْيَى بْنُ آدم) أي ابن سليمان الأموي مولاهم الكوفي أحد الأعلام أخرج له أصحاب الكتب الستة توفي سنة ثلاث ومائتين:

(بالنبوّة) أي ورفعنا ذكرك بسبب النبوة بين الملائكة أو بالنبوة المقرونة بالرسالة بين جميع الأمة أو بالنبوة الروحانية المختصة قبل خلقة آدم بين أرواح المرسلين والملائكة المقربين، (وقيل) أي في معناه (إذا ذكرت ذكرت معي) وسيأتي أن هذا حديث مرفوع قيل، (في قوله) كذا بالإضافة إلى الضمير أي في قول القائل والأظهر أن يقال في قوله:( «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» ) كما في نسخة وهو مجرور كما هو ظاهر وأغرب الحلبي حيث تبع ضبط بعضهم بالرفع وحاول وجهه بما لا طائل تحته ولعله مبني على أنه وجد في نسخة قول بلا حرف الجر. (وقيل في الأذان) والأول أعم ولا يبعد أن يقال المراد برفع ذكره أنه جعل ذكره ذكره كما جعل طاعته طاعته ولا مقام فوق هذا في الرتبة وهو تشبيه بليغ يمنع الاتحاد القائل به أهل الإلحاد، (قال الفقيه القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) أي المصنف (هذا) أي ما ذكر في هذه السورة من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر (تقرير) أي تثبيت وتمهيد (من الله جلّ اسمه) أي عظم اسمه فضلا عن مسماه (لنبيّه صلى الله تعالى عليه وسلم على عظيم نعمه لديه) أي دال على عظمة نعمته السابقة الظاهرة والباطنة عنده سبحانه وتعالى (وشريف منزلته) أي قربه ومرتبته، (عنده) أي عنديته المعبر بها عن المكانة (وكرامته) أي وعلى شريف إكرامه وإعظامه (عليه) سبحانه وتعالى، (بأن شرح قلبه للإيمان) أي الكامل الإيقان (والهداية) أي الموصلة إلى مقام الإحسان أو هداية أفراد الإنسان إلى مراتب حقائق الإيمان (ووسّعه) بتشديد السين أي وجعل قلبه وسيعا (لوعي العلم) أي حفظه، (وحمل الحكمة) أي وتحمل ما يحكم العلم به من أمر النبوة (ورفع عنه صلى الله عليه وسلم ثقل أمور الجاهليّة عليه وبغّضه) بتشديد الغين المعجمة أي جعله مبغوضا (لسيرها) بكسر ففتح جمع سيرة والضمير إلى الجاهلية أي لقواعدها وكان الظاهر أن يقول وبعض سيرها له ولعله من باب القلب على قصد المبالغة وأما ما ضبط بصيغة المصدر في بعض النسخ فلا وجه له أصلا لا نوعا ولا فصلا (وما كانت) عطف على سيرها أي ولما كانت الجاهلية (عليه بظهور دينه) متعلق برفع أي بغلبة أمر دينه وتعليته (على الدّين كلّه) أي على الأديان جميعها، (وحطّ) أي وضع الله (عنه عهدة أعباء الرّسالة، والنّبوّة) أي تكليف ثقلهما

ص: 53

وحملهما وهو الجمع بينهما بالأخذ عن الحق وهو مرتبة النبوة والإيصال إلى الخلق وهو منزلة الرسالة وهو أمر صعب إلا لمن وفقه الله تعالى وقواه ومنه قوله تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا والاعباء بفتح الهمزة جمع عبء بكسر فسكون فهمز (لتبليغه) باللام وفي نسخة بالباء وما لهما واحد إذ اللام تعليلية والباء سببية أي لإبلاغه صلى الله تعالى عليه وسلم (للنّاس ما نزّل إليهم) أي متلوا كان أو غيره من أمر ونهي ووعد ووعيد وهذا مقتبس من قوله تعالى وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (وتنويهه) أي ولرفعه قدره المشعر (بعظيم مكانه) أي مكانته وشأنه (وجليل رتبته) أي عظيم مرتبته (ورفعة) أي ولرفع الله (ذكره) وفي نسخة ورفعة ذكره ويروى ورفيع ذكره، (وقرانه) أي ولجمع الله أي في كلامه بأمره وحكمه (مَعَ اسْمِهِ اسْمَهُ قَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ ذكره في الدّنيا والآخرة) أي رفعة حسية ومعنوية (فليس خطيب) أي فوق منبر (ولا متشهّد) أي عند إيجاب الإيمان أو تجديد الإيقان، (ولا صاحب صلاة) أي في قعدة أخيرة (إِلَّا يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وأنّ محمّدا رسول الله) أو عبده ورسوله وأن الأولى مخففة من المثقلة. (وروى أبو سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه) كما في صحيح ابن حبان ومسند أبي يعلى (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام، فقال إنّ ربّي وربّك يقول تدري) أي أتدري كما في نسخة صحيحة (كيف رفعت ذكرك) وفي نسخة فقلت:(الله ورسوله أعلم) الظاهر أن قوله ورسوله سهو قلم وإن وقع في نسخة زيادة يعني جبريل فإنه لا يلائم المقام، (قال) أي الله سبحانه وتعالى:(إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي. قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ) هو أبو العباس أحمد ابن محمد بن سهل بن عطاء الآدمي الزاهد البغدادي أحد مشايخ الصوفية بالعراق كان قانتا مجتهدا في العبادة لا ينام من الليل إلا ساعتين ويختم القرآن في كل يوم وله أحوال ومعارف وكرامات سنية مات سنة تسع وتسعين وثلاثمائة كذا ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني والحاصل أنه قال معنى رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ: (جعلت تمام الإيمان بذكري معك) وفي نسخة بذكرك معي وهو الأظهر فلا يصح ولا يعتد به شرعا ما لم يتلفظ بكلمتيه إقرارا بحقية وحدانيته تعالى وحقية رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم بناء على اشتراط التلفظ بهما في صحته من قادر وبه قال الجمهور والحق إن اشتراطه مع إظهاره إنما هو لإجراء أحكام الإسلام عليه في الدنيا من عصمة دمه وماله ونحو ذلك فمن آمن بقلبه ولم يتلفظ بهما نفعه إيمانه عند الله تعالى وكان تاركا للأفضل كذا ذكره الدلجي وفيه أبحاث ليس هنا محلها، (وقال) أي ابن عطاء:(أيضا جعلتك ذكرا من ذكري) أي نوع ذكر من أذكاري، (فمن ذكرك ذكرني) أي فكأنه ذكرني وهو قريب مما قدمناه. (وقال جعفر بن محمّد الصّادق) بالرفع (لا يذكرك أحد بالرّسالة) أي بالإرسال للعبودية (إلّا ذكرني بالرّبوبيّة) أي وبتوحيد الألوهية، (وأشار بعضهم) كالماوردي (بذلك) أي بقوله وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (إلى مقام الشّفاعة) فإنه يظهر رفعته في تلك الحالة على جميع البرية ثم لا منع من إرادة الجمع، (ومن ذكره) جار

ص: 54

ومجرور مضاف (معه تعالى) أي مع ذكره، (أن قرن) بفتح أن المصدرية (طاعته) صلى الله تعالى عليه وسلم، (بطاعته) سبحانه وتعالى (واسمه باسمه فقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) وكان الأظهر أن يقال وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول كما في نسخة. (وآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحديد: 7] ) وربما يقال الآية الأولى هي الأولى للدلالة على الاتحاد في المدعي بحسب المعنى. (فجمع بينهما) أي من غير إعادة العامل (بواو العطف المشرّكة) بتشديد الراء وفي نسخة بتخفيفها أي الجاعلة للمعطوف اشتراكا في المعطوف عليه بالنسبة إلى الفعل المسند إليه وهو لا ينافي أن بينهما تفاوتا في المرتبة حيث إن الإيمان بالله يقتضي الأصالة والإيمان برسوله يوجب التبعية، (وَلَا يَجُوزُ جَمْعُ هَذَا الْكَلَامِ فِي غَيْرِ حقّه) أي في حق أحد غير حقه عليه الصلاة والسلام أي ممن لا يكون في مرتبته من وجوب الإيمان والإسلام وإلا فيقال آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأمثاله وكان الأظهر أن يقال ولا يجوز لأحد غير الله سبحانه وتعالى أن يجمع هذا الجمع في الكلام كما يدل عليه استدلاله بالأحاديث الواردة عنه عليه الصلاة والسلام حيث قَالَ (حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ محمّد الجيّانيّ) بفتح الجيم وتشديد التحتية نسبة إلى بلدة بالأندلس مات سنة ثمان وتسعين وأربعمائة له كتب مفيدة في تقييد الألفاظ وغيرها (الحافظ) وهو في اصطلاح المحدثين من أحاط علمه بمائة ألف حديث (فيما أجازنيه وقرأته على الثّقة) بكسر المثلثة وهو المعتمد وهو أبو علي بن سكرة الصدفي أو غيره من مشايخه (عنه) مرويا عن الجياني وقد أجاز وكان يمكنه السماع منه (قال) أي الجياني في الإجازة أو الراوي عنه في القراءة (أنبأنا أبو عمر النّمريّ) بفتحتين وقد سبق أنه الحافظ ابن عبد البر، (قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ. قال حدّثنا أبو بكر بن داسة) سبق ذكره، (حدّثنا أبو داود السّجزيّ) بكسر مهملة وسكون جيم فزاي نسبة إلى سجستان بكسر أوله وقيل بفتحه على غير قياس وهو إقليم ذو مدائن بين خراسان والسند وكرمان. (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الباهلي (الطّيالسيّ) أخرج له الجماعة الستة قال أحمد هو اليوم شيخ الإسلام مات سنة سبع وعشرين ومائتين، (حدّثنا شعبة) هو ابن الحجاج سمع كثيرا من التابعين ومات سنة ومائة وستين (عن منصور) أي ابن المعتمر أبو عتاب السلمي توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة (عن عبد الله بن يسار) بتحتية مفتوحة وسين مهملة هذا هو الجهني الكوفي أخرج له أبو داود والنسائي وهو أخو سليمان وسعيد توفي عام إحدى وثلاثين ومائة (عن حذيفة رضي الله عنه أي ابن اليمان (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أسنده المصنف هنا من طريق أبو داود ورواه أيضا النسائي وابن أبي شيبة:(قَالَ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، وشاء فلان) أي مع إعادة الفعل بصريحه فكيف مع حذفه وتقديره لتوهم الاشتراك في معية المشيئة وإن كانت الواو مفيدة لمطلق الجمع والاشتراك لا شك أنه من الاشراك وفلان يشمل جميع الخلق ولو من الأنبياء والأصفياء، (ولكن) أي يجوز له أن يقول (ما شاء الله ثمّ شاء فلان)

ص: 55

على ما في الأصول المصححة أي متابعة لمشيئة وموافقة لإرادته لأن للمشيئة ولو تأخرت تأثيرا في قضيته فإن ما شاء الله كان سواء شاء أو أبى فلان وما لم يشأ لم يكن سواء شاء أو ما شاء فلان مع أن العبد لم يكن له مشيئة إلا بعد تعلق مشيئة الله بمشيئته كما قال سبحانه وتعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ. (قال الخطّابيّ) بفتح معجمة وتشديد مهملة هو الإمام الحافظ أبو سليمان البستي نسبة إلى جده ويقال إنه من سلالة زيد بن الخطاب كان إماما كبيرا تفقه على القفال وغيره توفي ببست سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة: (أرشدهم صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الأدب) أي الواجب مراعاته من جهة الرب (فِي تَقْدِيمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَشِيئَةِ من سواه، واختارها) قال الحجازي ويروى واختازها بمهملة وزاء والظاهر انه تصحيف أي واختار العبارة في تغييرها لتعبيرها (بثمّ التي هي للنّسق) بفتحتين أي للعطف بالترتيب (والتّراخي) أي المهلة في الوجود والرتبة (بخلاف الواو التي هي للاشتراك) وهو قد يكون بالمعية والقبلية والبعدية وبخلاف الفاء التعقيبية، (ومثله) أي مثل الحديث المتقدم في النهي (الْحَدِيثُ الْآخَرُ: أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) قيل هو ثابت ابن قيس بن شماس. (فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ) بفتحهما وبكسر الثاني بمعنى اهتدى، (ومن يعصهما) أي فقد غوى كما في نسخة صحيحة أي ضل عن طريق الهدى.

(فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ قُمْ) أي من هذا المجلس (أو قال اذهب) أي فإنك قليل الأدب والحديث أخرجه النسائي في اليوم والليلة وأبو داود في الأدب ورواه مسلم أيضا (قال أبو سليمان) أي الخطابي: (كره) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (منه) أي من الخطيب (الجمع بين الاسمين بحرف الكناية) مأخوذة من الكن وهو الستر وهو تعبير كوفي بمعنى الضمير المأخوذ من الضمور والضمار الذي هو الخفاء ويقابلها الظهور والظاهر وهو ضد المضمر وهو تعبير بضري (لما فيه) أي في الجمع بينهما بالكناية (من التّسوية) أي توهمها المقتضي للشركة بينهما وفيه أن توهم التسوية موجود ظاهرا في المظهر أيضا مع أن إطاعتهما وعصيانهما متلازمان في ترتب الهداية والغواية كما يشير إليه قوله تعالى وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ بإفراد الضمير الشامل لكل منهما وإن كانت رتبته تعالى أجل وأعظم من أن تقابل بمرتبة مخلوق وإن كان تشرف وتكرم ولذا قال النووي والصواب أن سبب النهي والذم هو أن الخطيب شأنه الإيضاح واجتناب الرمز والإشارة لا كراهة الجمع بين الاسمين بالكناية لأنه ورد في مواضع منها قوله عليه الصلاة والسلام أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سواهما ومما يقوي كلام النووي أن كلام الخطيب جملتان مستقلتان، (وذهب غيره) أي غير الخطابي وأراد بعضهم (إلى أنّه إنّما كره له الوقوف) أي التوقف (على يعصهما) لو صح هذا الوقف سواء أتى بعده بقوله فقد غوى أو اقتصر اكتفاء بما يعرف من الد فإنه مقصر لا محالة لعدم تمام الكلام ونظام المرام ووجود الإيهام، (وقول أبي سليمان) أي الخطابي (أصحّ) أي من قول القائل السابق (لما

ص: 56

رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يعصهما فقد غوى، ولم يذكر) في هذا الحديث (الوقوف على يعصهما) وأنت قد عرفت الاحتمالين ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والاثبات مقدم على النفي، (وقد اختلف المفسّرون) للقرآن، (وأصحاب المعاني) أي من أرباب البيان (في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ) الأكثر على النصب عطفا على اسم إن (يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] هل يصلّون) أي جملتها باعتبار كنايته العائدة (راجعة على الله تعالى والملائكة جميعا) وخبر عنهم مشركة بينهم في ضمير واحد (أم لا) أي بل هي راجعة إلى الملائكة فقط ويقدر لله عامل آخر لتغاير الصلاتين (فأجازه بعضهم) أي ممن قال بالجمع بين المعنيين المشتركين في إطلاق واحد فإن الصلاة من الله تعالى أنزل الرحمة ومن الملائكة الاستغفار والدعوة ومنهم الشافعي وأتباعه، (ومنعه آخرون) أي منع رجوعها إليهم (لعلّة التّشريك) أي بين المعنيين ومنهم أبو حنيفة وأشياعه أو لأجل توهم الاشتراك في العقل وأجازه الأولون لظهور المغايرة عند أرباب العقل ونهى الخطيب إنما كان لترك الأدب الذي هو كما مر شأن الخطبة من الإيضاح واجتناب الرمز (وخصّوا) أي البعض الآخرون (الضّمير) أي في يصلون (بالملائكة وتَقْدِرُوا الآية) أي هكذا (إنّ الله يصلّي، وملائكته يصلّون) أي وجعلوا خبر الثاني دليلا على خبر الأول كما في

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

والمحققون يجعلونه من باب عموم المجاز ويقولون التقدير أن الله وملائكته يعظمون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كل بما يناسبه من أنواع التعظيم وأصناف التكريم والأولى عندي أن يقال الضمير راجع إلى الكل والمعنى يثنون عليه فالله تعالى عند الملائكة المقربين وفي كتابه المبين وعلى لسان جبريل الأمين والملائكة فيما بينهم لا سيما إذا قلنا إنه أيضا مبعوث إليهم فيجب حينئذ تعظيمه لديهم وثناؤه عليهم وهذا المعنى لغوي حقيقي على ما ذكره صاحب القاموس من أن الصلاة هي الرحمة والدعاء والاستغفار وحسن الثناء هذا وقراءة ابن عباس ورويت عن أبي عمرو وملائكته بالرفع إما عطفا على محل اسم ان أو مبتدأ خبره محذوف وهو مذهب البصريين. (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قال الدلجي ولم أدر من رواه (أنّه قال) أي مخاطبا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (من فضيلتك عند الله تعالى) أي من جملة فضائلك في حكمه (أن جعل طاعتك طاعته، فقد قال تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وقد قال تعالى) الظاهر أنه ليس من قول عمر وعطفه عليه لقربه منه معنى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] الآيتين) يعني وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فالآية الثانية تدل على ما تقدم من أن إطاعة الرسول كإطاعة الله وقوله فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا أو تعرضوا عن كل من إطاعة الله وإطاعة الرسول فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ

ص: 57

بالإعراض عن طريق المؤمنين المطيعين وأما الآية الأولى فهي في رتبة مقام المحبوبية أولى حيث جعل متابعة حبيبه شرطا لتحقق محبته ثم رتب على محبته المقرونة باتباعه محبة ثانية مجازاة من الله سبحانه وتعالى على محبتهم فمتابعتهم له محفوفة بمحبتين لله سابقة ولا حقة أزلية وأبدية علمية وتنجزيه بل المحبة الأولية هي التي أوجبت المحبة الآخرية كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ والحاصل أنه تعالى سد باب المحبة على جميع الخلق إلا بملازمة باب الحبيب ومتابعة آداب الطبيب الجامع بين مرتبة المحبة والمحبوبية والمريدية والمرادية والطالبية والمطلوبية والسالكية والمجذوبية فأبواب أرباب الهدى سدت السدى ومن جاء هذا الباب لا يخشى الردى ثم المحبة ميل نفس إلى ما فيه كمال يحملها على ما يقرب إليه فإذا علم العبد أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله وإن كل كمال في نفسه أو غيره إنما هو من الله وبه وإليه لم يكن حبه إلا له تعالى وفيه تعالى وذلك يدعو إلى طاعته المستلزمة لطاعة رسوله ولكونها بالإرادات أشد منها بالإدراكات فسرت بإرادة طاعته والتحرز عن معصيته ومحبته تعالى لعباده إرادة هدايتهم وتوفيقهم في الدنيا وحسن ثوابهم في الآخرى والعقبي. (وروي) أي عن جماعة كابن المنذر عن مجاهد وقتادة (أنّه لمّا نزلت هذه الآية) أي قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، (قالوا) أي بعض الكفار (إنّ محمّدا يريد أن يتّخذه حنانا) أي ربا ذا رحمة (كما اتّخذت النّصارى عيسى حنانا) ومنه قوله تعالى وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وقيل محببا وقيل متمسحا به ومنه قول ورقة بن نوفل حين مر ببلال وهو يعذب والله لئن قتلتموه لاتخذته حنانا أي لأجعلن قبره موضع حنان أي مظنة رحمة من الله فاتمسح به متبركا كما يتمسح بقبور الصالحين الذين قتلوا في سبيل الله من الأمم الماضية فيرجع ذلك عارا عليكم ومسبة عند الناس راجعة إليكم، (فأنزل الله عز وجل أي بعد تلك الْآيَةَ (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آلِ عِمْرَانَ: 32] ) تأكيدا للمتابعة (فقرن طاعته بطاعته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تعظيما لقدره وتشريفا لأمره، (رغما لهم) بفتح الراء وهو الأشهر أي غيظا لألوفهم وكرها لألوفهم ففي القاموس الرغم الكره ويثلث وأصل هذه الكلمة من الرغام وهو التراب يقال رغم أنفه بالكسر إذا لصق بالرغام فالمعنى إلصاقا لأنوفهم بالتراب جزاء لأنفتهم من ملازمة هذا الباب ومتابعة هذا الجناب على وفق الكتاب وآداب رب الأرباب لأولي الألباب، (وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى في أُمُّ الْكِتابِ) أي أصل الكتاب المشتمل على إجمال جميع الأبواب من الثناء على الله والتعبد له والاستعانة به وطلب الهداية إليه والوعد والوعيد منه وهو سورة الفاتحة الخاتمة (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا أولى ما قيل في الآية وهو صلى الله تعالى عليه وسلم يدخل فيه دخولا أوليا بلا مرية (فقال أبو العالية، والحسن البصريّ) أما الحسن بن أبي الحسن البصري فقد تقدمت ترجمته مجملة وأما أبو العالية فهما اثنان تابعيان من أهل البصرة فأحدهما أبو العالية

ص: 58

الرياحي بكسر الراء وبالتحتية واسمه رفيع بن مهران اسلم بعد عامين من موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم روى عن عمر وأبي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وروى عنه قتادة وغيره أخرج له الجماعة توفي سنة تسعين والثاني أبو العالية البراء بفتح موحدة وتشديد راء بعده همزة واسمه زياد يروي عن ابن عباس وغيره وروى عنه أيوب السجستاني وغيره أخرج له الشيخان والنسائي والثاني بالكنية أشهر والمراد هنا الأول وله تفسير وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعظمه ويجلسه معه على السرير ويفرش تحته: (الصّراط المستقيم) بالنصب على الحكاية وهو أولى من الرفع المبني على الإعراب بالابتدائية (هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخيار أهل بيته، وأصحابه) بشهادة حديث خير القرون قرني وحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ولا يخفى أنه لا يصح الحمل إلا بتقدير وهو طريق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وخيار اتباعه أو يحمل عليه مبالغة كرجل عدل فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم واتباعه لكمال اتباعه عين الطريق في عالم التحقيق فإن من المعلوم أنه ليس هناك صراط حسي فليس المراد إلا أنه طريق معنوي فمن تبعه أوصله إلى مطلوبه وبلغه إلى محبوبه، (حكاه) أي روى هذا التفسير (عنهما أبو الحسن الماورديّ) تقدم ذكره أي عن أبي العالية والحسن ورواه في المستدرك عن أبي العالية وصححه، (وحكى مكّيّ عنهما نحوه) أي بمعناه لا بلفظه ومكي هذا هو أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي أصله من القيروان وانتقل إلى الأندلس وسكن قرطبة وهو من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية كثير التأليف في علم القرآن توفي سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بقرطبة، (وقال) أي مكي (هو رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَاحِبَاهُ، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما ولعل وجه تخصيصهما أنهما مما اتفق الامة على حقيقتهما وجلالتهما وعلى ثبوت احكامهما بمحضر بقية الصحابة في مجالسهما فكان أقوالهما وأفعالهما بمنزلة الإجماع التقريري أو السكوتي بخلاف من بعدهما فإنه وقع الاختلاف في أمورهم من حيث تنكير بعض الصحابة وتقرير آخرين منهم في شأنهم ولا عبرة بطعن كلاب أهل النار من المبتدعة الرافضة طريق الابرار الخارجة عن الصراط المستقيم والدين القويم، (وحكى أبو اللّيث السّمرقنديّ مثله) أي مثل المحكي السابق في الصراط المستقيم عن المكي راويا له (عن أبي العالية في قوله عز وجل أي تفسير قوله (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي أنه رسول الله وصاحباه ومآلهما واحد لأن الثاني بدل او عطف بيان للأول (قال) أي أبو الليث (فبلغ ذلك) أي فوصل تفسير أبي العالية هذا (الحسن) أي البصري من عاصم، (فقال صدق والله) أي في البيان (ونصح) أي الأمة في هذا التبيان (وحكى الماورديّ ذلك) أي القول المذكور (في تفسير صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ عن عبد الرّحمن بن زيد) أي ابن اسلم المدني روى عن أبيه وابن المنكدر وعنه أصبغ وقتيبة وهشام ضعفوه له تفسير وقد أخرج له الترمذي وابن ماجه ووالده زيد يروي عنه

ص: 59

البخاري بواسطة، (وَحَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ) أي بعض العارفين (في تفسير قوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) أي تمسك (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [لقمان: 22] إنّه) أي العروة الوثقى وتذكيره باعتبار خبره وهو (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) إذ من وثق به نجا ومن تبعه اهتدى (وقيل) أي المراد بالعروة (الإسلام، وقيل شهادة التّوحيد) والمآل متحد عباراتنا شتى وحسنك واحد. (وقال سهل) أي التستري (في قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] . قال) أي سهل (نعمته بمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) ويروى نعمته محمد عليه الصلاة والسلام والأول هو الصحيح لعدم صحة الحمل في الثاني اللهم إلا أن يقال التقدير نعمته نعمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والإضافة إلى الجلالة نظرا إلى الحقيقة والأصالة والمراد بنعمته إنعامه به علينا إذ إنعامه أصل النعم لصدورها عنه فائضة علينا لا يحصى عد أنواعها إجمالا فضلا عن إفرادها تفصيلا، (وقال تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) أي بالحق المطابق للواقع (وَصَدَّقَ بِهِ) أي جمع بين مجيء الصدق واتيان التصديق (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33] ) أي في التحقيق وجمع المشار إليه بالنظر إلى أن معنى الموصول الجنس المفيد للعموم فالمراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والجمع من حيث إنه الفرد الأكمل للتعظيم أو المراد هو وأمته وهذا أظهر في باب التكريم (الآيتين) فيه أن البقية ليس لها دخل في القضية (أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هو محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لأن الكلام فيه والمراد هو وحده أو ومن معه من الأنبياء أو وأمته من الأصفياء، (وقال بعضهم: وهو الذي صدق به) وهو الظاهر لعدم إعادة الموصول، (وقرىء صدق بالتّخفيف) وهو يؤيد أنه هو الذي صدق به لأن الثاني متعين فيه، (وقال غيرهم الّذي صدّق به المؤمنون) وفيه اشعار بتقدير الموصول وهو جائز عند بعض أرباب الأصول، (وقيل أبو بكر رضي الله تعالى عنه) أي وأتباعه أو جمع لتعظيمه، (وقيل عليّ رضي الله تعالى عنه) أي وأتباعه وأشياعه أو جمع لتكريمه والأظهر أن تفسير الجمع بينهما لإرادة أمثالهما وخصا بالذكر لأنهما أول من وقع منه التصديق على خلاف بين المرتضى والصديق، (وقيل غير هذا من الأقوال) ومن جملتها ما أشرنا إليه في سابق الحال. (وعن مجاهد رضي الله عنه أي ابن جبير بفتح جيم فسكون موحدة وقيل جبير بالتصغير روى عن أبي هريرة وابن عباس وعنه قتادة وابن عون كان إماما في القراءة والتفسير حجة في الحديث قال كان ابن عمر يأخذ لي بركابي ويسوي على ثيابي إذا ركبت قيل إنه رأى هاروت وماروت وكاد يتلف أخرج له الستة (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] قال بمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه) أي بما يذكر ويروى عنه وعن أصحابه لما يفيد من الدلالات اليقينية والإفادات العلمية في الأمور الشرعية مما تطمئن به القلوب وتسكن به النفوس أو بمجرد ذكره وذكر أصحابه فإن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة وعند نزول الرحمة يحصل للقلوب الاطمئنان والسكينة.

ص: 60