الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حديث بعثه صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها]
180 -
[3158] حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حدَثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أنَّه أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الأنصارِيَّ (1) - وَهُوَ حَلِيف لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ شَهدَ بَدْرا- أَخْبَرَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ (2) إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ (3)
(1) عمرو بن عوف الأنصاري حليف بني عامر بن لؤي رضي الله عنه، كان ممن شهد بدرا، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ما الفقر أخشى عليكم "، ولم يذكر أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث، وهو غير عمرو بن عوف بن زيد، وعمرو بن عوف بن يربوع، وقد قيل: إنه شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، ومات رضي الله عنه في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصلى عليه. انظر: الإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3/ 9، وتهذيب التهذيب له، 8/ 75.
(2)
أبو عبيدة بن الجراح: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد السابع وهو فهر، أحد السابقين الأولين، ومن عزم الصديق على توليته الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار به يوم السقيفة، لكمال أهليته عند أبي بكر، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة فشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال صلى الله عليه وسلم عنه: إن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح [البخاري برقم 3744]، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث معدودة، ولكنه غزا غزوات مشهودة، وشهد بدرا فقتل يومئذ أباه، وأبلى يوم أحُدٍ بلاءً حسنا، ونزع يومئذ الحلقتين اللتين دخلتا في وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغفر من الضربة التي أصابته فانقلعت ثنيتاه فحسُن ثغرُه بذهابهما، حتى قيل: ما رؤي هَتْمٌ قطُ أحسن من هتم أبي عبيدة- والهتم كسر في الثنايا من أصولها- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمله مرات، ومنها أنه استعمله على سرية كانوا ثلاثمائة فألقى إليهم البحر الحوت العظيم الذي يقال له: العنبر فأكلوه. ولما فرغ أبو بكر من حرب أهل الردة وحرب مسيلمة الكذاب جَهَزَ أمراء الأجناد لفتح الشام فبعث أبا عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة فتمت وقعة إجنادين بقرب الرملة ونصر الله المؤمنين فجاءت البشرى والصديق في مرض الموت، ثم كانت وقعة فِحْل، ووقعة مرج الصفراء، وكان قد سير أبو بكر خالدا لغزو العراق، فبعث إليه لينجد أمراء الشام وجيشهم فقطع المفاوز فأمَّره الصديق على الأمراء كلهم وحاصروا دمشق وتوفي أبو بكر فبادر عمر واستعمل على الكل أبا عبيدة فكان فتح دمشق على يديه ولم يُظْهر وصول تقليده من عمر إلا بعد الفتح وهذا من دينه، ولينه، وحلمه ثم أظهر ذلك؛ ليعقد الصلح مع الروم ففتحوا له باب الجابية صلحا وإذا بخالد رضي الله عنه قد افتتح البلد عنوة من الباب الشرقي فأمضى لهم أبو عبيدة الصلح، ثم كان أبو عبيدة رأس الإِسلام يوم وقعة اليرموك التي استأصل الله فيها جيوش الروم وقتل منهم خلق عظيم. وكان أبو عبيدة معدودا فيمن جمع القرآن العظيم فحفظه وعمل به، وكان موصوفا بحسن الخلق، وبالحلم، والتواضع، والزهد العظيم، وتوفي رضي الله عنه بعد أن شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهد بعده في الفتوحات العظيمة- في طاعون عمواس في الشام سنة ثمان عشرة للهجرة وله ثمان وخمسون سنة رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2/ 259، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 5 - 23، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2/ 253.
(3)
العلاء بن الحضرمي، واسم الحضرمي عبد الله بن عماد بن أكبر بن ربيعة الحضرمي كان حليفا لبني أمية وكان من سادات المهاجرين، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم البحرين وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عليها فأقره أبو بكر ثم عمر رضي الله عنه، وله حديث واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكث المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثا [البخاري برقم 3933]، قيل: كان مجاب الدعوة، وأنه خاض البحر بكلمات قالهن، وكان له أثر عظيم في قتال أهل الردة رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1/ 341، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 262، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2/ 497.
فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَتْ صَلاة الصُّبْح مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا صَلَّى بِهم الفَجْرَ انْصَرَفَ، فَتَعرَّضُوا لَهُ، فتَبَسَّمَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ:"أظنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عبيدَةَ قَدْ جَاءَ بِشيءٍ "، قَالوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ؟ "فَأَبْشرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسرُكُمْ، فَوَاللهِ لَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُم الدُّنْيَا كَمَا بُسِطتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» (1).
وفي رواية: " وَتُلْهِيكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ ". (2).
* شرح غريب الحديث: * " فوافت " أي أتت، يقال: وافيته موافاةً: أتيته، ووافيت القوم: أتيتهم (3).
* " أمِّلوا " هذا أمر بالرجاء يقال: أمَلَهُ أمْلا، وأمَّلَهُ: رجاه وترقبه (4).
* " فتنافسوها " أي تتحاسدون فيها فتختلفون، وتتقاتلون فيُهلك بعضكم بعضا (5).
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال الدعاة.
(1)[الحديث 3158] طرفاه في كتاب المغازي، باب، 5/ 23، برقم 4015. وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 7/ 221، برقم 6425. وأخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، 4/ 2273، برقم 2961.
(2)
من الطرف رقم: 6425.
(3)
انظر: المصباح المنير، للفيّومي، كتاب الفاء، مادة:"وفى" 2/ 667، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، باب الياء فصل الواو، ص 1731.
(4)
انظر: المرجع السابق، باب اللام فصل الهمزة، ص 1244، والمصباح المنير للفيومي، كتاب الألف، مادة:"أملت " 1/ 22، والمعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية 1/ 27.
(5)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 7/ 113.
2 -
من صفات الداعية: الفطنة والذكاء.
3 -
من صفات الداعية: حسن الخلق.
4 -
أهمية تأمير الأمراء على الأقطار.
5 -
من أساليب الدعوة: السؤال والجواب.
6 -
من موضوعات الدعوة: التحذير من التنافس في الدنيا والانشغال بها.
7 -
أهمية التأكيد بالقسم في الدعوة إلى الله عز وجل.
8 -
من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بما يقع.
9 -
من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال الدعاة: بعث البعوث وإرسال الدعاة من أهم الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم هذه الوسيلة في دعوته، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أخبر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها»، وهذا فيه بيان لأهمية بعث الدعاة إلى الله عز وجل، للدعوة إلى الله؛ ولكل ما فيه نفع للإِسلام والمسلمين (1).
ثانيا: من صفات الداعية: الفطنة والذكاء: لا ريب أن الفطنة والذكاء من أعظم الصفات التي ينبغي أن تكون من سمات الداعية؛ لأنه يحتاج إلى ذلك في معاملة الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى الأنصار تعرَّضوا له بعد صلاة الصبح، فطن لذكائه أنهم علموا بقدوم أبي عبيدة بمالٍ من البحرين فقال صلى الله عليه وسلم:«أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة جاء بشيء» ، فينبغي للداعية أن يسأل الله عز وجل أن يوفقه ويعينه ويرزقه البصيرة والفطنة التي تنفعه في الدنيا والآخرة (2).
(1) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 90، الدرس الثاني، ورقم 92، الدرس الحادي عشر.
(2)
انظر: الحديث رقم 29، الدرس الأول، ورقم 123، الدرس الثاني.
ثالثا: من صفات الداعية: حسن الخلق: دل هذا الحديث على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عندما رأى الأنصار تعرضوا له، وعلم ما أرادوا تبسم صلى الله عليه وسلم، ولم يغضب، ولم يسب بل بشَّرهم (1) وسمعت العلامة ابن باز حفظه الله يقول:"وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ضحك تعجبا، ثم بشرهم، ولا شك أنهم أهل حاجة"(2) فينبغي للداعية أن يحسن أخلاقه (3).
رابعا: أهمية تأمير الأمراء على الأقطار: من وسائل الدعوة النافعة تأمير الأمراء على الأقطار، والقبائل؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم على البحرين العلاء بن الحضرمي كما ثبت في هذا الحديث؛ لأن الأمير يجتمع إليه الناس، ويرفع مصالحهم للإِمام وما يحتاجون إليه، ويؤمهم في الجمعة والأعياد، ويتولىَّ قيادتهم في الجهاد، ويجمع الله به الكلمة وغير ذلك (4).
خامسا: من أساليب الدعوة: السؤال والجواب: السؤال والجواب من أساليب الدعوة التي تشد انتباه المدعو، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:«أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء"، قالوا: أجل يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا» . . . "، وهذا يؤكد أهمية أسلوب السؤال والجواب. (5).
سادسا: من موضوعات الدعوة: التحذير من التنافس في الدنيا والانشغال بها: ظهر في مفهوم هذا الحديث التحذير من التنافس في الدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما
(1) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 1/ 363.
(2)
سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3158، من صحيح البخاري، في جامع الإِمام تركي ابن عبد الله بالرياض.
(3)
انظر: الحديث رقم 14، الدرس الأول، ورقم 21، الدرس الثاني، ورقم 62، الدرس الرابع.
(4)
انظر: الحديث رقم 132، الدرس الثاني.
(5)
انظر: الحديث رقم 58، الدرس الثالث، ورقم 110، الدرس الرابع، ورقم 114، الدرس الرابع.
بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم»، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث:"وفيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين"(1)"لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه، فتمنع منه، فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة، المفضية إلى الهلاك "(2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «وتلهيكم كما ألهتهم» ، دليل على أن الانشغال بالدنيا فتنة، قال الإِمام القرطبي رحمه الله:"تلهيكم" أي تشغلكم عن أمور دينكم وعن الاستعداد لآخرتكم (3) كما قال الله عز وجل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ - حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2](4) وهذا يؤكد للمسلم أن التنافس في الدنيا والانشغال بها شر وخطر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض "، قيل وما بركات الأرض؛ قال: "زهرة الدنيا"، ثم قال: "إن هذا المال خَضِرة حلوة. . . من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع [ويكون عليه شهيدا يوم القيامة]» . (5).
وعن قيس بن حازم قال: دخلنا على خباب رضي الله عنه نعوده. . فقال: "إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوتُ به "، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطا له فقال:"إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب"(6) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "أي الذي يوضع في البنيان، وهو محمول على ما زاد على الحاجة"(7) وذكر رحمه الله آثارا كثيرة في
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 363.
(2)
المرجع السابق 11/ 245.
(3)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 7/ 133.
(4)
سورة التكاثر، الآيتان: 1 - 2.
(5)
متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 7/ 222، برقم 6427، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، 2/ 727، برقم 1052، وما بين المعكوفين من رواية مسلم.
(6)
متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، 7/ 12، برقم 5672، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب تمني كراهية الموت لضر نزل به، 4/ 2064، برقم 2681.
(7)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/ 129.
ذم البنيان ثم قال: "وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن وما يقي البرد والحر"(1) وقد بين الله عز وجل حقيقة الدنيا فقال عز وجل: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24](2) وقال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20](3) وقال عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا - الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 45 - 46](4) ولا شك أن الإِنسان إذا لم يجعل الدنيا أكبر همه وفقه الله وأعانه، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول ربكم تبارك وتعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقا، يا ابن آدم لا تباعد عني فأملأ قلبك فقرا وأملأ يديك شغلا» (5) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك» (6) ولا شك أن كل عمل صالح يُبْتَغى به وجه الله فهو عبادة، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11/ 93.
(2)
سورة يونس، الآية:24.
(3)
سورة الحديد، الآية:20.
(4)
سورة الكهف، الآيتان: 46، 45.
(5)
الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4/ 326، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/ 347:"وهو كما قالا".
(6)
الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا قتيبة، 4/ 642، برقم 2466، وحسنه، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، 2/ 1376، برقم 4108، وأحمد 2/ 358، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/ 443، وانظر. سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 3/ 346.
فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» (1).
وقد ذم الله الدنيا إذا لم تستخدم في طاعة الله عز وجل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكرُ الله، وما والاهُ، وعالم، أو متعلمٌ» (2) وهذا يؤكد أن الدنيا مذمومة مبغوضة من الله وما فيها، مبعدة من رحمة الله إلا ما كان طاعة لله عز وجل؛ (3) ولهوانها على الله عز وجل لم يبلِّغ رسولَه صلى الله عليه وسلم فيها وهو أحب الخلق إليه، فقد «مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير» (4) ومما يزيد ذلك وضوحا وبيانا حديث سهل بن سعد رضي الله عنه يرفعه:«لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» (5) فينبغي للداعية أن لا ينافس في الدنيا، ولا يحزن عليها، وإذا رأى الناس يتنافسون في الدنيا، فعليه تحذيرهم، وعليه مع ذلك أن ينافسهم في الآخرة. والله المستعان.
سابعا: أهمية التأكيد بالقسم في الدعوة إلى الله عز وجل: دل هذا الحديث على التأكيد بالقسم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فوالله لا الفقر أخشى عليكم،
(1) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، 4/ 1375، برقم 4105، وصحح الألباني إسناده في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 950، وصحيح الجامع 5/ 351.
(2)
الترمذي بلفظه، كتاب الزهد، باب: حدثنا محمد بن حاتم، 4/ 561، برقم 2322، وحسنه، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، 12/ 1377، برقم 4112، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 34، برقم 71، و 1/ 6 برقم 7.
(3)
قوله: "وما والاه" أي ما يحبه الله من أعمال البر وأفعال القرب، وهذا يحتوي على جميع الخيرات والمفاضلات ومستحسنات الشرع. وقوله:"وعالم أو متعلم" والرفع فيها على التأويل: كأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يُحمدُ مما فيها "إلا ذكرُ الله، وما والاهُ، وعالم أو متعلم" والعالم والمتعلم: العلماء بالله الجامعون بين العلم والعمل، فيخرج منه الجهلاء، والعالم الذي لم يعمل بعلمه، ومن يعلم علم الفضول وما لا يتعلق بالدين، انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 10/ 3284 - 3285، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي قاري، 9/ 31، وتحفة الأحوذي على شرح سنن الترمذي، 6/ 613.
(4)
انظر: البخاري، كتاب البيوع، باب شراء الطعام إلى أجل، 3/ 46، برقم 2200، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الرهن وجوازه في الحضر والسفر 3/ 1266، برقم 1603.
(5)
الترمذي، 4/ 560، برقم 2320، وابن ماجه، 14/ 1376، برقم 4110، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 77، الدرس الثالث، ص 469.
ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم»، وهذا يؤكد أهمية أسلوب التأكيد بالقسم (1).
ثامنا: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار بما يقع: إن هذا الحديث دل على أن الإِخبار بما يقع من معجزات النبوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن تبسط الدنيا على أمته فيتنافسوها فوقع كما خشي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"وفيه من أعلام النبوة إخباره صلى الله عليه وسلم بما يفتح عليهم "(2) وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم. (3).
تاسعا: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى: دل هذا الحديث على أن أهل التقوى من أصناف المدعوين؛ ولهذا وعظ النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار وحذرهم التنافس في الدنيا؛ لأن ذلك يسبب الهلاك، فقال:«فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» (4).
(1) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس، ورقم 14، الدرس الخامس.
(2)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 263.
(3)
انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع، ورقم 53، الدرس الثالث.
(4)
انظر: الحديث رقم 71، الدرس السابع، ورقم 76، الدرس الرابع.