الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
13 -
باب بركة الغازي في ماله حيّا وميتا، مع النّبي صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر
[حديث لما وقف الزبير يوم الجمل دعا ابنه عبد الله]
161 -
[3129] حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال: قلت لأبي أسامة: أحدّثكم هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزّبير؟ (1) قال: "لمّا وقف الزّبير (2) يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه فقال: يا بنيّ إنّه لا يقتل اليوم إلّا ظالم أو مظلوم، وإنّي لا أراني إلّا سأقتل اليوم مظلوما، وإنّ من أكبر همّي لديني، أفترى يبقي ديننا من مالنا شيئا؟ فقال: يا بنيّ، بع ما لنا، فاقض ديني. وأوصى بالثلث، وثلثه لبنيه - يعني بني عبد الله بن الزّبير، يقول: ثلث الثلث - فإن فضل من مالنا بعد قضاء الدّين فثلثه لولدك. قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزّبير - خبيب وعبّاد - وله يومئذ تسعة بنين وبنات. قال عبد الله فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بنيّ إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه مولاي. قال: فوالله ما دريت ما أراد حتّى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله. قال: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلّا قلت: يا مولى الزّبير اقض عنه دينه، فيقضيه. فقتل الزّبير رضي الله عنه ولم يدع دينارا ولا درهما، إلّا أرضين منها الغابة، وإحدى عشرة دارا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارا بالكوفة، ودارا بمصر. قال: وإنّما كان دينه الّذي عليه أنّ الرّجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إيّاه، فيقول الزّبير: لا، ولكنّه سلف، فإنّي أخشى عليه الضّيعة. وما ولي إمارة قطّ ولا جباية خراج، ولا شيئا إلّا أن يكون في غزوة مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قال عبد الله بن الزّبير: فحسبت ما عليه من الدّين فوجدتة ألفي ألف ومائتي ألف قال: فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزّبير فقال: يا ابن أخي: كم على أخي من الدّين؛ فكتمه فقال مائة ألف. فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه. فقال له عبد الله: أفرأيتك إن كانت ألفي ألف ومائتي
(1) عبد الله الزبير رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 145.
(2)
الزبير بن العوام رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 52.
ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي. قال: وكان الزّبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف. فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف. ثمّ قام فقال: من كان له على الزّبير حقّ فليوافنا بالغابة. فأتاه عبد الله بن جعفر - وكان له على الزّبير أربعمائة ألف - فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم. قال عبد الله: لا. قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخّرون إن أخّرتم. فقال عبد الله: لا. قال: قال: فاقطعوا لي قطعة. فقال عبد الله: لك من هاهنا إلى هاهنا. قال فباع منها فقضى دينه فأوفاه. وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية - وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزّبير، وابن زمعة - فقال له معاوية: كم قوّمت الغابة: قال: كلّ سهم مائة ألف. قال: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم ونصف. فقال المنذر بن الزّبير: قد أخذت سهما بمائة ألف. قال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهما بمائة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهما بمائة ألف. فقال معاوية كم بقي؛ فقال: سهم ونصف. قال: أخذته بخمسين ومائة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستّمائة ألف. فلمّا فرغ ابن الزّبير من قضاء دينه قال بنو الزّبير: اقسم بيننا ميراثنا. قال: لا والله لا أقسم بينكم حتّى أنادي بالموسم أربع سنين. ألا من كان له على الزّبير دين فليأتنا فلنقضه. قال: فجعل كلّ سنة ينادي بالموسم. فلمّا قضى أربع سنين قسم بينهم. قال: فكان للزّبير أربع نسوة، ورفع الثّلث فأصاب كلّ امرأة ألف ألف ومائتا ألف". فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف.
* شرح غريب الحديث: * "الغابة " الغابة قرب المدينة من عواليها، والغابة الأجمة ذات الشجر المتكاثف، وسمّيت غابة؛ لأنها تغيّب ما فيها، وجمعها غابات، وغابة المدينة من ناحية الشام، كان فيها أموال لأهل المدينة وقيل: إن الغابة بريد من المدينة
على طريق الشام، وقد صنع منبر النبي صلى الله عليه وسلم من طرفاء الغابة (1).
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
من صفات الداعية: الاستعداد للقاء الله عز وجل.
2 -
من صفات الداعية: الثقة بالله عز وجل.
3 -
أهمية الالتجاء إلى الله عز وجل بالدعاء.
4 -
أهمية الحرص على أداء الأمانة.
5 -
من صفات الداعية: الجود والكرم.
6 -
من صفات الداعية: العفة وقوة النفس.
7 -
أهمية النية الصالحة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الاستعداد للقاء الله عز وجل: الاستعداد للقاء الله عز وجل من أهم المهمات وأعظم الواجبات، ومما ينبغي لكل مسلم أن يعتني به وخاصة الداعية إلى الله عز وجل، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة العظيمة؛ لقول الزبير بن العوام رضي الله عنه لابنه عبد الله: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل مظلوما، وإن من أكبر همي لديني، أفترى يبقي ديننا من مالنا شيئا؟ يا بني بع ما لنا فاقض ديني، وأوصى بالثلث". وهذا يؤكد ويبين للداعية أهمية الاستعداد للقاء الله عز وجل، فيقوم بجميع الواجبات، ويبتعد عن جميع المحرمات، ويوصي بما يريد أن يوصي به من دين وغيره، والله المستعان (2).
ثانيا: من صفات الداعية: الثقة بالله عز وجل: إن من الصفات العظيمة المهمة التي ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم وخاصة
(1) انظر شرح غريب الحديث رقم 130، ص 746، ومعجم البلدان لياقوت الحموي، باب الغين، 4/ 182.
(2)
انظر: الحديث رقم 1، الدرس الثالث.
الداعية إلى الله عز وجل: الثقة بالله عز وجل "ولهذه الثقة قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه عن أبيه: "فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه مولاي، قال عبد الله: فوالله ما دريت مما أراد حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله، قال: فوالله ما وقعت في كربة إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه منزلة الزبير عند نفسه، وأنه في تلك الحالة كان في غاية الوثوق بالله والإقبال عليه والرضا بحكمه والاستعانة به" (1) وهذا دليل على ثقة الزبير العظيمة بالله عز وجل، وقد كان سبحانه عند ظنه به؛ قال صلى الله عليه وسلم:«يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني» (2) وهذا يؤكد على الداعية أن يثق بربه عز وجل ويحسن الظن به.
ثالثا: أهمية الالتجاء إلى الله عز وجل بالدعاء: إن الالتجاء إلى الله عز وجل من أعظم الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ لأن الله عز وجل يجيب دعاء السائلين ويكشف كرب المكروبين؛ ولهذا التجأ عبد الله بن الزبير إلى الله فأجابه في قضاء دين والده، قال رضي الله عنه:"فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه، فيقضيه"، قال الله عز وجل:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62](3) وهذا يؤكد أهمية الالتجاء إلى الله عز وجل عند الشدائد والكرب (4).
رابعا: أهمية الحرص على أداء الأمانة: ظهر في هذا الحديث الحرص على أداء الأمانة؛ لأن الزبير بن العوام رضي الله عنه إنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير:"لا، ولكنه سلف، فإنّي أخشى عليه الضيعة"، وهذا يبين عظم أمانته رضي الله عنه؛
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 235.
(2)
متفق عليه: البخاري 8/ 216، برقم 7405، ومسلم، 4/ 2061، برقم 2675، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 73، الدرس الثامن، ص 449.
(3)
سورة النمل، الآية:62.
(4)
انظر: الحديث رقم 36، الدرس السادس.
لأنه يريد أن يضمن للناس أموالهم لو تلفت بدون تفريط منه. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه مبالغة الزبير في الإحسان لأصدقائه؛ لأنه رضي الله عنه يحفظ لهم ودائعهم في غيبتهم، ويقوم بوصاياهم على أولادهم بعد موتهم، ولم يكتف بذلك حتى احتاط لأموالهم وديعة أو وصية بأن يتوصل إلى تصييرها في ذمته مع عدم احتياجه لها غالبا، وإنما ينقلها من اليد للذمة مبالغة في حفظها لهم"(1) فينبغي للداعية أن يكون حريصا على أداء الأمانة وحفظها (2).
خامسا: من صفات الداعية: الجود والكرم: الكرم والجود من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم، وخاصة الداعية إلى الله عز وجل، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث من وجهين: الأول: كرم حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في دين والده: "فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف أي مليونان ومائتا ألف، فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير فقال حكيم: يا ابن أخي كم على أخي من الدين؟ فكتمه فقال: مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه، فقال له عبد الله: أفرأيت إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي. وهذا يدل على كرم حكيم رضي الله عنه.
الثاني: كرم عبد الله بن جعفر رضي الله عنه؛ فإنه كان يطلب الزبير أربعمائة ألف فقال لعبد الله بن الزبير: إن شئتم تركتها لكم، فامتنع عبد الله بن الزبير من ذلك وأعطاه من الغابة. وهذا يدل على كرم عبد الله بن جعفر رضي الله عنه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"وفيه بيان جود ابن جعفر لسماحته بهذا المال العظيم"(3) وهذا يبين للداعية أهمية الكرم والجود وأثره في الدعوة إلى الله عز وجل (4).
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 234.
(2)
انظر: الحديث رقم 29، الدرس الثالث، ورقم 132، الدرس الرابع، ورقم 143، الدرس الثاني.
(3)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 234.
(4)
انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثالث.
سادسا: من صفات الداعية: العفة وقوة النفس: مما يدل على قوة النفس وعفتها ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنه مع حكيم ابن حزام وعبد الله بن جعفر؛ فإن حكيم بن حزام رضي الله عنه طلب عبد الله بن الزبير أن يعينه على قضاء دين الزبير فامتنع ابن الزبير من ذلك، وسأله عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أن يضع الدين عن الزبير - وكان أربعمائة ألف - فامتنع عبد الله بن الزبير عن ذلك، وهذا يدل على عفة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وقوة نفسه، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"وفيه قوة نفس عبد الله بن الزبير لعدم قبوله ما سأله حكيم بن حزام من المعاونة، وما سأله عبد الله بن جعفر من المحاللة"(1).
سابعا: أهمية النية الصالحة: إن النية الصالحة من الصفات العظيمة التي يفوز صاحبها بسعادة الدنيا والآخرة، وهي من أسباب البركة، ومما يدل على ذلك ما وقع في هذا الحديث في قصة دين الزبير بن العوام، وأن دينه بلغ ألفي ألف ومائتي ألف، ولم يكن له في الظاهر من المال إلا الغابة اشتراها بمائة وسبعين ألفا، ثم باعها ابنه عبد الله بأموال طائلة عظيمة فاجتمعت تركته فكان جميع المال خمسين ألف ألف ومائتى ألف:[أي خمسين مليونا ومائتي ألف] قضى منها الدين وأخرجت الوصية ووزّع الباقي على الورثة، وهذا يدل على أن الله عز وجل بارك في مال الزبير؛ لنيته الصالحة رضي الله عنه. وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول في فوائد هذا الحديث إنه:"بركة من الله؛ لحسن النية، فبارك الله له، وهذا من ثمرات النية الصالحة"(2) وهذا يؤكد أهمية النية الصالحة وأثرها وثمراتها، والله المستعان. (3).
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 235.
(2)
سمعته من سماحته أثناء شرح الحديث رقم 3129، من صحيح البخاري. [ثم بكى سماحة الشيخ حفظه الله].
(3)
انظر: الحديث رقم 122، الدرس السادس.