الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما أنتمْ؛ قَالَ: نَحْن أناسٌ مِنَ العَرَب كنّا فِي شقاءٍ شدِيد وَبَلاء شدِيد. نمص الجلْدَ وَالنَّوى مِنَ الجُوع. وَنَلْبَسُ الوبر والشَّعرَ. وَنعْبدُ الشَّجَرَ والحَجَرَ. فَبَيْنَا نحنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ ربُّ السماوات وَرَبُّ الأَرَضِينَ- تَعَالى ذِكْرهُ وَجَلَّتْ عَظَمَته - إِلَيْنَا نَبيّا منْ أنفسِنَا نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّه فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسولُ رَبِّنا صلى الله عليه وسلم أَنْ نُقَاتلِكُم حَتَّى تَعْبدُوا اللهَ وَحْدهُ. أَوْ تؤدّوا الجزْيَةَ. وَأَخْبَرنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رسَالةِ رَبِّنَا أنهُ مَنْ قتِلَ مِنَّا صَارَ إلَى الجَنَّةِ فِي نَعيم لمْ يُرَ مِثْلُهَا قَط. وَمَنْ بقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ». (1).
[حديث كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات]
182 -
* شرح غريب الحديثين: * " نلبس الوبر والشعر " الوبر: صوف الإِبل والأرانب ونحو ذلك، والشعر: نبتة الجسم مما ليس بصوف ولا وبر (3)
(1)[الحديث 3159] طرفه في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، 8/ 264، برقم 7530.
(2)
النعمان بن مقرن. بن عائذ المزني، أبو حكيم، ويقال: أبو عمرو، الأمير صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إليه لواء قومه يوم فتح مكة، ثم كان أمير الجيش الذي افتتح نهاوند، فاستشهد يومئذ، وقد قدم قبل ذلك على عمر بشيرا بفتح القادسية، وهو الذي فتح أصبهان، وكان استشهاده رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين للهجرة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 2/ 356، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3/ 565، وتهذيب التهذيب له، 10/ 407.
(3)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الباء، مادة:"وبر" 5/ 145، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، باب الراء فصل الواو، ص 630، وباب الراء فصل الشين، ص 533.
* " تهب الأرواح " جمع ريح؛ لأن أصلها الواو، وتجمع على أرياح قليلا، وعلى رياح كثيرا (1).
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
من وسائل الدعوة: بعث البعوث للدعوة والجهاد.
2 -
من صفات الداعية: الفصاحة والبلاغة.
3 -
أهمية مراعاة أوقات نشاط المدعو.
4 -
من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عز وجل.
5 -
أهمية الشورى في الدعوة إلى الله عز وجل.
6 -
من وسائل الدعوة: تأمير الأمراء على الجيوش.
7 -
من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات.
8 -
من أساليب الدعوة: ضرب الأمثال.
9 -
من وسائل الدعوة: البدء بقتال الأهم فالأهم من أعداء الإِسلام (2).
10 -
من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب.
11 -
من أصناف المدعوين: المشركون.
12 -
من موضوعات الدعوة: الحض على الجهاد حتى يعبد الله وحده.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: بعث البعوث للدعوة والجهاد: بعث البعوث للدعوة إلى الله عز وجل، من أعظم الوسائل النافعة، وقد ظهر في هذا الحديث؛ لقول جبير بن حيَّة: " بعث عمر الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين، فأسلم الهرمزان وهذا يؤكد أهمية هذه الوسيلة في الدعوة إلى الله عز وجل (3)
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الواو، مادة:"روح" 2/ 272.
(2)
هكذا قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 6/ 266: "الأهم فالأهم ".
(3)
انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 90، الدرس الثاني.
ثانيا: من صفات الداعية: الفصاحة والبلاغة: لا شك أن الفصاحة والبلاغة من الصفات التي ينبغي للداعية أن يتحلى بها حسب الاستطاعة، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لقول المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لعامل كسرى:«نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينما نحن كذلك إذ بعث رب السماوات والأرضين- تعالى ذكره وجلت عظمته- إلينا نبيا من أنفسنا، نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم» ، قال الكرماني رحمه الله:"فيه فصاحة المغيرة من حيث إنَّ كلامه مبيِّن لأحوالهم فيما يتعلق بدنياهم: من المطعوم والملبوس، وبدينهم من العبادة، وبمعاملتهم مع الأعداء: من طلب التوحيد أو الجزية، ولمعادهم في الآخرة إلى كونهم في الجنة، وفي الدنيا إلى كونهم ملوكا، مُلَّاكا للرقاب "(1) أي الكافرة المعاندة، وهذا يؤكد أهمية البلاغة للداعية (2).
ثالثا: أهمية مراعاة أوقات نشاط المدعو: إن مراعاة أوقات نشاط المدعو من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية العناية بها؛ ولهذا ثبت في هذا الحديث ما يدل على ذلك؛ لقول النعمان رضي الله عنه: «لكني شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات» ، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث:"أن هذا يدل على فضل القتال بعد زوال الشمس على ما قبله، ولا يعارضه أنه صلى الله عليه وسلم كان يغير صباحا؛ لأن هذا عند المصافة، وذاك عن الغارة"(3) وهذا يؤكد أهمية مراعاة أوقات نشاط المدعو (4).
(1) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 13/ 128، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 264.
(2)
انظر: الحديث رقم 53، 54 و 55، الدرس الثاني.
(3)
انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 266.
(4)
انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثامن، ورقم 33، الدرس الثالث.
رابعا: من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عز وجل: الجهاد في سبيل الله عز وجل من أعظم الوسائل في نشر الدعوة؛ ولهذه الأهمية بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس في أفناء الأمصار (1) يقاتلون المشركين فأسلم الهرمزان "، وهذا يبيِّن عناية الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الوسيلة سيرا على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي العناية بها (2).
خامسا: أهمية الشورى في الدعوة إلي الله عز وجل: الشورى ذات أهمية بالغة؛ لما لها من الاتفاق على الحق وإصابة الصواب في الغالب؛ ولهذه الأهمية استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الهرمزان؛ لأنه كان من أهل تلك البلاد، وكان أعلم بأحوال أهلها من غيره؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث:"وفيه فضل المشورة وأن الكبير لا نقص عليه في مشاورة من هو دونه "(3) وهذا يؤكد على الداعية العناية بالشورى عناية خاصة؛ لمكانتها وفضائلها وحسن آثارها (4).
سادسا: من وسائل الدعوة: تأمير الأمراء على الجيوش: تأمير الأمراء على الجيوش، والسرايا من الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لما يحصل بذلك من اجتماع الكلمة، واتحاد الصف، ونبذ الاختلاف؛ ولهذا استعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذا الجيش المذكور في هذا الحديث: النعمان بن مقرِّن رضي الله عنه، (5) ففتح الله على يديه، وهذا يبين أهمية تأمير الأمراء على الجيوش (6).
سابعا: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالمغيبات: دل هذا الحديث على أن من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، الإِخبار بالمغيبات؛
(1) في أفناء الأمصار: أي في مجموع البلاد الكبار. فتح الباري لابن حجر، 6/ 164.
(2)
انظر: الحديث رقم 18، الدرس الثالث، ورقم 117، الدرس الرابع.
(3)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 266.
(4)
انظر: الحديث رقم 11، الدرس الرابع، ورقم 64، الدرس الثالث، ورقم 108، الدرس الرابع عشر.
(5)
انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 3/ 565.
(6)
انظر: الحديث رقم 132، الدرس الثاني، ورقم، 180، الدرس الرابع.
لأن المغيرة رضي الله عنه قال لعامل كسرى: «وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم دائم لم ير مثلها، ومن بقي منا ملك رقابكم» ، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث:"أنه دل على بيان معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وإخباره بالمغيبات، ووقوعها كما أخبر"(1) وهذا لا شك يؤكد صدقه صلى الله عليه وسلم وأنهم ملكوا رقاب كسرى وقيصر (2).
ثامنا: من أساليب الدعوة: ضرب الأمثال: ظهر في هذا الحديث أسلوب ضرب المثل؛ لأن الهرمزان قال لعمر رضي الله عنه عن مغازيه: "مثلها ومثل من فيها من الناس من عدوِّ المسلمين مثل طائر له رأس، وله جناحان، وله رجلان، فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس، فإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس، وإن شدخ الرأس ذهبت الرجلان والجناحان والرأس، فالرأس كسرى، والجناح قيصر، والجناح الآخر فارس، فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث:"وفيه ضرب المثل وجودة تصور الهرمزان؛ ولذلك استشاره عمر، وتشبيهٌ لغائب المجوس بحاضر محسوس لتقريبه إلى الفهم "(3) وهذا يؤكد أهمية ضرب الأمثال في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن ضرب الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإِيضاح والبيان في إبراز الحقائق المعقولة في صورة الأمر المحسوس، وفي القرآن الكريم كثير من الأمثال المضروبة، والداعية لا بد له من ذلك في دعوته، ومن ذلك أن الله تعالى مثَّلَ المنفق في سبيله بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبّة سبع سنابل، اشتملت كل سنبلة على مائة حبّة، والله يُضاعف فوق ذلك لمن يشاء بحسب حال المنفق وإخلاصه (4).
ومثل المنفق رياء وسمعة وبطلان عمله كمثل حجر أملس عليه تراب فأصابه
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 266.
(2)
انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع، ورقم 53، الدرس الثالث.
(3)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 266.
(4)
انظر: سورة البقرة، الآية:261.
مطر شديد، فتركه أملس لا شيء عليه (1) ومثل سبحانه الدنيا في زهرتها وسرْعة زوالها بالماء الذي ينزل من السماء فأنبت الكلأ والعشب، ثم صار بعد هذه النّضرة هشيما (2) ومن أعظم ضرب الأمثال قول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ - مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73 - 74](3).
حق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره؛ فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، فالآلهة التي تُعبَد من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو أضعف المخلوقات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة الباطلة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟!.
وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله تعالى في بطلان الشرك وتجهيل أهله (4).
ومن أحسن الأمثال وأدلّها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده، قوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ - إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 41 - 43](5) فهذا مثل ضربه الله لمن عبد معه غيره يقصد به التعزز والتقوي والنفع، فبين- سبحانه- أن
(1) انظر: سورة البقرة، الآية:264.
(2)
انظر: سورة الكهف، الآية: 45، وسورة يونس، الآية: 24، وسورة الحديد، الآية:20.
(3)
سورة الحج، الآيتان: 73، 74.
(4)
انظر: تفسير البغوي 3/ 298، وأمثال القرآن لابن القيم ص 47، والتفسير القيم لابن القيم ص 368، وتفسير ابن كثير 3/ 236، والبرهان في علوم القرآن، للزركشي 1/ 486، والإتقان في علوم القرآن، للسيوطي 2/ 1041، وفتح القدير للشوكاني 3/ 470، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، 5/ 326.
(5)
سورة العنكبوت، الآيات: 41 - 43.
هؤلاء ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء من دون الله أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه "من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت التي هي من أضعف الحيوانات، اتخذت بيتا وهو من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفا، وكذلك من اتخذ من دون الله أولياء، فإنهم ضعفاء، وازدادوا باتخاذهم ضعفا إلى ضعفهم (1) ومن أبلغ الأمثال التي تُبيّن أن المشرك قد تشتت شمله واحتار في أمره، ما بيّنه الله عز وجل بقوله:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29](2) فهذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحد، فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى مُثِّلَ بعبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون، سيئة أخلاقهم، متنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، فهو في عذاب. والموحد لما كان يعبد الله وحده لا شريك له، فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه واختلافهم، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؛ والجواب: كلَّا. لا يستويان أبدا (3) والقرآن فيه كثير من ضرب الأمثال (4).
وضرب النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال في دعوته، ومن ذلك تمثيل الجليس الصالح بحامل المسك، والجليس السوء بنافخ الكير (5) وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه جمع بين الترغيب والحثّ على مجالسة من يُستفاد من مجالسته في الدين والدنيا، وحذّر من مجالسة من يتأذّى بمجالسته فيهما (6).
(1) انظر: تفسير البغوي 3/ 468، وأمثال القرآن لابن القيم ص 21، وفتح القدير للشوكاني 4/ 204.
(2)
سورة الزمر، الآية:29.
(3)
انظر: تفسير البغوي، 4/ 78، والتفسير القيم لابن القيم، ص 423، وتفسير ابن كثير، 4/ 52، وفتح القدير للشوكاني، 4/ 462، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 6/ 468.
(4)
انظر: أمثال القرآن لابن القيم ص 50 - 52.
(5)
انظر: البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، 6/ 278، برقم 5534، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء، 4/ 2026، برقم 2628.
(6)
انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 16/ 417، وفتح الباري لابن حجر، 4/ 324.
ومن أبلغ الأمثلة على ضرب الأمثال قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأَ والعشب الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً. فذلك مثل من فَقهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وَعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به» (1) والناس على هذه الأقسام الثلاثة:
النوع الأول: من الناس من يبلغه الهدى والعلم فيحفظه، فيحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره، فهو قد انتفع ونفع، فهؤلاء عَلِمُوا، وَعَمِلُوا، وعلَّمُوا، فهم أفضل الناس،
والنوع الثاني: من الناس من لهم قلوب حافظة يحفظون بها العلم والهدى، ولكن ليست لهم أفهام ثاقبة ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل بها، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء علموا وعلَّموا، فنفعوا بما بلغهم.
والنوع الثالث: من الناس ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية فإذا سمعوا العلم لا يحفظونه ولا ينتفعون به ولا ينفعون غيرهم (2) فينبغي للداعية أن يعتني بضرب الأمثال في دعوته إلى الله عز وجل، والله المستعان وبه الثقة وعليه التكلان (3).
تاسعا: من وسائل الدعوة: البدء بقتال الأهم فالأهم من أعداء الإسلام: البدء بقتال الكفار ينبغي أن يكون بالأهم، ثم الذي يليه في الأهمية؛ ولهذا
(1) متفق عليه من حديث أبي موسى رضي الله عنه: البخاري، كتاب العلم، باب فضل من علم وعلم، 1/ 32، برقم 79، ومسلم، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم، 4/ 1787، برقم 2282.
(2)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 15/ 52، وفتح الباري لابن حجر، 1/ 177.
(3)
انظر: كثيرا من الأمثال في السنة في صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة حافظ القرآن، 1/ 549، برقم 797، وكتاب الزكاة، باب مثل البخيل، 2/ 708، برقم 1021، وكتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله، 3/ 1498، برقم 1878، وكتاب الفضائل، 4/ 1787 - 1791، بأرقام 2282 - 2287، وكتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، 4/ 999 - 2000، برقم 2585 - 2586، وكتاب صفات المنافقين 4/ 2146، برقم 2784، و 4/ 2163 - 2166، بأرقام 2809 - 2812، وكتاب الأمثال للرامهرمزي، ص 5 - 142، وسنن الترمذي، كتاب الأمثال 5/ 144 - 148، ومسند الِإمام أحمد، 1/ 435، 465، 4/ 182، 183، 202.
أشار الهرمزان على عمر رضي الله عنه أن يبدأ بقتال كسرى قبل قيصر وفارس؛ لأن كسرى بمثابة الرأس فإذا سقط الرأس فلا قيمة لبقية الجسد؛ ولهذا قال الهرمزان رحمه الله "فالرأس كسرى، والجناح قيصر، والجناح الآخر فارس، فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى "؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفيه البداءة بقتال الأهم فالأهمِّ "(1) فينبغي العناية بذلك وبالتدرج في جميع الأمور على حسب الحكمة والصواب.
عاشرا: من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب والترهيب؛ لأن المغيرة رضي الله عنه قال لعامل كسرى: «وأخبرنا نبينا عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم دائم لم ير مثلها قط (2) ومن بقي منا ملك رقابكم» ، فقوله:«في نعيم دائم» فيه ترغيب في الجهاد وبيان فضل الشهادة في سبيل الله عز وجل. وقوله: «ومن بقي منا ملك رقابكم» فيه ترغيب للمجاهدين في أن من نصره الله استولى على الأعداء، وفيه ترهيب للأعداء وتخويف من البقاء على الكفر؛ لأن من بقي على ذلك يصير إلى القتل أو إلى الرق والذل. والله أعلم. (3).
الحادي عشر: من أصناف المدعوين: المشركون: ظهر في هذا الحديث أن من أصناف المدعوين: كسرى، وقيصر، وفارس، ولا شك أن فارس عباد النار، والنصارى عباد عيسى صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا أهل كتاب، فينبغي أن يدعى هؤلاء كل على حسبه وبما يناسبه. (4).
الثاني عشر: من موضوعات الدعوة: الحض على الجهاد حتى يعبد الله وحده: ظهر في الحديث الحض على الجهاد لقول المغيرة رضي الله عنه لعامل كسرى: «فأمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية» (5).
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 266.
(2)
انظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن القيم ص 35.
(3)
انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث، والدرس الرابع عشر.
(4)
انظر: الحديث رقم 90، الدرس الرابع، ورقم 91، الدرس الثامن، ورقم 179، الدرس السابع.
(5)
انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث، ورقم 18، الدرس الثاني.