الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلّا صنعته فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر الظهر رقي المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالّذي اعتذر إليه ثمّ استغفر وتشهّد علي فعظّم حقّ أبي بكر وحدّث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ولا إنكارا للّذي فضّله الله به ولكنّا كنّا نرى لنا في هذا الأمر نصيبا فاستبدّ علينا فوجدنا في أنفسنا، فسرّ بذلك المسلمون وقالوا: أصبت وكان المسلمون إلى عليّ قريبا حين راجع الأمر بالمعروف".» (1).
[حديث لا نورث ما تركنا صدقة]
148 -
(1) الطرف رقم 4240 - 4241.
(2)
[الحديث 3093، أطرافه في: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم 4/ 252 برقم 3712. وكتاب المغازي، باب حديث بعث النضير 5/ 30، برقم 4036. وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر 5/ 97 برقم 4241. وكتاب الفرائض، باب تعليم الفرائض 8/ 4، برقم 6726 وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة" 3/ 1380، برقم 1759.
وفي رواية: «قال أبو بكر: والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلّا صنعته، قال: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتّى ماتت".» (2).
شرح غريب الحديثين: * " لم ننفس عليك " أي لم نحسدك، يقال: نفاسة على فلان: أي صدا له ورغبة وحرصا على ما ناله، ولم يره له أهلا، ويقال: نفست عليه الشيء، نفاسة: إذا لم تره يستأهله (3).
* " فلم آل فيها عن الخير " أي لم أقصّر (4).
* " فدك " قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان بالسير، وقيل: ثلاثة، أفاءها الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحا سنة سبع؛ لأنه عندما فتح خيبر بلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالحهم على النصف من ثمارهم، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيها عين فوارة، ونخيل كثيرة (5).
(1) من الطرف رقم 3712.
(2)
من الطرف رقم 6726.
(3)
انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض، حرف النون مع الفاء، مادة:"نفس" 2/ 21، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الفاء، مادة:"نفس" 5/ 96.
(4)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 557.
(5)
معجم البلدان، لياقوت الحموي، مادة:"فدك" 4/ 238، وانظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الفاء مع الدال، مادة. "فدك" 2/ 167.
* " فوجدت " أي غضبت، يقال: لا تجد عليّ: أي تغضب (1).
* " وما عسيتهم " أي وما حسبتهم، فعسيت هنا بمعنى حسبت، وأجريت مجراها فنصبت ضمير الغائبين على أنه مفعول ثان (2) أما قوله تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22 - 23](3) فمعناها: فلعلكم إن توليتم. (4).
* " استبددت " انفردت، يقال: استبدّ فلان بكذا: أي انفرد به، واستبدّ برأيه: انفرد به عن غيره (5).
* " أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ " أزيغ: أجور وأعدل عن الحق. (6).
* " تعروه " أي تغشاه وتنتابه (7).
* " نوائبه " النوائب ما ينوب الإنسان: أي ما ينزل به من المهمات، ويقال: نابه ينوبه نوبا، وانتابه، إذا قصده مرة بعد مرة. ويقال: احتاطوا، هل الأموال في النائبة والواطئة: أي الأضياف الذين ينوبونهم (8)
الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
من صفات الداعية: الزهد.
2 -
لا ينكر أن يغيب عن الداعية بعض العلم.
3 -
من وسائل الدعوة: المنبر.
4 -
من آداب الخطيب: البدء بالشهادتين بعد الحمد والثناء على الله عز وجل.
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الجيم، مادة. "وجد" 5/ 155.
(2)
انظر: لسان العرب، لابن منظور، مادة. "عسى" 15/ 55، وفتح الباري لابن حجر 7/ 494.
(3)
سورة محمد، الآيتان: 22 - 23.
(4)
تفسير الطبري [جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، 22/ 177.
(5)
انظر: لسان العرب، لابن منظور، باب الدال، فصل الباء، مادة:"بدد" 3/ 81.
(6)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الزاي مع الياء، مادة:"زيغ" 2/ 324.
(7)
انظر: المرجع السابق، باب العين مع الراء، مادة:"عثر" 3/ 226.
(8)
انظر: المرجع السابق، باب النون مع الواو، مادة:"نوب" 5/ 123.
5 -
أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية.
6 -
من صفات الداعية: الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7 -
من أساليب الدعوة: الحوار.
8 -
من صفات الداعية: الرجوع إلى الحق بدليله.
9 -
من صفات الداعية: التواضع.
10 -
أهمية الاعتراف بالفضل لأهله.
11 -
من صفات الداعية: الخشوع لله عز وجل.
12 -
أهمية محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته.
13 -
من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق.
14 -
من صفات الداعية: العفو والصفح.
15 -
من صفات الداعية: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الزهد: إن الزهد من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أزهد الناس في الدنيا؛ لأنهم لم يبعثوا لجمع الأموال، وإنما بعثوا لإخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:«لا نورث ما تركنا صدقة» ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم زاهدا ويزهّد الناس في الدنيا، فعن مطرف عن أبيه رضي الله عنه قال:«أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] قال: "يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك يا ابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» (1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول العبد: مالي مالي، إنما، له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وسوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس".» (2).
(1) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، 4/ 2273، برقم 2958.
(2)
كتاب الزهد والرقائق، 4/ 2273، برقم 2959.
وهذا يؤكد أن ما يقتنيه الإنسان للآخرة ويدخر ثوابه عند الله عز وجل هو الذي ينفعه حقيقة، وهذا لا يتحقق إلا بالزهد في الدنيا. (1).
ثانيا: لا ينكر أن يغيب عن الداعية بعض العلم: إن الداعية أو العالم العظيم قد يغيب عنه بعض العلم ويعلمه غيره، وهذا يدل على أن علم البشر محدود، ويكمل بعضهم بعضا؛ ولهذا خفي على عليّ رضي الله عنه وفاطمة الزهراء رضي الله عنها قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا نورث ما تركنا صدقة"،» قال الإمام القرطبي رحمه الله: "فأما طلب فاطمة ميراثها من أبيها من أبي بكر، فكان ذلك قبل أن تسمع الحديث الذي دل على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكانت متمسكة بما في كتاب الله من ذلك، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث توقفت عن ذلك ولم تعد عليه بطلب"(2) وقال العيني رحمه الله: "قيل: إن فاطمة رضي الله عنه لم تكن علمت هذا"(3) وهذا لا ينقص من قدرها ولا من علمها وفضلها رضي الله عنها (4).
ثالثا: من وسائل الدعوة: المنبر: لاشك أن من الوسائل المهمة التي تعين على إيصال العلم للناس استخدام المنبر في الخطب، وفي المواعظ التي يحضرها جموع من الناس؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم هذه الوسيلة، ثم استخدمها أصحابه رضي الله عنهم من بعده، ومن ذلك ما ثبت في هذا الحديث من قول عائشة رضي الله عنها:«فلما صلى أبو بكر الظهر رقي على المنبر فتشهد» وهذا يؤكد أهمية هذه الوسيلة (5).
رابعا: من آداب الخطيب: البدء بالشهادتين بعد الحمدلة والثناء على الله عز وجل: لا ريب أن من الآداب التي ينبغي أن يعتني بها الداعية البدء في خطبه،
(1) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول، ورقم 15، الدرس الأول.
(2)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3/ 563.
(3)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 16/ 222.
(4)
انظر: الحديث رقم 77، الدرس الرابع عشر.
(5)
انظر: الحديث رقم 7، الدرس السابع.
ومواعظه، ومحاضراته، وكلماته: بالثناء على الله عز وجل بما هو أهله، وبالإقرار بالشهادتين والصلاة عنى النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا بدأ أبو بكر رضي الله عنه بذلك في هذا الحديث، وكذا علي رضي الله عنه لقول عائشة رضي الله عنها:«فلما صلى أبو بكر الظهر رقي المنبر فتشهد» ، وقالت رضي الله عنها:«ثم استغفر وتشهد عليّ فعظّم حق أبي بكر» وهذا يؤكد أهمية استخدام هذا الأدب في الخطب والمواعظ، والله المستعان. (1).
خامسا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: ظهر في هذا الحديث أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية؛ لقول أبي بكر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» ، فقد استدل رضي الله عنه بهذا الحديث؛ ليقنع فاطمة وعليا رضي الله عنهما، وهذا يؤكد أهمية العناية بالأدلة من الكتاب والسنة، أو من أحدهما، وإقناع المدعوين بذلك (2).
سادسا: من صفات الداعية: الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية الناجح الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم من أسباب الخذلان والهلاك في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه في هذا الحديث: «إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ» وصدق رضي الله عنه؛ فإن الله عز وجل قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63](3) وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36](4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعل الذّلّ والصغار على من خالف أمري".» (5).
(1) انظر: الحديث رقم 135، الدرس الثاني.
(2)
انظر: الحديث رقم 77، الدرس الحادي عشر، ورقم 94، الدرس الثامن.
(3)
سورة النور، الآية:63.
(4)
سورة الأحزاب، الآية:36.
(5)
أخرجه أحمد في المسند، 2/ 50، 92، وابن أبي شيبة في المصنف، 5/ 313، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 5/ 109.
سابعا: من أساليب الدعوة: الحوار: الحوار أسلوب مهم من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل، وقد ظهر في هذا الحديث الحوار بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، واستمر الحوار بينهما حتى فاضت عينا أبي بكر رضي الله عنه، ورضي كلّ منهما على صاحبه، ثم اعتذر عليّ رضي الله عنه، وبايع أبا بكر بحضرة الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤكد أهمية الحوار الهادف وأثره العظيم. فينبغي للداعية أن يعتني به في دعوته إلى الله عز وجل (1).
ثامنا: من صفات الداعية: الرجوع إلى الحق بدليله: الحق هو مقصد كل مسلم إذا ظهر واتضح، والرجوع إليه من أهم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، وقد ظهر في هذا الحديث رجوع علي بن أبي طالب رضي الله عنه للحق عندما اتضح الدليل وبان البرهان فأرسل رضي الله عنه إلى أبي بكر؛ ليأتيه فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فدخل عليه، «فتشهد عليّ فقال:"إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك"،» ثم قال:«موعدك العشية للبيعة» ، ثم حضر رضي الله عنه، وبعد صلاة الظهر بايع أبا بكر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم واعتذر وعظّم حق أبي بكر، فسرّ بذلك المسلمون، وقالوا:"أصبت" ومن تأمل ما دار بين أبي بكر وعليّ رضي الله عنهما عرف أن كلا منهما كان يعترف بفضل الآخر، وأن قلبيهما متفقان على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحيانا، لكن الديانة والتقوى ترد ذلك (2).
ينبغي للداعية أن يكون من أوّل الناس رجوعا إلى الحق إذا ظهر بدليله كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
تاسعا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على أهمية التواضع وأنه ينبغي للداعية أن يتصف به، لما في ذلك من الفوائد العظيمة؛ ولهذا تواضع أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) انظر: الحديث رقم 29، الدرس السادس، ورقم 77، الدرس السابع.
(2)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 3/ 571، وفتح الباري لابن حجر، 7/ 495.
فذهب إلى بيت علي رضي الله عنه كما في هذا الحديث فحصل بهذا التواضع: سلامة القلوب، وطيب النفوس، واجتماع الكلمة والحمد لله، وهذا يبين أهمية التواضع والاتصاف به، وخاصة للدعاة إلى الله عز وجل (1).
عاشرا: أهمية الاعتراف بالفضل لأهله: إن من الأمور المهمة الاعتراف بالفضل لأهله وشكرهم على أعمالهم الطيبة، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث من قول عليّ رضي الله عنه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه:«إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك» ، وهذا يبين أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قد أنصف، واعترف بالفضل لأبي بكر رضي الله عنه. قال الإمام القرطبي رحمه الله:"ولا يظنّ بعليّ أنه خالف الناس في البيعة، ولكنه تأخر عن الناس لمانع منعه، على الموجدة التي وجدها حين استبدّ بمثل هذا الأمر العظيم ولم ينتظر مع أنه كان أحق الناس بحضوره، وبمشورته، لكن العذر للمبايعين لأبي بكر على ذلك الاستعجال: مخافة ثوران الفتنة بين المهاجرين والأنصار، كما هو معروف في حديث السقيفة، فسابقوا الفتنة، فلم يتأتّ لهم انتظاره لذلك، وقد جرى بينهم في هذا المجلس من المحاورة، والمكالمة، والإنصاف ما يدل على معرفة بعضهم بفضل بعض، وأن قلوبهم متفقة على احترام بعضهم لبعض، ومحبة بعضهم لبعض ما يشرق به الرافضي وتشرق به قلوب أهل الدين". (2).
فينبغي لكل مسلم الاعتراف بالفضل لأهله، وإنزال الناس منازلهم، وهذا يتأكد على الدعاة أكثر من غيرهم، والله المستعان.
الحادي عشر: من صفات الداعية الخشوع لله عز وجل: إن الخشوع لله عز وجل من الصفات التي ينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يتصف بها، وقد دل خشوع أبي بكر في هذا الحديث على ذلك حينما تكلم عليّ رضي الله عنه ففاضت عينا أبي بكر رضي الله عنه وقال: «والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.
(2)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3/ 570.
أحب إليّ أن أصل من قرابتي»، وقد مدح الله الخاشعين في كتابه العزيز وأثنى عليهم فقال عز وجل بعد أن ذكر آل زكريا بعد عدد من الأنبياء:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90](1)؛ ولأهمية الخشوع استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع فقال: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها» (2) وأصل الخشوع لله عز وجل: لين القلب، ورقته، وسكونه وخضوعه، فإذا خشع القلب لله تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، فإذا خشع القلب خشع السمع والبصر، والرأس، وسائر الأعضاء؛ لأنه أمير البدن، والجوارح رعيته وجنوده، وبصلاح الأمير تصلح الرعية (3).
«وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: "هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء"، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منّا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنّه، ولنقرئنّه نساءنا وأبناءنا، فقال: "ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدّك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؛» قال جبير فلقيت عبادة بن الصامت قلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء؛ فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس؛ الخشوع، يوشك أن تدخل مسجدَ جماعةٍ فلا ترى فيه رجلا خاشعا" (4).
فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أن يسأل الله أن يصلح قلبه ويجعله خاشعا لله وحده، ويستعيذ بالله من قلب لا يخشع.
(1) سورة الأنبباء، الآية: 90، وانظر: تفسير ابن جرير الطبري، "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" 18/ 521، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، 5/ 259.
(2)
مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، 4/ 2088، برقم 2722.
(3)
انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 1/ 520 - 530.
(4)
الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في ذهاب العلم، 5/ 31، برقم 2653، وحسنه، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 337، وله شواهد من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه في معجم الطبراني الكبير، 7/ 295، برقم 7183، ومن حديث عوف بن مالك رضي الله عنه عند الحاكم 1/ 98 - 99.
الثاني عشر: أهمية محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته: محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته من أعظم الصفات الواجبة التي يتأكد على كل مسلم أن يتصف بها وخاصة الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذه الأهمية قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في هذا الحديث: «والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي» ، وهذا يبين عظم محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته في قلوب أصحابه صلى الله عليه وسلم. فينبغي أن يتصف كل مسلم بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من النفس، والمال، والولد، والوالد، والناس أجمعين، كما يظهر في هذا الحديث أن من كمال الإيمان تقديم محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الصالحين على محبة الأقرباء، إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
الثالث عشر: من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق: لا شك أن من الأساليب النافعة عند الحاجة إليها، ذكر الداعية بعض مناقبه التي يكون في إظهارها نفع للمدعوين؛ ولهذا أظهر أبو بكر بعض مناقبه في هذا الحديث عندما رأى أن المصلحة تقتضي ذلك، فقال رضي الله عنه:«فلم آل جهدا عن الخير، ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته» ، وهذه منقبة من أعظم المناقب العظيمة لأبي بكر رضي الله عنه، ذكرها انتصارا للحق (2).
الرابع عشر: من صفات الداعية: العفو والصفح: العفو والصفح من أعظم الصفات السامية التي يتصف بها النبلاء: من العلماء، والدعاة، وأهل الديانة المستقيمة، والأخلاق الكريمة، ولهذا عفا وصفح الصديق رضي الله عنه عما حصل من علي رضي الله عنه؛ لأن عليا رضي الله عنه يرى أن الحق معه حتى تبين له الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا نورث ما تركنا صدقة» ، وعند اتضاح الحق لعليّ عفا عنه أبو بكر؛ ولهذا جاء في هذا "الحديث: «فلما صلى أبو بكر الظهر رقي المنبر فتشهد وذكر شأن عليّ
(1) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن.
(2)
انظر. الحديث رقم 61، الدرس التاسع، ورقم 77، الدرس الثالث عشر.
رضي الله عنه وتخلفه عن البيعة، وعذره بالذي اعتذر إليه"،» فاجتمعت الكلمة وطهرت القلوب والحمد لله، وهذا يؤكد أهمية العفو ويوضح آثاره الحميدة، والله المستعان (1).
الخامس عشر: من صفات الداعية: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا: إن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهم الصفات وأعظم القربات التي يتقرب بها المخلصون إلى الله عز وجل؛ ولهذه الأهمية قال أبو بكر رضي الله عنه: «إنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم"،» وقال: «ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته"،» وهذا يدل على كمال اتباع الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا. فينبغي للداعية أن يكون أكمل الناس في الاتباع وأبعدهم عن الابتداع، وأن يكون قدوة صالحة لغيره، والله المستعان (2).
(1) انظر: الحديث رقم 80، الدرس الثالث، ورقم 105، الدرس الرابع، ورقم 130، الدرس الرابع.
(2)
انظر: الحديث رقم 29، الدرس الخامس.