الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
185 -
باب من غلب العدو، فأقام على عرصتهم ثلاثا
[حديث أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال]
139 -
[3065] حَدَّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عبد الرَحِيمِ: حَدَّثَنَا رَوحُ بنُ عُبَادةَ: حَدَّثَنَا سَعِيد، عَنْ قتَادَةَ قَالَ:" ذَكَرَ لَنَا أنسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحة (1) رضي الله عنهما، «عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كَانَ إِذَا ظَهرَ عَلَى قَوْم أَقَامَ بِالعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ». تَابَعهُ مُعَاذ وَعَبْدُ الأَعْلَى: " حَدَّثَنَا سَعِيد، عَنْ قَتَادةَ، عَن أنسٍ، عَنْ أبِي طَلْحَةَ، عَنِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم " (2).
وفي رواية «أَنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ يَوْم بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَويٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمِ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ. فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ برَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُها، ثُمَّ مَشَى وَتَبعَهُ أَصْحَابُهُ وَقالُوا: مَا نَرى يَنْطَلِقُ إِلاّ لِبَعضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: " يَا فلانُ ابنَ فلَانٍ، وَيَا فلانُ ابنَ فلَانٍ، أيسُرُكُمْ أَنًكُمْ أَطَعْتُمُ الله وَرَسُولَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا؟ " قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لا أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنتمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهم» قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ الله حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ: تَوْبِيخا، وتَصْغِيرا، وَنقْمَةً، وحَسْرَةً، وَنَدَما " (3).
* شرح غريب الحديث: * " ظهر على قوم " أي غلبهم (4).
* " العَرْصةُ " كل موضع واسعٍ لا بناء فيه (5).
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 41.
(2)
[الحديث 3065] طرفه في كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، 5/ 11، برقم 3976. وأخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4/ 2204، برقم 2875.
(3)
طرف الحديث رقم 3976.
(4)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الظاء مع الهاء، مادة:" ظهر " 3/ 167.
(5)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الراء، مادة:" عرص " 3/ 208، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 181.
* " صناديد " صناديد قريش: أشرافهم، وعظماؤهم، ورؤساؤهم، وكل عظيم غالب صنديد (1).
* " طويّ " الطويُّ: البئر المطويّة (2).
* " الركيّ " الركيّ: هي البئر التي لم تطوَ (3).
* " القليب " القليب: البئر التي لم تطوَ أيضا (4).
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: إظهار انتصار الإِسلام وشعار المسلمين.
2 -
من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالأمور الغيبية.
3 -
من موضوعات الدعوة: بيان عذاب القبر ونعيمه.
4 -
من أساليب الدعوة: الترهيب.
5 -
من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: إظهار انتصار الإسلام وشعار المسلمين: لا ريب أن إظهار انتصار الإِسلام وشعار المسلمين من وسائل الدعوة التي تدخل الرعب في قلوب أعداء الإِسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال؛ قيل: الحكمة من ذلك؛ ليظهر تأثير الغلبة وتنفيذ الأحكام، وقلة المبالاة بأعداء الإِسلام، وإظهار شعار المسلمين، وإيقاع الطاعة في الأرض التي وقعت فيها المعاصي، وغير ذلك من الحكم التي تظهر أثناء الإِقامة: كالنظر
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الصاد مع النون، مادة:" صند " 3/ 55، وانظر: شرح غريب الحديث رقم 108، ص 617.
(2)
المرجع السابق، باب الطاء مع الواو، مادة:" طوى " 3/ 146.
(3)
تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 267.
(4)
المرجع السابق، ص 267.
في عدد القتلى والقيام بشؤونهم، وإراحة المجاهدين إذا أُمن مكر العدو (1).
وهذه الأعمال تؤيد أن إظهار الانتصار والقوة من أهم وسائل الدعوة؛ لما في ذلك من المصالح التي من أعظمها تخويف الأعداء وإذلالهم.
ثانيا: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالأمور الغيبية: إن مما يدل على صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعمومها ما أخبر به من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ ومن ذلك إخباره بأن صناديد المشركين يسمعون قوله صلى الله عليه وسلم لهم: «أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا» . وهذا يدل على أن ذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم الباهرة (2).
ثالثا: من موضوعات الدعوة: بيان عذاب القبر ونعيمه: إن من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يبينها الداعية للناس: عذاب القبر ونعيمه؛ وقد ظهر في هذا الحديث ما يدل على ذلك، فقد «قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم حينما خاطب صناديد قريش بعد إلقائهم في قليب بدر:" يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ " فقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم». قال قتادة: " أحياهم الله حتى أسمعهم قوله: توبيخا، وتصغيرا، ونقمة، وحسرة، وندما "، وهذا يؤكد أهمية بيان عذاب القبر؛ ولهذا خاطب النبي صلى الله عليه وسلم صناديد قريش يوبخهم؛ لإِعراضهم وعنادهم التام في الدنيا عن دين الإِسلام، بل وقفوا في طريقه وقاتلوا أهله؛ ولأهمية التحذير من عذاب القبر ذكر الله عز وجل عذاب آل فرعون في البرِزخ فقال عز وجل:{وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ - النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45 - 46](3) وقال عز وجل في عذاب الكفار في الدنيا والبرزخ: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ - يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ - وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 45 - 47](4).
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 181، إرشاد الساري للقسطلاني، 5/ 178.
(2)
انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع، ورقم 132، الدرس التاسع.
(3)
سورة غافر، الآيتان: 45 - 46.
(4)
سورة الطور، الآيات: 45 - 47.
وقد ذكر البراء بن عازب، وابن عباس، وعلي رضي الله عنهم، أن قوله عز وجل:{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 47] هو عذاب القبر، وقيل: هو الجوع في الدنيا والمصائب التي تصيبهم في الدنيا، ورجح الإمام الطبري رحمه الله أن ذلك يشمل الأمرين وأن للذين ظلموا أنفسهم بكفرهم به عذابا دون يومهم الذي فيه يصعقون، وذلك يوم القيامة، فعذاب القبر دون يوم القيامة؛ لأنه في البرزخ، والجوع والمصائب التي تصيبهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم دون يوم القيامة، ولم يخصص نوعا من ذلك أنه لهم دون يوم القيامة دون نوع بل عمَّ (1) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم للناس عذاب القبر في أحاديث كثيرة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«إن أحدكم إذا مات، عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله عليه يوم القيامة» (2) وعن زيد بن ثابت رضي الله عنهم قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به (3) فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال:" من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ " قال رجل: أنا، قال:" فمتى مات هؤلاء؟ " قال: ماتوا في الإِشراك، فقال:" إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه "، ثم أقبل علينا بوجهه فقال:" تعوّذوا بالله من عذاب النار " قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: " تعوذوا بالله من عذاب القبر " قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال:" تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن " قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: " تعوّذوا
(1) انظر: تفسير الطبري: [جامع البيان عن تأويل آي القرآن]، 2/ 488، وتفسير القرطبي [الجامع لأحكام القرآن]، 17/ 79، والروح لابن القيم، 1/ 336 - 339 وذكر رحمه الله الآيات في عذاب القبر في هذا الموضع.
(2)
متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، 2/ 126 برقم 1679، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو من النار عليه وإثبات عذاب القبر والتْعوذ منه، 4/ 2199، برقم 2866.
(3)
حادت به: أي مالت عن الطريق ونفرت، انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 18/ 209.
بالله من فتنة الدجال " قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال» (1).
وعن أبي أيُّوب رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما غربت الشمس فسمع صوتا فقال: " يهودُ تعذب في قبورها» (2).
وعن أنس رضي الله عنهم قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولَّى عنه أصحابُه، إنه ليسمع قرعَ نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ " محمد صلى الله عليه وسلم " فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما. جميعا" [قال قتادة: " وذُكِرَ لنا أنه يفسح له في قبره " ثم رجع إلى حديث أنس قال] " وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؛ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقوله الناس، فيقال: لا دَريت ولا تليت، ويضرب بمطارِقَ من حديد ضربة، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه غير الثقلين» (3) وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقعد المؤمن في قبره أُتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]» (4).
وفتنة القبر كانت تحدث عند الصحابة خشوعا لله وإقبالًا عظيما إلى طاعته حينما يذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:«قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فذكر فتنة القبر التي يفتتن بها المرءُ، فلما ذكر ذلك ضجَّ المسلمون ضجَّةً» (5).
(1) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4/ 2199، برقم 2867.
(2)
متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، 2/ 125، برقم 1375، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4/ 2200، برقم 2869.
(3)
متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2/ 125، برقم 1374، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4/ 2200، برقم 2870، وما بين المعكوفين لفظ البخاري دون مسلم.
(4)
متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2/ 124، برقم 1369، واللفظ له، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4/ 2201، برقم 2871، والآية من سورة إبراهيم، الآية:27.
(5)
البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2/ 124، برقم 1373.
والقبر له ضغطة لا ينجو منها أحد، لكنَّ هذه الضغطة ضغطة سخط وغضب على المجرمين، وضغطة فرح وسرور للمؤمنين (1) فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضُمَّ ضمةً ثم فرِّج عنه» (2) يعني سعد بن معاذ رضي الله عنه فينبغي للمسلم أن يسأل الله العافية؛ فإن للقبر ضغطة، فلو نجا أو سلم أحد منها لنجا سعد بن معاذ.
ومما يزيد الأمر وضوحا في عذاب القبر قوله صلى الله عليه وسلم: «أسرعُوا بالجنازة، فإن تكُ صالحةً فخيرٌ تقدمونها إليه، وان تَكُ غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» (3) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتَها كلُّ شيءٍ إلا الإنسان، ولو سمعه لَصَعِق» (4).
ولهول عذاب القبر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالاستعاذة منه دبر كل صلاة، فقال صلى الله عليه وسلم:«إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال» (5) وكان هو صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم» فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم
(1) انظر: حاشية الإمام السندي على سنن النسائي، 4/ 100.
(2)
أخرجه النسائي، كتاب الجنائز، باب ضمة القبر وضغطته، 4/ 100، برقم 2055، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 2/ 441، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/ 268 برقم 1695.
(3)
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، 2/ 108 برقم 1315، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، 2/ 651، برقم 944.
(4)
البخاري، كتاب الجنائز، باب حمل الرجال الجنازة دون النساء، 2/ 108، برقم 1314، وباب قول الميت على الجنازة: قدموني، 2/ 108، برقم 1316.
(5)
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، 2/ 125 برقم 1377، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، 1/ 412 برقم 588، واللفظ لمسلم.
يا رسول الله؟ فقال: «إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فأخلف» (1).
ولا شك أن القبور لها ظلمة إلا من نوَّر الله قبره بالإِيمان والعمل الصالح، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن امرأة سوداء كانت تَقُمّ المسجد، أو شابا، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها أو عنه فقالوا: مات، قال: " أفلا آذنتموني " فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره فقال: " دلوني على قبره " فدلوه فصلى عليها ثم قال: " إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله عز وجل ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم» (2).
ومن أعظم الأحاديث في عذاب القبر حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وفيه أن العبد المؤمن يفسح له في قبره مد بصره، وأن العبد الفاجر يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه (3).
وعن هانئ مولى عثمان قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تُذكَرُ الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن القبر أوّلُ منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدُّ منه» وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت منظرا قطُ إلا والقبر أفظع منه» (4).
ومما يزيد المسلم يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن أرواح المؤمنين في البرزخ: «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه» (5).
وأرواح الشهداء أعظم من ذلك: فإن: «أرواحهم في
(1) متفق عليه، من حديث عائشة رضي الله عنها: البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، 1/ 227، برقم 832، ومسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، 1/ 412، برقم 588.
(2)
متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعدما يدفن، 2/ 113، برقم 1337، ومسلم واللفظ له، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، 2/ 659، برقم 956.
(3)
حديث البراء حديث طويل عظيم، أخرجه أحمد 4/ 287، 288، 295، 296، والحاكم وصححه وأقره الذهبي 1/ 37 - 40، وغيرهما، وصححه ابن القيم في تهذيب السنن، 4/ 337، وقال الألباني في أحكام الجنائز ص 159 على تصحيح الحاكم وإقرار الذهبي له:" وهو كما قالا ".
(4)
الترمذي، وحسنه، في كتاب الزهد، باب. حدثنا هناد، 4/ 553، برقم 2308، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، 2/ 426، برقم 4267، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 267 وصحيح سنن ابن ماجه 2/ 421.
(5)
أحمد في المسند، 3/ 455، والنسائي، 4/ 108، برقم 2073، وغيرهما، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 73، آخر الدرس الثامن، ص 450.
جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل» (1) ولا شك أن أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها، فإذا كان يوم القيامة كان الحكم والنعيم أو العذاب على الأرواح والأجساد جميعا (2).
وعذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، أو أكلته السباع، أو أحرق حتى صار رمادا أو نسف في الهواء؛ فإنه يصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل القبور (3).
وأحاديث عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين تبلغ حد التواتر؛ فقد بلغت الأحاديث في ذلك سبعين حديثا (4).
ومما يجير من عذاب القبر معرفة الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور والابتعاد عنها، والأسباب المنجية من عذاب القبر والعمل بها.
أما أسباب عذاب القبر فمنها: الجهل بالله، وإضاعة أوامره، وارتكاب معاصيه، والنميمة، وترك الاستبراء من البول، والكذب الذي يبلغ الآفاق، وترك العمل بالقرآن والنوم عنه بالليل، والزنا، وأكل الربا، والتثاقل عن الصلاة المفروضة، وترك الزكاة المفروضة، وأكل لحوم الناس بالغيبة والوقوع في أعراضهم، وغير ذلك من أسباب عذاب القبر التي ينبغي للداعية تحذير الناس منها.
وأما أسباب النجاة من عذاب القبر فكثيرة، منها: تجنب الأسباب التي تسبب عذاب القبر، ومن أنفع أسباب النجاة أن يجلس المسلم عندما يريد النوم فيحاسب نفسه فيما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحا فينام على تلك التوبة " ومن أسباب النجاة من عذاب القبر: الموت مرابطا في سبيل الله، والشهادة في
(1) مسلم، برقم 1887، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 73، آخر الدرس الثامن، ص 450.
(2)
انظر: الروح لابن القيم، 1/ 263، 311.
(3)
انظر: المرجع السابق 1/ 299، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، ص 452.
(4)
انظر: الروح لابن القيم، 1/ 165، وجامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لابن الأثير، 11/ 164، من حديث رقم 8690 - 8704.
سبيل الله، وغير ذلك من الأسباب النافعة (1) فينبغي للداعية أن يبين للناس حقيقة عذاب القبر ونعيمه، اللهم عافني وسلمني وأعذني من عذاب القبر، ووالديَّ وجميع المؤمنين.
رابعا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترهيب؛ ولهذا قال قتادة في آخره عن صناديد قريش: " أحياهم الله حتى أسمعهم قوله: توبيخا، وتصغيرا، ونقمة، وحسرة، وندما " وهذا يبين أهمية أسلوب الترهيب وتأثيره على القلوب. (2).
خامسا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: ظهر في هذا الحديث أسلوب القسم الذي يبعث النفوس على التصديق وقوة اليقين؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وهذا واضح في الدلالة على أهمية أسلوب التأكيد بالقسم في الدعوة إلى الله عز وجل (3).
(1) انظر: الروح لابن القيم، 1/ 340، و345.
(2)
انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.
(3)
انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس.