الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - باب عيادة المريض وثواب المرض
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
1523 -
[1] عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَاِنيَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 5649].
1524 -
[2] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِم خَمْسٌ: . . . . . .
ــ
1 -
باب عيادة المريض وثواب المرض
العيادة والعياد بالكسر: زيارة المريض، وكذا العُوادة بالضم، وهو عائد وجمعه العُوّاد والعوادة (1) والعُوَّد، والمريض مَعُودٌ ومَعْوُودٌ، كذا في (القاموس)(2)، وكان أصلها العود بمعنى الرجوع؛ لأنه يعود إلى المريض تارة بعد أخرى، ويجيء العود أيضًا بمعنى العيادة.
الْفَصْلُ الأَوَّلُ
1523 -
[1](أبو موسى) قوله: (أطعموا الجائع) وهو سنة إن لم يصل حد الاضطرار، وفرض إن وصل، على الكفاية إن لم يتعين أحد، وعينًا إن تعين.
وقوله: (وعودوا المريض) هي سنة إذا كان له متعهد، وواجب إن لم يكن.
وقوله: (وفُكُّوا العاني) أي: الأسير، عني الأمر: إذا شق، وفَكَّ الأسير: أخلصه، والمراد من أُسِر بغير حق أو حكم الأمير بالفداء عنه.
1524 -
[2](أبو هريرة) قوله: (حق المسلم على المسلم خمس) يدل على
(1)"العوادة" مقحم وليس في "القاموس".
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 288).
رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1240، م: 2162].
ــ
أن العيادة وأخواته من حقوق الإِسلام غير مخصوص بالصحبة، ويفهم من بعض الكتب أنها من حقوق الصحبة، ولهذا أورد في (جامع الأصول)(1) باب العيادة في حقوق الصحبة، وذكرها الإِمام حجة الإِسلام في حقوق الإِسلام، والأول مسامحة بجعل الإِسلام في حكم الصحبة؛ فإن المسلمين كلهم كانوا في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمعنى الأعم.
وقوله: (رد السلام) والسلام أيضًا منها كما ذكر في الأحاديث الآتية، وخص رده ههنا بالذكر اهتمامًا لكونه فرضًا على الكفاية.
وقوله: (واتباع الجنائز) المراد به ما يشتمل صلاتها، فإنها فرض كفاية، وذكر اتباعها اهتمامًا وإشارةً إلى أنه ينبغي أن يتوقف بعد الصلاة ويتبعها، والتوقف إلى الدفن أفضل كما سيجيء.
وقوله: (وإجابة الدعوة) إذا لم يكن هناك بدعة من الملاهي والمناهي، قال الإمام الغزالي (2): ومن جملتها طعام المباهاة والمفاخرة، فإن السلف كانوا يكرهونها.
وقوله: (وتشميت العاطس) بالشين والسين، جواب العاطس بـ: يرحمك اللَّه، والأول أفصح وأبلغ، فبالمعجمة مشتق مما اشتق منه الشوامت بمعنى قوائم الدابة، فكأنه دعاء بثبات القدم على الخير، أو من الشماتة بمعنى الفرح ببلية العدو، وباب التفعيل للإبعاد والإزالة، وبالمهملة من السمت دعاء بحسن السمت والهدى، والتشميت
(1)"جامع الأصول"(7/ 338، ح: 4731).
(2)
"إحياء علوم الدين"(2/ 23).
1525 -
[3] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ". قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّم عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّه فشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2162].
1526 -
[4] وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، أَمَرَنَا: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ،
ــ
مستحب، وقيل: سنة عين على الواحد، وسنة كفاية على الجمع، وسيجيء الكلام فيه في (باب العطاس والتثاؤب) من (كتاب الآداب).
1525 -
[3](وعنه) قوله: (إذا لقيته فسلم عليه. . . إلخ)، حاصله سلامك عليه في وقت ملاقاتك له، وإجابتك إياه حين دعائه إياك، وكذا في البواقي، فيطابق السؤال بقوله: و (ما هن).
وقوله: (وإذا استنصحك فانصح له) النصيحة: إرادة الخير للمسلمين، وهي سنة، وعند الاستنصاح واجبة، والنصح في اللغة بمعنى الخلوص.
1526 -
[4](البراء بن عازب) قوله: (وإبرار المقسم) اسم فاعل من أقسم، أي: جعل الحالف بارًا في حلفه، سواء حلف على فعلك فتفعل ليصير بارًا، أو بفعل من أفعال نفسه فتسعى في تيسيره وتحصيله له، وعلى الوجهين يحمل قوله:(لو أقسم على اللَّه لأبره)، وروي (إبرار القسم) بفتحتين، وذلك يحتمل المعنيين المذكورين مع احتمال أن يكون المراد إبرار القسم حلفه على نفسه بأن يبر قسمه، لكن لا يكون هذا من حقوق المسلم، والحديث لا ينحصر في بيانها بدليل ما ذكر في بيان ما نهى.
وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَنَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنِ الْحَرِيرِ، والإِسْتَبْرَقِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ، وَالْقَسِّيِّ، وَآنِيَةِ الْفِضَّةِ -وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ- فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لم يشرب فِيهَا فِي الآخِرَة. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1239، م: 2066].
ــ
هذا، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المعنى من استحلف غَيْرَه بأن يقول: عليك باللَّه أن تفعل، فيستحب هنا أيضًا أن يفعل تعظيمًا لاسم اللَّه، وفي الصورتين السابقتين يستحب لإنقاذه عن المعصية، فتدبر.
وقوله: (ونصر المظلوم) مسلمًا كان أو ذميًّا أو مستأمنًا.
وقوله: (ونهانا عن خاتم الذهب) إلى آخرها، منهية للرجال، وأما آنية الفضة فمحرمة للرجال والنساء جميعًا.
وقوله: (والإستبرق) الديباج الغليظ، أو ديباجٌ يعمل بالذهب، أو ثيابُ حريرٍ صفاقٌ نحو الديباج، وقال: والديباج معروف معرب.
وقوله: (والميثرة) بكسر الميم وسكون التحتانية وفتح المثلثة: ما يُتّخَذ من حرير أو ديباج، ويُجْعل كالفراش الصغير، ويُحْشى بقطن أو صوف، ويجعله الراكب تحته على الرحال والسروج، ويفهم من تقييده بالحمراء أنها إن لم تكن حمراء لم تحرم، إلا أن يكون بقصد رعونة وتكبر.
وقوله: (والقسِّيِّ) بفتح القاف وتشديد السين: ثوب منسوب إلى (قس)، اسم قرية من مصر، تنسب إليه الثياب من كتان مخلوط بحرير، وسيجيء ذكر هذه الثياب وأحكامها في (كتاب اللباس) إن شاء اللَّه تعالى.
وقوله: (لم يشرب فيها في الآخرة) كناية عن نقصان حظه عن نعيم الجنة ولَذَّاتها، ولعله يُحْرم عن هذه الأواني دائمًا أو زمانًا طويلًا معاقبةً على هذه الخطيئة، ولا حاجة
1527 -
[5] وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2568].
1528 -
[6] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّه تَعَالى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ! مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ . . . . .
ــ
إلى قيد استحلالها حتى يصير كافرًا ويُحرم عن دخول الجنة، وجعله كناية عن كونه جهنميًّا من جهة أن دأب أهل الجنة الشرب من أواني الفضة، فمن لم يكن هذا دأبه لم يكن من أهل الجنة، كما ذكره الطيبي (1)، فافهم.
1527 -
[5](ثوبان) قوله: (لم يزل في خرفة الجنة) الخرفة بضم الخاء وسكون الراء: ما يُخْترف ويُجتَنى من ثمار النخل، والمخرفة والمخرف بفتح ميم وكسر راء وبفتحها: البستان، وسكة بين صَفَّيْنِ من نخيل يخرف من أيهما شاء، يقال: خرف الثمار: جناه، والمراد أن العائد فيما يحوز من الثواب كأنه على نخيل الجنة يخرف ثمارها، أو يكون جزاؤه في الجنة ذلك، والمعنى الأول أظهر من العبارة، وقيل: المخرفة الطريق، أي: أنه على طريق تؤديه إلى الجنة.
1528 -
[6](أبو هريرة) قوله: (كيف أعودك)(2) أي: كيف تمرض حتى أعودك.
وقوله: (وأنت رب العالمين) والرب: المالك والسيد والمدبر والمربي والمنعم،
(1)"شرح الطيبي"(3/ 290).
(2)
قال النووي (8/ 369): قال العلماء: إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى، والمراد العبد تشريفًا للعبد وتقريبًا له. وقال القاري (4/ 10): والحاصل أن من عاد مريضًا للَّه تعالى فكأنه زار اللَّه، انتهى.
قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يَا ابْنَ آدَمَ! اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ! كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ! اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَم تَسْقِهِ؟ أَما إِنَّك لَوْ سَقَيتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2569].
1529 -
[7] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ:"لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ". فَقَالَ لَهُ: "لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ". قَالَ: كَلَّا بَلْ حُمَّى تَفُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فَنَعَمْ إِذَنْ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 3616].
ــ
وهذه الأوصاف تنافي المرض والنقصان والاحتياج والهلاك.
وقوله: (لوجدتني عنده) أي: وجدت رحمتي ورضائي.
وقوله: (لوجدت ذلك) أي: ثوابه وجزاءه، وفي العبارة الأولى من المبالغة في بيان أفضلية العيادة من الإطعام والسقي ما لا يخفى، فتأمل.
1529 -
[7](ابن عباس) قوله: (لا بأس، طهور) أي: لا تحزن ولا تبال بما تجد من الوجع وشدة المرض؛ فإنه مطهِّر للذنوب ومزيل لها، بل منقٍ ومصلح للبدن أيضًا من رديء الأخلاط وكثيف الأجزاء، فقال غضبًا عليه إذ أرشده على الصبر والشكر فأبى، ولم يسلك طريقة الأدب، وتجاوز عن الحد، ويحتمل كفره، والظاهر عدمه لكونه من جفاة الأعراب وأجلافهم، فلم يثبت من شدة الوجع، ومع ذلك تكلَّفَ في
1530 -
[8] وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: "أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5675].
1531 -
[9] وَعَنْهَا قَالَتْ: كَانَ إِذَا اشْتَكَى الإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُصْبُعِهِ: "بِسْمِ اللَّهِ. . . . .
ــ
السجع في غير مقامه، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وألزمه بما تطير على نفسه وألزمه.
1530 -
[8](عائشة) قوله: (إذا اشتكى منا إنسان)(1) الشكو والشكوى والشكاة والشكاية: المرض، والشكي كغني: المشكُوُّ وَالمُوْجَعُ، ومن يَمْرَضُ أقل مرضٍ وأَهْوَنَه، كالشاكي، ويقال: اشتكى، أي: توجع، أي شكى مرضه، فمآله إلى معنى الشكاية بالمعنى المشهور الذي هو بالفارسية كله كردن.
وقوله: (لا يغادر) أي: لا يترك (سقمًا) على وزن حَبل وقُفل.
1531 -
[9](وعنها) قوله: (أو كانت به قرحة) القرح بالفتح والضم: ما يخرج من البدن، أو بالفتح الآثار، وبالضم الألم، و (الجرح) بالضم: اسم من الجراحة.
وقوله: (بإصبعه) متعلق بـ (قال)، أي: حال كونه مارًّا إصبعه على محل الوجع، وفي رواية لمسلم:(بإصبعه السبابة)، وفي أخرى:(المسبحة). و (بسم اللَّه. . . إلخ) مقول (قال).
(1) وقال الحافظ (10/ 132): وقد استشكل الدعاء للمريض بالشفاء مع ما في المرض من كفارة الذنوب والثواب كما تضافرت الأحاديث بذلك، والجواب أن الدعاء عبادة ولا ينافي الثواب والكفارة، لأنهما يحصلان بأول مرض وبالصبر عليه، والداعي بين حسنتين إما أن يحصل له مقصوده أو يعوض عنه بجلب نفع أو دفع ضر، وكل من فضل اللَّه تعالى.
تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا لِيُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذِن رَبِّنَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5743، م: 2194].
ــ
وقوله: (تربة أرضنا) أي: هذه تربة معجونة وممزوجة.
وقوله: (بريقة بعضنا) حال أو خبر ثان.
وقوله: (ليشفى سقيمنا) علة لما يفهم من الكلام، والتقدير: قلنا هذا القول أو فعلنا هذا الفعل ليشفى، وفي رواية بدون اللام.
قال النووي (1): كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأخذ من ريق نفسه على أصبعه المسبحة ثم يضعها على التراب فيتعلق (2) منه بشيء، ثم يمسح به على الموضع العليل القريح (3) قائلًا الكلام المذكور حال المسح، وللرقى آثار عجيبة لا تظهر أسرارها، انتهى.
ولو قيل باختصاصه به صلى الله عليه وسلم كان وجهًا، وهذا مما لا يدركه العقل، ولأفعاله صلى الله عليه وسلم أسرار غامضة علمها موكول إلى علمه، والمقيدون في مضيق الطبيعة والتفلسف يطلبون حقائقها ولا يدركونها كما هي، منها ما قال القاضي البيضاوي رحمه الله (4): إنه قد شهدت المباحث الطبية على أن الريق له مدخل في النضج وتبديل المزاج، ولتراب الوطن تأثير في حفظ المزاج الأصلي، حتى قيل: إنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه، ويجعل شيئًا منه في سقائه، ويشرب الماء منها ليأمن تغير مزاجه.
وقال التُّورِبِشْتِي (5) في تأويله: الذي يسبق إلى الفهم أن (تربة أرضنا) إشارة إلى
(1)"شرح صحيح مسلم" للنووي (7/ 438).
(2)
كذا في المخطوطة، وفي أكثر الشروح: فَيَعْلَقُ بِهَا مِنْه شَيْءٌ.
(3)
كذا في المخطوطة، وفي أكثر الشروح:"الجريح" بدل "القريح"، وكلاهما صحيح معنى.
(4)
انظر: "فتح الباري"(10/ 208).
(5)
"الميسر"(2/ 371).
1532 -
[10] وَعَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ،
ــ
فطرة آدم، و (ريقة بعضنا) إلى النطفة التي خلق منها الإنسان، فكأنه يتضرع بلسان الحال والقال، إنك اخترعت الأصل الأول من طين، ثم أبدعت بنيه من ماء مهين، فهين عليك أن تشفي من كان شأنه هذا، انتهى. وهذا كما ترى يختل ولا يتبادر من اللفظ، واللَّه أعلم بمراد نبيه من كلامه، وقال بعض الشارحين: المراد بالأرض أرض المدينة التي ثبت لها خاصية في شفاء المريض، وبالبعض ذاته الكريمة الشريفة على طريقة قوله تعالى:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32]، قال صاحب (الكشاف): المراد به محمد صلى الله عليه وسلم تفخيمًا وتعظيمًا، والأظهر ما قلنا في تتمة كلام النووي، واللَّه أعلم.
1532 -
[10](عائشة) قوله: (نفث على نفسه) النفث كالنفخ وأقل من التفل.
وقوله: (بالمعوذات) بكسر الواو المشددة من التعويذ، وفي رواية:(بالمعوذتين) وهو ظاهر، والمراد بالمعوذات إما المعوذتين إطلاقًا بصيغة الجمع على الاثنين على مذهب أن أقل الجمع اثنان، أو مع (سورة الإخلاص) و (قل يا أيها الكافرون) تغليبًا لأن فيهما براءة من الشرك، أو المراد الآيات التي تتضمن معنى الاستعاذة والتفويض والتوكل شاملًا للمعوذتين وغيرهما، مثل {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97]، وقوله عز وجل:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56]، وقوله تعالى:{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [القلم: 51] الآيات، أو المراد الكلمات المعوذة.
وقوله: (ومسح عنه بيده) أي: مسح متجاوزًا عن ذلك النفث سائر أعضائه بيده، وصورته أن يجمع بيديه الكريمتين ويقابل بهما فيه، وينفث فيهما، ثم يمسح بهما جميع أعضائه التي تصلان إليها، فالضمير في (عنه) للنفث، ويجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم،
فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ كُنْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفُثُ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5735، م: 2192].
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: كَانَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ.
1533 -
[11] وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي يَأْلَمُ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ: بِسْم اللَّهِ ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ". قَالَ: فَفَعَلْتُ فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2202].
ــ
أي: يزيل الأذى عن جسمه بإمرار يديه عليه.
وقوله: (كنت أنفث عليه) بأن كانت تقرأ وتأخد يديه وتنفث فيهما وتمسح بهما بدنه، وفي رواية من (جامع الأصول) (1) أورده مجملًا:(فإذا مرض أمرني أن أفعل كذلك)، وفي رواية أخرى مبينة كما في رواية الكتاب.
1533 -
[11](عثمان بن أبي العاص) قوله: (على الذي) أي: على الموضع الذي، أو على العضو الذي.
وقوله: (من شر ما أجد) أي: من الألم في الحال.
وقوله: (وأحاذر) أي: أخاف في الاستقبال، والحذر: الاحتراز عن المخوف، وصيغة المفاعلة للمبالغة.
(1)"جامع الأصول"(4/ 259، ح: 2246)، و (7/ 562، ح: 5712).
1534 -
[12] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ جِبْرَئيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2186].
1535 -
[13] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسيْنَ: "أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ،
ــ
1534 -
[12](أبو سعيد الخدري) قوله: (أشتكيت) بفتح الهمزة للاستفهام وحذف همزة الباب.
وقوله: (أو عين حاسد) بالإضافة، وكلمة (أو) بمعنى الواو من باب التوكيد بلفظ مختلف، أو للشك من الراوي.
1535 -
[13](ابن عباس) قوله: (بكلمات اللَّه التامة) المراد معلومات اللَّه أو أسماؤه تعالى أو كتبه المنزلة، ووصفت بالتامة لكونها منزهة عن شائبة النقص، واستدل بها على كونها قديمة إذ لا يخلو الحادث عن نقصان، والشيطان: اسم لكل عات متمرد من الجن والإنس والدواب.
وقوله: (والهامّة) كل ذات سم قتيل، والجمع هوام، وأما ما لا يَقْتُلُ فهي السامة كالعقرب والزنبور، وقد يقع على ما يَدِبّ من الحيوان وإن لم يَقْتُل كالحشرات والقمل، ومنه:(أتؤذيك هوام رأسك؟ ) أي: القمل، كذا في (النهاية)(1).
وقال في (المشارق)(2): الهامة بتشديد الميم كالزنبور وغيره، وقيل: الهوام
(1)"النهاية في غريب الحديث والأثر"(5/ 275).
(2)
"مشارق الأنوار"(2/ 459).
وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ" وَيَقُولُ: "إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي أَكْثَرِ نَسَخِ "الْمَصَابِيحِ": "بِهِمَا" عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ. [خ: 3371].
1536 -
[14] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 6545].
ــ
دواب الأرض التي تهم بالإنسان، ومنه قوله: ومأوى الهوام، يعني طرق الدواب، وأريد القمل بقرينة الرأس، وقد جاء مفسرًا: والقمل يتناثر على وجهي لدببيها في الرأس.
وقوله: (من كل عين لامة) أي: ذات لمم، ولذلك لم يقل: مُلِمّة، وقيل: أصله ألممت بالشيء ولم يقل: سلمة لمشاكلة سامة، واللمم: كل داء يلم من خبل أو جنون أو نحوهما، أي: من عين تصيب بسوء، ومنه حديث: شكت امرأة إليه صلى الله عليه وسلم لممًا بابنتها، أي: طرفًا من الجنون.
وقوله: (وفي أكثر نسخ (المصابيح): بهما) أي: بكلمتين، وهما مدخولا (من)(1)، كذا في الحاشية، أي: بذكر الكلمتين مع المذكورتين في المستعاذ منه، وتوجيهه بأن التثنية من جهة أن المراد بكلمات اللَّه معلوماته وكتبه المنزلة بعيد، ولهذا قيل: الظاهر أنه سهو من الكاتب، وفي (شرح الشيخ): وبفرض صحة هذه النسخة يكون مرجع الضمير الجملتين المذكورتين: جملة المستعاذ به، وجملة المستعاذ منه.
1536 -
[14](أبو هريرة) قوله: (يصب منه) المصيبة والمصوبة والمصابة: الأمر المكروه الذي يصيب الإنسان ويناله ويأخذ، والجمع مصائب ومصاوب، ويُصَبْ: بصيغة المجهول وضمير نائبه لـ (من)، وضمير منه للَّه، أي: يصير مصابًا بحكم اللَّه، أو
(1) كذا في الأصل.
1537 -
[15] وَعَنْهُ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِنْ خَطَايَاهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5641، 5642، م: 2573].
ــ
نائبه الجار والمجرور وضمير منه لـ (من)، أي: نيل منه، أي من نفسه وماله وولده بالمصائب، كذا في (مجمع البحار)(1)، وبصيغة المعلوم أي: يصب اللَّه منه، أي: ابتلاه بالمصائب ليثيبه عليها بتكفير الذنوب ورفع الدرجات.
1537 -
[15](وعنه، وأبو سعيد) قوله: (ما يصيب المسلم) فاعل (يصيب) ضمير (ما)، و (المسلم) مفعوله، والنصب بفتحتين: التعب والكد والجهد، والوصب: المرض، والهم والحزن واحد، لكن الأول يحصل بسبب ما يقصده في الاستقبال، والثاني بسبب حصول مكروه في الماضي، وهمه الأمر هَمًّا وَمَهَمَّةً: حزنه، كأَهَمَّهُ فاهْتَمَّ، والسُقْمُ جِسْمَه: أذابه وأَذهب لحمه، والشَّحْمَ: أذابه، كذا في (القاموس)(2)، والأذى: المكروه اليسير، والغم والغماء والغمة بالضم: الكرب، غمه فاغتم وانْغَمَّ، والغم في الأصل: الستر والتغطية، من الغمام، كأنه يستر القلب ويغطيه، وهو شامل لجميع أنواع المكروهات.
وقوله: (حتى الشوكة) بالجر بالعطف و (يشاكلها) صفة لها، وبالرفع على الابتداء وهو خبر، و (يشاكها) بصيغة المجهول، أي: يشاك المسلم تلك الشوكة، من شكته أشوكه، أي: أدخلت في جسده شوكة.
وقوله: (من خطاياه)(من) زائدة أو تبعيضية، يعني صغائر.
(1)"مجمع البحار"(3/ 363).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 1056).
1538 -
[16] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ". قَالَ: فَقُلْتُ: ذَلِكَ لأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ فَقَالَ: "أَجَلْ". ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلَّا حَطَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ سَيّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5648، م: 2571].
1539 -
[17] وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا الْوَجَعُ عَلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5646، م: 2570].
1540 -
[18] وَعَنْهَا قَالَتْ: مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي،
ــ
1538 -
[16](عبد اللَّه بن مسعود) قوله: (وهو يوعك) أي: يحمى، والوعك: حرارة الحمى ووجعها في البدن، والرجل مَوعُوكٌ ووَعِكٌ.
وقوله: (فمسسته) بكسر السين وفتحها.
وقوله: (كما يوعك رجلان) أي: ضعف ما توعكون.
وقوله: (كما تحط الشجرة) بالرفع، و (ورقها) بالنصب، أي: عند هبوب الرياح الخريفية، ووجه التشبيه: الإزالة التامة بالسرعة.
1539 -
[17](عائشة) قوله: (الوجع عليه أشد من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) وذلك لقوة حواسه وصفاء جوهره، وفيه رفع لدرجاته ومضاعفة لأجره كما سبق.
1540 -
[18](وعنها) قوله: (بين حاقنتي وذاقنتي) الحاقنة: بين الترقوتين، والذاقنة: الذقن، وهو مجتمع اللحيتين من أسفلهما، أي: توفي مستندًا إلى وكنت مطلعة على شدة موته.
فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (1). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [خ: 4446].
1541 -
[19] وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفَيِّئُهَا الرِّيَاحُ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتُعَدِّلها أُخْرَى حَتَّى يَأْتِيَ أَجَلُهُ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الأَرْزَةِ. . . . .
ــ
1541 -
[19](كعب بن مالك) قوله: (الخامة) بالتخفيف: الطاقة الغَضَّة اللَّيِّنة من الزروع، كذا في (النهاية)(2)، و (الصحاح)(3)، ونقل عن الخليل: هي الزرع أول ما نبت، وقال في (القاموس) (4): الخامسة من الزرع: أول ما ينبت على ساق، أو الطاقة الغضة منه.
وقوله: (تفيئها) بلفظ المضارع من التفعيل، من فاء يفيء، أي: تميلها يمينًا وشمالًا، و (تصرعها) أي: تسقطها و (تعدلها) أي: تسويها.
وقوله: (كمثل الأرزة) قال عياض (5): الأرزة: بفتح الهمزة وسكون الراء، كذا الرواية، وقيل: هي واحدة شجر الأرز، وهو الصنوبر، ويقال له: الأرزن أيضًا، وقال أبو عبيدة: إنما هو الآرِزة بالمد وكسر الراء على مثال فاعلة، ومعناها الشجر الثابتة في
(1) أَيْ: كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ شِدَّةَ الْمَوْتِ تَكُونُ لِكَثْرَةِ الذُّنُوبِ، وَلَمَّا رَأَيْتُ شِدَّةَ وَفَاتِهِ عَلِمْتُ أَنَّ شِدَّةَ الْمَوْتِ لَيْسَتْ مِنَ الْمُنْذِرَاتِ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ، بَلْ لِرَفع الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، وَإِنَّ هَوْنَ الْمَوْتِ لَيْسَ مِنَ الْمَكْرُمَاتِ وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِهِ صلى الله عليه وسلم. "مرقاة المفاتيح"(3/ 1129).
(2)
"النهاية في غريب الحديث والأثر"(2/ 89).
(3)
"الصحاح"(5/ 1916).
(4)
"القاموس المحيط"(ص: 1019).
(5)
انظر: "مشارق الأنوار"(1/ 46).
الْمُجْذِيَةِ الَّتِي لَا يُصِيبُهَا شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5643، م: 2810].
1542 -
[20] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا تَزَال الرِّيحُ تُمَيِّلُهُ، وَلَا يزَالُ الْمُؤمن يُصيبُهُ الْبَلَاءُ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأَرْزَةِ لَا تَهْتَزُّ حَتَّى تُسْتَحْصَدَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5644، م: 2809].
ــ
الأرض، وأنكر هذا أبو عبيد وصحح ما تقدم، وقد جاء في حديث:(كشجرة الأرز) مفسرًا، انتهى. وقال في (القاموس) (1): الأَرْزُ ويُضَمُّ: شجر الصنوبر، أو ذَكَرُهُ، كالأَرْزَةِ، أو العَرْعَرُ، وبالتحريك: شجرة الأَرْزَن.
و(المُجْذِية) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الذال المعجمة وبالياء التحتانية، أي: الثابتة، جذا يجذو أجذى يجذي: ثبت قائمًا، والجذية بالكسر: أصل الشجرة.
وقوله: (حتى يكون انجعافها) أي: انقلاعها، جعف الشجرة وأجعفها: قلعها، فانجعفت.
1542 -
[20](أبو هريرة) قوله: (لا تهتز) أي: لا تتحرك.
وقوله: (حتى تستحصد) أي: تقلع (2)، وأصل الحصاد في الزرع، واستعماله في الشجرة مجاز، إما مرسل بذكر الخاص وإرادة العام كالمشفر في الشفة والمرسن في الأنف، أو استعارة بتشبيه قلعها بحصاد الزرع في السرعة والسهولة مبالغة.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 466).
(2)
قال الطيبي (3/ 300): دل على سوء خاتمته.
1543 -
[21] وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمِّ السَّائِبِ فَقَالَ: "مَالَكِ تُزَفْزِفينَ؟ ". قَالَتِ: الْحُمَّى لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَقَالَ:"لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 4575].
1544 -
[22] وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ بِمِثْلِ مَا كَانَ يعْملُ مُقِيمًا صَحِيحًا". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 2996].
ــ
1543 -
[21](جابر) قوله: (تزفزفين) أي: ترعدين، روي بالزائين أو بالرائين، فالأول من زفَّ الطائر: إذا بسط جناحيه وحركهما كزفزف، والثاني أيضًا بمعنى سقوط الطائر ورميه بنفسه، وذكر في (القاموس) (1): رفَّ الطائر: بسط جناحيه، ذكره في (باب الراء والزاي) كرفرف، وقال: والثلاثي غير مستعمل، وقال في (باب الزاي) أيضًا: الزفزفة: تحريك الريح الحشيش وصوتها فيه، والزفزاف: الريح الشديدة الهبوب في دوام.
و(الكير) بالكسر والياء: زِقٌّ ينفخ فيه الحداد، وأما المبنيُّ من الطين فكور بالضم والواو، كذا في (القاموس)(2).
1544 -
[22](أبو موسى) قوله: (كتب له بمثل) الباء زائدة كقوله: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس: 27]، وقوله تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ} [البقرة: 137] على أحد الوجوه المذكوره في تفسيره.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 751، 753).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 440).
1545 -
[23] وَعَنْ أَنَسٍ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الطَّاعُونُ شَهَادَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5732، م: 1916].
ــ
1545 -
[23](أنس) قوله: (الطاعون شهادة لكل مسلم) قال الخليل: الطاعون الوباء، وقال ابن الأثير: الطاعون المرض العام، والوباء الذي يفسد به الهوى فتفسد به الأمزجة والأبدان، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: الطاعون الوجع الغالب الذي يطفئ الروح، سمي بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله، وقال القاضي عياض: الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسميت طاعونًا تشبيهًا بها في الهلاك.
وقال النووي: هو بئرٌ وورمٌ مؤلم جدًا، يخرج مع لهب، ويسودّ ما حوله أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان وقيء، ويخرج غالبًا في المراق والآباط، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد.
وقال ابن سينا: الطاعون مادة سمية تحدث ورمًا قتالًا يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما يكون تحت الآباط أو خلف الأذن أو عند الأرنبة، وسببه دم رديء يستحيل إلى جوهر سمّي يفسد العضو ويغير ما يليه ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة، فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسية، والأسود منه قلّ من يسلم منه، وأسلمه الأحمر ثم الأصفر، والطواعين تكثر عند الوباء، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح وصدده.
والحاصل أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم وانصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعونًا بطريق المجاز؛
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لاشتراكها في عموم المرض وكثرة الموت، والطاعون مِنْ طَعَنَ الجن، كما يأتي من الأحاديث، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن؛ لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما عرف من الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم، وروى أحمد والطبراني (1) عن أبي موسى الأشعري قال: سألت عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: (هو وخز أعدائكم من الجن، وهو لكم شهادة)، وفي (الصحيحين) (2) من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل -أو على من كان قبلكم- فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه).
وقولهم: إنه لفساد الهواء فاسد؛ لأنه (3) قد يقع الطاعون في أعدل الفصول وفي أصح البلاد هواء وأطيبها ماء؛ ولأنه لو كان بفساد الهواء لعمَّ الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب منهم بجانبهم ممن هو في مثل مزاجهم، وأيضًا لو كان كذلك لعم جميع البدن، ولا يختص بموضع منه، ولأن فساد الهواء (4) يقتضي تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض.
هذا والمراد بالطاعون المذكور في الحديث الذي ورد في الهرب عنه الوعيد هو الوباء، فكل موت عام، وفي حكمه المرض العام، وليس المراد خصوص ما ذكره
(1)"مسند أحمد"(4/ 413)، و"المعجم الأوسط" للطبراني (1418).
(2)
"صحيح البخاري"(3473)، و"صحيح مسلم"(2218).
(3)
وهذه قرائن وأمارات على استبعاد وجوده من فساد الهواء وانحصار سببه فيه، وأصل الدليل الخبر الصادق إذا صحت روايته. (منه).
(4)
في المخطوطة: "الهوى" والتصويب من "فتح الباري"(10/ 181).
1546 -
[24] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 2829، م: 1914].
ــ
الأطباء، وغلط من حمله عليه، وأباح الهرب فيما سوى ذلك تمسكًا يقول الأطباء، ولو فُرِض حمله عليه فما يقول هذا الرجل بالأحاديث التي وقع فيها الوباء والموت العام، غايته أنه يكون الفرار منهيًّا عنه في الوباء وفي الطاعون، لا أنه يختص بالطاعون ويباح في غيره، فتدبر، واللَّه الهادي (1).
1546 -
[24](أبو هريرة) قوله: (الشهداء خمسة)(2) فإن قلت: فيه جمع بين الحقيقة والمجاز، فإن الظاهر أن إطلاق الشهيد في الشرع على غير من قتل مجاز باعتبار تشبيهه به في الثواب، قلت: لا نسلِّم ذلك، لكن ذلك فرد كامل متعارف في الفهم كالكلي المشكك، وبهذا الاعتبار صح إطلاق الشهيد عليه مطلقًا، وصح حمله على الشهيد، ولم يلزم حمل الشيء على نفسه، فافهم.
وقوله: (المطعون) هو صاحب الطاعون.
وقوله: (والمبطون) قيل: المراد به من مات من إسهال، أو استسقاء وانتفاخ بطن، أو ممن يشتكي بطنه، أو من يموت بداء بطنه مطلقًا، أقول: وإنما كان بهذه المعاني من الشهداء لشدتها وكثرة أَلَمها، وجاء في الحديث:(المبطون لا يعذب)(3) أي: في القبر؛ لأن وجعه أشد، وقيل: المراد بالمبطون: من حافظ البطن من الحرام والشبهة فكأنه قتله بطنه. و (الهدم) بالسكون الفعل نفسه، وبالتحريك البناء.
(1) انظر: "فتح الباري"(10/ 180 - 182).
(2)
ليس للحصر، بل ذكر الشيخ في "مظاهر حق"(2/ 15) سبعين قسمًا. كذا في "التقرير".
(3)
لم أعثر على هذا الحديث.
1547 -
[25] وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي: "أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [خ: 5734].
ــ
1547 -
[25](عائشة) قوله: (عذاب يبعثه اللَّه) أي: من قبل الجن كما نطقت به الأحاديث.
وقوله: (فيمكث في بلده صابرًا) الحديث، فيه حمل النفس على الصبر والتوكل والاعتماد على اللَّه تعالى وقضائه والرضاء به، فالخارج يقول: لو أقمت لأصبت، والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت، فيقع في اللو المنهي عنه (1).
وقد ذكر بعض العلماء في النهي عن الخروج حِكَمًا، منها: أن الطاعون في الغالب يكون عامًّا في البلد الذي يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن بها؛ لأن الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن، بل من حيث دوام استنشاق، فيصل إلى الباطن ويؤثر فيه، فلا يفيده الفرار لأن المفسدة إذا تيقنت حتى لا يقع الانفكاك عنها، كان الفرار عبثًا، فلا يليق بالعاقل.
ومنها: أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز منه -بالمرض المذكور أو بغيره- ضائع المصلحة لفقد من يتعهده حيًّا وميتًا، وأيضًا لو شرع الخروج -وكان الناس يخرجون من غير مبالاة اعتمادًا على شرعية الخروج-[لكان في ذلك] كسر قلوب
(1) أشار إلى الحديث الذي نهى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن استعمال "لو" فقال صلى الله عليه وسلم: "فإن لو تفتح عمل الشيطان"، أخرجه مسلم في "صحيحه"(2664).
1548 -
[26] وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 6974، م: 2218].
ــ
الضعفاء، وقد قالوا: إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف [لما] فيه من كسر قلب من لم يفر وإدخال الرعب عليه.
وقال بعضهم: يجب على من كان يحترز من الوباء أن تخرج عن بدنه الرطوبات الفضلية، ويقلل الغذاء، ويميل إلى التدابير المجففة من كل وجه، والخروج من أرض الوباء والسفر منها لا يكون إلا بحركة شديدة وهي مضرة جدًا، فظهر المعنى الصبي من الحديث النبوي، وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما، واللَّه أعلم (1).
1548 -
[26](أسامة بن زيد) قوله: (رجز) بكسر الراء وآخره زاي، أي: العذاب.
وقوله: (أو على من كان قبلكم) أو للشك من الراوي.
وقوله: (فإذا سمعتم به) أي: أخْبِرْتم بالطاعون (فلا تقدموا عليه)، فإن في الدخول في الأرض التي هو فيها تعرضًا للبلاء والآفة في محل سلطانه، وإيقاع النفس في التهلكة، وهو مخالف للشرع والعقل، وهو من باب الحمية التي أرشد اللَّه إليها عباده، وروى البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود (2): أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(1) انظر: "فتح الباري"(10/ 189).
(2)
"صحيح البخاري"(5729)، و"صحيح مسلم"(2219)، و"موطأ مالك"(1587)، و"سنن أبي داود"(3103).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
خرج إلى الشام، حتى إذا كان بِسَرْغَ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه رضي الله عنهم، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس: فقال عمر رضي الله عنه: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم فاستشارهم، فأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع [لي] الأنصار، فدعوتهم، فاستشار بهم فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: أني مصبح على ظَهْرٍ فأَصْبِحُوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر اللَّه؟ فقال عمر رضي الله عنه: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة -وكان عمر يكره خلافه- نعم نفر من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر اللَّه وإن رعيت الجدبة رعيت بقدر اللَّه، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان متغيبًا في بعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علمًا؛ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه)، قال: فحمد اللَّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم انصرف.
وقوله: (فلا تقدموا عليه) بعض الرواة فَتَحَ التاءَ وضَمَّ الدَّالَ من قولهم: قَدَمَ يَقْدُمُ بفتح الدال في الماضي وضمها في الغابر، أي: يقدم، ومنهم من يفتح الدال من
1549 -
[27] وَعَن أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ ثُمَّ صَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجنَّةَ"، يُرِيد عَيْنَيْهِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 5653].
ــ
قولهم: قَدِمَ من سفر يَقْدَم قُدومًا ومقدمًا، يعني: من باب علم يعلم، والمحفوظ عند حفاظ الحديث ضم التاء من قولهم: أقدم على الأمر إقدامًا، كذا قال التُّورِبِشْتِي (1)، وفي كلام الطيبي إشارة إلى الثالث.
1549 -
[27](أنس) قوله: (يريد عينيه) يحتمل أن يكون من كلام الرسول أو من كلام الراوي، وإنما سميت العينان بحبيبتين لأنهما أحب الإنسان (2) إلى الإنسان، يعني ليس الابتلاء بالعمى لسخط بل لدفع مكروه يكون بالبصر، ولتكفير ذنوبه ولتبليغه إلى درجة لم يكن ليبلغها بعمله، وكان شيخنا رحمه الله يقول بعد أن عَمي: حصل لنا خلوة لم يكن حاصلا في العمر كله، وكان يقول في سببه: إنه جاء بعض الأصحاب بورد من الحرم فاستشمه بسهو، فدبَّ مثل نملة في أنفه حتى وصلت إلى العين، فذهب يزداد حتى انجر إلى العمى.
وانشد الطيبي (3) لابن عباس رضي الله عنهما: كان ينشد لما أصيب بكريمتيه:
إن يذهب اللَّه من عينَيّ نورهما
…
ففي لساني وقلبي للهدى نور
عقلي ذكي وقولي غير ذي دَخَلٍ
…
وفي فمي صارم كالسيف مأثور
ويروى في سبب عماه أنه رأى جبرئيل عليه السلام، وكل من رآه من غير النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يعمى، وكذلك عائشة رضي الله عنها.
(1)"كتاب الميسر"(2/ 375).
(2)
كذا في المخطوطة، والظاهر:"أحب الأعضاء".
(3)
"شرح الطيبي"(3/ 303).