الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محتاج النقد سلعة من أحد الناس بثمن مؤجل ثم يبيعها بثمن حال أقل من ثمنها المؤجل على من اشتراها منه، وسميت بالعينة؛ لأن عين السلعة التي باعها رجعت إليه بعينها فهي محرمة؛ لأنه يغلب على الظن أنها اتخذت حيلة للتوصل بها إلى الربا فصارت بذلك محرمة لدى كثير من أهل العلم.
وأما التورق فهو أن يشتري محتاج النقد سلعة من أحد الناس بثمن مؤجل ثم يبيعها بثمن حال، الغالب أنه أقل من ثمنها المؤجل وذلك على غير من اشتراها منه لينتفي بذلك غلبة الظن بالتحيل بهذا البيع إلى الربا فصار بذلك بيعا صحيحا جائزا. حيث إن السلعة لم تعد إلى بائعها وإنما اشتراها طرف ثالث.
2 -
حكم التورق:
اختلف العلماء رحمهم الله في حكم التورق فذهب جمهورهم إلى جوازه لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ووجه الاستدلال بذلك أن الله تعالى أحل جميع صور البيع إلا ما دل دليل على تحريمه حيث جاءت الآية الكريمة بلفظ العموم في كلمة البيع {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2) والعموم في ذلك مستفاد من الألف واللام الدالة على استغراق جميع أنواع البيع وصيغه إلا ما دل الدليل على تخصيصه من العموم بتحريم أو كراهة.
(1) سورة البقرة الآية 275
(2)
سورة البقرة الآية 275
والتورق من البيوع المشمولة بالعموم في الحل فيبقى على أصل الإباحة والحل وأنه نوع من البيوع المباحة بنص الآية الكريمة، إذ لا دليل على تحريمه من نص صريح من كتاب الله تعالى، ولا من سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم.
كما استدلوا على الإباحة والجواز بما في الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا (1)» .
ووجه الاستدلال بهذا الحديث إجازة هذا المخرج للابتعاد بواسطته عن حقيقة الربا وصورته إلى طريقة ليس فيها قصد الربا ولا صورته وإنما هي عقد بيع صحيح مشتمل على تحقق شروط البيع وأركانه وانتفاء موانع بطلانه أو فساده ولم يكن قصد الحصول على التمر الجنيب والأخذ بالمخرج إلى ذلك مانعا من اعتبار الإجراء الذي وجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على جواز البيوع التي يتوصل بها تحقق المطالب والغايات من البيوع إذا
(1) صحيح البخاري البيوع (2202)، صحيح مسلم المساقاة (1593)، سنن النسائي البيوع (4553)، موطأ مالك البيوع (1314).
كانت بصيغ شرعية معتبرة بعيدة عن صيغ الربا وصوره ولو كان الغرض منها الحصول على السيولة للحاجة إليها.
كما استدلوا على جواز ذلك بما أخذ به جمهور أهل العلم في أن الأصل في المعاملات الحل، وأن الأصل في العقود والشروط الإباحة إلا ما دل دليل على حرمته. ومما يدخل في ذلك بيوع التورق وهذا يعني أن القائل بجواز التورق لا يطالب بدليل على قوله؛ لأن الأصل معه، وإنما المطالب بالدليل من يقول بحرمة التورق؛ وحيث إنه يقول بخلاف الأصل فعليه الدليل على تخصيص عموم الجواز بالتحريم.
وقد قال بجوازه مجموعة من أهل العلم.
قال في الإنصاف: ((وهو المذهب وعليه الأصحاب)) (1). اهـ.
وقال في الروض المربع: ((ومن احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر ليتوسع بثمنه فلا بأس وتسمى مسألة التورق)) (2) اهـ.
وقال في كشاف القناع: ((ولو احتاج إنسان إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين مثلا فلا بأس بذلك نص عليه وهي أي هذه المسألة تسمى مسألة التورق من الورق وهي الفضة)) (3) اهـ.
(1) الجزء الرابع، ص 237.
(2)
الجزء الرابع، ص 388 مع حاشية ابن القاسم.
(3)
الجزء الثالث، ص 186.
وصدر بجوازه قرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة ابتداء من يوم السبت 11رجب 1419هـ - جاء فيه ما نصه ((إن بيع التورق هذا جائز شرعا وبه قال جمهور العلماء؛ لأن الأصل في البيوع الإباحة؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ولم يظهر في هذا البيع ربا لا قصد ولا صورة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين أو زواج أو غيره). اهـ.
وجاء فيه ((جواز هذا البيع مشروط بأنه لا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول مباشرة ولا بواسطة فإن فعل فقد وقع في بيع العينة المحرم شرعا لاشتماله على حيلة الربا فصار عقدا محرما)) اهـ.
وصدرت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية - وبعد أن ذكر في الفتوى صورة المسألة - جاء فيها ما نصه: " وهذا العمل لا بأس به عند جمهور العلماء " اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ما نصه: " جمهور العلماء على إباحته سواء من سماه تورقا وهم الحنابلة، أو لم يسمه بهذا الاسم وهم من عدا الحنابلة؛ لعموم قول الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2)«ولقوله صلى الله عليه وسلم لعامله على خيبر: بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا (3)» .
(1) سورة البقرة الآية 275
(2)
سورة البقرة الآية 275
(3)
صحيح البخاري البيوع (2202)، صحيح مسلم المساقاة (1593)، سنن النسائي البيوع (4553)، سنن ابن ماجه التجارات (2256)، موطأ مالك البيوع (1314)، سنن الدارمي البيوع (2577).
ولأنه لم يظهر فيه قصد الربا ولا صورته. وكرهه عمر بن عبد العزيز ومحمد بن الحسن الشيباني. وقال ابن الهمام: هو خلاف الأولى. واختار تحريمه ابن تيمية وابن القيم لأنه بيع المضطر والمذهب عند الحنابلة إباحته)) اهـ.
وقال شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله جوابا منه لمن سأله عن حكم التورق قال: ((هذه المسألة تسمى مسألة التورق والمشهور من المذهب جوازها - ثم قال بعد أن ذكر خلاف من خالف في الجواز - والمشهور من المذهب جوازها وهو الصواب)) (1). اهـ.
وقال شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه: لكن إذا كان مقصود المشتري لكيس السكر ونحوه بيعه والانتفاع بثمنه، وليس مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها، فهذا المعاملة تسمى مسألة (تورق) ويسميها بعض العامة (الوعده)، وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين: أحدهما: أنها ممنوعة أو مكروهة؛ لأن المقصود منها شراء دراهم بدراهم وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة.
والقول الثاني للعلماء: جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها؛ لأنه ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه.
(1) فتاوى ورسائل، الجزء السابع، ص 61.
بدون ربا؛ لدخولها في عموم قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) ولأن الأصل في الشرع حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه، ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة.
وأما تعليل من منعها أو كرهها بكون المقصود منها هو النقد، فليس ذلك موجبا لتحريمها ولا لكراهتها؛ لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك، وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة. فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا. اهـ.
ثم قال: أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس الوعدة فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة؛ لأن المشتري فيها اشترى السلعة من شخص إلى أجل وباعها من آخر نقدا من أجل حاجته للنقد وليس في ذلك حيلة على الربا؛ لأن المشتري غير البائع اهـ (3).
وقال في مجموع الفتاوى ما نصه: أما إذا كان المشتري اشترى السلعة إلى أجل ليبيعها بنقد بسبب حاجته إلى النقد في قضاء الدين أو لتعمير مسكن أو للتزويج ونحو ذلك، فهذه المعاملة إذا كانت من المشتري بهذا القصد ففي جوازها خلاف بين العلماء. وتسمى عند الفقهاء مسألة (التورق) ويسميها بعض العامة (الوعدة) والأرجح فيها الجواز وهو الذي نفتي
(1) سورة البقرة الآية 275
(2)
سورة البقرة الآية 282
(3)
مجموع مقالات وفتاوى 19/ 50، 51.
به، لعموم الأدلة السابقة، ولأن الأصل في المعاملة الجواز والإباحة إلا ما خصه الدليل بالمنع، الحاجة تدعو إلى ذلك كثيرا؛ لأن المحتاج في الأغلب لا يجد من يساعده في قضاء حاجته بالتبرع ولا بالقرض فحينئذ تشتد حاجته إلى هذه المعاملة حتى يتخلص مما قد شق عليه في قضاء دين ونحوه اهـ (1). وقال في موضع آخر من مجموع الفتاوى في فتواه بين التفريق بين صور من الربا ومن ذلك العينة ومسألة الورق قال: وأما مسألة التورق فليست من هذا الباب وهي أخذ سلعة بدراهم إلى أجل ثم يبيعها هو بنقد في يومه أو غده أو بعد ذلك على غير من اشتراها منه.
والصواب حلها؛ لعموم الأدلة ولما فيها من التفريج والتيسير وقضاء الحاجة الحاضرة. أما من باعها على من اشتراها منه فهذا لا يجوز بل من أعمال الربا وتسمى مسألة العينة وهي محرمة، لأنها تحيل على الربا. وهو بيع جنس بجنسه متفاضلا نسيئة أو نقدا، وأما التورق فلا بأس به كما تقدم وهو شراء سلعة من طعام أو سيارة أو أرض أو غير ذلك بدراهم معدودة إلى أجل معلوم ثم بيعها على غير من اشتراها منه بنقد ليقضي حاجته من زواج أو غيره اهـ (2).
وذهب بعض أهل العلم إلى أن التورق لا يجوز؛ لأن القصد
(1) مجموع مقالات وفتاوى، 19/ 99.
(2)
مجموع مقالات وفتاوى لسماحة الشيخ 19/ 245، 246.
من التعامل به الحصول على النقد حيث إنه يئول إلى شراء دراهم بدراهم زائدة وأن السلعة واسطة غير مقصودة. وممن قال بعدم جوازه: عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن الحسن الشيباني، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - نقلا من الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله فيما جاء في فتواه -: ((إذا لم يكن للمشتري حاجة في السلعة، بل حاجته إلى الذهب والورق فيشتري السلعة ليبيعها بالعين الذي احتاج إليها، فإن أعاد السلعة إلى البائع فهو الذي لا شك في تحريمه، وإن باعها لغيره بيعا تاما ولم تعد إلى الأول بحال فقد اختلف السلف في كراهته ويسمونه التورق. وكان عمر بن عبد العزيز يكرهه ويقول: التورق أخو الربا، وإياس بن معاوية يرخص فيه، وعن الإمام أحمد روايتان)) اهـ. وقال ابن القيم عن التورق: ((هو كمسألة العينة سواء ولأن هذا يتخذ وسيلة إلى الربا)) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في موضع آخر: ((وعن أحمد فيه روايتان. وأشار في رواية إلى أنه مضطر وكان شيخنا رحمه الله يعني شيخ الإسلام ابن تيمية - يمنع من مسألة التورق وروجع فيه مرارا وأنا حاضر فلم يرخص فيها وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينة مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه)) (1) اهـ.
(1) إعلام الموقعين: الجزء الثالث، ص22.
ويستخلص من حجج القائلين بتحريم التورق ما يلي:
أولا: أنه مسلك اضطراري لا يأخذ به إلا مكره عليه، أو مضطر إليه وقد «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر (1)» . رواه أبو داود.
ثانيا: حقيقته وأيلولته إلى الربا حيث إن غرض طرفي التعامل به الحصول على نقد بنقد زائد مؤجل والسلعة بين النقدين وسيلة لا غاية فهو منطبق على قول بعض الفقهاء درهم بدرهمين بينهما حريرة.
ثالثا: أن الغرض من التعامل به الحصول على النقد والسلعة وسيلة وليست غاية. فهو يشبه العينة التي قال جمهور أهل العلم بتحريمها حيث إن الغرض والوسيلة إليه فيهما واحدة.
ويمكن مناقشة هذه الحجج بما يلي:
أولا: القول بأن التورق لا يأخذ به إلا مضطر وقد «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر (2)» . قول فيه نظر ولا تظهر وجاهة الاستدال عليه بحديث النهى عن بيع المضطر؛ لأن الاستدال به استدال في غير محله؛ حيث إن حقيقة التورق ظهور الرغبة من صاحبها في الحصول على نقد يغطي به حاجته إليه سواء أكانت الحاجة مما تقتضيها مصلحته في الاكتساب أم مما تقتضيها حاجته في شئون حياته من شراء مسكن أو سيارة أو زواج أو غير
(1) سنن أبو داود البيوع (3382)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 116).
(2)
سنن أبو داود البيوع (3382)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 116).
ذلك وهذا لا يعد اضطرارا إلى الحصول على النقد وإنما الرغبة في الحصول عليه لسداد حاجته، والرغبة حاجة وليست ضرورة، وحصوله على النقد لا يتصور إلا بإحدى طرق أربع هي:
أ - حصوله على من يهب له ذلك المبلغ. والحصول عليه بهذه الطريقة أمر مستبعد.
ب - وجود من يقرضه ذلك المبلغ قرضا حسنا. وهذا كذلك غير متيسر في الغالب لا سيما إذا كان محتاجا إلى مبلغ كبير لتوسع نشاطه التجاري أو مضاعفة نشاطه الصناعي أو الزراعي أو نحو ذلك.
ج - لجوءه إلى المصارف الربوية لأخذ حاجته من النقود بالتعامل الربوي وهذا محرم ولا يجوز.
د - تحصيله حاجته من النقود بطريقة بيع التورق. وهذا أمر متيسر وقد قال جمهور أهل العلم بجوازه ولم نر أحدا منهم قال بتقييد الجواز بحاجة ملحة أو اضطرار أو تخصيصه لفئة معينة دون الأخرى أو لأحوال خاصة. فرغبته في الحصول على المبلغ حاجة وليست ضرورة فلا يشمله النهى عن بيع المضطر. وفي نفس الأمر بالرجوع إلى شراح هذا الحديث لم نر أحدا منهم ذكر أن بيع التورق من بيوع الاضطرار، وأن النهي يشمله، فسقط بهذا القول بأن بيع التورق من بيوع الاضطرار المنهي عنها.
ثانيا: القول بأن حقيقة التورق أيلولته إلى الربا حيث إن
غرض طرفي التعامل الحصول على نقد بنقد مؤجل والسلعة واسطة بين النقدين وهو منطبق على قول بعض أهل العلم: درهم بدرهمين وبينهما حريرة.
هذا القول فيه نظر ولو أردنا أن نطبق حال من احتاج إلى نقد وسلك في سبيل تحصيله مسالك الحصول عليه في بيوع المرابحة أو المشاركة المتناقصة، أو بيوع السلم، أو غير ذلك من وسائل الحصول على الاستزادة من النقود مما هو جائز شرعا لقلنا بمنع ذلك؛ لأن قصده الحصول على النقد بواسطة شراء السلع ثم بيعها.
وهذا لا يقول به أحد، ثم إن تطبيق بيع التورق على مسألة: درهم بدرهمين وبينهما حريرة تطبيق مع الفارق ذلك أن الحريرة لا تساوي قيمتها الدرهم الزائد وإنما جيء بها للتحليل، أما التورق فالرعب في النقد يشتري سلعة بثمن مؤجل هو مثل ثمن من يبيعها على آخر بيعا مؤجلا، ثم إن مشتريها يبيعها في السوق بثمن مثلها فظهر بهذا الفرق بين المسألتين.
ثالثا: أما القول بأن الغرض من التعامل بالتورق الحصول على النقد.
والسلعة وسيلة وليست غاية. فهو يشبه العينة التي قال الجمهور بتحريمها، فلا يخفى أن جميع وسائل التجارة من بيع وشراء ومشاركة ومرابحة وغير ذلك من آليات الاستثمار الغرض من استخدامها وممارسة التجارة عن طريقها الحصول على النقود والاستزادة منها.
وجميع هذه الآليات وسيلة ذلك، كما لا يخفى أن التورق يختلف عن العينة، حيث إن العينة معناها رجوع السلعة إلى من باعها حيث إنه لم يبعها إلا باعتبار رجوعها إليه وحصوله على رغبته في أن تكون المائة مائة وعشرين دون فوات سلعته عليه، فضلا عن أن هاتين البيعتين - بيعة البائع على المشتري، وبيعة المشتري على البائع - بيعتان في بيعة واحدة وقد «نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (1)» واحدة وفسرها بعض المحققين من أهل العلم ومنهم ابن القيم رحمه الله بأنها العينة بخلاف التورق، فإن السلعة التي باعها البائع على الراغب في الشراء تورقا لن ترجع للبائع حيث إن شرط بيع التورق ألا يبيع المشتري السلعة على من باعها عليه فإن باعها عليه فهي العينة المحرمة.
فلم يبق من حجج القول بتحريم التورق إلا القصد - قصد المشتري النقد دون السلعة - وهذا القصد لا يعتبر سببا في القول بالتحريم فقد وجه صلى الله عليه وسلم عامله لتحقيق قصد الحصول على الجنيب من التمر بأن يبيع الجمع ويشتري بثمنه جنينا ولم يكن هذا القصد مانعا من صحة هذا التصرف والأخذ بهذا المخرج الصحيح.
وقد وجد من بعض فقهاء عصرنا هاجس حذر من التوسع في الأخذ بالتورق من قبل المصارف الإسلامية ويظهر لي أنه هاجس
(1) سنن الترمذي البيوع (1231)، سنن النسائي البيوع (4632).
وسواس وإن اعتقد أهله أنه هاجس تقوى وورع.
فما هو المحذور من توسع البنوك الإسلامية في ممارسة الاستثمار عن طريق بيوع التورق، والحال أنها بيوع توفر لذوي الحاجات بها تأمين حاجتهم من النقود، وتقيهم من بلاوي الربا ومضاعفاته، وتيسر لهم الحصول على ما يحتاجونه من سلع ومنافع وخدمات وهم بذلك في الغالب يختارون التورق طريقا للحصول على النقد محض الإرادة والاختيار، لا على سبيل الاضطرار.
وإني لأعجب حتى نهاية العجب من قول بعضهم: إن قلنا بجواز بيع التورق للأفراد ومن الأفراد لتغطية حاجاتهم فلن نقول بذلك للبنوك؛ لأن ذلك هو غايتهم من تكثير نقودهم وليس لهم غاية في السلع وتداولها.
والرد على هؤلاء أليست البنوك شخصيات اعتبارية لها حكم الأشخاص الطبيعيين في مخاطبتهم بأحكام الإسلام في المعاملات المالية؟ والإسلام لا ينظر في تشريعاته من وجوب وحظر واستحباب وكراهة وإباحة إلى الأشخاص فيفرق بينهم في الحكم فهذا يجوز له ما لا يجوز لأخيه وهذا يحرم عليه ما يصح لأخيه وإنما أحكامه مبينة من حيث الحظر والإباحة والتصحيح والبطلان على وجود مقتضى الحكم فإن كانت المصالح غالبة كان الحكم بالإباحة، وإن كانت المضار غالبة كان الحكم بالحظر. ومتى كان الحكم جائزا فهو جائز
في حق الأفراد والجماعات بغض النظر عن حال من تعلق به الحكم، وقد صحت مجموعة من المعاملات بين المسلمين وغيرهم ولم يكن اختلاف المتعاملين في العقيدة أو الاتجاه أو المسلك سببا في تغير الحكم من جواز إلى حظر أو صحة إلى فساد أو بطلان ما دام الحكم متفقا مع أصول الإسلام وقواعده ونصوصه.
فالتورق مادام جائزا في حكم الأفراد ومن الأفراد لتغطية حاجاتهم من النقود فلماذا لا يجوز في حق البنوك والمؤسسات المالية، بل قد يكون جوازه في حق البنوك آكد؛ لأنه بديل عن الربا الذي هو محل نشاطهم ومثار قلق بعضهم من ممارسته وتشوفهم إلى بديل عنه وفي نفس الأمر بيع التورق بيع صحيح مستكمل جميع أركانه وشروطه ومنتفية عنه موانع فساده أو بطلانه والقول بأن غرض البنوك منه تحصيل النقود وتنميتها وليس لهم غرض في السلع وتداولها يرد عليه بأن طريق بيوع التورق هو شراء السلع وبيعها واستقرار أثمانها في الذمم دون زيادة بعد إبرام العقود بها. ويمكن أن يرد على هذا القول أيضا بما جاء في فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بجواز بيع التورق من قوله: وأما تعليل من منعها أو كرهها بكون المقصود منها هو النقد، فليس ذلك موجبا لتحريمها ولا لكراهتها؛ لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك، إنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع
والشراء من شخص واحد كمسألة العينة اهـ. مجموع فتاوى ج19 ص50.
الترجيح:
الذي يظهر لي - والله أعلم - جواز بيع التورق؛ لعموم قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ولأن العين المشتراة لم ترجع إلى البائع الأول حتى يقال بأنه من العينة، وكذلك فإن تقتضيه؛ حيث إن محتاج النقد لا يستطيع تأمين حاجته في الغالب إلا بإحدى طرق أربع:
إحداها: الاقتراض من غيره قرضا حسنا، وهذا الغالب عدم تيسره، فإن تيسر القرض الحسن لبعض الناس فغالبهم لا يتيسر له ذلك.
الثانية: أن يقترض قرضا ربويا وهذا ممنوع بإجماع أهل العلم ممن يعتد به.
الثالثة: الحصول على ذلك بطريقة الهبة وهذه كالطريقة الأولى، الغالب عدم تيسرها، فإن تيسرت لبعض الناس وما أقلهم فغالبهم لا تتيسر له.
الرابعة: الحصول على النقد بطريق بيوع التورق.
ونظرا إلى أن بيع التورق بيع صحيح حيث تتحقق فيه شروط البيع، وأركانه، واعتبار صحته، وانتفاء موانعه، فليس القصد منه الربا، ولا أنه صورة من صوره، ولأنه يغطي حاجة يقتضيها عنصر
(1) سورة البقرة الآية 275