الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسواء كان الشرط سببًا في الجزاء ووصلته إليه، كقوله تعالى:{وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم} [محمد: 36] أو كان الأمر بالعكس، كقوله تعالى:{ما أصابك من حسن فمن الله} [النساء: 79]، أو كان لا هذا ولا ذاك، فلا يقع إلا مجرد الدلالة على اقتران أحدهما بالآخر، كقوله تعالى:{وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدًا} [الكهف: 57]، إذ لا يجوز أن تكون الدعوة سببا للضلال ومفضية إليه، ولا أن يكون الضلال مفضيا إلى الدعوة (1).
فاتضح بهذا أن الشرط والجواب، ليسا دائمًا بمنزلة السبب والمسبب ولا ارتباطهما بهذه المنزلة دومًا.
فعل الشرط
يقع فعل الشرط ماضيا ومضارعًا، نحو قوله تعالى:{إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} [إبراهيم: 19]، وقوله:{وإن عدتم عدنا} [الإسراء: 8].
قالوا والماضي يفيد الاستقبال في الشرط، نحو قوله تعالى:{فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191]، ونحو:(إن زرتني أكرمتك) والمقصود أن تزرني.
ومن المعلوم أن الفعل الماضي يخرج إلى الاستقبال في غير باب الشرط، كما أسلفنا في باب الفعل كما يخرج المضارع إلى المضي، فإنه قد يؤتى بالماضي مرادا به الاستقبال وذلك نحو قوله تعالى:{ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله} [الزمر: 68]، وقوله:{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا} [الزمر: 73].
وقد يؤتى بالفعل المضارع مرادا به المضي، نحو قوله:{والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت} [فاطر: 9]، وقوله:{واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} [البقرة: 102] أي ما تلت.
(1) البرهان 2/ 355 - 356
ومن المعلوم أن الفعل المضارع المسبوق بـ (لم) و (لما) يفيد المضي، فخروج الفعل من باب إلى باب آخر غير منكور في اللغة.
وهو في الشرط كذلك فإن الماضي في الشرط يفيد الاستقبال كثيرا
واستعمال الفعل الماضي في الشرط للدلالة على المستقبل، ليس مختصا بالعربية وحدها بل هو كثير في اللغات السامية أيضا، كالاكدية، والعبرية والحبشية، وأكثر اللغات السامية تستعمل الماضي في الشرط والحاضر أو المستقبل في الجزاء (1). غير أن العربية تستعمل الماضي والمضارع للشرط والجواب.
وقد ذهب النحاة إلى أن القصد من مجئ الشرط ماضيا، وإن كان معناه الاستقبال، هو إنزال غير المتيقن منزلة المتيقن، وغير الواقع منزلة الواقع وهذا ما فسروا به التعبير عن الأحداث المستقبلة بأفعال ماضية، في غير الشرط أيضا، نحو قوله تعالى:{ونفخ في الصور} وقوله: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدًا} [الكهف: 47]، قالوا جيء بهذه الأفعال على صيغة الماضي، وإن كانت مستقبلة للدلالة على أنها متيقنة الحصول، وأنها بمنزلة الفعل الماضي في التحقق.
فهو تفسير عام للتعبير عن الأحداث المستقبلة بأفعال ماضية.
جاء في (الخصائص): " وكذلك قولهم (إن قمت قمت) فيجيء بلفظ الماضي والمعنى معنى المضارع وذلك أنه أراد الاحتياط للمعنى، فجاء بمعنى المضارع المشكوك في وقوعه بلفظ الماضي المقطوع بكونه، حتى كأن هذا قد وقع واستقر، لا أنه متوقع مترقب، وهذا تفسير أبي علي عن أبي بكر وما أحسنه (2).
قالوا وقد يكون ذلك لأسباب أخرى، كالتفاؤل أو لاظهار الرغبة في وقوعه نحو (إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المرام) فإن الطالب إذا تبالغت رغبته في حصول أمر يكثر تصوره إياه فربما يخيل إليه حاصلا (3).
(1) انظر التطور النحوي 133
(2)
الخصائص 3/ 105، وانظر شرح الرضي على الكافية 2/ 293
(3)
الإيضاح للقزويني 93، وانظر البرهان 2/ 358، مختصر المعاني للتفتازاني 63
أو يكون للتعريض " بأن يخاطب واحدا ومراده غيره، كقوله تعالى:{لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65](1).
وذهب الدكتور مصطفى جواد إلى أن الفعل إذا كثر عبر عنه بالمضي، بخلاف ما لم يكثر، قال: " إن الفعل المعبر عنه بلفظ الشرط إذا كثر حدوثه استعمل الماضي، وإذا قل حدوثه استعمل المضارع، فالماضي أولي بالكثير لأنه كالحادث، والمضارع أولى بالقليل لأنه لم يحدث، فهما متشابهان، تقول (من صبر ظفر) و (من سار وصل)، و (من جد وجد) و (من يكذب منكم يعاقب) و (من يفعل كذا وكذا أكافئه مكافأة حسنة) و (من يخالف منهم يطرد) و (إن تكن وزيرا تكن كبيرا) ورغبة القائل كالكثرة (2).
ويبدو أن استعمال الشرط بصيغة الماضي أو المضارع قد يكون لغير ذلك.
1 -
فإن التعبير بالفعل الماضي قد يفيد افتراض حصول الحدث مرة، في حين أن المضاعر قد يفيد افتراض تكرر الحدث وتجدده، قال تعالى:{إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271]، فجاء بالفعل المضارع وذلك لأن هذه الأحداث تتكرر وتتجدد.
وقال: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة: 230].
فجاء بالفعل الماضي، وذلك لأن الطلاق لا يتكرر تكرر الصدقات، وقال:{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء} [البقرة: 236].
{وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237]، لما ذكرت.
وقال تعالى: {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد} [لقمان: 12]، فجاء بـ (يشكر) بصيغة المضارع و (كفر) بصيغة المضي، وذلك لأن الشكر
(1) البرهان 2/ 358، وانظر الإيضاح 93
(2)
المباحث اللغوية في العراق 48
يتجدد ويكثر، وليس كذلك الكفر، فإن الكفر يحصل ابتداء ويبقى صاحبه عليه إلا إذا شاء الله، فالشكر عمل يومي متجدد بخلاف الكفر الذي هو الاعتقاد.
جاء في (تفسير الرازي) في هذه الآية: " قال في الشكر (ومن يشكر) بصيغة المستقبل وفي الكفران (ومن كفر فإن الله غني) وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد كقول القائل: من دخل داري فهو حر، ومن يدخل داري فهو حر، فنقول فيه إشارة إلى أمر هو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع، فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران، ولأن الشكر من الشاكر لا يقع بكماله، بل ابدا يكون منه شيء في العدم يريد الشاكر ادخاله في الوجود كما قال:{رب أوزعني أن أشكر نعمتك} [النمل: 19]، وكما قال:{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل: 18]، فأشار إليه يصيغة المستقبل تنبيها على أن الشكر بكماله لا يوجد وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام قال بصيغة الماضي (1).
وقال تعالى: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه} [البقرة: 270]. وقال: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} [البقرة: 272].
وقال: {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} [البقرة: 272]. وقال: {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} [البقرة: 273].
فإنه جاء في الاية الأولى بالفعل الماضي، (وما أنفقتم .. ).
والآيات الأخرى بالمضارع، وذلك لأن الآية الأولى إخبار بأن ما فعلته أو نذرته فقد علمه الله، أي ما حصل منك فقد علمه الله.
وقال: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 112].
(1) التفسير الكبير 25/ 145
وقال: {فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} [الجن: 14].
وقال: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى} [لقمان: 22].
فقد جاء في الآيتين الأوليين بالفعل الماضي (أسلم) والأخيرة بالمضارع (يسلم) وذلك لأن (أسلم) في الآيتين الأوليين معناه الدخول في الإسلام، يدلك على ذلك في الاية الأولى موازنته باليهودية والنصرانية، قال تعالى قبل هذه الآية:{وقالوا لن تدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم} [البقرة: 111]، فرد عليهم الله بقوله [بلى من أسلم وجهه لله .. ] أي بلي من يدخل الجنة المسلم، وكذلك الآية الثانية.
في حين أن قوله: {ومن يسلم وجهه إلى الله.} معناه الخضوع والانقياد لله، وهو عمل يومي يفيد الاستمرار والتجدد، بخلاف الآيتين الأوليين اللتين معناهما الدخول في الإسلام.
وقال تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: 92]، وقال:{ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} [النساء: 93].
فجاء في القتل الخطأ بالفعل الماضي، لأنه خطأ لا يتكرر، وهو قليل بخلاف القتل العمد هو الاصرار على قتل المؤمن، فقد جاء به بصيغة المضارع الدالة على الاستمرار والتجدد لأنه يتكرر وقوعه.
وقال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} [الإسراء: 19].
وقال: {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الاخرة نؤتها منها} [آل عمران: 145].
وذلك لأن إراد الآخرة أمر واحد، فجاء بالفعل الماضي بخلاف (إرادة الثواب)، فإن إرادة الثواب تتجدد، لأن الثواب يتجدد بخلاف الآخرى فإنها واحدة، وهذا السر في إنه قال (ومن أراد الآخرة) بالفعل الماضي، لكنه قال (ومن يرد ثواب الآخرة) بالمضارع.
وكذلك بالنسبة إلى الدنيا، فإرادة الثواب مستمرة متجددة، فكل عمل له ثواب.
وقال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} [التوبة: 11]. وقال فيمن يفعل الزنى: {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء: 16]. فجاء بالآيتين بالفعل الماضي، لأن المقصود بالتوبة هي التوبة العامة، فالتوبة الأولى معناها الدخول في الإسلام، والثانية معناها الإنخلاع عن الفاحشة.
في حين قالك: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4]، والكلام موجه إلى زوجي النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود بالتوبة هنا التوبة الجزئية العارضة التي يتكرر أمثالها من الوقع في اللمم والصغائر.
وقال: (وإن تعودوا نعد)[الأنفال: 19].
وقال: {وإن عدتم عدنا} [الإسراء: 8].
فجاء في الآية الأولى بالمضارع (تعودوا) وفي الآية الثانية بالماضي عدتم وذلك أن الآية الأولى نزلت بعد معركة بدر في كفار قريش، وهو تهديد للمشركين وإشعار للمؤمنين بأن المشركين سيكررون العودة إلى القتال وهو ما حصل، وأخبرهم بأن الله سيعود إلى نصر المؤمنين ومحق باطل الكافرين.
وأما الأية ففي بني إسرائيل، وقد ذكر أنهم يفسدون في الأرض مرتين، فأخبر بأن لهم عودة بعد تلك المرة.
فجاء بالمضارع للدلالة على الاستمرار والتجدد، بخلاف الثانية.
وقال: {يأيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} [البقرة: 278 - 279].
فجاء بالشرط ماضيا (فإن لم تفعلوا) و (إن تبتم) وذلك لأنه خروج عن الربا والخروج عنه يكون دفعة واحدة، في حين قال:
{إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم} [التوبة: 39]، فجاء الشرط مضارعا {إلا تنفروا} وذلك لأنه في الجهاد هو ماض إلى يوم القيامة، يتكرر حصوله فجاء في الربا بالفعل الماضي {فإن لم تفعلوا} وذلك لأن لم والمضارع يفيدان المضي، وجاء في الجهاد بالفعل المضارع.
ونحوه قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا اله واحد وإن لم تنهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة: 73].
وذلك لأن الانتهاء هنا دفعة واحدة لكنه قال في الجهاد والتناصر بين المؤمنين {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} [الأنفال: 73].
فلما كان التناصر مستمرا متجددا، جعله بصيغة المضارع بخلاف ما قبله.
وقال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير} [الأنفال: 39].
وقال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة: 193].
فجاء بالفعل الماضي في الآيتين (فان انتهوا) وذلك لأن القصد هنا الانتهاء الكامل عن الحرب والدخول في الإسلام بدليل قوله {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} وذلك يكون بالانتهاء الكامل، والكف التام عن القتال، لكنه قال:{إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد} [الأنفال: 19].
فقال (إن انتهوا) بخلاف الآيتين السابقتين وذلك لأن الانتهاء هنا ليس انتهاء عاما بل قد تتكرر الحروب بينهما بعد، كما حصل فعلا، فجاء بالمضارع للدلالة على التجدد، وهذه الآية نزلت بعد وقعة بدر.
وقال: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} [الكهف: 76]، لأنه سيحصل الفراق بعد سؤال واحد.
وقال: {إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم} [محمد: 37].
وهذا في سؤال الأموال وهو يتجدد بتجددها فجاء في المتجدد بالفعل المضارع، وفي غيره بالفعل الماضي، والله أعلم.
2 -
وقد يؤتى بالفعل الماضي مع الشرط للدلالة على وقوع الحدث جملة واحدة، وإن كان مستقبلا، ويؤتى بالمضارع لما كان يتقضي ويتصرم شيئا فشيئا، أي مستمرا وذلك نحو قوله تعالى:{فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى} [البقرة: 196]، أي إذا حصل هذا ولذا عبر عنه بالماضي، بخلاف قوله تعالى:{ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} [البقرة: 220]، وذلك أن المخالطة مستمرة متطاولة ليست كالاحصار فعبر عنها بالمضارع.
ونحو قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]، أي لا تؤاخذنا إذا حصل منا نسيان، أو خطأ، أي وقع.
وقوله: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم} [البقرة: 239]ـ فإن معناه إذا وقع الخوف أو إذا حصل الأمن، بخلاف قوله تعالى:{وإما تخافن من قوم خيانة} [الأنفال: 58]، فإن فيه معنى الاستمرار والتحسب، بخلاف ما قبلها ونحو قوله تعالى:{وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال} [الكهف: 17].
فالطلوع والغروب يقعان جملة واحدة، فعبر عنهما بالماضي، بخلاف قوله تعالى:{والليل إذا يسر} [الفجر: 4]، فإنه يفيد الاستمرار والتطاول.
ونحو قوله تعالى: {ولا يسمع الصم الدعاء إذا ماينذرون} [الأنبياء: 45]، أي وإن تطاول عليهم الانذار وتكرر واستمر، بخلاف قوله تعالى:{ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} [النمل: 80]، أي إذا ادبروا عنك.