الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما الاشتراط للحذف، أن يكون فعل الشرط ماضيا في كل ما مر مع القسم، أو مع غيره فإنه يبدو أن العرب لا تجزم بعد أداة الشرط إلا إذا أرادت بناء الكلام على الشرط فإن الجزم بها يعني أن الكلام مبني على الشرط فلا تحذف لأن الكلام سيتناقض إذ كيف يكون الكلام مبنيا على الشرط، واليقين في وقت واحد؟ فإنك إذا قلت (أزورك إن تزرني) كان الكلام مبنيا على الشرط، بدلالة الجزم، وكان مبنيا على اليقين، بدلالة ما تقدم عليه وارتفاعه، إذ لو كان جوابا لجزم فيكون الكلام مبنيا على الشرط واليقين في آن واحد، وهو باطل.
قال سيبويه: " وقبح في الكلام أن تعمل (إنْ) أو شيء من حروف الجزاء في الأفعال حتى تجزمه في اللفظ ثم لا يكون لها جواب ينجزم بما قبله، ألا ترى أنك تقول (آتيك إن أتيتني) ولا تقول (آتيك إن تأتني) إلا في شعر (1).
وهذا يؤيد ما ذهب إليه ابن السراج
ب - حذفه جوازاً:
وهو على ضربين:
الأول: أن يحذف اختصارا، نحو قوله تعالى:{قالوا طائركم معكم أين ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون} [يس: 19]، أي (تطيرتم) بدليل قوله تعالى:{قالوا إنا تطيرنا} ونحو قوله: {وإذا قيل لهم أتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون} [يس: 45]، أي (أعرضوا)(2).
جاء في (المقتضب): " فأما حذف الخبر، فمعوف جيد، من ذلك قوله:{ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا} [الرعد: 31].
(1) كتاب سيبويه 1/ 436
(2)
انظر الإيضاح للقزويني 1/ 187، البرهان 3/ 183، الهمع 2/ 62، الاتقان 2/ 57
قال الراجز:
لو قد حداهن أو الجودي
يرجز مستحنفر الروي
مستويات كنوي البرني
لم يأت بخبر لعلم المخاطب، ومثل هذا الكلام كثير، ولا يجوز الحذف حتى يكون المحذوف معلومًا بما يدل عليه من متقدم خبر أو مشاهدة حال (1).
الثاني: للدلالة على التفخيم والتعظيم.
جاء في (البرهان): " قالوا: وحذف الجواب يقع في مواقع التفخيم والتعظيم، ويجوز حذفه لعلم المخاطب به وإنما، يحذف لقصد المبالغة السامع مع أقصى تخيله، يذهب منه الذهن كل مذهب، ولو صرح بالجواب لوقف الذهن عند المصرح به، فلا يكون له ذلك الوقع، ومن ثم لا يحسن تقدير الجواب مخصوصا، إلا بعد العلم بالسياق (2).
وجاء في (الإيضاح) للقزويني: " أن يحذف للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف أو لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن، فلا يتصور مطلوبا، أو مكروها، إلا يجوز أن يكون الأمر أعظم منه، ولو عين شيء اقتصر عليه، وربما خف امره، كقوله:{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فاخلوها خالدين} [الزمر: 73]، وكقوله:{ولو ترى إذ وقفوا على النار} [الأنعام: 27]، {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} [الأنعام: 30]، {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم} [السجدة: 12] (3).
وقال ابن يعيش: " وقال أصحابنا إن حذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره، ألا ترى أنك إذا قلت لعبدك:(والله لئن قمت إليك) وسكت عن الجواب
(1) المقتضب 2/ 81، وانظر كتاب سيبويه 1/ 453
(2)
البرهان 3/ 183
(3)
الإيضاح 1/ 187 - 188
ذهب فكره إلى أشياء من أنواع المكروه، فلم يدر أيها يبقي، ولو قلت: لأضربتك فأتيت بالجواب، لم تبق شيئا غير الضرب (1).
وجاء في (الاتقان): " إنما يحسن الحذف لقوة الدلالة عليه، أو يقصد به تعديد أشياء فيكون في تعدادها طول وسآمة، فيحذف ويكتفي بدلالة الحال، وتترك النفس تجول في الأشياء المكتفي بالحال عن ذكرها، قال ولهذا القصد يؤثر في المواضع التي يراد بها التعجب والتهول على النفس، ومنه قوله في وصف أهل الجنة: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} [الزمر: 73]، فحذف الجواب إذا كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهي، فجعل الحذف دليلا على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه، وتركت النفوس تقدر ما شاءته، ولا تبلغ مع ذلك كنه ما هنالك، وكذا قوله: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} [الأنعام 27]، أي لرأيت أمرًا فظيعًا لا تكاد تحيط به العبارة"(2).
قال تعالى: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم} [الزمر" 71].
وقال: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا، حتى إذا جاءوها وفتحت ابوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} [الزمر: 73]
فقال في أهل جهنم: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} فجعل جواب الشرط (فتحت أبوابها) وقال في أهل الجنة: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} فجاء بالواو (وفتحت) وحذف الجواب.
قالوا: لأن جهنم سجن لأصحابها، والسجون مغلقة الأبواب، لا تفتح إلا لداخل فيها أو خارج منها، كما قال تعالى:{إنها عليهم مؤصدة} [الهمزة: 8]، في حين قال في أهل الجنة (وفتحت أبوابها) لأن أبوابها مفتحة، لأنها دار الكرامة، قال تعالى: {جنات عدن
(1) شرح ابن يعيش 9/ 9
(2)
الاتقان 2/ 57
مفتحة لهم الأبواب} [ص: 50]، وحذف الجواب، لأن الكلام يضيق عن وصف الكرامة التي أعدتلهم.
جاء في (الكشاف): في هذه الأية: " وإنما حذف [يعني الجزاء] لأنه في صفة ثواب أهل الجنة، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف .. وقيل أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها، بدليل قوله:{جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} فلذلك جيء بالواو، وكأنه قيل حتى إذا جاؤها، وقد فتحت أبوابها (1).
وجاء في (البرهان): في هذه الآية أن أبا علي قال: " إنما تركت الواو في النار لأنها مغلقة، وكان مجيئهم شرطًا في فتحها، فقوله (فتحت) فيه معنى الشرط، وإما قوله (وفتحت) في الجنة فهذه واو الحال، كأنه قال: جاؤها وهي مفتحة الأبواب أو هذه حالها.
وهذا الذي قاله أبو علي هو الصواب ويشهد له أمران:
أحدهما: إن العادة مطردة شاهدة في إهانة المعذبين بالسجون، من إغلاقها حتى يردوا عليها، وإكرام المنعمين بإعداد فتح الأبواب لهم مبادرة واهتماماً.
والثاني: النظير في قوله: {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} (2).
ومن الحذف للدلالة على التهويل والتعظيم، قوله تعالى:{ولو ترى إذ وقفوا على النار} [الأنعام: 27]، وقوله:{ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم} [الأنعام: 3]، ويقولون: لو رأيت فلانا والسياط تأخذ منه، قالوا: وهذا الحذف أفخم وأعظم، لأن على هذا التقدير يذهب خاطر المخاطب إلى كل ضرب من الوعيد، فيكون الخوف على هذا التقدير أشد مما إذا كان عين له ذلك الوعيد (3).
(1) الكشاف 3/ 41، وانظر التفسير الكبير 27/ 23
(2)
البرهان 3/ 189 - 190، وانظر بدائع الفوائد 2/ 174 - 175
(3)
التفسير الكبير للرازي 4/ 235 - 236، وانظر الكشاف 1/ 249، قوله تعالى:{ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب} .