الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ينفي المسند إليه عن طريق إثباته، وذلك كأن تقول (شاعركم لا يحسن القول) فظاهر هذا، أن لهم شاعرا لا يحسن القول، وقد يراد بذالك أن ليس لهم شاعر أصلا، ونحو قولك:(شعرك أحسن من نثره) فظاهر هذا الكلام أن له شعرًا أحسن من نثر الغائب، وقد يقال هذا التعبير وليس للمخاطب شعر أصلا، فيراد به أنه لو كان لك شعر لكان أحسن من نثره، أو يقال على سبيل التهكم، ومنه قوله تعالى:{فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48]، والمعنى أنهم لا شافعين لهم أصلا فتنفعهم شفاعتهم، وليس المعنى أن الشافعين يشفعون لهم، ولكن لا تنفعهم شفاعتهم.
ومنه قول الشاعر:
على لا حب لا يهتدي بمناره
أي على طريق لا منار به، فيهتدي به وليس المراد أن في الطريق منارا لا يهتدي به (1).
ومنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصف مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنثي فلتاته. أي لا تذاع سقطاته، فظاهر هذا اللفظ أنه كان ثم فلتات غير أنها لا تذاع، وليس المراد أنه لم يكن ثم فلتات فتنثى (2). فظاهر التعبير إثبات المسند إليه، غير أن المقصود نفيه أصلا.
2 - نفي القيد:
قد ينفي القيد من مفعول، أو متعلق أو حال، أو صفة، أو غير ذلك من القيود كقولك (ما أكرمت محمدًا) و (ما رأيت خالدًا يوم الجمعة) و (ما أقبل خالد راكبًا) ونحو ذلك.
(1) انظر الخصائص 3/ 165، البرهان 3/ 394 ـ، المثل السائر 2/ 65 - 67
(2)
المثل السائر 2/ 65
ونفي القيد له دلالات متعددة:
أ - فقد يدل نفي القيد على أن القيد لم يحصل، أما ما عداه فلا يدري أحصل أم لا، وذلك نحو قولك (ما أكرمت محمدًا) فإنك نفيت الإكرام عن محمد، وسكت عن غيره فقد تكون أكرمت غيره، أو لا تكون.
ومثله (ما رأيت محمدًا يوم الجمعة) فإنك نفيت رؤيته يوم الجمعة، وسكت عن رؤيته في الأيام الأخرى، فقد تكون رأيته في غير يوم الجمعة، ويحتمل أنك لم تره لا في يوم الجمعة ولا في غيره.
ونحوه (ما ذهبت إلى خالد) فأنت نفيت الذهاب إلى خالد، وسكت عن الذهاب إلى غيره، فقد تكون ذهبت إلى غيره، أو لا تكون.
ومثله الحال نحو (لم أسمع الطفل باكيا) فأنت نفيت سماعك الطفل باكيا، أما سماعه غير باك فأنت سكت عنه، فقد تكون سمعته أو لا تكون.
وقد يدل نفي القيد على رجحان حدوث الأصل، نحو قولك (ما شر بنا اليوم ماء باردًا) فالراجح في نحو هذا أنك شربت ماء غير بارد، وقد يراد به أنك لم تشرب شيئا وذلك كأن يكون المتكلم صائمًا وقد كان معتادا على شرب الماء البارد، فيقول (ما شربنا اليوم ماء باردًا).
ونحوه قولك (ما جاء اليوم أخوك راكبًا) فالراجح في نحو هذا أنه جاء غير راكب وإن كان من المحتمل أيضا احتمالا مرجوحًا، بأنه لم يجيء راكبا ولا غير راكب، وذلك كأن يكون من المعتاد أن يجيء أخوه راكبًا، فنفي هذه الهيئة بأكملها.
ب - الدلالة على نفي القيد وحده مع القطع بحدوث الأصل، وذلك إذا علم حدوث الأصل، نحو قوله تعالى:{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} [الأنبياء: 16]، فهذا إثبات لخلق السماء والأرض ونفي للعيب، ونحو قولك:(ما ماشي عمر على الأرض مختالا) فإنه أثبت المشيء ونفي الاختيال، ومنه في غير النفي.
قوله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحا} [لقمان: 18]، فإنه نهي عن الاختيال، ولم ينه عن المشي أصلا.
وقد يفيد نفي القيد الدلالة على حدوث الأصل، وذلك بتقديم القيد على عامله نحو (ما محمدًا أكرمت) فإن هذا التعبير يفيد نفي الإكرام لمحمد خاصة، وإثباته لغيره، بخلاف ما لو قلت (ما أكرمت محمدًا) فإنه يفيد الإكرام عن محمد، أما بالنسبة إلى غير محمد، فهو سكوت عنه، ونحو قولك (ما إلى خالد ذهبت) فإنه يفيد نفي الذهاب إلى خالد خاصة، وإثبات الذهاب إلى غيره، بخلاف قولك:(ما ذهبت إلى خالد) فإنه يفيد نفي الذهاب إلى خالد، أما الذهاب إلى غيره فهو مسكوت عنه (1).، كما ذكرنا آنفا.
ج - وقد يذكر القيد، والمراد نفي الأصل، وذلك نحو قوله تعالى:{لا يستئلون الناس إلحافا} [البقرة: 273]، والمراد نفي السؤال أصلا بالحاف، أو بغيره، ومنه قوله تعالى:{لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا} [آل عمران: 199]، والمقصود نفي الشراء بآيات الله أصلا، لا ثمنا قليلا، ولا كثيرا، لأن كل ثمن هو قليل بالنسبة إلى آيات الله.
جاء في (البرهان): "ومنه نفي الشيء مقيدا، والمراد نفيه مطلقا، وهذا من أساليب العرب يقصدون به المبالغة في النفي، وتأكيده كقولهم (فلان لا يرجى خيره) ليس المراد أن فيه خيرًا لا يرجي، وإنما غرضهم أنه لا خير فيه على وجه من الوجوه.
ومنه {ويقتلون النبيين بغير حق} [آل عمران: 21]، فإنه يدل على أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق، ثم وصف القتل بما لا بد أن يكون من الصفة، وهي وقوعه على خلاف الحق .. وقوله تعالى:{لا يسئلون الناس إلحافا} فإن ظاهرة نفي الإلحاف في المسألة والحقيقة نفي المسألة البتة ..
ومثله قوله تعالى: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} [غافر: 18]، ليس المراد نفي الشفيع بقيد الطاعة، بل نفيه مطلقًا (2).
(1) انظر دلائل الإعجاز 98
(2)
البرهان 3/ 396 - 397، الكليات 355
ومنه قوله:
لا تفزع الأرنب أهوالها
…
ولا ترى الضب بها بنجحر
أي لا أرنب بها فتفزعها أهوالها (1)، وليس المقصود أن بها أرنبا لا تفزعها الأهوال، وكذلك قوله (ولا ترى الضب بها ينجحر)" فإن ظاهر المعنى من هذا البيت أنه كان هناك ضب، ولكنه غير منجحر، وليس كذلك، بل المعنى أنه لم يكن هناك ضب أصلا"(2).
وجاء في (دلائل الإعجاز): " أنه من حكم النفي، إذا دخل على كلام، ثم كان في الكلام تقييد على وجه من الوجوه، أن يتوجه إلى ذلك التقييد وأن يقع له خصوصا.
تفسير ذلك، أنك إذا قلت (أتاني القوم مجتمعين) فقال قائل:(لم يأتك القوم مجتمعين) كان نفيه ذلك متوجهًا إلى الإجتماع الذي هو تقييد في الإتيان، دون الاتيان نفسه، حتى أنه أراد أن ينفي الاتيان، أصله كان من سبيله أن يقول، أنهم لم يأتوك أصلا، فما معنى قولك مجتمعين؟ هذا مما لا يشك فيه عاقل ..
فإذا قلت: (جاءني زيد راكبا) و (ما جاءني زيد راكبا) كنت قد وضعت كلامك، لأن نثبت مجيئه راكبا أو تنفي ذلك، لا لأن تثبت المجيء وتنفيه مطلقا هذا ما لا سبيل إلى الشك فيه (3).
والصواب ما ذكرنا، ، فإن نفي القيد قد يفيد حصول الأصل، وقد يفيد نفي الأصل أيضا كما أوضحنا.
د - وإذا تعددت القيود، احتمل أن يكون المراد نفي القيد الأخير، واحتمل أن يراد نفي القيود كلها، واحتمل أيضا أن يكون المراد نفي الأصل أيضا، فإذا قلت مثلا (ما رأيت رجلا غريبا طويلا) احتمل أن تكون رأيت رجلا غريبا فقط، وليس طويلا، وقد تكون رأيت رجلا لا غريبا ولا طويلا.
(1) الخصائص 3/ 165
(2)
المثل السائر 2/ 66
(3)
دلائل الإعجاز 216 - 217
وإذا قلت (ما جعلت مالي نصفين، وأعطيت محمدًا نصفا وخالدًا نصفا) احتمل أنك جعلت مالك نصفين، وأعطيت محمدًا نصفا، ولكنه لم تعط خالدا نصفا، واحتمل أيضا أنك جعلت مالك نصفين، غير أن لم تعط محمدًا نصفا، واحتمل أيضا أنك جعلت مالك نصفين غير أنك لم تعط محمدًا ولا خالدًا، أو أنك أعطيتهما غير النصف، ومن المحتمل أيضا أنك لم تفعل هذا الأمر أصلا لم تقسم مالك ولم تعط شيئا
ونحوه قولك (ما ذهبت إلى محمد وخالد وقلت لهما: أنا معكما) فهذا يحتمل نفي القول، وإثبات الذهاب إليهما، ويحتمل أنك ذهبت إلى واحد منهما فقط، ويحتمل أنك نفيت الأمر كله، أي أن هذا الأمر لم يحصل كله ولا شيء منه.
ونحوه أن تقول (ما أقبل محمد راكبا ضاحكا صباحا اليوم) فقد يراد بذلك نفي القيد الأخير، وهو صباح اليوم وإثبات ما قبله، وقد يراد بذلك نفي القيود كلها وقد يراد أن شيئا من ذلك لم يحصل، أي تنفي الهيئة كلها.
هـ - التنصيص على نفي القيد دون غيره: إذا أردت التنصيص على نفي شيء من الأسماء أو القيود، وإثبات ما عداه نصا، جئت بـ (غير) أو (لا) أحيانًا، فتقول مثلا (أقبل محمد راكبًا غير ضاحك) و (أقبل محمد راكبًا لا ضاحكًا) إذا نفيت الضحك وحده وأثبت الإقبال، وتقول (اقبل محمد غير راكب ولا ضحك) إذا نفيت الركوب والضحك وأثبت الأقبال.
وتقول (شربت الماء غير بارد) و (رأيت رجلا غير غريب ولا طويل) فإنك ههنا نصصت على ما أردت إثباته ونفيه، ففي الجملة الأولى أعني (أقبل محمد راكبًا غير ضاحك) نصصت على مجيء محمد راكبا، ونصصت على نفي الضحك، وهكذا شأن الجمل الأخرى.
يتبين لنا من هذا أن النفي مع القيود يكون نفيا احتماليا في الغالب، وإن كان الأظهر أنه يفيد نفي القيد وحده، فإذا أردت التنصيص على نفي جئت بـ (غير) مع الإسم، وربما صح الاتيان بـ (لا) أيضا كما أسلفنا.