الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيها توكيد، فقد ذكر سيبويه أنها نفي لـ (لقد فعل) قال سيبويه: " وإذا قال (لقد فعل) فإن نفيه (ما فعل) لأنه كأنه قال: (والله لقد فعل) فقال: (والله ما فعل)(1)، فهي آكد من (لم).
جاء في (الاتقان): " ومقتضي كلام سيبويه أن فيها معنى التأكيد لأنه جعلها في النفي جوابًا (2). لقد (كذا) فكما أن (قد) فيها معنى التأكيد، فكذلك ما جعل جوابا لها (3).
وقد ذكرنا في بحث (لا النافية للجنس) أن (ما) قد تأتي ردًا على قول أو ما نزل هذه المنزلة، قال تعالى:{وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157].
الفرق بين ما ولم:
تدخل (لم) على المضارع فتقلب زمنه إلى ماض، كما ذكرنا (وما) تنفي الفعل الماضي فتقول (لم أذهب) و (ما ذهبت) فيفيدان الدلالة على المضي، ولكن ثمة فروقا بينهما من نواح أهمها:
1 -
ان الماضي المنفي بـ (ما) يكون في الغالب لنفي الماضي القريب من الحال، وأما (لم) فليست مقيدة بزمن من أزمنة المضي.
2 -
إن (ما) آكد من (لم) وذلك أنها تقع جوابًا للقسم كما ذكرنا بخلاف (لم).
قال تعالى: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23].
وقال: {يحلفون بالله ماقالوا} [التوبة: 74]، والقسم توكيد وكذلك جوابه.
ويدل على ذلك أيضا أن منفيها كثيرا ما يقترن بـ (من) الإستغراقية المؤكدة، وهي التي يسميها النحاة زائدة، وذلك نحو قوله تعالى:{وما مسنا من لغوب} [ق: 38].
(1) كتاب سيبويه 1/ 460
(2)
الصواب لـ: لقد
(3)
الاتقان 1/ 176
وقوله: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله} [المؤمنون: 91] وقوله: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} [الأحزاب: 4].
وأنا لا أذكر آية واحدة يمكن أن يقترن منفيها بـ (من)، ثم لم يقترن بها بخلاف (لم) فإنها لم يقترن منفيها بـ (من) ثم لم يقترن بها بخلاف (لم) فإنها لم يقترن منفيها بـ (من) ولو مرة واحدة على كثرة ما ترددت في القرآن الكريم، فدل ذلك دلالة واضحة على قوة نفي (ما) دون (لم).
والظاهرة الجديرة بالتسجيل أنه لا ينافس (ما) في اقتران منفيها بـ (من) إلا (أن) النافية فإنها لم ترد في القرآن الكريم إلا مقترنة بـ (من)، حيث أمكن ذلك في اللغة.
وأما (لا) النافية فإن منفيها لم يرد مقترنا بـ (من) هذه إلا في موطن واحد على كثرتها المستفيضة في القرآن، وهو قوله تعالى:{لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج} [الأحزاب: 52]، قال تعالى:{واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} [البقرة: 48].
3 -
إن (ما) كثيرا ما تكون ردًا على كلام أو ما نزل هذه المنزلة، وذلك كأن يقول لك قائل:(لقد ذهب سالم إلى سعيد) فتقول له: (ما ذهب إليه)، قال تعالى:{وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} فكان الجواب {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} [المائدة: 116 - 117]، وجاء على لسان النسوة في سورة يوسف ردًا على التهمة التي ألصقتها به امرأة العزيز {حاش لله ما علمنا عليه من سوء} [يوسف: 51]، وجاء على لسان المكذبين ردًا على قول رسلهم، {إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء} [يس: 14 - 15].
وهذا يقع أيضا في غير الجمل الفعلية، فقد جاء ردًا على قول المنافقين {إن بيوتنا عورة} قوله تعالى:{وما هي بعورة} [الأحزاب: 13]، وعلى قولهم:{قالوا آمنا} قوله: {وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8].
وهذا كثير وليس مطردًا.
4 -
يخيل إلي أن هناك فرقا بين دخول (ما) على الماضي، ودخول (لم) على المضارع من ناحية أخرى، وهي أن الماضي يدل على أن الأمر قد انقضي، وأما المضارع فإنه قد يدل على التكرار، والتجدد والتطاول، فقولك (كتب) يدل على انتهاء الحدث، وانقضائه وقولك (يكتب) يدل على تجدد الحدث واستمراره، فإذا دخلت (ما) على الماضي دل على انتفاء الحدث بصيغة المضي، وإذا دخلت (لم) على المضارع دل على انتفاء الحدث في المضي، لكن بصيغة التجدد والاستمرار، فدخلو (لم) يدل على أن الحدث لم يحصل في الماضي على تطاول المدة واستمرارها، قال تعالى:{ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38] ..
وقال: {قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا} [مريم: 20].
فقال في الآية الأولى (وما مسنا) وفي الثانية (ولم يمسسني).
والسبب والله أعلم أن الآية الأولى رد على اليهود الذين يقولون إن الله تعب من خلق السماوات والأرض فاستراح في اليوم السابع (1).، تعالى الله عما يقولون، فرد عليهم بـ (ما) وجاء بـ (من) الاستغراقية للدلالة على أنه لم يحصل شيء من ذلك، بخلاف الثانية فإنها ليست ردًا على من قال إنها مسها بشر، ولكن إخبار عن نفسها بذلك.
والأمر الثاني وهو الذي يعنينا هنا، أنه في الآية الأولى جاء بصيغة الماضي، لأن الأمر حدث وانقضي مرة واحدة، وهو خلق السماوات والأرض، وأما الآية الثانية فهي في مس الرجال للنساء، وهو أمر قد يتكرر ويتجدد حصوله، فذكرت أن ذلك لم يحصل فيما انقضي من عمرها، فثمة اختلاف بين الأمرين فإنه في الثانية كان من الممكن أن يتكرر المس في الماضي بخلاف التعب الذي يعقب العمل فإنه موقوت بذلك العمل،
(1) انظر سفر التكوين - الاصحاح الثاني الاية 2، 3 و (سفر الخروج 31 - الاية 17).
فما كان شأنه التجدد والاستمرار نفاه بـ (لم) مع المضارع، وما حدث مرة واحد نفاه بـ (ما) مع الماضي.
وقال: {حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا} [الكهف: 90]، ولم يقل (وما جعلنا لهم) لأن ذلك متكرر متطاول، إذ كل يوم تطلع عليهم الشمس وليس لهم ستر دونها، فجاء بالفعل المضارع مع (لم) بخلاف قوله تعالى:{وما جعلنا الرءيا التي أريناك إلا فتنة للناس} [الإسراء: 60]، فجاء بالفعل الماضي مع (ما) لأن الرؤيا وقعت مرة واحدة، ثم إن الآية هذه رد على الكفرة الذين سخروا من رؤياه بخلاف الآية الأولى، فإنها إخبار لا رد، فجاء في الأولى بـ (لم) والثانة بـ (ما) والله أعلم.
ونحوه قوله تعالى: {في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 40 - 44]، فجاء بـ (لم) مع المضارع للدلالة على التكرر والتجدد، فإن الصلاة تتكرر وإطعام المسكين يتكرر.
ويمكن أن يقال أيضا أنه قد ينفي بـ (ما) مع الماضي إذا أريد نفي الحدث بصورته المنقضية التامة، وينفي بـ (لم) مع المضارع إذا أريد نفي الحدث في الماضي بصورة التغير والتجدد فيشخص في الذهن بصورته المتجددة، ثم ينفيه بهذه الصورة في الماضي، فإذا قلت مثلا (ما استجاب لك خالد) أفاد نفي الاستجابة في الماضي بصورتها النهائية التامة، وإذا قلت (لم يستجب لك خالد) أفاد نفي الاستجابة في الماضي بصورتها التجددية، قال تعالى:{فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} [البقرة: 259]، فجاء بـ (لم) وذلك لأن تغير الشراب والطعام يحصل تدريجيا ويستمر وليس دفعة واحدة فجاء بـ (لم) للدلالة على أنه لم يحصل شيء من ذلك، ولو جاء بـ (ما) وقال (ما تسنه) لأفاد نفي التسنه وهو التغير بصورته النهائية التامة.
وقال: {ويوم يقوم نادوا شركاءي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} [الكهف: 52]، فهنا أفاد نفي الاستجابة بصورة التجدد والتطاول، ولو قال (ما استجابوا لهم) لأفاد نفي الاستجابة بصورتها المنقضية التامة.
ويبدو لي أن قوله تعالى: {ورءا المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا} [الكهف: 53]، يفيد تكرار البحث، وإدامة النظر للخروج من النار، فكأننا نراهم يبحثون غير أنهم لم يجدوا على كثرة ما بحثوا، ولو قال (ما وجدوا) لأفاد انتفاء الحدث بصورته المنقضية، لا بصورة البحث والتفتيش.
والذي دعاني إلى هذا الفهم، هو صورة المضارع مع (لم)، وصورة الماضي مع (ما) وهما صورتان مختلفتان.
5 -
إذا عطف على المنفي بـ (لم) بالماضي، كان إثباتا للمعطوف، وإذا عطفت على المنفي بـ (ما) احتمل النفي والاثبات، وذلك نحو قولك:(لم اعط محمدًا واعطيت خالدا) فهذا نفي لاعطاء محمد وإثبات لاعطاء خالد، ولو قلت (ما أعطيت محمدا وأكرمت خالدًا) لا حتمل نفي اعطاء محمد ونفي إكرام خالد أي: وما أكرمت خالدا وأحتمل الاستئناف أيضا، أي نفي الإعضاء وإثبات الأكرام فلا يكون عطفاً.
وقد تقول هذا مردود بقوله تعالى: {ألم يجدك يتيما فأوي ووجدك ضالا فهدى} [الضحي: 6 - 7]، فقد عطف (وجدك) على (ألم يجدك).
والثاني مثبت، والأول منفي، ومعناهما واحد.
والحق أنهما ليسا مختلفين، فإن الآية الأولى تقرير، أي إثبات وليس نفيا، فقوله تعالى {ألم يجدك يتيما} معناه: أنه وجدك يتيما، ونحو قوله تعالى:{ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك} [الإنشراح: 1، 2]، فالمعنى أنه شرح له صدره ووضع عنه وزره، فهما ليسا مختلفين.
6 -
قد يحتمل أشتراك (ما) مع ما يشبه لفظها من اسم موصول، أو من حرف مصدري فيحتمل التعبير أكثر من معنى، ولا يكن ذلك مع (لم)، وذلك نحو قولك:(تركتهم وما يعبدون إلا الله) فقد يحتمل أن يكون المعنى، أنه تركهم وهم لا يعبدون إلا الله، أي تركهم يعبدون الله. ويحتمل أن يكون المعنى تركتهم وعبادتهم إلا الله، أي: