الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تظن أنني عائد إليهم) فكررت (لا تظن أنني) خوفًا على السامع من أن ينسى أول الكلام، ولذا يحسن إذا طال الكلام توكيد أوله توكيدًا لفظيًا، لتمكين الحكم في ذهنه وعدم فتوره عنه قال تعالى:{أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابًا وعظامًا أنكم مخرجون} [المؤمنون: 35]، فأكد (أنكم) لما طال الكلام لتقويته في ذهن السامعين.
وقال: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحيبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 188]، فأكد (لا تحسبن) بقوله (فلا تحسبنهم) لأن الكلام قد طال وأراد تمكين الحكم وتقريره في أذهان المخاطبين، والله أعلم.
توكيد الفعل بالنون
يؤكد الفعل المضارع، وفعل الأمر، بنوني التوكيد الثقيلة والخفيفة، نحو:(لأقومن بواجبي) و (لأقومن بواجبي) قال تعالى: {لينبذن في الحطمة} [الهمزة: 4]، وقال:{لنسفعا بالناصية} [العلق: 15]، ويدل على أنهما حرفا توكيد انه يجاب بهما القسم، قال تعالى:{تالله لتسئلن عما كنتم تفترون} [النحل: 56].
ويبدو أن النون حرف يؤكد الأسماء والأفعال، غير أنها تدخل في أول الإسم، آخر الفعل فـ (أن) هي نون ثقيلة مسبوقة بالهمزة، ولما كانت تدخل في أول الإسم، بدئت بهمزة توصلا إلى النطق بالساكن، وجعلت الهمزة من بناء الكلمة.
وهناك تشابه بين (أن) والنون، فكلتاهما حرف توكيد، غير أن إحداهما تؤكد الأسماء والأخرى تؤكد الأفعال، وكلتاهما ثقيلة وخفيفة، وكلتاهما تدخل الفتح على ما دخلت عليه فـ (أن) تدخل على الأسماء وتنصبها، والنون تدخل على الفعل وتبنيه على الفتح.
تقول: (أن محمدًا ليسافرن)، وكلتاهما يجاب بها القسم في الإثبات، تقول:(والله لأذهبن) و (والله إني لمعكم) قال تعالى: {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 57]، وقال:{فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} [الذاريات: 23].
وتلزم النون الفعل إذا كان جوابا لقسم مثبتا مستقبلا، غير مفصول عن لامه بفاصل (1). نحو (والله لأسعين في الخير) قال تعالى:{فوربك لنحشرنهم} [مريم: 68].
وذكر الخليل أن الثقيلة آكد من الخفيفة جاء في (الكتاب): " وزعم الخليل أنهما توكيد كما التي تكون فصلا، فإذا جئت بالخفيفة فأنت مؤكد، وإذا جئت بالثقيلة فأنت اشد توكيدًا"(2). وذلك لأن تكرير النون بمنزلة تكرير التأكيد (3). وقد اجتمعتا في قوله تعالى: {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين} [يوسف: 32]، فجاء بالثقيلة في قوله:{ليسجنن} [يوسف: 32]، وبالخفيفة، في قوله:{وليكونا من الصاغرين} [يوسف: 32]، قالوا لأن " امرأة العزيز كانت أشد حرصا على سجنه من كونه صاغرا (4). فأكدت السجن لذلك بالثقيلة بخلاف الصغار.
ونون التوكيد تخلص الفعل للاستقبال فلا تدخل على فعل للحال قال تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} [الفتح: 27]، فإذا كان الفعل للحال، لم تدخل عليه النون نحو (والله لأحسبك كاذبا).
جاء في (الكتاب): " وإن كان الفعل قد وقع وحلفت عليه لم تزد على اللام وذلك قولك والله لفعلت .. فالنون لا تدخل على فعل قد وقع وإنما تدخل على غير الواجب (5).
وجاء في (شرح ابن يعيش): " اعلم أن هاتين النونين الشديدة والخفيفة، من حروف المعاني، والمراد بهما التأكيد، ولا تدخلان إلا على الأفعال المستقبلة خاصة، وتؤثران فيها تأثيرن: تأثيرا في لفظها وتأثيرا في معناها، فتأثير اللفظ اخراج الفعل إلى البناء،
(1) شرح الأشموني 3/ 215، التصريح 2/ 203، شرح ابن الناظم 252
(2)
كتاب سيبويه 2/ 149، وانظر شرح الأشموني 3/ 212
(3)
شرح ابن يعيش 9/ 37
(4)
حاشية الصبان 3/ 212 ـ وانظر التصريح 2/ 203
(5)
كتاب سيبويه 1/ 454
بعد أن كان معربًا، وتأثير المعنى اخلاص الفعل للاستقبال، بعد أن كان يصلح لهما (1). "إذ لو قلت (إن زيدا لقوم) جاز أن يكون للحال والاستقبال، بمنزلة مالا لام فيه، فإذا قلت (إن زيدًا ليقومن)، كان هذا جواب قسم والمراد الاستقبال لا غير"(2).
وهذه النون كثيرا ما تدخل على الشرط المسبوق بـ (ما) الزائدة، ولا سيما شرط (إنْ) نحو قوله تعالى:{وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال: 58]، وقوله:{وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} [الإسراء: 28]، وذلك لأن (ما) للتوكيد فجيء بالنون التي هي للتأكيد أيضا ولذلك قالوا أن دخولها هنا قريب من الواجب (3). ولم ترد في القرآن الكريم إلا مؤكدة.
قال سيبويه: ومن مواضعها حروف الجزاء إذا وقعت بينها وبين الفعل (ما) للتوكيد وذلك لأنهم شبهوا (ما) باللام التي في (لتفعلن) لما وقع التوكيد قبل الفعل، الزموا النون آخره، كما ألزموا هذه اللام وإن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجيء بها، فأما اللام فهي لازمة في اليمين فشبهوا (ما) هذه إذ جاءت توكيدًا قبل الفعل بهذه اللام التي جاءت لأثبات النون فمن ذلك قولهم: إما تأتني آتك" (4).
فذكر أن (ما) شبيهة بلام القسم في التوكيد.
وتدخل كثيرا أيضا على الطلب، كالأمر والنهي والاستفهام والتمنى، وما إلى ذلك (5). قال تعالى:{فلا تكونن من الممترين} [البقرة: 147].
وقال الأعشى:
وهل يمنعني ارتيادي البلا
…
دمن حذر الموت أن يأتين
(1) شرح ابن يعيش 9/ 37، وانظر شرح ابن الناظم 252 - 253
(2)
شرح ابن يعيش 9/ 39
(3)
التصريح 2/ 204
(4)
كتاب سيبويه 2/ 152
(5)
انظر التصريح 2/ 204، شرح الأشموني 3/ 213 وما بعدها.