الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كنت على بينة، فذاك من ربي، وكان (فمن ربي) هو الجواب.
وتقول: (إذا أرسلنا لهم قاضيًا بينهم بالعدل)، فالجواب:(قضى) فإذا جئت بالفاء كان الجزاء حيثما وضعتها فيه، فإن قلت:(إذا أرسلنا لهم قاضيا قضى بيهم فبالعدل) كان الجواب (بالعدل) أي بالعدل كان حكمه، أو فبالعدل فعلنا، وتقول:(إذا أرسلنا لهم فقاضيا قضي بينهم بالعدل) أي إذا أرسلنا أحدًا، فإنا أرسلنا قاضيا، وكان (قاضيا) هو الجزاء وجملة (قضى بينهم) نعت له.
ونحوه أن تقول (إذا قضيت أمرًا فلا راد له)، والجواب (فلا راد له)، ولو قلت (إذا قضيت فأمر لا راد له) كان المعنى فقضاؤك أمر لا راد له، وكانت (لا راد له) صفة، أو تقول (فأمرًا) أي فقد قضيت أمرًا.
وانظر إلى هذه الجملة كيف يتغير المعني بتغير موضع الفاء:
إذا رأيت إبراهيم حاد عني.
إذا رأيت إبراهيم حاد فعني.
إذا رأيت فإبراهيم حاد عني.
فالفاء ليست لمجرد الربط، بل لها غرض آخر، لا يتضح المعنى إلا بها أحيانا.
دخول الفاء جوازا على الجواب:
قد يقترن جواب الشرط بالفاء جوازا، وذلك إذا كان الفعل ماضيًا وقصد به وعد أو وعيد، وذلك نحو قوله تعالى:{ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار} [النمل: 90]، أو كان مضارعًا مجردًا، أو منفيًا، بـ (لا) وقيل بـ (لم) أيضًا (1). وذلك نحو قوله تعالى:{ومن كفر فأمتعه قليلا} [البقرة: 126]، وقوله:{فإن طلقها فلا تحل له} [البقرة: 230]
(1) انظر شرح ابن الناظم 288، التصريح 2/ 249
أما الماضي الذي قصد به وعد أو وعيد، فاقترانه بالفاء يدل على أنه نزل منزلة ماضي المعنى مبالغة في تحقق وقوعه (1)، أي كأن الأمر حصل وتم.
وأما المضارع المجرد أو المنفي بلا، فهو عند الأكثرين على تقدير مبتدأ بعد الفاء قالوا ولذا يرتفع الفعل بعدها.
جاء في (الهمع): " ويرفع الجواب وجوبًا إن قرن بالفاء سواء كان فعل الشرط ماضيا نحو: {ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة: 95]، أم مضارعًا، نحو:{فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا} [الجن: 13]، رفع لأنه حينئذ من جملة إسمية، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه، فهو لا يخاف (2).
وقال الرضي: " مذهب سيبويه تقدير المبتدأ في الأخير، ليكون جملة إسمية في التقدير، وقال المبرد لا حاجة إليه .. وإن ثبت نحو قولك:(إن غبت فيموت زيد) لم يكن لمذهب سيبويه وجه، إذ لا يمكن في مثله تقدير مبتدأ إلا ضمير الشأن، ولا يجوز إلا بعد المخففة قياسًا، وبعد إن وأخواتها ضرورة (3).
وهذا الافتراض الذي ذكره الرضي ثابت في فصيح الكلام، ولا داعي للتوقف فيه، قال تعالى:{من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون} [القصص: 84]، فلا يصح تقدير مبتدأ ههنا.
والذي يبدو لي أن هذه الفاء لها غرض في الكلام، وليس دخلوها كخروجها.
أما دخولها على الفعل الماضي، فقد ذكر النحاة الغرض منه، وهو الاشعار بأن الحدث وقع فعلا، أو هو بمنزلة الواقع تحقيقا وتأكيدًا له.
(1) شرح الأشموني 4/ 23، حاشية الصبان 4/ 23
(2)
همع الهوامع 2/ 60، وانظر التصريح 2/ 249 - 250، كتاب سيبويه 1/ 437 - 438
(3)
شرح الرضي على الكافية 2/ 292
وأما في المضارع فالذي يبدو أنها تفيد التوكيد، فقوله تعالى:{فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: 230]، آكد من قولنا (فإن طلقها لا تحل) بلا (فاء). وقوله:{ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} [طه: 112]، آكد من قولنا (لا يخف ظلما ولا هضما).
ويدل على ذلك أمور منها:
إن الفاء قد تكون زائدة للتوكيد.
جاء في (المغنى) في معاني الفاء: " الثالث أن تكون زائدة دخولها في الكلام كخروجها"(1).
وجاء في (حاشية الدسوقي على المغنى) تعليقا على هذا القول: " فلا ينافي أنها تفيد توكيد المعنى وتقويته لقولهم: إن زيادة الحرف تدل على زيادة المعنى، وقد ينضم لذلك تزيين اللفظ تحسينه، وإلا كان ذلك عبثا"(2).
ويدل على ذلك استعمالها في غير الشرط، فهي قد تفيد التوكيد، قال تعالى:{وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر} [المدثر: 3 - 5].
يذكر النحاة أن الفاء دخلت هنا لمعنى الشرط " كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره"(3).
والحق أنا لا نشم رائحة للشرط هنا، بل هو زيادة في التأكيد والتخصيص، فقدم المفعول للتخصيص، وجاء بالفاء زيادة في التوكيد، ونحوه قوله تعالى:{بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} [الزمر: 66]، وقوله:{وإياي فارهبون} [البقرة: 40]، فجاء بالفاء زيادة في التوكيد.
(1) المغني 1/ 177
(2)
حاشية الدسوقي 1/ 177
(3)
الكشاف 3/ 285
وقد ذهب أبو الفتح إلى أنها زائدة، في نحو (وربك فكبر) ونحوه أن يقال: زيدًا فاضرب وعمرًا فاشكر (1).
والفاء لا تزال تستعمل عندنا في لغتنا الدارجة في العراق لتوكيد الكلام، تقول:(والله ما أروح) فإذا أكدناه قلنا (والله فلا أروح).
وإذا كانت تستعمل في الفعل الماضي، للدلالة على تأكيد وقوع الفعل، فما المانع من أن تكون كذلك في المضارع؟
ويدلك على ذلك الاستعمال القرآني، فقد جاءت الفاء في المواطن التي فيها زيادة في التوكيد، قال تعالى:{إذا جاء أجلهم فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون} [يونس: 49]. وقال: {فإذا جاء أجلهم لا يستخرون ساعة ولا يستقدمون} [النحل: 61]، وقال في سورة الأعراف أيضا:{فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34].
فأنت ترى أنه أتى بالفاء في آية يونس، ولم يأت بها في الآيتين الأخريين، وسبب ذلك - والله أعلم - إن الموطن في سورة يونس آكد، يدل على ذلك سياق الآيات:
قال تعالى في سورة يونس قبل هذه الآية: {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرًا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون} [يونس: 47 - 49].
وقال في سورة الأعراف: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 33 - 34].
(1) انظر التفسير الكبير 30/ 191، في قوله تعالى:{وربك فكبر} .
وقال في سورة النحل: {للذين لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون} [النحل: 60 - 61].
فالكلام في سورة يونس هو في آجال الأمم وحسابها يوم القيامة، فقد ذكر أن كل أمة إنما تدعي وتحاسب بأجلها المحدد لها، والمشركون ينكرون هذا ويسخرون منه قائلين، {أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} [ق: 3]، ويقول بعضهم لبعض:{هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} [سبأ: 7] وفي هذا الموطن أيضا يسخرون قائلين: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48]، فأنكارهم هذا يستدعي التوكيد، ولذا قال بعد هذه الآيات:{ويستنبئونكأحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين} [يونس: 53]، فيأمر الرسول أن يقسم لهم على ذلك، فموطن التوكيد واضح في آية يونس، بخلاف المواطنين الآخرين.
أما آية الاعراف فإذا ذكر الأجل يأتي فيها عرضا كما هو ظاهر من السياق.
وآية النحل كذلك، فإنها جاءت تعليقا على معتقدهم بأن الملائكة بنات الله مع أنهم يكرهونهن لأنفسهم، قال:{ويجعلون الله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتواري من القوم من سوء ما بشر به ايمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} [النحل: 57 - 59]، فرد الله عليهم بقوله:{للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} [النحل: 60].
ثم قال: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم .. الآية} [النحل: 61]، أي أن هؤلاء ظلموا وجاروا في قولهم فنسبوا إلى الله ما لا يليق به، فلو يؤاخذهم بذلك لعجل لهم العذاب، ولكنه يؤخرهم إلى أجل مسمى لا يتعدونه، ثم يعود بعد هذه الآية إلى حكاية معتقدهم الباطل، فيقول:{ويجعلون لله ما يكرهون} أي البنات لأنهم يكرهونهن، كما حكي عنهم ذلك.
فأنت ترى أن ذكر الأجل جاء عرضا في اثناء الكلام على الاعتقادات الباطلة، وليس كذلك الأمر في سورة يونس، فإن السياق فيها إنما هو في آجال الأمم وحسابها في اليوم الآخر، الذي ينكره المتحدث عنهم من الكفرة، فاحتاج الكلام إلى زيادة توكيد بخلاف المواطنين الآخرين.
جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا} [الجن: 13]، " فلا يخاف -فهو لا يخاف أي فهو غر خائف، ولأن الكلام في تقدير مبتدأ وخبره دخلت الفاء ولولا ذاك لقيل (لا يخف).
فإن قلت: أي فائدة في رفع الفعل، وتقدير مبتدأ قبله، حتى يقع خبرا له، ووجوب إدخال الفاء، وكان ذلك كله مستغني عنه بأن يقال: لا يخف؟
قلت: الفائدة فيه، أنه إذا فعل ذلك، فكأنه قيل فهو لا يخاف، فكان دالا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة، وأنه هو المختص بذلك دون غيره (1).
فقد ذكر أن الفاء دلت على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة، ولكنه لم يخرج من دائرة النحاة في تقدير مبتدأ ليكون الكلام من باب التخصيص، وهذا ما لا داعي له، ولا يصدق على كثير من التعبيرات، فأين التخصيص في قوله تعالى مثلا:{قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا} [الأحقاف: 8].
فإن تقديره كما يذهب النحاة (فأنتم لا تملكون لي من الله شيئا) وعلى هذا التقدر يفيد الكلام تخصيصا، ولكن المعنى يأباه، فهم لا يملكون له من الله شيئا، كما لا يملك غيرهم له من الله شيئا فليسوا هم مختصين بهذا الأمر.
ويرد هذا ايضا أنه لا يصح تقدير مبتدأ أحيانا بعد الفاء، كما ذكرنا فينتفي هذا المعنى، إن صاحب الكشاف لو اقتصر على معنى التحقيق، لكان كلامه اسلم، ومذهبه أسد، والله أعلم.
(1) الكشاف 3/ 270