الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستغناء بالجواب عن القسم:
يقول النحاة إنه قد يستغني بجواب القسم عن القسم، فيكون الجواب دليلا على القسم المحذوف، وذلك كأن يؤتى باللام الواقعة في جواب القسم، كقولك:(لأذهبن إليه) وقولك (لقد رددت عليه) فاللام واقعة في جواب قسم محذوف، والتقدير: والله لأذهبن إليه، أو لقد رددت عليه، قال تعالى:{كلا لينبذن في الحطمة} [الهمزة: 4]، وقال:{ولقد صدقكم الله وعده} [آل عمران: 152].
جاء في (شرح الرضي على الكافية): " ويستغني كثيرا عن القسم بجوابه، إن أكد بالنون نحو:(لأضربنك)(1).
وجاء في (الكتاب): " وسألته - يعني الخليل - عن قوله (لتفعلن) إذا جاءت مبتدأة ليس قبلها ما يحلف به، فقال: إنما جاءت على نية اليمين، وإن لم يتكلم بالمحلوف به"(2).
وقد يؤتى باللام الموطئة للقسم قبل الشرط للتنبيه، على القسم المحذوف، كقولك (لئن لم تأتني لأقطعن عنك العون) أي: والله إن لم تأتني. قال تعالى: {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن} [يوسف: 32]، وقال:{لئن لم تنته لأرجمنك} [مريم: 46]، فهذه اللام نبهت على القسم المقدر.
وربما حذفت اللام الموطئة قبل الشرط (3).، واكتفي بجواب القسم للدلالة على القسم المحذوف، وذلك نحو قوله تعالى:{وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121] فثمة قسم مقدر قبل الشرط والتقدير: لئن أطعتموهم بدلالة الجواب، إذ لو كان الجواب للشرط لقيل (فإنكم مشركون) فالجواب ههنا دليل على القسم المقدر، ونحو قوله تعالى:{وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23]، فهنا قسم مقدر قبل
(1) شرح الرضي 2/ 387، الهمع 2/ 44
(2)
كتاب سيبويه 1/ 455
(3)
شرح الرضي على الكافية 2/ 377، المغنى 2/ 640
الشرط بدلالة الجواب (لنكونن) ولو لم يكن جوابًا للقسم لقيل (نكن من الخاسرين) كما قال تعالى في موطن آخر: {وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} [هود: 47].
والذي يبدو لي أن ليس ثمة قسم مقدر، وإنما هو توكيد، كتوكيد القسم، وهو نظير قولنا (إنه لمنطلق) فهذا ليس بقسم، ولكنه مؤكد كتوكيد القسم، إذ لو أقسمت فقلت (والله أنه لمنطلق) لم يختلف التوكيد في الجملتين، مع إن الأولى ليست قسمًا، كما هو رأي الجمهور.
وكذلك قولك (لقد ذهبت إليه) أو (لأذهبن إليه) ليس بقسم، وإنما هو توكيد للإثبات، ونحوه قوله تعالى:{ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} [آل عمران: 152].
وقوله: {ولقد كنتم تمنون الوت من قبل أن تلقوه} [آل عمران: 143]. وقوله: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت} [البقرة: 65]. وقوله: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} [التوبة: 25].
وقوله: {ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها} [الفرقان: 40]. فهذا كله ليس بقسم فيما أرى، وإنما هو توكيد فحسب، وهل يحتمل المعنى القسم في قوله تعالى:{ولقد كنتم تمنون الموت} والمخاطبون يعلمون ذلك مقرون به وليسوا منكرين له؟ وهل يحتمله قوله تعالى: {ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء} وهم يأتونها في أسفارهم وليسوا منكرين لذلك؟
يخيل: إلي أن المعنى على التوكيد وحسب، والله أعلم.
وكذلك ما فيه نون التوكيد، نحو قوله تعالى:{يأيها الذين أمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} [المائدة: 94].
وقوله: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} [الأعراف: 88]، فهل في قوله تعالى:{أو لتعودن في ملتنا} قسم؟ وهل يستقيم الكلام إذا قلت: والله لتعودن في ملتنا؟ وهل يدل ذلك على المعنى المراد؟ وكذلك قوله تعالى: {ثم بدا لهم من بعدا ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} [يوسف: 35]، فمن هذا الذي أقسم على ذلك؟
وهل نحس في هذا معنى القسم؟ أفيصح التقدير: ثم بدا لهم من بعد ما رأو الآيات والله ليسجننه حتى حين؟ أترى أن ذلك موافق للمعنى؟
ونحوه قوله تعالى: {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} [التوبة: 107]، فهذا على مقتضي قول النحاة حلف على الحلف، لأن (ليحلفن) عندهم جواب لقسم مقدر، وهو حلف أيضا جوابه إن أردنا إلا الحسنى.
ونحوه قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين} [الإسراء: 4]، فإن هذا ليس حلفا بل وعدا وحسب والله أعلم.
والحق أن هذا توكيد للإثبات فقط، وليس بقسم، فإنك كما تؤكد الأمر والنهي والاستفهام، والنفي بالنون، تؤكد الأثبات، وذلك نحو قوله تعالى:{ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران: 102]، وقوله:{هل يذهبن كيده ما يغيظ} [الحج: 15]، وقوله:{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25]، وإلا فكيف نؤكد الأثبات من دون قسم إذا أردنا ذلك؟
ألا ترى أننا نؤكد الجملة الإسمية المثبتة من دون قسم، فنقول:(إن محمدًا قادم) و (أنه لقادم) وكذلك يقتضي القياس أن نؤكد الجملة الفعلية من دون قسم، نحو (لأذهبن إليه) و (لقد ذهبت إليه).
وليس كل ما يصلح أن يقع جوابًا لقسم يكون جوابا للقسم بالضرورة، ألا ترى أن النحاة لا يقولون أن قولنا:(لا أذهب إليه) جواب قس مع أنه يصح أن يقع جوابًا للقسم فتقول (والله لا أذهب إليه). قال تعالى: {فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان
ذا قربى} [المائدة: 106]، فلماذا يكون المثبت جوابا للقسم دائما، ولا يكون النفي كذلك؟ فإننا نقول في الاثبات (والله لأذهبن إليه) ونقول في النفي:(والله لا أذهب إليه) فالثانية نفي للأولى فلماذا يجعلونها في المثبت قسما دائمًا، ولا يجعلونها في النفي كذلك؟ ألا ترى أنه تمحل فحسب؟
ومثل ذلك ما فيه اللام التي يسمونها موطئة فهي ليست قسما فيما أرى بل هي لزيادة التوكيد فحسب، فليس ثمة قسم فيما أحسب في قوله تعالى:{ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87]، إذ هو لا يحتاج إلى قسم فيما يبدو، ومثله قوله:{لئن أكله الذئب ونحن عصبة} [يوسف: 64]، وقوله:{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} [التوبة: 65].
وهل في قوله: {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله} [العنكبوت: 63]، قسم؟ وهل هو في حاجة إلى قسم؟
إن هذا زيادة في التوكيد فحسب، فما جاءت فيه اللام الموطئة مع الشرط آكد مما لم تكن فيه اللام فقولك (لئن جاءني لأكرمنه) آكد من قولك (إن جاءني لأكرمنه) بإضمار اللام، وآكد منهما القسم الصريح، فإذا قلت (والله إن جاءني لأكرمنه) كان آكد من قولك (إن جاءني لأكرمنه) أو (لئن جاءني لأكرمنه) يدلك على ذلك الاستعمال القرآني.
قال تعالى: {وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} [هود: 47]، من دون توكيد وقال:{وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين} [الأعراف: 23].
وقال: {لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 149]، بتوكيد الجواب وباللام الموطئة قبل الشرط.
فالثالثة آكد من الثانية، والثانية آكد من الأولى، ويدلك على ذلك السياق، قال تعالى: في سياق الآية الثالثة: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 149].
وهذا في بني إسرائيل بعد ما عبدوا عجل الذهب، واتخذوه إلها لهم، وهو كفر صريح وضلال مبين، ولذلك عند توبتهم أكدوا قولهم باللام الموطئة، زيادة على توكيد الجواب:{لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} .
وأما الآية الثانية التي هي (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) فهي على لسان آدم وزوجه، بعد ما أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عنها.
وهذه المعصية أقل من معصية بني إسرائيل، فإن معصية قوم موسى كفر، لأنها عبادة لغير الله، ولم يفعل مثل ذلك آدم، بل هو مقر بربوبية الله، ومقر بعبوديته لربه، وإنما هي لحظة ضعف أدركته، كما تدرك الكثير من الناس من غير أن تخرجهم عن دينهم، ثم يتوبون عنها. ألم ترى كيف وصف بني إسرائيل بالضلال فقال:(ورأو أنهم قد ضلوا) ولم يصف آدم بذلك.
فلما كانت المعصية أقل، حذف اللام الموطئة التي تفيد التوكيد، فالأولى آكد لأن المعصية أكبر، فالتوبة وطلب المغفرة يكونان على قدر المعصية.
وأما الآية الثالثة، وهي قوله تعالى:{وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} فهي على لسان نوح عليه السلام، وذلك أنه سأل ربه أن ينجي ابنه من الغرق، لأن الله وعده ان ينجي معه أهله فقال:{رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} فقال له الله: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود: 46].
فطلب نوح من ربه بالمغفرة، والعفو لسؤاله هذا، فقال:{قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم، وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} فهذا ليس بمعصية كمعصية آدم، وإنما فهم نوح أن ابنه يدخل مع أهله الناجين، فبين له الله أنه ليس من أهله لأنه كافر، فطلب من ربه المغفرة لما سأل، ولذلك لم يأت الكلام مؤكدا، فأنت ترى أن التوكيد يتناسب هو وحجم المعصية، فلما لم يكن سؤال نوح معصية، لم يؤكد ترى أن التوكيد يتناسب هو وحجم المعصية، فلما لم يكن سؤال نوح معصية، لم يؤكد كلامه، ولما كان فعل آدم معصية لربه أكده بالنون، ولما كان فعل بني إسرائيل كفرًا
وضلالا أكده بالنون وباللام الموطئة، فالخسران إنما يكون على قدر المعصية ولاشك.
ونحو ذلك قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصاري حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير} [البقرة: 120]، فجاء باللام الموطئة، في حين قال:{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121].
فقال في الأولى: {ولئن اتبعت أهواءهم} ، وقال في الثانية:{وإن أطعتموهم} . فأكد الأولى باللام الموطئة، أما الثانية فلم يذكر فيها اللام، وذلك لأن الأولى تستدعي قدرا زائدًا من التوكيد، فإنها تحذير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ملة الإسلام وأتباع اليهود، أو النصارى وهو من أكبر المعاصي، إذ كيف يصح من رسول يتنزل عليه الوحي من ربه أن يترك أمر الله إلى ملة أخرى لا يرضاها ربه؟ فأحتاج ذلك إلى قدر من الوعيد أكبر.
وأما الثانية فهي في الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، وقد جاء الشرط تعقيبًا على ذلك، فأنت ترى أن المعصية الأولى أكبر وأكبر لأنه تحذير من انسلاخ رسول من رسل الله ينزل عليه الوحي عن الدين الذي ارتضاه له ربه وأتباع ملة ضالة، فأحتاج ذلك إلى قدر من التوكيد أكبر.
فإن سبق الكلام بقسم صريح، كان آكد لأنك بدأت بذكر ما تعظمه، قاطعًا على نفسك أنك ستفعل أو لا تفعل، وقد ذكرت هذا المعظم تقوية للعهد والميثاق، ففي القسم الصريح توكيد وزيادة بخلاف ما لم يذكر فيه القسم الصريح.
وعلى أية حال فإن القسم الصريح يختلف عن المؤكد بالنون، أو باللام الموطئة من نواح أهمها:
1 -
إن ما ذكر فيه القسم الصريح آكد مما لم يذكر فيه القسم صراحة، وذلك لأنه توكيد وزيادة كما أسلفنا.